الحب والحياة

كانت رحلة ممتعة لذلك الزائر في تلك القرية الغريبة ولكن أكثر ما جذب انتباهه هو ذلك التناقض الكبير بين الأعمار الحقيقية التي لاحظها بين سكان هذه القرية، وبين الأعمار المسجلة على شواهد القبور الموجودة في مدخل القرية لقد أدهشه ما قرأه على شواهد بعض القبور التي تسجل اسم الشخص وعمله وأبناءه…. وأخير يسجل شاهد القبر عمر الشخص بأيام أو أسابيع، أو شهور، أو سنين. وعندما سأل عن هذا السر قيل له إن الناس هنا يسجلون أعمار سكان القرية بالزمن الذي أحب فيه الشخص أهل قريته وقدم لهم أعماله التطوعية وتضحياته لخدمتهم، وهذه هي الحياة في نظر أهل هذه القرية، ليس الزمن بين تاريخ الميلاد وتاريخ الوفاة، ولكن الزمن الذي بذل لحب الآخرين وخدمتهم ومساعدتهم، هذه هي الحياة الحقيقية في تصورهم. فهذا الشاهد الذي يسجل يومين فقط فهذا يعني أن الشخص الذي يرقد في هذا القبر لم يخدم أبناء قريته سوى 48 ساعة فقط أثناء حياته على الأرض بينهم، وهذا الشاهد الذي يسجل ثلاثة شهور يعني أن الشخص الذي يرقد في هذا القبر قد أحب وخدم أبناء قريته لمدة ثلاثة شهور، وهذا الشاهد الذي يسجل خمس سنوات يعني أن الشخص الذي يرقد في هذا القبر قد أحب وخدم أبناء قريته لمدة خمس سنوات.

وهذا هو مقياس زمن ومعنى الحياة وهو الحب، فعندما تحب فأنت حي، وإن لم تحب فأنت ميت حتى لو كان لك اسم أنك حي، فبدون أن تحيا بالحب أنت ميت. وهذا هو المعنى الحقيقي للحياة… ما فائدة الحياة إذا كانت بلا حب فالحياة بدون حب تتحول إلى حياة ميتة وما قيمة طول العمر إذا كان هذا العمر بلا معنى، فالعمر الطويل بلا حب وعطاء، يتحول إلى ثقل لا يُحتمل… قد نحيا أوقات قصيرة في حياتنا يتخللها الحب نشعر فيها أن هذه الأوقات كانت كل الحياة….

الحب والتأثير

مع الفرق بين الشخص الحي والشخص الميت، هو أن الشخص الحي له تأثير فيمن حوله، بينما الجثة الميتة لا تؤثر ولا تتأثر بما يحدث حولها. ونحن قد نتقابل أشخاص لدقائق أو ساعات معدودة تكون لها تأثير وتغيير في كل حياتنا، إننا نتأثر بحياة الحب التي يحيون فيها، بينما قد نتعايش مع أشخاص لسنوات طويلة وأخيرا لا نشعر بأي تأثير لهم في حياتنا، لأنهم يعيشون لذواتهم فقط بلا حب أو عطاء الأشخاص الذين يحيون بالحب، حتى وإن انتقلوا من حياتنا الحاضرة، يظل حبهم باقيا حيا ومؤثرا. وفي هذا نحن نرى كثيرين من القديسين انتقلوا منذ سنوات طويلة ولا تزال حياتهم التي عاشوها بالحب وذكراهم العطرة باقية حية ومؤثرة إلى الآن. وكذلك آباء الكنيسة الذين انتقلوا من الحياة الحاضرة منذ عصور طويلة لا تزال كلماتهم حية وباقية بيننا إلى اليوم تنير حياتنا، لأن كلماتهم قد خرجت من نفوس محبة ولا يمكن للحب أن يموت.

وفي قصة أسطورية عن صخرة هائلة كانت توجد بجوار طريق، وكان الناس دائما يمرون بجوار هذه الصخرة كلما ساروا في هذا الطريق، وظل هذا الحال لسنوات، وفي أحد الأيام التي اشتدت فيها الحرارة على سكان هذا المكان وقلت لديهم المياه، ويبست حقولهم من شدة الجفاف، وفجأة سقطت عليهم لمدة دقائق قليلة أمطار غزيرة، ففرح سكان هذه المنطقة بالأمطار فرحًا عظيما، ونظرت الصخرة الموجودة على الطريق وحزنت سأل السكان الصخرة عن سبب حزنها فقالت لهم: ها أنا معكم لسنوات طويلة ولم يفرح بي أحد كما فرح بالأمطار التي لم تأت إلا عدة دقائق، فقالوا لها إن الأمطار أتت إلينا لعدة دقائق ولكن كان لها تأثير إيجابي ففرحنا بها أما أنت فموجودة معنا لسنوات طويلة ولكن دون تأثير.

الحب هدف للحياة

من صفات الله أنه موجود وأيضا أنه محب، وهكذا يرتبط الحب بالوجود عندما أحب أشعر بالوجود، أشعر بكياني أما الحياة التي تخلو من الحب، قد نشعر فيها بأننا ثقل زائد على الوجود شيء غير مرغوب في وجوده…

الحب ليس فقط يجعلنا نشعر بوجود ذواتنا، ولكنه أيضا يجعلنا نشعر بوجود الآخر. أي آخر بالحب نشعر بوجود أخينا الإنسان… أي إنسان في أي مكان ونرى ونشعر أيضا بالجمال الموجود في الكون… الجمال الموجود في الطبيعة في المخلوقات الحية غير العاقلة من زروع وحيوانات وطيور وكائنات بحرية، ونرى أيضا الجمال الموجود في الفنون غير الحية فنرى فيها الحياة ودون حب سوف نفرغ الوجود من وجوده نرى ونعيش ولا نشعر بوجود الوجود، وكأن غياب الحب هو غياب الحياة، وبدون الحب تفقد العين القدرة على رؤية الجمال في الأعمال والكائنات الجميلة … بالحب نترك الكون بمحتوياته من برد و حر ومياه وزهور وطيور يداعب حياتنا، وبلا حب نشعر أن عناصر الطبيعة تضايقنا وتحد حريتنا الحب هو التربة الخصبة التي يبذر عليها الخالق بذور الوجود، وبدون حب تموت بذرة الحياة داخلنا ونحن أحياء بالحب نفعل قيمة الحياة لدى أولئك الذين قد تكون ظروف الحياة أفقدتهم الإحساس بها، وعند غياب الحب قد نسلب الحياة من قلوب الأحياء. فالحب بين شخصين يشترك مع الخالق في خلق حياة جديدة أو إنسانًا جديدًا في الحياة. الحب يعطينا سببًا منطقيا للحياة، فنحن نحيا لنحب ولنضيف لكتاب الحياة قصة حب جديدة، وبدون حب سنواجه صعوبة في الإجابة على سؤال: لماذا أحيا؟ ولماذا أتيت لهذه الحياة؟

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى