نار المحبة

رموز الروح القدس

كان حلول الروح القدس على التلاميذ في يوم الخمسين بداية لعمل الروح القدس في التلاميذ من إرشاد وتبكيت وتعزية وإطلاق ثماره في حياتهم وحياة من يسمع ويعمل ويقبل الروح القدس. وحتى يدرك التلاميذ أهمية وضرورة عمل الروح القدس في حياتهم أعطاهم السيد المسيح وعلمهم رموزاً وأمثلة وتجسيدات عملية للروح القدس تفسر طقوس وأحداث وآيات في العهد القديم قام بها وكتبها أنبياء الله الذين عاشوا ظل الحقيقة واشتهوا أن يروا يوم الرب يوم تحقيق هذه الرموز فعليا في المؤمنين…

1- النار والنور:

يأتي الرمز هنا للروح القدس بالنار من حيث طبيعة العمل التي تتفق مع طبيعة الله نفسه الذي قيل عنه إن “إلهنا نار آكلة” (عب 12: 29).

عمل النار تطهير وإحراق وقضاء، وفي حرارة النار عنصر الحياة للأرض حتى لا تتجمد الخليقة بدونها، ومن النار يشع النور الذي يعطي البصيرة.

وفي عمل الروح القدس فينا يجتمع تطهير خطايانا وتنقية نفوسنا وتبكيتنا على آثامنا، وإضاءة بصائرنا الروحية بكلمة الله، ومنحنا الحمية والحرارة الروحية لنسلك كما يليق ونشهد لإلهنا كما يجب. فهذه النار لا تنقص أو تضعف قوتها إذا أخذت منها مشاعل كثيرة تتمثل في إعطاء نعمة للآخرين.

والنار لا تكون بغير نور وفي النور إثبات وحدانية الله في الثلاثة أقانيم : فالآب نور .. والابن نور .. والروح القدس نور في طبيعة إلهية واحدة…” الله نور وليس فيه ظلمة البتة ” (1يو 1: 5) والابن نور كما قال المسيح أنا هو نور العالم وكان “النور الحقيقي الذي ينير لكل إنسان آتياً إلى العالم” (1يو 1: 9) والروح القدس نزل على التلاميذ في شكل ألسنة نار منيرة ومشتعلة بالمحبة “وبنورك نرى نوراً” (مز 36: 9) أي بالمسيح نعاين الروح القدس.

2- الريح والنفخة :

يرمز الريح للروح القدس من حيث صفة عدم الجمود والحركة والاستمرار في العمل والخفاء حيث أنه غير مرني لأنه بينما النار مرئية فالريح خفية، وقد أوضح السيد المسيح تشابه ورمز الريح بالروح القدس في حديثه مع نيقوديموس حين قال له إن الريح تهب حيث تشاء ولا تعرف من أين تجئ وإلى أين تذهب هكذا كل من يولد من الروح (يو 3: 8).

فالريح قد تهب كالنسيم وتعمل في القلوب بهدوء مثل عمل الروح القدس في قلب ليديا عندما سمعت بولس الرسول أع 16: 14 ، وقد تكون كالعاصفة تعمل بقوة خارقة تقلع القديم وتغرس وتحمل الجديد كما فعل الروح بحزقيال، وفيلبس وغيرهم.

قد لا نفهم كيف يعمل الروح القدس في نفوسنا ولكننا نشعر بقوة تأثيره فينا وفي الآخرين.

في عمل المسيح مع تلاميذه سبق وأعطاهم نفخة الروح القدس بعد قيامته ونفخ وقال لهم اقبلوا الروح القدس (يو 20: 22) وكان هذا بمثابة الإعداد وقبول الروح القدس من فم يسوع حتى يقتربوا من المسيح في عشرة حقيقية تؤهلهم للبس الروح القدس وسكناه فيهم في يوم الخمسين.. كلمة الله يسوع المسيح عمل وأثر على فكر وعقل التلاميذ والروح القدس عمل وأثر على إرادتهم أيضاً فكان هو القوة والمعزي الذي يمكث معهم إلى الأبد.

الروح القدس يشهد للابن ويُذكرنا بكل ما قاله فهو يعمل بصفة مستمرة على تجديد وتغيير طبيعتنا ويعيد صياغتها إلى الصورة التي خلقها الله على شبهه ومثاله لنكون شركاء الطبيعة الإلهية حيث تهرب الخطية من حضور الروح.

3- الحمامة :

يقول القديس يوحنا ذهبي الفم : لا نقدر أن نجري في طريق الله إلا محمولين على أجنحة الروح ..

وهو هنا يشرح عمل الروح القدس القادر أن يحملنا كما بأجنحة حمامة ليصعدنا ويرفعنا عن الأرض وفي هذا الرمز: سرعة الطيران وجمال المنظر وبساطة عيني الحمامة وعذوبة صوتها ورقة طبعها وطهارة غذائها حيث لا يتغذى الحمام على شئ ميت.

يقول أحد القديسين :
“كيف تصعد للأشياء العليا إن كنت غيوراً على الأرضيات وكيف تطير نحو السماء إن لم تأخذ الأجنحة السماوية وترتفع ؟ وكيف ترتفع إن لم تحيا الحياة العليا ؟ فمن هو جاهل بأسرار الإنجيل فلا يعرف أنه هناك وسيلة واحدة للنفس البشرية المسافرة نحو السماء هي أن تصبح مثل الحمامة النازلة التي تمني داود أيضاً أن يأخذ أجنحتها : ليت لي جناحاً كالحمامة فأطير واستربح ” (مز 55: 6).

الروح القدس كان يرف فوق المياه (الروح الخالق) وهو الذي نزل على السيد المسيح في المعمودية على شكل حمامة ليجدد الخليقة فوق ماء الأردن ويجدد الطبيعة البشرية التي اتحد بها لاهوت الابن، لنولد في المعمودية إنساناً جديداً بالروح القدس.

الحمامة في رمزها للروح القدس والشكل الذي اتخذه الروح القدس متجسدا في الظهور الإلهي في المعمودية توضح البساطة في وحدة الطبيعة الإلهية ولكن الروح اتخذ أيضاً شكل السنة منقسمة فوق التلاميذ حتى يوضح ضرورة الحرارة الروحية واختلاف وتعدد طريقة العمل بجانب الوحدة.

وذلك حتى لا يفهم البعض أن البساطة تعني البرودة في العمل بغير حمية أو حرارة، كما أن اللغات المختلفة لا تعني اختلافاً في الإيمان بل تعدداً . في طرق عمل الروح في الإنسان بغير تمزيق في جسد الكنيسة الواحد لأنه يعطي سلاماً حقيقياً بين الإخوة جميعاً.

4- الماء :

أطلق تشبيه الماء على كلمة الله وعلى الروح القدس، فالماء يعطي الحياة ويروي العطش ويغسل ويطهر ويحيي ويشفي ويبهج ” تستقون مياها بفرح من ينابيع الخلاص ” (إش 12: 12).

وتشبيهات الروح القدس بالماء أخذت أشكالاً متعددة منها الأنهار : تجري من بطنه أنهار ماء حي قال هذا عن الروح (يو 7: 38).

فمجال الروح مثل ماء سباحة لا يُعبر يتدفق كنهر في قنوات عديدة لكي ينقل عطايا ومواهب متعددة من ينبوع الحياة. ومثل السيل يندفع على اليابسة فيكون سبباً لنمو العشب وخصوبة الصحراء. ومثل المطر الذي يعني الخصب والحياة والرخاء في وقت مبكر ومتأخر لمن ليس له رجاء حتى يزهر القفر.

ومثل الينابيع هكذا ينبوع النعمة مصدر كل عطية ثمينة بدون استحقاق الإنسان حتى يثمر عناقيد البر بالروح القدس. وعندما يرش الكاهن الماء بعد التناول كرمز للنهر الذي يخرج من تحت عتبة البيت كما رأى حزقيال النبي في (47: 1-5) إشارة إلى تحقيق حلول الروح القدس الذي يغمر الكنيسة ولا تستطيع الكنيسة أن تدرك أعماقه.

والينبوع والنهر لهما طبيعة واحدة وماء واحد ومجد واحد هي وحدة الثالوث.

ومثل الندى هكذا عطايا الروح خفية ولكنها جديدة كل صباح مثل الندى ولكنها فعالة لأنها مثمرة. أكون لإسرائيل كالندى يزهر كالسوسن ويضرب أصوله كلبنان….” (هو 14: 5)

5 – المسحة والزيت :

كانت هناك مسحة قبل العماد تشير إلى عمل الروح في قبول الإيمان لأنه لا يستطيع أحد أن يقول إن المسيح رب إلا بالروح القدس الذي يلين القلب ويقدس ويشفي وينير ويجعلنا أعضاء في جسد الكنيسة. وكانت المسحة في العهد القديم تتم بسكب الزيت على الرأس رمزاً لحلول روح الله على الممسوح.

هذه المسحة تجعلنا مقدسين، كما انسكب الروح القدس من الآب بالابن إلى الكنيسة كلها : “من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك ” (مز 45: 7).

هكذا اخترقت المسحة الروح القدس روح وطبيعة المسيح البشرية وامتد عملها إلى جسد المسيح الذي هو الكنيسة.

هكذا التقدمة (القربان) كانت عبارة عن زيت يمزج بالدقيق المطحون الذي هو رمز لحياة السيد المسيح الطاهرة التي طحنت بالآلام وامتزجت بعمل الروح القدس، ونحن بتناولنا لهذه التقدمة والقربان تتقدس طبيعتنا البشرية، لقد مسحنا الآب بالروح في المسيح” كما قال القديس باسيليوس.

“وأما أنتم فلكم مسحة من القدوس وتعلمون كل شي” (1يو 2: 20) “وأما أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم ولا حاجة بكم إلى أن يعلمكم أحد، بل كما تعلمكم هذه المسحة عينها…” ((يو 2: 27). كانت مسحة الروح القدس بعد العماد في الكنيسة الأولى تتم بوضع أيدي الرسل ثم أضيف زيت الميرون كعلامة منظورة للمسحة الروحانية.

6- الخمر:

في يوم الخمسين ظن السامعون أن الرسل كانوا سكارى حين ملأهم الروح القدس بالبهجة الروحية في وضح النهار في وقت الساعة الثالثة لأن عمل الروح مرتبط بنشوة غامرة وزيادة في القدرات وفرح عاقل، فطوبى لمن يشرب من هذه الخمر الروحية.

7- العربون :

 استخدم بولس الرسول رمز العربون للروح القدس ليوضح ارتباط عمل الروح القدس بغداء المؤمنين وميراثهم الأبدي للملكوت. فكلمة عربون في اللغة اليونانية تحمل معاني خاتم الخطية أو مقدم الصداقة بمعنى عربون ملكية الله لنا وملكيتنا لما الله فهو ضمان لنا أننا سوف نمتلى إلى ملء قامة الله (أف 3: 19) “الذي ختمنا أيضاً وأعطى عربون الروح في قلوبنا” (2كو 1: 22) فعربون الروح القدس هـو عربون المجد السماوي عربون ميراثنا لغداء المقتني لمدح مجده (أف 1: 14). الروح القدس ينقينا والنقاوة هي البداية وهي الإعداد للخلود وبهذا يعطينا عربون الحياة الأبدية.

8- الزرع :

“كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية لأن زرعه يثبت فيه ولا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله ” (1يو 3: 9) قد يعتقد البعض أن هناك تعارضاً مع الآية السابقة وهذه الآية :- “إن قلنا إننا لم نخطئ نجعله كاذباً” (1يو 1: 10).

ولكن تفسير عمل الروح القدس في الطبيعة البشرية هو الذي يشرح الآيتين ويزيل التناقض الظاهري بينهما، فالزرع أو النسل هو ما يرثه الابن من أبيه وطبيعتنا البشرية الخاطئة ورثناها من آدم وهي الطبيعة القديمة، أما الطبيعة الجديدة فهي المولودة من الله بنعمة الروح القدس وزرعه الذي يثبت فيه بالتقديس بالنعمة فروح الله هو بذرة البنوة والتبني والتقديس في الإنسان، والطبيعة القديمة لا تنتهي تماماً حين نأخذ هذه البذرة التي تنمو فينا تدريجياً كعربون حتى ننتهي إلى قياس قامة ملء المسيح في الأبدية، ورغم ذلك لا تفارقنا هذه البذرة عندما نخطئ لأنها ثابتة فينا ولكن الخطية تنشأ من الإنسان العتيق المتبقي فينا لأن الإنسان الجديد يكـره الخطية ولا يستطيع أن يخطئ.

9- الأصبع :

بروح الله أخرج الشياطين (مت 12: 28) وفسرها القديس لوقا 11: 20 “بأصبع الله أخرج الشياطين” وأصبح أصبع الله رمزا لقوة الله وكلمته ودينونته وتبكيته لنا والإشارة إلى ضعفاتنا ونخسنا بقوة حتى نرجع إلى الله.

10- اللباس :

قال يسوع للرسل : “ستلبسون قوة من الأعالي متى حل الروح القدس عليكم” (لو 24: 49) واللباس هنا يشير إلى تغطية الإنسان كله وإعطائه مظهر اللباس ونعمته وحمايته للجسم كله. وقد أشار إليه السيد المسيح في مثل لباس العرس الذي لم يجده في أحد المتكنين فوبخه صاحب العرس قائلاً كيف دخلت وليس عليك لباس العرس الذي هو الروح القدس الذي يتوشح به المؤمنون في المعمودية لتنطبع صورة المسيح فينا وعلينا ونحن بدونه عرايا من الثوب الروحي الذي يستر عري الخطية.

11- الختم :

“الذي فيه أيضاً أنتم إذ سمعتم كلمة الحق إنجيل خلاصكم الذي فيه أيضاً إذ آمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس” (أف 1: 13) وكما أن العملة بدون صورة أو ختم الملك لا تصلح للتعامل ولا قيمة لها هكذا النفس إن لم تحصل على صورة وختم الروح السماوي وإن لم ينطبع عليها المسيح نفسه تطرح خارج الملكوت.

12 – البواب :

“لهذا يفتح البواب والخراف تسمع صوته فيدعو خرافه الخاصة بأسماء ويخرجها” (يو 10: 3) كثيراً ما نركز في تفسيرنا على الباب وأن يسوع هو الباب، أما البواب فهو الروح القدس الذي يفتح الباب ويحمل أحمال الداخلين ويحرس الباب ويمنع الغرباء من الدخول الذي هو كل تعليم خاطئ لأنه يحرس الإيمان وينقيه ويزيل عنا أحمالنا.

13- الشاهد :

الروح القدس هو الشاهد بلسان ولغة مشتركة لجميع الناس يشهد لكلمة الله وبها لأنه يعرف من يشهد له وبماذا يشهد : يشهد بعدم دينونة الذين هم في المسيح السالكين بحسب الروح، ويشهد بقداسة وبنوة أبناء الله.

14- الملح :

” كل ذبيحة تملح بملح .. ليكن لكم في أنفسكم ملح ” (مر 9: 49، 50). فإن قال السيد المسيح عنــا : “أنتم ملح الأرض” فالروح القدس هو الملح الذي لا يمكن أن يفقد الملوحة بل نحن عندما نفقد عمل الروح القدس لا نصلح لشئ فلا قيمة للملح بغير ملوحة الروح القدس الذي يحفظنا غير عاثرين ويقدسنا ويحمينا من الفساد ولا قيمة للمؤمن الذي لا يعمل فيه الروح القدس.

ومن أقوال مار يعقوب السروجي:

اقبل منه روح الحياة لئلا إذا رفضته تموت..
سبيل واحد يقود إلى الله وهو الله نفسه.
لا تقبل عطية وترفض صاحبها لئلا تتعرى مثل آدم الأول.
نفخة الروح هي هبة حياة عدم الموت.. من ينالها يلبس ثياب عدم الموت.

زر الذهاب إلى الأعلى