معجزة إشباع الجموع معجزة إفخارستية
إنجيل يوم الأربعاء من الأسبوع الثاني من الصوم المقدس
المزمور: «أُحِبُّكَ يَا رَبُّ يَا قُوَّتِي. الرَّبُّ صَخْرَتِي وَحِصْنِي وَمُنْقِذِي إِلَهِي صَخْرَتي بِهِ تُرْسِي وَقَرْنُ خَلاصِي وَمَلْجَإِي» (مز 18: 1 ،2)
الإنجيل: «32وَأَمَّا يَسُوعُ فَدَعَا تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ:«إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى الْجَمْعِ، لأَنَّ الآنَ لَهُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يَمْكُثُونَ مَعِي وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ. وَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ أَصْرِفَهُمْ صَائِمِينَ لِئَلاَّ يُخَوِّرُوا فِي الطَّرِيقِ» 33فَقَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ:«مِنْ أَيْنَ لَنَا فِي الْبَرِّيَّةِ خُبْزٌ بِهذَا الْمِقْدَارِ، حَتَّى يُشْبِعَ جَمْعًا هذَا عَدَدُهُ؟» 34فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«كَمْ عِنْدَكُمْ مِنَ الْخُبْزِ؟» فَقَالُوا:«سَبْعَةٌ وَقَلِيلٌ مِنْ صِغَارِ السَّمَكِ». 35فَأَمَرَ الْجُمُوعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى الأَرْضِ، 36وَأَخَذَ السَّبْعَ خُبْزَاتٍ وَالسَّمَكَ، وَشَكَرَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ، وَالتَّلاَمِيذُ أَعْطَوُا الْجَمْعَ. 37فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا مَا فَضَلَ مِنَ الْكِسَرِ سَبْعَةَ سِلاَل مَمْلُوءَةٍ، 38وَالآكِلُونَ كَانُوا أَرْبَعَةَ آلاَفِ رَجُل مَا عَدَا النِّسَاءَ وَالأَوْلاَدَ. » (مت 15: 32-38).
إنجيل القداس:
إنجيل قداس هذا الصباح عن معجزة السبع الخبزات، وهي معجزة متشابهة طبق الأصل لمعجزة الخمس الخبزات مع فروقات هامة. وهذه المعجزة، تهمنا في المقام الأول أن نأخذها من الوجهة الإفخارستية، لأن الكنيسة منذ العصور الأولى تعتبر أنَّ معجزة الخمس الخبزات أو معجزة السبع الخبزات، كـلاًّ منهما، رمـزٌ إفخارستي، وقـد وُجِدت صُور سلال وأطباق موضوعة على مائدة في السراديب القديمة التي في روما تحت الأرض.
شفقة المسيح على الجمع:
فكما أنَّ معجزة الخمس الخبزات هي معجزة إفخارستية، كذلك أيضاً معجزة السبع الخبزات معجزة إفخارستية. فأول ما يظهر لنا من هذه المعجزة هو قول المسيح: «إني أُشفق على الجمع»، وهذه الكلمة ”أُشفق“ في اللغة اليونانية إنما تفيد: ”امتلاء الأحشاء من الرحمة“، وهنا تُذكر كلمة ”الأحشاء“ بصفة خاصة.
فإذا تذكَّرنا نبوَّة زكريا الكاهن عن يوحنا المعمدان: «وأنت أيها الصبيُّ نبيَّ العَليِّ تُدْعَى… لتُعطي شعبه معرفة الخلاص بمغفرة خطاياهم، بأحشاء رحمة إلهنا التي بها افتقدنا المُشْرَقُ من العَلاء» (لو 1: 77،76)؛ هنا ”أحشاء الله“، تعبيرٌ جميل جداً، كان من العسير علينا أن نفهمه في العهد القديم؛ ولكنه تكرَّر في العهد الجديد، عندما تجسَّد ابن الله، فأصبح مفهوم ”الأحشاء“ واضحاً جداً؛ إذ أنَّ ”أحشاء“ المسيح، هي هي ”أحشاء“ الله. والأحشاء هنا هي امتلاء أعماق الله بالرحمة من نحو الإنسان.
المسيح قدَّم معجزة إفخارستية:
ففي هذه المعجزة ”أشفق المسيح على الجمع“، إذ أظهر أحشاءً مملوءةً رحمةً ولُطفاً وحناناً على الشعب. هذه الصيغة تحوَّلت في المفهوم الرسولي إلى: «أحبَّ المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها» (أف 5: 25).
فالرب أشفق على الجمع، وقدَّم لهم الخبز المكسور، الجسد المكسور، أي البذل والصليب. فالمسيح عندما أشفق على الجمع قدَّم لهم معجزة إفخارستية، كما قال بولس الرسول: «أحب المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها».
وعندما نعود ونتذكَّر ما قيل في إنجيل يوحنا نرى: أنه «هكذا أحبَّ الله (الآب) العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل مَن يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16)، وهذا هو إشفاق الآب من نحونا. وفي الحقيقة، فإنَّ محبة الله، حنان الله، إشفاق الله؛ ليس عاطفياً، ليس شعورياً، ولكنه حبٌّ كياني، حبٌّ باذلٌ ذاتي.
هنا محبة الآب كلَّفته بذل ابنه الوحيد من أجلنا. محبة المسيح للكنيسة كلَّفته بذل ذاته على الصليب. هنا المحبة الإلهية بالمفهوم اللاهوتي، وبمفهومها العملي الأخلاقي السلوكي، بتعبيراتنا نحن؛ هي محبة من الكيان، محبة من الذات، محبة تُذبَح من أجلنا، وليست محبة شعورية أو عاطفية، كما يقول عنها الرب يسوع: «أن تُحِبُّوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم» (يو 15: 12).
محبة الآب لنا وبذل المسيح من أجلنا:
هذا هو حب الآب وبذل المسيح ابن الله، حبٌّ باذل من الكيان، حبٌّ باذل من الذات. كذلك يتضح لنا من الكلام الذي قاله المسيح في إنجيل هذا الصباح: «لأن الآن لهم ثلاثة أيام يمكثون معي». فالمسيح يعدُّ الساعات التي مكثَتْها هذه الجموع معه، حتى وإن طالت الأيام والسنون.
اسمع ما يقوله الله لشعب إسرائيل، وهو يُناسب أيضاً هذا الزمان: «قد ذكرتُ لك… ذهابك ورائي في البرية، في أرضٍ غير مزروعة» (إر 2: 2)، بعدما قال عنهم لموسى: «رأيتُ هذا الشعب وإذا هو شعبٌ صُلْبُ الرقبة. فالآن اتركني ليَحْمَى غضبي عليهم وأُفنيهم، فأُصيِّرك شعباً عظيماً» (خر 32: 10،9). فالرب لا يمكن أن ينسى تعبك وسجودك وصومك وصلواتك ودموعك وقَرْع صدرك، هذا أمرٌ مستحيل. هكذا يتأثر الله، ويحسب الأيام والسنين.
ويقول موسى النبي لشعب إسرائيل: «لأن الرب إلهك قـد باركك في كـل عمل يدك، عارفاً مسيرك في هذا القفر العظيم. الآن أربعون سنة للرب إلهك معك، لم يَنْقُص عنك شيء» (تث 2: 7). انتبهوا فإنَّ مشاعر الله في العهد القديم هي نفس مشاعره في العهد الجديـد: «إني أُشفق على الجمع، لأن الآن لهم ثلاثـة أيام يمكثون معي وليس لهم مـا يأكلون. ولستُ أُريـد أن أصرفهم صائمين». فالمسيح يشعر بجوعك، ولا تفتكر أنك جائع أو متألِّم بمفردك: «لستُ أُريـد أن أصرفهم صائمين لئلا يُخَوِّروا في الطريق».
هذه العبارة: «لئلا يُخوِّروا في الطريق» عبارة مستيكية mystical سرِّية، كما لو أنَّ المسيح يقول: ”سأُعطي لهم إفخارستيا“. فهل الإفخارستيا مهمة لنا في الطريق؟ هذا المفهوم سامٍ جداً. الطريق من هنا إلى السماء وعر جداً، وانطلاق النفس لكي تعيش فيما لفَوْق (أي أمور الله) سيكون عَبْر طريق صعب جداً ومهيب، وهناك نفوس كثيرة تخور وتتعب في مسيرتها عَبْر هذا الطريق؛ ولكن الرب لا يترك نفوسنا تخور وهي تسلك هذا الطريق، ولذلك يُعضدنا بالخبز والخمر أي بجسده ودمه الأقدسين (الإفخارستيا). وهنا نتذكَّر كيف أخـرج ملكي صادق خبزاً وخمراً وهـو يُبـارك أبرآم (تك 14: 19،18). فهذا الخبز خبزٌ تعضيدي للطريق الصاعد حتى لا نخور في انتقالنا من الجسد إلى الروح.
الخروج وراء المسيح والإيمان به:
واضحٌ في إنجيل هذا الصباح: «والآكلون كانوا أربعة آلاف رجل ما عدا النساء والأولاد»، ونضيف أيضاً أنَّ عدد النساء حوالي 4000 امرأة ما عدا الأولاد. كل هؤلاء خرجوا وراء المسيح، خرجوا دون أن يعملوا حساب شيء، وليس معهم خبز، فهم شعب وَعَى وأدرك المسيح في ذاك الزمان!
في الأعداد التي قبل هذا الإنجيل مكتوبٌ: «جاء إليه جموعٌ كثيرةٌ، معهم عُرْجٌ وعُمْيٌ وخُرْسٌ وشُلٌّ وآخرون كثيرون، وطرحوهم عند قَدَمَي يسوع فشفاهم» (مت 15: 30). فكل هذه الجموع خرجت وراء المسيح ولم تعمل أي حساب لأكلها، وهذا شيء مُذهل للعقل. شعبٌ تعلَّم من المعلِّم، تعلَّم كيف يخرج وراءه وهو لا يهتم بشيء وليس معه خبز.
أما السلال التي ذُكِرَت في هذا الإنجيل، فبعضها يحوي طعام الدواب، وأخرى كان يوضع فيها الأولاد الصغار والنساء المرضى والرجال المُقعدون الذين لا يقدرون على المسير؛ ولكن ليس فيها طعامٌ يصلح للاستخدام الآدمي.
لقد تذكَّرَتْ هذه الجموع كلام المسيح: «أليست الحياة أفضل من الطعام… انظروا إلى طيور السماء: إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يَقوتها» (مت 6: 26،25؛ لو 12: 23)، فخرجت وراءه وهي لا تحمل طعاماً أو شراباً، مُدركةً أنه يشعر بهم، وبالفعل أثبت المسيح أنه يشعر بهم ويُشفق عليهم.
لقد أثبت الشعب صدق قول المسيح: «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه، وهذه كلها تُزاد لكم» (مت 6: 33)، فخرجوا وراءه وهم على وعيٍ تام بهذه الآية، خرجوا ولم يهتموا إلى أين هم ماضون بدون نقود في جيوبهم أو خبز في أيديهم؛ ولذلك أعطاهم المسيح خبزاً أكثر مما يحتاجون: «وهذه كلها تُزاد لكم».
فيبدو أن معجزتَي الخمس الخبزات والسمكتين، وكذلك السبع الخبزات والقليل من صغار السمك؛ كان المسيح يقصد من ورائهما تطبيقاً عملياً للكلام الذي قاله: «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه، وهذه كلها تُزاد لكم»، ليس أنَّ كل هذه تُعطى لكم، ولكن أن تُزاد لكم أكثر من أي شيء آخر.
الفعل الإفخارستي الأول: ”شَكَرَ“:
مكتوبