ما دام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته

 

«ما دام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته» (۱۲ :۱)

هذه الآية معناها أنه ما دام الملك جالسًا على عرش ملكه، أفاح قلبي محبته. ومناسب جدًا أن تُرافقنا هذه الآية طوال أسبوع الآلام، لأن أسبوع الآلام هو أسبوع تقديم الحب للمسيح المالك على القلوب من فوق عرش صليبه، بحسب الآية القائلة: «الرب قد ملك على خشبة» (مز95: 10 بحسب الترجمة القبطية).

«ما دام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته»، أي أفاح قلبي محبته، أو كما تقول العروس في موضع آخر :

«ناردين وكركم قصب الذريرة وقرفة مع كل عود اللبان، مرّ وعود مع كل أنفس الأطياب» (نش 4: 14)، وأيضًا: «كل النفائس من جديدة وقديمة ذخرتها لك يا حبيبي» (7: 13).

أسبوع الآلام هو الأسبوع الذي نُقدِّم فيه محبَّتنا للمسيح إزاء ما صنعه من أجلنا. والكنيسة تُوجّهنا أن ندخل هذا الأسبوع من مدخل الحب الخالص المنسكب على قدمي الرب يسوع كطيب ناردين خالص كثير الثمن. فأول قراءة في قطمارس أسبوع الآلام هي عشية أحد عيد الشعانين، حيث نتقابل مع مريم أخت لعازر . فبينما كان لعازر بعد قيامته من المتكئين مع المسيح في العشاء، أخذت مريم منا من طيب ناردين خالص كثير الثمن، ودهنت قدمي يسوع» (یو 12: 3). هذا معناه أنها سكبت أعظم ما عندها من محبة عند قدمي الرب يسوع، تكريما له لأنه أقام أخاها لعازر من الموت.

ولكن تقييم الرب لعمل مريم هذا كان تقييما عجيبًا جدًا. فقد قال كلمة مملوءةً أسرارًا: «إنها ليوم تكفيني قد حفظته»، بمعنى أن الرب اعتبر أن هذا الحب المُنسكب على قدميه كان مُوجَّهًا لسرِّ آلامه الشافية المُحيية المُخلّصة. لأن مريم كانت تُكرّمه كمعطي الحياة، ولكن سبب إعطائه الحياة لكل بشر كامن في سرّ آلامه الشافية المُحيية التي منها ينبع إحياء لكل جنس البشرية. ولهذا فقد قيم الرب هذا الحب المُنسكب عند قدميه هكذا: «إنها ليوم تكفيني قد حفظته»، إنها قدمت هذا الحب لسرّ آلامي الشافية المُحيية.

نلاحظ أن الآية تقول: «أفاح نارديني رائحته»، ومريم سكبت «منا من طيب ناردین خالص كثير الثمن ودهنت قدمي يسوع». وفي إنجيل متى كان تقييم الرب لهذا العمل: «إنها قد عملت بي عملاً حسنًا »( مت 26: 10). الحب الإلهي المُنسكب على قدمي الرب يسوع هو «العمل الحسن» بصفة مُطلقة، هو أفضل عمل يمكن أن نُقدِّمه للرب، فهو أعظم وصية: «تحب الرب إلهك من كل قلبك» (مت 22: 37) فهو أفضل «عمل حسن» يمكن أن نُقدِّمه للرب إزاء ما فعله هو من أجلنا.

«ما دام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته»

كلمة «في مجلسه» تعني جالسًا على عرش مُلكه «الرب قد ملك على خشبة». مُلك الرب يتحقق أساسًا عن طريق صليبه، كما قال لبيلاطس: «مملكتي ليست من هذا العالم» (يو 18: 36). مُلك الرب هو ملك روحي، فهو يملك بالحب الإلهي على قلوب أحبائه.

فكيف يملك الرب على القلوب؟ لو سألت أي واحدٍ منَّا: كيف ملك الرب على قلبك حتى كرَّست حياتك له؟ سيُجيبك منذ أن عرفت أن الرب مات لأجلي، وأنه أحبني حتى الموت، حينئذ ملك هذا الحب على قلبي وعلى كل مشاعري، فصارت محبة المسيح تحصرني حتى صرتُ لا أستطيع أن أعيش فيما بعد لأجل نفسي بل لأجل الذي مات من أجلي ،وقام لأجل الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي.

محبة المسيح التي قدمها لنا في سرّ ،آلامه، هي التي يملك بها على القلوب، وهي التي بها يتحقق ملكوت الله، ولهذا نقول «الرب قد ملك على خشبة»، كما أننا في نهاية يوم الجمعة العظيمة، أي في نهاية أسبوع الآلام، نقف أمام الرب ونقول اللحن الذي يسلب القلوب  أي «عرشك يا الله إلى دهر الدهور ، قضيب الاستقامة هو قضيب ملكك». ونحن نعترف بهذا اللحن أن الرب قد ملك بمحبته على قلوبنا إلى دهـر الدهور: «عرشك يا الله إلى دهر الدهور»، وقد ملكت على كل قلوبنا بحبك الإلهي إلى دهر الدهور. قضيب» الاستقامة هو قضيب مُلكك»، لأنك أخذت قدرةً وسلطانًا بسر آلامك، قدرةً وسلطانًا على كل القلوب لكي تقومها وتهديها إلى الاستقامة.

«ما دام الملك في مجلسه، أفاح نارديني رائحته» 

توجد آية أخرى شبيهة بهذه في النشيد:

«الملك سليمان عمل لنفسه تختا (أي عرشًا ) ووسطه مرصوف محبةً من بنات أورشليم» (3: 9-10). وهو وصف سرّي لصليب الرب، أي عرشه ووسطه مرصوف محبة من قلوب جميع القديسين!

«ما دام الملك في مجلسه…»

كلمة «ما دام» تفيد الاستمرارية. فالرب في مجلسه على الدوام في كل لحظة وفي كل وقت «إلى دهر الدهور عرشك يا الله إلى دهر الدهور»، ولهذا ينبغي أن يفيح نارديني رائحته على الدوام ما دمنا أحياءً، ما دمنا موجودين، ليس فقط طالما نحن أحياء على الأرض، بل وإلى أبد الآبدين، على مدى الأبدية كلها، لن نكف عن تقديم ناردين قلوبنا الخالص الكثير الثمن للرب الجالس على عرش ملكه.

هذا هو السر الذي رآه ق. يوحنا في سفر الرؤيا سر الخروف القائم كأنه مذبوح (رؤ 5: 6). طبعا الرب في الأبدية السعيدة لم يَعُدْ متألّمًا، بل هو ممجد في السموات، ولكنه احتفظ في جسده بآثار جروحه، وهكذا ظهر ليوحنا في وسط العرش في صورة خروف قائم كأنه مذبوح. فقد احتفظ في صميم كيانه ليس بالآلام ولكن بالحب الذي كانت تُعبّر عنه هذه الآلام فما دام الملك في مجلسه، ما دام هذا الخروف القائم كأنه مذبوح في وسط العرش لن تكف جميع القوات السمائية والأربعة والعشرين قسيسا عن التسبيح نهارًا وليلاً. إنهم «لا يأخذون راحةً » (نش 4: 8) بل نهارًا وليلاً يُسبحون الخروف القائم كأنه مذبوح. وهكذا نحن في كل لحظة باستمرار وبدون انقطاع تفيض قلوبنا محبتها أمام الملك الجالس على عرش ملكه.

ونحن في كل يوم نقول في التسبحة في الهوس الثالث ربعًا يحمل نفس هذه المعاني : أي مبارك أنت على عرش ملكك. فكلمة ni’aporno تحمل جميع المعاني الروحية المُذخَّرة في لحن  تعني ملكك أو ملكوتك في وقتٍ واحد وكل هذا يُذكّرنا بأن الرب قد ملك على قلوبنا بمحبته من فوق عرش صليبه، وأنه بهذا قد تحقَّق ملكوت الله أي ملكه بالمحبة على كل القلوب : «مبارك أنت على عرش ملكك»

‏ «ما دام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته»، أفاح قلبي محبته!

إلى هنا تكلمنا عن الحب الذي نُقدِّمه نحن للمسيج الجالس على عرش ملكه، ولكننا في الحقيقة حينما نتواجه مع الرب الجالس على عرشه، نأخذ أكثر بكثير مما تعطي. نحن نُعطيه محبة قلوبنا الضعيفة ،الخافتة، ولكننا في المقابل نأخذ أضعاف أضعاف ذلك، نعمةً وخلاصا وشفاءً وإحياءً، تنسكب فينا من سرّ آلامه المُخلّصة الشافية المحيية.

آلام الرب هي آلام «مُخلّصة شافية مُحيية» حيث كلمتا مخلصة وشافية تترجمان كلمةً واحدة في اللغة القبطية: oral التي تعني الشفاء والخلاص في نفس  الوقت. وعبار«آلامك الشافية أو المُخلّصة المُحيية» جاءت في موضعين في صلوات الكنيسة:

+ في قطع الساعة السادسة التي نقولها كل يوم بالعربي ولكنها تُقال بالقبطي في الجمعة الكبيرة: «اقتل أوجاعنا بآلامك الشافية المُحيية».

+ في تحليل الابن الذي يقوله الكاهن في نهاية رفع البخور: «الذي قطع كل رباطات خطايانا من قِبل آلامه المُخلّصة المُحيية».

وفي الموضع الأول تُرجمت إلى «شافية» وفي الموضع الثاني تُرجمت إلى «مُخلّصة» أخذنا بالترجمة الأولى أو الثانية فالمعنى واحد، لأن الخلاص وسواء هو شفاء النفس من داء الخطية فنحن حينما نتواجه مع سر آلام الرب ما دام الملك في مجلسه نستمد منه كل خلاص وكل شفاء وكل إحياء وكل نعمة.

عرش الرب هو «عرش النعمة» كما تقول الآية: «فلنتقدم بثقة إلى عرش النعمة، لكي ننال رحمةً ونجد نعمةً عونًا في حينه» (عب 4: 16). ونلاحظ هنا أنه يقول: «ننال… ونجد»، فهو لم يَقُل لنجاهد ولا لنُصلّي، ولا لنطلب، بل لننال ،ونجد، مجانًا، مجانًا، نتيجة ما فعله الرب من أجلنا هذا هو «عرش النعمة» الذي نحن مدعوون أن نتقدم إليه، وهذه هي الفائدة اللانهائية التي نجدها في أسبوع الآلام بتواجدنا أمام عرش النعمة لننال ونجد نتيجة ما فعله الرب من أجلنا: كل نعمة وكل خلاص وكل شفاء وكل إحياء لنفوسنا، بل ولنفوس الذين نُصلّي من أجلهم. ننال هذا كله من عرش النعمة.

 كلمة «عرش» في اليونانية هي θρόνος، وعرش النعمة هو مركز إشعاع لانهائي يشع النعمة في جميع الاتجاهات أكثر بكثير من الشمس المنظورة. فهو «شمس البر والشفاء في أجنحتها» (مل 4: 2) . ق . يوحنا رأى عرش النعمة في رؤياه بهذا المنظر وقال: «ومن العرش يخرج بروق ورعود وأصوات» (رؤ 4: 5). طاقة جبارة لانهائية تشع من عرش النعمة إشارةً إلى النعمة الشافية المُخلّصة المُحيية التي تصدر من عرش النعمة، لمنح الشفاء والخلاص والإحياء والغفران الجميع جنس البشرية. «وفي وسط العرش خروف قائم كأنه مذبوح له سبع أعين، هي سبعة أرواح الله المُرسَلة إلى كل الأرض» (رؤ 5: 6). فعرش النعمـة هـو مركز إشعاع روحي تشع منه سبعة أرواح الله وبروق ورعود وأصوات، وكل نعمة وكـل خلاص وكل شفاءٍ وكل إحياء، لكل من يتواجد أمام عرش النعمة. عرش النعمة هو صليب الرب، فهو مصدر كل نعمة أُعطيت لبني البشر. هذه هي المنافع اللانهائية التي نحن مدعوون أن ننالها حينما نتواجد أمامه في أسبوع الآلام

«ما دام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته»

فلنُقدِّم له محبتنا بلا انقطاع لننال في المقابل كل نعمة وكل خلاص
«لكي ننال رحمةً ونجد نعمةً عونًا في حينه»
أي كل خلاص وكل شفاءٍ وكل إحياء لنفوسنا المريضة،
ونفوس الذين نُصلّي لأجلهم، آمين

 

وأيضًا:

«ما دام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته» (1: 12)

«ما دام»

هل الملك المسيح يكون في مجلسه في بعض الأوقات ولا يكون في أوقات أخرى؟ بالطبع لا، إنه في مجلسه على الدوام، ففي الملكوت لا توجد مواقيت ولا ليل ونهار «لأن ليلاً لا يكون هناك» (رؤ 21: 25).

«فما دام الملك في مجلسه» تعني في كل وقت في كل لحظة تفوح نحوه رائحة نارديني مع كل محبة قلبي. «ما دام» تعني الديمومة والتواجد المستمر في حضرة الرب.

أجمل مثال لهذه الديمومة في تقديم الحب للرب هو ما رأيناه في المرأة الخاطئة: إنها «لم تكفَّ» ( لو 7: 45) من تقبيل قدمى الرب طوال وجوده في بيت الفرّيسي، مع أنها لم تكن تعرف بعد أنه الإله المتجسد النازل من السماء، ولم تر بعد الصليب ولا عرفت أنه مات حُبًّا فينا، ولكن الروح القدس ألهمها سرًا أن هذا هو الذي يقدر أن يُطهرها من الخطية، بل وأحست بهذا التطهير يتم فعلاً في جسمها وفي روحها، وبحدس روحي عجيب صارت تُقبل مكان الجروح المزمعة أن تكون في قدميه، بطريقة نبوية دون أن تفهم أو تدري.

أما نحن الذين عرفنا حقيقة المسيح وكم بذل وتألم من أجلنا، فكم ينبغي بالأكثر جدًا أن نواصل بلا فتور لا نكف بلا ملل من تقديم مشاعر حبنا واشتياقات قلوبنا للمسيح على مدى لحظات الليل والنهار !

«مادام الملك في مجلسه»

هناك فرق بين قوله إن الملك “جالس” على عرشه وبين قوله إنه «فـي مجلسه». كون الملك في مجلسه تعني أنه فاتح بابه ليجالسه رعاياه. لقد صار لنا في المسيح «ثقة بالدخول إلى الأقداس» (عب 10: 19)، و«جراءة وقدوم» (أف 3: 12) لكي نتقدم إلى مجلس ملكنا لنكون موجودين على الدوام في حضرته. لقد صار بابه مفتوحًا لنا (رؤ 3: 8) فتحه لنا، ولن يُغلق إلى الأبد.

«ما دام الملك في مجلسه» تُذكرنا بالآيات التالية:

+ «قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك» (مز 110: 1)
فما دام الملك في مجلسه فلنتقدَّم إليه مقدّمين له محبة قلوبنا. وبقدر
ما نلتصق به بالحب ،والإيمان بقدر ما ننال منه استجابة جميع طلباتنا.

+ «لنتقدم بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمةً ونجد نعمةً عونًا في حينه» (عب 4: 16). لاحظ أنه لا يقول «لكي نطلب أو نتوسل»، بل «لكي ننال… ونجد نعمة». فالمسيح أكمل كل شيء لأجلنا، وكل طلباتنا صارت مُجابةً بفضل استحقاقاته من قبل أن نطلبها «ويكون أني قبلما يدعون أنا أُجيب» (إش 65: 24). هذا هو امتياز التقدم بثقة إلى عرش النعمة، بثقة في استحقاقات المسيح التي ربحها لحسابنا على الصليب، حتى صار عرشه «عرش النعمة» الذي منه تتدفّق كل نعمة نحونا. لم يتبق علينا إلا أن نتقدّم بثقة إلى عرش النعمة مقدمين له كل محبة قلوبنا « ما دام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته»، فننال منه كل ما نريد: «اثبتوا في محبتي… إن ثبتُم في وثبت كلامي فيكم تطلبون ما تريدون فيكون لكم» (يو 15: 7و 9). يكفي أن نلتصق بالمسيح الجالس على عرش النعمة ونُقدِّم له رائحة ناردين قلوبنا لكي ننال منه كل ما نُريد.

+ كل هذه المعاني نجدها في اللحن العظيم الذي ينتهي به أسبوع الآلام، وهو لحن بيك اثرونوس المأخوذ من مزمور 45:

عرشك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب الاستقامة هو قضيب ملكك]
لاحظ أن عبارة «قضيب الاستقامة» تُقابل في مزمور 110 قوله: «حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك». فجلوس الملك على عرش ملكه في كلا المزمورين لـه نتيجة إيجابية في مزمور 110 يتم إخضاع كل قوات الشر تحت قدميه، وفي مزمور 45 يكون له قضيب الاستقامة ليردَّ كل الأشياء إلى وضعها المستقيم. + ونحن في كل صباح نقول في بداية الهوس الثالث:

[ مبارك أنت على عرش ملكك]

فجلوس الملك المسيح على عرش ملكه معناه أنه أخذ سلطانًا على كل شيء وصار يملك على كل شيء: «دُفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض» (مت 28: 18). وبالتالي حينما نكون ملازمين ،له مقدِّمين له في كل لحظة ناردين حبنا يستجيب كل طلباتنا ويعطينا كل ما نريد.

فما دام الملك في مجلسه، وما دام هو فاتح لنا بابه لندخل إلى حضرته، فلنُقدِّم له كل محبة قلوبنا ولنطلب منه ما نُريد فيكون لنا.

في الحقيقة إن هذه الآية فيها سرُّ الصلاة المستجابة بل وفيها قمة العبادة في العهد الجديد. فنهاية العهد الجديد هي أن المسيح صعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب، وصار لنا بالتالي طريقًا مفتوحا للدخول إلى الأقداس:

+ «فإذ لنا، أيها الإخوة، ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع، طريقًا كرَّسه لنا حديثًا حيًا (هذا الطريق المفتوح يقابل في آيتنا عبارة «في مجلسه») لنتقدَّم بقلب صادق في يقين الإيمان» (عب 10: 19-22).

«لنتقدم.. …» كلمة تتكرر أكثر من مرة في الرسالة إلى العبرانيين (عب 4: 16،  6: 1، 7: 25 ، 10: 22)

في الحقيقة إن رؤية المسيح وهو جالس على عرش ملكـه وفـاتـح لنـا الطريق لنتقدم إليه كانت هي الفكرة السائدة على الرسول بولس وهو يكتب رسالته إلى العبرانيين. إنها قمة المسيحية وقمة ما وصل إليه القديس بولس أن نوجد باستمرار أمام الملك المسيح وهو جالس على عرش مجده وننال منه استجابة جميع طلباتنا.

توجد أيقونات كثيرة عن حياة المسيح عن الميلاد، الصليب، التجلي، القيامة، إلخ… وكلها تُذكرنا بمراحل من حياة الرب قد مضت ولكن الأيقونة الوحيدة التي تعتبر بالحقيقة نافذةً مفتوحةً على السماء، لأنها تُعبّر عن وضع المسيح الحالي، هي أيقونة المسيح الجالس على عرشه عن يمين الآب (والآب لا يُرى) وكل شيء يُخضع تحت قدميه. ونحن أمام هذه الأيقونة، أو بالأصح أمام هذه الحقيقة، ليس لنا إلا أن نُقدِّم له كل محبة قلوبنا «ما دام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته»، فننال استجابة كل طلباتنا ننال رحمة ونجد نعمة عونًا في حين».

المزمور 110 الذي يُقدِّم لنا صورةً للمسيا جالسًا عن يمين الله قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك»، بل ويؤكد في نفس الوقت أنه الكاهن إلى الأبد على طقس ملكي صادق»، يُعتبر هو الإلهام الأساسي لبولس الرسول في رسالته إلى العبرانيين فهو يستشهد به تقريبا في كل أصحاح من هذه الرسالة، بل وعدة مرات في الأصحاح الواحد، بل ويؤكد أن هذه الحقيقة هي قمة المسيحية: «وأمَّا رأس الكلام (أي قمة ما أُريد أن أوصله إليكم) فهو أن لنا رئيس كهنة مثل هذا قد جلس في يمين عرش العظمة في السموات خادمًا للأقداس والمسكن الحقيقي الذي نصبه الرب لا إنسان»  (عب 8: 1-2).

