كتاب هجرة المسيحي إلى الله للقمص متى المسكين

الملكوت حركة باطنية

إنجيل يوم الخميس
من الأسبوع الأول من الصوم
(مرقس 4: 21-29)

حديثنا مستمر أيضاً في الصوم المقدس نضعه أمام كل إنجيل من أناجيل أيام الصوم. فتحدَّثنا في الأيام السالفة عن المسيحي كإنسان مهاجر، أو وُلد ليُهاجر. ليس له في الأرض مدينة باقية، والوطــن هنا كخيمة تُفَكُّ وتُطوَى؛ أمـا المدينة التي لها الأساسات التي بـارئها وصانعها الله فهي الهدف.

أما إنجيل قدَّاس هذا اليوم، فهو يكشف سرّاً من الأسرار العميقة جداً لملكوت السموات، فهو يصف الملكوت بصورة سرِّية، سرِّية للغاية. سرية بمعنى mystical أي فائقة للإدراك العقلي، عن الملكوت: كيف يبدأ؟ وكيف ينتهي؟ والمسافة بين الاثنين. أما كيف يبدأ؟ فهذا يعني رحلة الخلود أو الانطلاقة الأولى، الحركة الأولى التي يبدأ بها الطريق إلى السماء.

ويقول إنجيل قدَّاس هذا اليوم: «هكذا ملكوت الله كأن إنساناً يُلقي البذار على الأرض». هذه هي الحركة الأولى التي وضعها المسيح في نفسه حينما قال: «إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتَمُت فهي تبقى وحدها. ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير» (يو 12: 24). وفي موضع آخر شُبِّهت القيامة أيضاً بالحبة: «يُزرع في فساد ويُقام في عدم فساد… الله يُعطيها جسماً كما أراد» (1كو 15: 38،42). حبة الحنطة عندما نرميها في الأرض يكون لها شكل، ولكن عندما تنبت يكون لها شكل آخر، أو بحسب قول بولس الرسول: «الله يُعطيها جسماً كما أراد. ولكل واحد من البذور جسمه» (1كو 15: 38).

الحركة الأولى:

+ هي حركة الملكوت، حركة البداية في الطريق إلى الملكوت، وهي حركة صعبة مُرَّة، يُعانيها الإنسان المُخْلِص والجاد في المسير، معاناة شديدة وعنيفة جداً. كما عبَّر المسيح عن نفسه أنه ينبغي أن يقع في الأرض ويَمُت ويُدفن، هذه هي حركة الملكوت الأولى.

+ حركة الحياة الأبدية تبتدئ من هنا: موت، إنكار ذات. حركة ليس فيها أي مظهر جمالي إطلاقاً، بل فيها حزن. عبَّر عنها المزمور في موضع آخر وقال: «الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالابتهاج» (مز 126: 5). الباذر يزرع دائماً بالدموع، فالفلاح يقترض كيلتين غلَّة لكي يزرع قيراط أرض، وهو يبذر البذار كلها في الأرض، ثم يذهب بعد ذلك إلى بيته. فإذا لم تَنمُ البذار ويطلع القمح فسوف يخسر كل ما يملك، لأن كل ما لديه قد سبق أن بذَرَه في الأرض. فهذه الحركة، في الحقيقة، حركة لا تحمل أي تشجيع ظاهري. هذه هي حركة الملكوت الأولى، ولذلك ينفضُّ عنها الكثيرون. وإذا انفضَّ الإنسان عن الحركة الأولى، فمستحيل أن يبلغ الهدف. إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتَمُت، فلا يمكن أن تكون سنبلة في يوم من الأيام، وبالتالي لن يوجد حصاد.

صحيحٌ أن هذه الحركة حركة جزئية، يزرع فيها الفلاح بالدموع، ولكن تصوَّروا في نهاية المطاف هذا الفلاح عينه سيرجع وقد حمَّل العربات بالغلَّة، والفرح يغمره – كما يصفه مزمور 126 – وهو حامل في أحضانه الأغمار. الحصاد يكون بفرح وتهليل، ولكن بداية هذا الفرح تكون دائماً حزناً، يبتدئ بألم وبانسحاق. هذه هي، في الحقيقة، الخلفية التي نتحرك عليها في الصوم المقدس.

+ الصوم المقدس هو عملية إماتة بالإرادة، عملية تطبيق عملي لمفهوم حبة الحنطة التي تقع في الأرض وتموت بإرادتها. هذه هي الحركة الأولى الحزينة في باطن الأرض بلا أي منظر أو أي عائد مشجِّع، إلاَّ الرجاء. ويعود إنجيل هذا اليوم ويتحدث باستطراد: «كأن إنساناً يُلقي البذار على الأرض، وينام». كلمة ”ينام“ كلمة جميلة ومُريحة. فبعد العناء الذي عَبَرَ عليه الفلاح بمنتهى السرعة في أحزان، وقد اقترض كيلتين قمح، وبتعبٍ ودموع حرث الأرض وحدَّد الخطوط، ثم زرع، فإنه يرجع بعد ذلك إلى بيته وينام. هذا الفعل ”ينام“ الذي جاء في الإنجيل، يفيد ”الاستقرار“ وليس التغيير، ولذلك يرجع الفلاح إلى بيته و”ينام“. هذا التصوير لهذا الفعل جميل جداً من أبدع ما يكون. فإذا ابتدأنا هذه البداية الصعبة، هذه الحركة الأولى للملكوت، فإننا سنشعر في الحال براحة، فيأتينا الاستقرار الروحي الداخلي، ونشعر بالراحة العميقة جداً إذا أكملنا العمل الأول والأصعب والمستحيل.

إنكار الذات هو جَحْد، إهلاك، للذات:

إنكار الإنسان ذاته في هذا العالم وفي هذا الزمان شيء غالٍ وثمين جداً. ولكن إنكار الذات ليس فقط أن يُنكرها الإنسان، بل ”يجحدها“ (في موضع آخر من الإنجيل)، وفي موضع ثالث يقول المسيح: ”يُهلكها“. هذا واضحٌ جداً من مَثَل ”حبة الحنطة“، ولكن ثقوا أن هذه الحبة وهي تموت بالفعل، إلاَّ أنها بقدر ما تموت تحيا، بقدر ما تتغيَّر عن شكلها كقمحة، ستأخذ شكلاً جديداً كجسم جديد يحمل الرجاء كل الرجاء.

أنا أُركِّز هنا على كلمة ”ينام“ التي تتبع عناء الفعل الأول أو الحركة الأولى نحو الملكوت، التي هي إنكار الذات، التي هي الصوم، التي هي الأعمال التي تكلَّمنا عنها في أناجيل الأيام السالفة بكل أعماقها.

في إنجيل اليوم الأول: تحدَّث عن التلاميذ عندما كانوا يتشاحنون في الطريق عمَّن هو أعظم! ولكن هذا العِراك لا ينفع لمن يسير في الطريق. الطريق لا يحتمل العِراك، الطريق لا يحتمل مشاحنة إطلاقاً. الطريق الضيِّق طريق سلام ومُسالمة، لا يحتمل أن يسير فيه الإنسان دون أن يُسالم الآخرين. فالطريق إلى ملكوت السموات لا يحتمل نزاعاً أبداً.

ثم يتكلَّم الإنجيل عن المحبة كسلاح قوي جداً، فإننا بالمحبة نُحطِّم كل العوائق التي تُقابلنا في حياتنا؛ وخصوصاً محبة الأعداء، لأن أكبر عائق سيواجهنا في مسيرتنا إلى الملكوت هم الأعداء والمنازعون لنا على الطريق، فهم لا يريدون لنا أن نصل إلى الملكوت، ويكرهون ذلك. فبماذا نواجههم؟ ليس بالحرب، ولا بالسيف، ولا بالمنطق، ولا بالكلام، أبداً؛ وإنما بالمحبة نحتوي العدو. كما إذا انغرست شوكة في عضو من أعضاء الجسم، فإنه يحتويها ويُليِّفها ويتجاوزها من أجل أن تحيا بقية الأعضاء. بالمحبة نستطيع أن نغلب، وبدون المحبة لابد أننا سنُغْلَب ونُهزم.

في أناجيل الأيام الثلاثة السالفة، كان الكلام عن أسلحة الطريق، ومعونات المسافر أو المهاجر. فهنا يتكلَّم عن الطريق كله في ثلاث حركات كما قلت سالفاً.

الحركة الأولى: هي المتعبة جداً في مسيرتنا في الطريق، وهذه ذكرناها سالفاً.

الحركة الثانية:

+ يصف الإنجيل هذه الحركة وصفاً بديعاً جداً. فالإنسان ينام بعد كل ما عاناه من أتعاب في بَذْر البذار، ثم يقوم. فالنوم هنا ليس نوماً مستمراً لئلا يصير الاسترخاء عنصراً سائداً في حياة الإنسان المسيحي المهاجر إلى الملكوت، وهذا مستحيل، لا يمكن أن يكون. فبعض النُّسَّاك يحدث لهم تزييف في الرؤية، ويعتقدون أن النسك والعبادة والرهبنة والطريق إلى الملكوت، يوجد فيه استرخاء، أي مجرد ابتعاد عن العالم، وراحة ونوم، ويكفيهم أنهم يُصلُّون. لا، فالإنجيل يقول عن الزارع إنه: «ينام ويقوم ليلاً ونهاراً». الليل والنهار تعبيرٌ ضمني سرِّي mystical عن النور والظلمة، عن الراحة والتعب، عن السلام والضيق.

+ «وينام ويقوم ليلاً ونهاراً، والبذار يطلع وينمو»، ذلك ما دام الإنسان قد مات عن ذاته، وأنكر ذاته، واستطاع أن يصل إلى الحدِّ الذي فيه يستطيع أن يحسَّ فعلاً أن ذاته غير محسوبة عنده، كما قال بولس الرسول: ”إن ذاتي غير محسوبة عندي“ (انظر أع 20: 24). عندنا شهادة من رسول كان فرِّيسيّاً متكبِّراً متعظِّماً بناموسه وبحفظه، وبإمكانياته ودرجاته وشهاداته، وعضويته في السنهدريم، حتى أنه استطاع أن يقول: «لستُ أحتسب لشيء، ولا نفسي ثمينة عندي». هذا الرسول إنسانٌ استطاع أن يبلغ فعلاً إنكار الذات. فالذي ينكر ذاته ينمو، ولكنه نمو عجيب جداً، لا تراه ولا تحسُّه، يُعبِّر عنه الإنجيل ويقول: «والبذار يطلع وينمو، وهو لا يعلم كيف؟». مَن هو هذا الذي لا يعلم؟ إنه الفلاح: «ينام ويقوم ليلاً ونهاراً، والبذار يطلع وينمو، وهو لا يعلم (لا يشعر) كيف؟». كلمة ”يشعر“ تأتي في الأصل اليوناني ”يعلم“: «وهو لا يعلم»، بمعنى أنه غير مُدرِك، وهي تأتي هنا من الشعور. والآباء دائماً يمزجون ما بين المعرفة بالعقل والمعرفة بالقلب، الفهم بالذهن والإحساس بالشعور. هذا رائع، لأن الكلمتين متقابلتان.

+ «والبذار يطلع وينمو وهو (أي الفلاح) لا يعلم (لا يشعر) كيف؟». لا يمكن أن تشعر في يوم من الأيام أنك تنمو في القامة الروحية، فمن الممكن أن يرى ذلك النمو غيرك من الناس، أما أنت فمن المستحيل أن تشعر بذلك. ولكن نتيجة هذا النمو ستظهر لك في نهاية المطاف.

+ «والبذار يطلع وينمو وهو لا يعلم كيف؟ لأن الأرض من ذاتها تأتي بثمر». الأرض من ذاتها تُخرِج أولاً العُشب، الذي هو الزرع أو النبات، ثم السُّنبل، ثم الحنطة ملآنة في السُّنبل: «الأرض من ذاتها تأتي بثمر. أولاً نباتاً، ثم سُنبلاً، ثم قمحاً ملآن في السُّنبل». فهناك ثلاث درجات من النمو للذين يسيرون في الطريق: العشب (وهو الجزء الأخضر: النبات)، ثم السُّنبل (الزهرة)، ثم القمح ملآن في السُّنبل.

الحركة الثالثة:

+ ثلاث درجات لابد أن نعبُر عليها في مسيرتنا، وفي بعض الأحيان يختلط الأمر على الإنسان ويتحيَّر، ويأتيني ويقول: ”يا أبي، أنا لا أنمو، بل ومتوقِّف في الطريق. ومن البيِّن أنني لا أصلح لهذه الحياة الروحية“. وعندما أسأله: لماذا؟ يجيب ويقول: ”إنني لا أنمو أبداً“. تماماً مثل الفلاح الذي يُمسك في يده مسطرة ويبدأ يقيس الزرع كل يوم. وفي يوم من الأيام، يرى أن النبات لا ينمو: ثاني يوم، ثالث يوم، أول أسبوع، ثاني أسبوع، ثالث أسبوع، والنبات لا ينمو أبداً، توقَّف عن النمو. فيهرول إلى جيرانه ويقول لهم إن الزرع قد مات. ولكن يقوم فلاح عجوز مختبر ويقول له: ”لا، لم يَمُت الزرع. ولكنه ينمو بطريقة أخرى“. فيعود الفلاح الشاب ويقول: ”كيف؟“. فيردُّ عليه الفلاح العجوز: ”اذهب باكراً وسوف ترى بعينيك“. فيذهب هذا الفلاح إلى الأرض ويجد أن السُّنبل قد ظهر، ابتدأ ينمو ولكن الطول متوقِّف، لم يَعُد ينمو بعد، ولا ملليمتراً واحداً.

فهذه درجات طريق الملكوت: تقف الواحدة لتبتدئ الأخرى، تَكمُل الواحدة وتبدأ الدرجة الثانية. فطول النبات سيتوقف، ولكن بعد ذلك سيظهر الزهر. والزهر نفسه سيتحول بعد حينٍ إلى لون آخر.

+ والإنسان غير المختبر روحياً، يجد نفسه – في وقت من الأوقات – ليس كما كان قبلاً عندما كان نشيطاً متهلِّلاً ليلاً ونهاراً، في فرحٍ وسرور، وهو الآن بدأ يتوقَّف في الطريق: ضيق، اختبار، تخلِّي للنعمة. لكن كل هذا نمو، ولكنه نمو بطريقة أخرى. كالفلاح الجاهل الذي يرى القمح الذي زرعه قد تحول إلى اللون الأصفر، ومن جهله يصرخ ويقول: ”داري قد خرب، الزرع مات“. ويذهب إلى زميله الفلاح العجوز ويشكي له. لكن هذا الفلاح العجوز يقول له: ”خلاص، الجُرن قرَّب يشتغل“ (أي أن الجرن الفارغ الذي سيحوي حصاد القمح قد قارَب أن يمتلئ). فيقول الفلاح الشاب: ”كيف؟“. يردُّ عليه الفلاح العجوز: ”الزرع اصْفَرَّ، يعني القمح نما، وملأ السُّنبل“. فيتساءل الفلاح الشاب: ”معنى هذا أنه حي“، فيقول له: ”نعم، حيٌّ. لكن إياك أن تسقيه“. فالإنسان السائر في الطريق لا يعود يشرب من التعزيات التي كان يشرب منها في صباه وفي شبابه، فهو يصوم ولكنه يتهلَّل تهليلاً داخلياً لينمو نموّاً آخر، لثمرٍ آخر.

هذه هي الحركة الثالثة.

مُلخَّص الحركات الثلاث:

الحركة الأولى: قلنا عنها إنها موت. فيها حزن، فيها ظُلمة في باطن الأرض. ليس فيها أي عزاء، ولا فيها أي شكل من أشكال الرجاء أبداً، إنما الرجاء داخلي.

الحركة الثانية: قلنا عنها من جهة الفلاح، لأن ملكوت السموات يشمل الكل: الزرع المزروع والفلاح أيضاً، لأن كثيرين يخطئون عندما يأخذون هذه الأمثلة ويفصلون بعضها عن البعض الآخر، فتضعف قوتها ومعانيها. ولكنك في نهاية المطاف ستجد هذا الفلاح هو نفسه الذي يحصد ويفرح. الحركة الثانية، ينام فيها الفلاح ويقوم، ليلاً ونهاراً، والزرع ينمو ويطول.

الحركة الثالثة: هي قمة الفرح: «وأما متى أدرك (الفلاح) الثمر، فللوقت يُرسِل المنجل، لأن الحصاد قد حضر»، ويبتدئ يستعين بالغلمان ويستأجر الأولاد، ويفرح ويُنشد الأناشيد. فعندما ينظر إلى الأرض، يقول: ”الأرض في هذه السنة جيدة“، فتنفرج أساريره، ويبدأ يجمع القمح بفرحٍ، وتمتلئ أحضانه من الحصاد. الحركة الثالثة فرحٌ ومسرَّة، ولكن: هل يمكن أن تأتي الحركة الثالثة بدون أن تبدأ أولاً الحركة الأولى؟ هذا أمرٌ مستحيل!

هذه هي الدرجات الثلاث: عشب، سنبل، وقمح ملآن في السُّنبل.

هنا على الأرض نزرع، أيامنا هنا نزرع وننمو، ولكن نمونا لا يكون ظاهراً لنا. قد يظهر للآخرين، ولكن أهم شيء هو الحركة الأولى: كيف نقع (مثل حبة الحنطة) بإرادتنا ونموت على أرضنا هذه، لكي ننمو سرِّياً في مسيرتنا على الطريق الصاعد إلى السماء.

ولربنا المجد الدائم في كنيسته من الآن وإلى الأبد، آمين.

زر الذهاب إلى الأعلى