القديس بوليكاربوس الأسقف والشهيد

 

تتلمـذ كثيـرون علـى أيـدى الآبـاء الرسـل الأطهـار، وحملـوا صـدى أصـيل لكـرازتهم، معلنـين بالحقيقة بساطة إنجيل الخلاص، مقدمين أيقونة صادقة لتلك الحقبة الفريدة.
وفــى خضــوع البنــين واشــتياق المحتــاج نتطلــع إلــى ســيرة القــديس بوليكــاربوس الأســقف والشهيد الذى حمل روح الإنجيل، وفكر الكنيسة الجامعة ًا منحصر فى الروح القدس.
أوصـى بـأن نعـيش مسـيحيتنا إيجابًيـا، راســًما الطريـق المـؤدى إلـى الحيـاة، ذلـك الطريـق فــى الاقتـــداء بالمســـيح وبالســـعى وراء خـــلاص الأخـــرين، ً راعيـــا رعيـــة االله ً ومـــدافعا عـــن الإيمـــان,ً وحافظــا الأمانــة, ً ومقــدما نفســه قــدوة فــى الكمــال المســيحى، إنــه القــديس الشــهيد بوليكــاربوس أسقف سميرنا 

من ھو بوليكاربوس؟

نســتطيع أن نتعــرف علــى بوليكــاربوس مــن خــلال ســيرة حياتــه، وفهــم شخصــيته، ومعرفــة الظـــروف المحيطـــة بـــه، ومـــن خـــلال رســـائله التـــى جـــاءت وليـــدة احتياجـــات عمليـــة رعويـــة، بلا غرض علمى دراسى.
وبالاختصـار نتعـرف عليـه مـن رسـالته ووقـائع استشـهاده، كيـف كـان وقـوراً، وكيـف ارتعـب الجنــد مــن هيبتــه وقداســته ووداعتــه وبشاشــة محيــاه، عنــدما أرادوا القــبض عليــه، إذ لــم يخــف عـذاب المـوت ولـم يهـاب الاستشـهاد، بـل واتسـع قلبـه بالحـب نحـو الغيـر, يصـلى لأجلهـم فــى لحظـات استشـهاده. 
كـان مـن أهـم الشخصـيات الكنسـية فــى ولايـة أسـيا الصـغرى فــى النصـف الأول من القرن الثانى، فى الفترة التالية لعصر الرسل. واستحق هذا القديس لقب “معلم أسيا، وأب المسيحيين، ومحطم الآلهة” بعد أن ّ علـم ورعـى رعية االله، ً محطما آلهة الأمم الباطلة.
لا نعرف ً شيئا عن نشأته، فعندما حوكم، قال أن عمـره 86سـنة، ٕواذا كانـت هـذه المحاكمـة قد تمت حوالى عام 155م، يكون بوليكاربوس قد ولد حوالى 69 ميلادية وربما قبل ذلك. ومن المعروف أنه تعمد فى صباه، وقد ذكر القديس إيريناؤس “ضمن سلسة آبـاء الكنيسـة،أن الرسول يوحنا الحبيب هو الذى أقامـه أسـقفاً علـى سـميرنا، وهـذا يعنـى أنـه أقـيم أسـقفاً وهـو فى حوالى الثلاثين من عمره.
ويروى عنه كلارك:أن سيدة تقية تدعى كاليستو اشترته بناء على رؤيا، وأودعته بيتهـا،إذ ظهر لها ملاك من االله فى أحد الليالى وقال لها فى حلم: “كاليسـتو، اسـتيقظى واذهبـى إلـىبوابة الأفسسيين, وعندما تسيرى قلـيلاً سـتلتقين بـرجلين معهمـا ولـد صـغير يـدعى بوليكـاربوس.اسـأليهما إن كـان هـذا الولـد للبيـع.. وعنـدما يجيبانـك بالإيجـاب ادفعــى لهمـا الـثمن المطلـوب،وخـذى الصـبى واحتفظــى بـه عنــدك إنـه طفـل شـرقى.. أطاعـت كاليسـتو الرؤيـا فوجـدت كـل مـا قيــل لهــا عنــه فــى الرؤيــا، واشــترت بوليكــاربوس وأودعتــه منزلهــا، وعنــدما كبــر جعلتــه ًا مــدبر لمخازنها.
وحدث مرة أنها سافرت لأمـر مـا وسـلمت مخازنهـا لـه، فتجمـع حولـه الأيتـام والأرامـل َّ والتـف حولــه المحتــاجون وكــل ذى حاجــة، فكــان بوليكــاربوس يعطــيهم بســخاء، فلمــا رجعــت الســيدة كاليسـتو أخبرهـا العبـد زميلـه بمـا حـدث وبمـا فعلـه بوليكـاربوس، لكنهـا عنـدما اسـتدعته وفتحـت المخازن وجدتها مملوءة كما كانت. فأمرت بعقاب العبد الـذى وشـى ببوليكـاربوس، لكـن للحـال طلـب منهـا بوليكـاربوس أن تعفـو عنه، معترفًا لها بحقيقة الأمر وبما حدث، وبأنه أفرغ جميع المخازن فى عطائه للفقـراء. لـذلك اندهشت كاليستو من هذه المعجزة, حتى أنها تبنت بوليكاربوس وكتبت وصـيتها بـأن يـرث كـل ما تملكه بعد وفاتها, أما هو فلـم يشـغله هـذا الأمـر، لأنـه كـان ً مسـيحيا ً حقيقيـا لـم يتـأثر بـالغنى ومحبة المال.
ومن أعماله الطيبة التى أوردها عنه كلارك أنه يذهب إلى الطريق الذى يعود منه حاملى الحطب من الضواحى، فكان يختار أكبرهم سـناً ويشترى منه الحطب بنفسه إلى الأرامل الفقراء.

كھنوته 

يذكر كـلارك أن بوكـولس أسـقف سـميرنا سـامه ً شماسـا، فشـهد للمخلـص بـالكلام الكـرازة والتعليم، كما بحياته وقدوته الطيبة، مواجهًا الأمم واليهود والهراطقة. لذلك سامه كاهًنا فى سن مبكر، وقد شهد له الأسقف قائلاً: إنه يستحق أن يكون ًا مشـير ومشاركاً له فى التعليم.
سيم أسقفًا وهو فى حوالى الثلاثـين مـن عمـره، بعـد أن إشتهر بأعمال الرحمة والمحبة والعطاء.

بوليكاربوس أسقف سميرنا

جاء فـى الكتـاب الثالـث ضـد الهراطقـة للقـديس ايرينـاؤس أسـقف ليـون تلميـذه قولـه: وأمـا بوليكاربوس ليس فقط قد تعلم بواسطة الرسل، وتحدث مع كثيرين ممن شاهدوا المسـيح، بـل وأي ًضــا تعلـم بواسـطة الرسـل فــى آسـيا، وأقـيم أسـقفًا فــى سـميرنا، هـذا الـذى رأيتـه فــى صغرى(.. تلك شهادة تلميذه ايريناؤس أسقف ليون.
ويؤكد العلامة الأفريقـى ترتليـان: أن القـديس يوحنـا الحبيـب هـو الـذى أقامـه أسـقفًا، وذلـك قبل نفيه إلى جزيرة بطمس.
وقد ذهب البعض إلى أنه ملاك كنيسة سميرنا الذى أشـار إليـه سـفر الرؤيـا ) ,(8 :2وهـو الأسقف الذى وجد ًا بار، ً غنيا فى الإيمان، ًا فقير فى مادياته، ً مقاوما للمجـدفين، ينتظـرون دخوله فى ضيق، وفعلاً إضطهده الوثنيون والهراطقة والأخوة الكذبة.
وقــال عنــه القــديس ايرينــاؤس فــى خطابــه إلــى ) :Vlorinus أســتطيع أن أصــف حتــى المكـان الـذى كـان المبـارك بوليكـاربوس يجلـس فيـه وهـو يعـظ، وطريقـة دخولـه وخروجـه، وأسـلوب حياتـه، وهيئتـه الجسـمانية، وعظاتـه للشـعب، والوصـف الـذى قدمـه عـن عشـرته مع يوحنا والآخرين الذين رأوا الرب، وكيف أنه كان يتذكر كلماتهم وما سمعه منهم عـن الرب، ومعجزاتهم وتعاليمهم، وكيف أن بوليكاربوس إستلمها من شهود عاينوا ورأوا كلمة الحياة، وروى كل شىء بما يتفق مع الاسفار المقدسة، وقد أصغيت بشغف لهذه الأمور برحمة االله التى ُوهبت لى، وسـجلتها لا علـى ورق، بـل فـى قلبـى، وصـرت أتأمـل وأتفكـر فيها وأرددها بنعمة االله

وممـــا هـــو جـــدير بالـــذكر أن ايرينـــاؤس تلميـــذ بوليكـــاربوس رغـــم أنـــه كـــان فـــى رومـــا وقـــت أستشهاده إلا أنه فى اليوم والساعة التى استشهد فيهـا سـمع صـوتًا يـدوى مثـل بـوق يقـول: “لقـد أستشهد بوليكاربوس.”

القديسان بوليكاربوس وأغناطيوس

ارتـــبط اســـم القـــديس بوليكـــاربوس أســـقف ســـميرنا بالقـــديس أغنــاطيوس النــورانى أســقف أنطاكيــة، فقــد توقــف أغنــاطيوس وهـو فــى طريقـه إلـى رومـا للإستشـهاد، واسـتقبله بوليكـاربوس وقبــل قيــوده بتكــريم لائــق بــه كمعلــم عظــيم وكخليفــة للقــديس بطرس الرسـولى، يتبـارك بـه ويلـتقط مـن درر تعاليمـه، ليلحــقه بعد حوالى 40عاما مقدسا حياته ذبيحة حب بالاستشهاد.
اهتم القديس بوليكاربوس برسائل أغناطيوس النورانى فجمعها وأرفقها بخطاب من عنـده،ولعــل الشــهيد بوليكــاربوس امتثــل بــه حتــى أنــه مشــى علــى هــداه وخطــاه مواجهًــا الاستشــهاد كصخرة لا تتزعزع.
وعنـدما بلـغ القـديس أغنـاطيوس تــراوس بعـث برسـالة إلـى القـديس بوليكـاربوس، تكشـف عـن شخصـية صـاحب هـذه السـيرة أسـقف سـميرنا: “أرحـب بفـرح بمشـاعرك وأفكـارك الثابتـة فـي االله كصـخرة لا تتزعـزع، لـذلك مجـدت الـرب بـلا حـدود لأنـه أهلنــى لرؤيـة وجهـك الـذى بـلا عيـب وأرجو أن أتمتع به فى االله.”

بوليكاربوس والھراطقة

قاوم القديس بوليكاربوس الهراطقة، خاصة َمرقيون، وقد كشف تلميـذه ايرينـاؤس عـن جهـاده ضـد الهرطقـات وأنـه رد كثيـرين ممـن انحرفـوا وراء الهراطقـة  أتبـاع فـالنتينوس وأتبـاع مرقيـون إلـــى الكنيســـة الجامعـــة، ً شـــاهدا للحـــق الـــذى اســـتلمه مـــن الرســـل، محـــولاً كثيـــرين عـــن طريـــق الضلالة، مدافعاً عن الإيمان المستقيم وحافظاً له. 
ويــذكر التــاريخ أن القــديس بوليكــاربوس التقــى بمرقيــون، فســأله الأخيــر: “أتعرفنــا؟” أجابــه: “أعرفك، أنك بكر الشيطان”, ً حريصا أن يرفض حتى مجرد الحديث مع الذين لا يقبلون الحـق الإلهى.
فكانــت غيرتـه متقـدة، حتـى أنـه كـان يسـد أذنيـه ويهـرب مـن سـماع كـلام الهراطقـة والأخـوة الكذبة قـائلا:  أواه يـا إلهـى الصـالح علـى تعاسـة الزمـان الـذى حفظتنـى إليـه وكـان ًا قـادر علـى تفنيد أى هرطقة لأنه تسلم قوانين الكنيسة الرسولية الجامعة.
وبفضل وبركة القديس بوليكاربوس رجع كثير من أتباع مرقيون عن ضلالتهم الهرطوقية، حتى أن مرقيون ندم على ما فعله وارتضى بتعليم الكنيسة، لكنه مات قبل أن يفعل.

القديس بوليكاربوس الشھيد 

تعـد سـيرة استشـهاد بوليكـاربوس أقـدم وثيقـة كنسـية سـجلت لنـا التعلـيم الرسـولى بـأن الشـهيد مــدعو لأن يتمثــل بــآلام المســيح وموتــه بــالحق والفعــل وأنــه مــدعو للشــهادة بــالكلام والأقــوال وللاستشــهاد حتــى الــدم. تقــدم الوثيقــة أقــدم شــهادة علــى الإهتمــام بأجســاد الشــهداء والاحتفــال بأعيــادهم وتــذكاراتهم، كمــا وســجل كاتــب الوثيقــة الصــلاة التــى قــدمها الشــهيد بوليكــاربوس ســاعة استشــهاده والتــى لا تختلــف عــن مفــردات رســالته إلــى فيلبــى، لــذا جــاءت شـــــهادة حيـــــة عـــــن الثـــــالوث القـــــدوس، وعـــــن العـــــزاء والخلاص وعمل الروح القدس ووحدة الكنيسة. وهنــــا نــــرى أن بوليكــــاربوس فــــى ســــاعة استشــــهاده الأخيرة، وقد امتد إيمانه ليشمل الثالوث وفداء المسـيح رئـيس الكهنـة الـذى بدونـه لا قيمـة للذبيحـة الحيـة التــى تقدم.
وتطلــع الشــهيد بوليكــاربوس إلــى شــركة الســمائيين, وعشرة الشهداء والقديسين, ٕوالى دوام الشركة مع هؤلاء، لحياة الأبد للنفس والجسد.. يا لها من قوة تسلح بها شهيدنا الأمين بوليكاربوس، حتـى أنـه واجـه النـار الآكلـة وهـو يتحـدث عـن قيامـة الجسد.
كتبـت وثيقـة استشـهاد القـديس بعـد استشـهاده بفتـرة وجيـزة، وتسـجلت بهـا وقـائع شـهادته بعـد وقت قصير جداً لأن الكاتب قد تذكر الساعة واليوم والسنة والأحداث والكلمات والوصف. وأشارت الوثيقة إلى مشاعر وكلمات القديس بوليكاربوس وكيف أنـه تطلـع للاستشـهاد كهبـة إلهية، وكيف شـكر االله عليـه بفـرح، مثبتـاً شـكره بكلمـة آمـين. وعـن سـمو شخصـية بوليكـاربوس الشـهيد، وشـرحت طريقـة القـبض علـى الأسـقف، وكيـف أن الجنود تعجبوا من هيبته ووداعته وعذوبتـه.. ونـأتى إلى مقولة القديس الذهبية التى قالهـا عنـدما طلـب منـه أن يلعن المسيح، “لقد مضت ستة وثمانون ً عاما أخـدم فيها المسيح، ًا وشر لم يفعل معى قط، بل أقتبل منه كـل يــــوم ً نعمــــا جديــــدة، فكيــــف أجــــدف علــــى مــــالكى الــــذى يخلصـنى؟.” وحينمـا هـددوه بـالحرق والطـرح للوحـوش، قـال: “إنــى لا أخـاف النـار التــى تحـرق الجسد، بل تلك النار الدائمة التى تحرق النفس وأما ما توعدتنى به من أنك تطرحنى للوحوش المفترسـة، فهـذا ً أيضــا لا أبـالى بـه، إحضـر الوحـوش، ٕواضـرم النـار، فهـا أنـا مسـتعد للحريـق والافتـراس.” وحينمـا حـاول الجنـد تسـميره علـى خشـبة حتـى لا يتحـرك مـن شـدة عـذابات النـار، قال لهم: “اتركونى هكذا، فان ذاك الذى وهبنى قوة لكى احتمل شدة حريق النـار، هـو نفسـه سيجعلنى ألبث فيها بهدوء دون حاجة إلى مساميركم.”
أوثقوا يديـه وراء ظهـره وحملـوه واضـعين إيـاه علـى الحطـب كمـا لـو كـان ذبيحـة علـى مـذبح، أمـا هـو فصـلى للـرب، ًا شـاكر إيـاه أنـه سـمح لـه أن يمـوت ً شـهيدا، وأن يشـركه فــى شـرب كـأس آلام الإبن الوحيد.
وقد كشفت الوثيقة الخاصة باستشهاد بوليكاربوس كيف أنه كـان رجـل صـلاة وعبـادة، حتـى أنه صلى قبيل استشهاده ً مدركا أن الصلاة مصدر قوته، وكيف أنه رجـل الكنيسـة الواحـدة فـى أيمانهـا فـي جوهرها وحياتها وا ى كـل مكـان، الـذى بقلـب منفعـل بالمحبـة الإلهيـة المكتملـة بالإتحـاد مع كل جسد المسيح، تطلع إلى الرب الذى حل فيـه بالحقيقـة بكيفيـة تفـوق كـل تعبيـر، وصـار لـه جـوهرة فائقـة لا يمكـن أن يعادلهـا شــىء مـا فــى الوجـود، وكـل شــىء نفايـة بالمقابلـة معـه، فصار هو ذبيحة على مذبح الرب محرقة ً وقربانـا. وتعيـد لـه الكنيسـة فـى يـوم 29أمشـير – 8 مارس ذاكرة له جهاده وشهادته الأمنية للرب يسوع حتى النفس الأخير.


صلاة القديس بوليكاربوس وقت الاستشهاد

أسبحك لأنك جعلتنى مستحقًا لهذا اليوم وهذه الساعة، تقبلّنى من ضمن عدد شهدائك حتى أشارك فى كأس مسيحك لأجل قيامة الروح والجسد للحياة الأبدية فى عدم الموت الذى للروح القدس لعلى أكون مقبولاً اليوم بين صفوفهم كذبيحة غنية تفرحك كذبيحة أعددتها وأعلنتها من قبل والأن تمت. 

فاصل

القديس إغناطيوس الثيئوفورس

الكنيسة الجامعة

بابياس أسقف هيرابولي

الآباء الرسولين

تاريخ الكنيسة

 

زر الذهاب إلى الأعلى