أمواج البحر تطلب يونان
كثيرًا ما أشار آباء الكنيسة إلى ارتباط يونان النبي بشخص السيّد المسيح. فهو ارتباط الرمز بالمرموز إليه. وكما يقول القدّيس كيرلس الأورشليمي: [إن كان يونان قد أُلقيَ في بطن الحوت. فالرب يسوع نزل بإرادته إلى حيث حوت الموت غير المنظور. ليُجبرهَ على قذف الذين كان قد ابتلعهم؛ كما هو مكتوب: “من يد الهاوية أفديهم» من الموت أخلّصهم.]
خرج الغضب الإلهى على المدينة ليهلكها وتقدّم الحنان الإلهى وغلق الأبواب !
أرسل الله يونان إلى نينوى. ليُخبر هذه المدينة المُحصنة بالدمار, حتى بتهديده إيَّاها يصرفها عن الشرور. قال له: قم؛ امض واكرزٌ هناك لأهل نينوى. وتكلم في آذانهم عن هلاكهم المزمع أن يكون بسبب كثرة شرورهم.
ويصوّر لنا القديس مار يعقوب السروجي محبة الله الفائقة. فإن كان الأشرار يشربون من كأس شرّهم مرارة وهلاكًا أبديً؛ فإن الله بِحُبَّه يسمح بإعلان غضبه على خطاياهم. لا للنقمة ولا لهلاكهم. وإنما لكي يكشف لهم عن ثمر شرهم. بهذا يدعوهم للتوبة. كي يتمتعوا بحنوه. فتُغلَّق أبواب الغضب. وتنفتح أبواب السماء لنْرَحُب بهم. بهذا ندرك أن “غضب الله” في حقيقته هو تناغم مع حبَّه وحنوه. لأنه يمنع الأشرار من التمادي في ممارسة شرورهم في استهتار. فيتحطّمون!
ويقارن القديس مار يعقوب السروجي بين قلب الله العجيب ومدينة نينوى العظيمة. فبينما كانت المدينة يُقترف فيها اثامًا وشروراً عظيمة. كان قلب الله يغلي بحنان عظيم ليحييها بتوبتها. فذاك الحنَّان المملوء خيرات غني بالرحمة. وهو بطيء في غضبه وسريع جداً في الحنان. فلو قصد أن يضرب نينوى بسبب كثرة آثامها لَمَا أرسل إليها يحذرها من الشرور. ولو عزم حقًا أن يؤذيها. لأرسل الغضب بغتةً وضربها. فنينوى الخاطئة تشبه فتاة نائمة, يوقظها الله بتهديداته. حتى لا يسقط عليها الهلاك بغتة! لقد رفع قوسه فوق رأسها وإذ بها لم تشعر فأرسل إليها لتشعر, وتطلب الرحمة لتُخَلَّصها.
+ خرج غضبه على المدينة ليُهلِكها. فسبقه الحنان ليُغْلِقَ أبوابها أمام الغضب فلا يَدْخُلها
لو لم توجد فيه هذه الرحمة. فلماذا لزم إرسال الكارز؟
لقد أرسله إلى هناك حتى يَرْدههم من الشرور. وبالتوبة يكون له راحة. ولا يحل الفساد
القديس مار يعقوب السروجي
يا له من جهل خطير. أن بهرب الإنسان من الله !
يرى القديس جيروم أن يونان لم يحتمل الذهاب إلى نينوى. إذ عرف أنه يوم تَقْبَلٌ الأمم الإيمان. تجحده إسرائيل. وكأن الأمم تخلص على حساب شعبه إسرائيل. لذلك عصى الرب لاعن كراهية في القلب إنما عن غيرة من جهة شعبه، وكأنه يتمثل بموسى النبي الغيور في قوله: “إن غفرت خطيتهم. إلا ذامحني من كتابك الذي كتبت” (خر 31:32 ،32). فقد ظهر موسى كمن يقاوم الرب. لكنه اقتنى مراحم الله لشعبه ولم يمح الله اسمه من كتابه. بنفس الروح يقول الرسول بولس: “أود لو كنت أنا نفسي محرومًا من المسيح, لأجل إخوتي أنسباني حسب الجسد الذين هم إسرائيليون” (رو 9: 3). لقد اشتهى لو حُرم هو نفسه لكي يحيا إخوته بالمسيح, حاسبًا موته ربحًا. بهذا الحب لم يمت بل استحق الحياة التي اشتهاها لهم. هكذا خشي يونان من كرازته للأشوريين أعداء إسرائيل هلاك إسرائيل نفسه. فهرب إلى ترشيش. أي إلى الاتجاه المضاد.
ويقول القديس جيروم: [ يُشِيرٌ هروب يونان إلى حال الإنسان بوجه عام. فباحتقاره وصايا الرب، هرب من وجهه وسلَّم نفسه للعالم، فاشتد به نوء العالم ليغرق. عندئذ التزم بالتأمل في الله والرجوع إلى من هرب منه… كانت السفينة في خطر… والأمواج هائجة بواسطة الرياح… فإنه متى كان الرب غير راضٍ لا يكون شيء في أمان .]
في عيد الميلاد عام 361 م إذ سيم القديس غريغوريوس النزينزي كاهنًا لمساعدة والده الذي بلغ الثمانين من عمره. وكان يهاب الكهنوت جدًاء سيم فجأة بغير إرادته. فهرب في اليوم التالي إلى صديقه الحميم القديس باسيليوس الكبير في بنطس. لكن إذ حلّ عيد الفصح المسيحي. أي بعد حوالي أربعة شهور عاد لاستلام العمل الرعوي. وجاء في رسالته “تبرير هروبه” ‘ أن قصة يونان توحي لكثير من المقاومين للعمل الكهنوتٍ أن يرجعوا ويَقْبَلُوا حمل نير الخدمة .
يرى القديس غريغوريوس النزينزي أن يونان هرب من وجه الرب، لكنه ارتعب بسبب البحر والعاصفة والقرعة التي ألقاها النوتية. جوف الحوت ودفنه فيه ثلاثة أيام هذا كله كان يحمل سرًا عظيماً إذ كان يعلم أن المدينة ستخلص بالتوبة. وبهذا يحسبونه نبيًا كذابًا أمام أهل نينوى. حسب هذا عارًا أن يُحسَب أداة باطلة. هكذا كان يونان غيورًً على صدق عمله النبويةٌ
هروب يونان نبوة حسنة. وليس هروبًا من الله
غالبًا ما يُنتقّد يونان لمحاولته الهروب إلى ترشيش من وجه الله أما القديس يعقوب السروجي ففي دهشة وقف يتطلّع إلى هذا النبي الهارب. متسائلاً: أليس في الهروب من وجه الله أمية وجهلٌ؟ كيف يمكن لنبي عظيم كهذا أن يسلك بجهالة؟ حتمًا كان وراء سلوكه دافع أعظم! لقد هرب ليس عن جهالة, إنما ليُقدُمَ نبوة عن آلام السيد المسيح ودفنه وقيامته! بهروبه خدم سر قيامة السيد المسيح! فكما تألم المسيح بالصليب ومات وقام لأجلنا هكذا كان ينبغي أن يتألّم يونان أيضًا قبل أن يكرز بالتوبة لنينوى ويقودهم لسر القيامة والحياة.
البحر يَشِيرَ على يونان النبى بالحكمة !
يدهش البحر إذ يجد نبي مؤمناً يهرب من الله. ويترك الطريق الذي أمره الرب أن يسلكه. ليسلك في البحر على خلاف ما أمره به الرب. يُشِيرُ عليه البحر أن يرجع إلى الله ويُطيعه. فإنه باطلاً يظن أن البحر يحميه من الله أو يخفيه عنه. ليس من موضع في البرَّ أو البحر خالٍ من الله. ويتصوّر القديس مار يعقوب السروجي حواراً توبيخيًا بين البحر ويونان-
+ تحركّت البحار. لأن إنسانًا هرب من الله. ووبّخت طريقه حتى لا يسير فيما كان مفكرًا فيه .
تكلم معه البحر العظيم بعبارات كهذه:
أين ألقيت طريقك يا يونان لتسير اليوم؟ أين تمضيء إذ تريد الهروب من الله؟
البحر هو للرب. فابحث عن مكانٍ آخرء تهرب فيه
الرب هنا في البحر العظيم» وهو مُدَبَره.. أين تهرب، فإنه بِكفٌ يده يجمع المياه؟
لا تهرب» ارجع إليه فهو بِالقُرْبٍ منك.. فإنك في قبضته
إن هربت منه في اليابسة. تجده في جوف البحر, وإن ذهبت إلى موضع آخر يلتقي بك
القديس مار يعقوب السروجي
أمواج البحر أهوّن من أمواج الخطية!
حاول الملأحون إنقاذ السفينة بإلقاء كل ما أمكن من أمتعة السفينة. لكن الثقل لم يكن في حمولة الأمور المادية. وإنما في ثقل الخطية التي ارتكبها يونان النبي بمحاولة هروبه من الله.
+ لقد ألقوا من السفينة الأمتعة التي كانت في السفينة التي في البحر, لكن السفينة لم تَصِرٌ خفيفة قط. لأن كل الحمولة بقيت داخلها، التي هي جسم النبي الحمولة الثقيلة. ليس حسب طبيعة الجسم. وإنما ثقل الخطية. فإنه ليس شيء ثقيلاً هكذا ومُرهِقًا للغاية لا يمكن احتماله مثل الخطية والعصيانة
القديس يوحنا الذهبي الفم
وفي تصوير رائع للقديس يعقوب السروجي يُوَجُّه البحر أنظار يونان النبي ليرى أمواجه القاتلة للنفس أخطر من أمواج البحار التي قد تُدَمُّر الأجساد. فالعالم شرير بأعماله أكثر من البحر بأمواجه. والعالم مُضطرب وثائر ومملوء ويلات لمن يُحبَّه. العالم مملوء حسدًا وغيرة عظيمة كالغمار العظيمة. وأمواجه هي الهوان والرياح هي الشتائم. فلستٌ أقول إن العالم يشبه البحر بل هو بحر ولعل البحر يُشْبِه العالم قليلاً! فالبحر تهدأ أمواجه في وقتٍ ماء أما العالم الشرير فيُقْلِقٌ الداخلين إليه كل يوم والإثم داخله كالأمواج التي بلا راحة. الخطايا داخل العالم الزمني مضطربة أكثر من الأمواج. وكل الناس مُضطربون بمحارباتها. ولا نجاة لنا إلا بصليب اللسيح
أمواج العالم تضطهد مخلصنا !
وفي ابداع يقارن القديس مار يعقوب السروجي بين السفينة الحاملة ليونان وبين العذراء مريم التي تجسد ابن الله في أحشائها البتول. فإن كان يونان قد نام في السفينة. فهاجت الأمواج عليه. فإنه يحمل رمرًا للسيد المسيح الذي بالتجسد صار في أحشاء القدّيسة مريم، تجسد لخلاص البشرية؛ فهاج اليهود عليه؛ بل وعلى السفينة التي يركبها أي “القدّيسة مريم”.
+ صارت مريم بالنسبة لقائد المسكونة سفينة متألّمة. مُضطهّدة داخل العالم كما في جوف البحر. سفينة يونان ضربتها الرياح بسببه؛ وانهالت الشتائم على ابنة داود من أجل ربّنا. ندعو مريم سفينة متألمة مملوءة بالخيرات. حاملة الكنز (المسيح) موضع الحسد (من اليهود) .
القديس مار يعقوب السروجي
تصميم البحر على ابتلاع يونان !
ظن الملأحون أنهم قادرون أن يسترضوا البحر بإلقاء كل مؤونتهم وبضائعهم التي في السفينة. لكن البحر لم يَقْبَلْ عن يونان بديلاً. إنه رمز للسيد المسيح. فإنه وحده القادر بموته أن يُخَلّص جميع المؤمنين. ويُنقِذ الكنيسة – سفينة الله – من الدمار!
+ ألقوا الأمتعة من السفينة في البحر وليس من فائدة. لأن ثقل يونان كان يضغط عليها ليُغرَّقها .
طرحوا الأمتعة كما تُطرّح الفريسة للأسد. ولم يهداً البحر الذي كان يشتد ليهلكهم.
لم ترض الأمواج بكنز السفينة عوض رجلٍ واحدٍ ٠
قدَّموا للأمواج الكثير. ولم تطلب إلا يونان …
القديس مار يعقوب السروجي
القمص تادرس يعقوب ملطي
الاثنين 15 أمشير 1737 ش
22 فبراير 2021م