كذلك كان المسيح يحبُّ هذا المزمور الـ 110، وأحب أن يستشهد به في ختام كلامه مع اليهود (مر 12: 35-37)، لأنه كان يرى فيه علاقته بالآب وعلاقته بنا:

– علاقة المسيح بالآب: «قال الرب لربي اجلس عن يميني…». فالآب يكرم الابن والابن له دالة عند الآب والآب والابن واحد وهما يجلسان معا على نفس العرش: «كما غلبتُ أنا وجلستُ مع أبي في عرشه» (رؤ 3: 21). فهذا تعبير عن الوحدة بين الآب والابن في المحبة.

– علاقة المسيح بنا: «.. حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك». فالمسيح حرَّرنا من جميع أعدائنا : من – الشيطان والخطية والموت. «آخر عدو يُبطل هو الموت» (1كو 15: 26). فكل أعدائنا وُضعوا تحت قدمي المسيح لمّا صُلب لأجلنا ثم جلس على عرش ملكه. وهذه هي مسرة المسيح العظمى من أجلنا، أن يُحرّرنا من جميع أعدائنا، كما نقول في قطع الساعة السادسة:

[لأن بمشيئتك سُورتَ أن تصعد على الصليب

لتنجي الذين خلقتهم من عبودية العدو].

«أفاح نارديني رائحته»

 كلمة «ناردين» تُذكرنا بمريم أخت لعازر التي أخذت «منا من طيبناردين خالص كثير الثمن ودهنت قدمي يسوع، … فامتلأ البيت من رائحة الطيب» (يو 12: 3). وكان تعليق الرب على صنيعها هذا أنها عملت به «عملاً حسنًا»، فهي قد سبقت (بالنبوة) ودهنت بالطيب جسدي للتكفين» وكانت مكافأتها: «حيثما يُكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يُخبر أيضًا بما فعلته هذه تذكارًا لها» مر 14: 6 و 8 و 9).

مريم ترمز الحياة العبادة، ومرثا تشير إلى حياة الخدمة. وبأكثر تحديد مريم تمثل حياة الرهبنة العابدة بتقديم الحب للمسيح بدون أي مقابل، حب غير نفعي، نحن نحبه فقط لأنه هو أحبنا أولاً . والمسيح بدفاعه عن مريم ضد الذين كانوا يُعنّفونها، ثم بتكريمه لها حيثما يُكرز بهذا الإنجيل…» يظهر وكأنه دافع عن الرهبنة، وعن كل الذين كرسوا نفوسهم لتقديم الناردين الخالص الكثير الثمن تحت قدمي الرب.

صلاة

نشكرك، يا إلهنا الصالح إلهنا العظيم المحب،

يا من أنت نفسك هو المحبة «الله محبة»،

نشكرك يا رب لأنك أحببتنا إلى هذه الدرجة،

حتى أنك تركت مجدك في السماء ونزلت إلينا على الأرض

لتنجينا من عبودية العدو وتصعدنا معك،

خرجت من عند الآب وحدك ولكن لا تعود إليه وحدك؛

بل تعود ونحن معك : ها أنا والأولاد الذين أعطانيهم الله».

تعود كحبة حنطة أثمرت آلافا بل ملايين من المفديين،

لتدخلهم معك إلى حضرة الآب.

لك المجد يا إلهنا، ما دمنا أحياء على الأرض

فلن نكف عن تسبيحك على كل ما فعلته من أجلنا.

أعطنا أن لا نكف من الالتصاق بقدميك وتقديم محبة قلوبنا لك،

ما دمت أنت جالس على عرش ملكك،

فننال كل ما نريد

أعدائنا تحت قدميك،

لأنك أخضعت جميع

ولك سلطان كامل في السماء وعلى الأرض.

لا تسمح، يا رب، أن الشيطان يغوينا

ويلهينا عن هذا الالتصاق الدائم بك،

سواء بأمور حسنة أو بأمور شريرة.

أعطنا ميراث آبائنا القديسين الذين سكنوا هذه الديار المقدسة،

واختبروا هذا السر، سر الالتصاق المستمر بك ليلا ونهارا.

استجب لنا بشفاعتهم، وأعطنا كل ما طلبناه.

واسمعنا حينما نقول : أبانا الذي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى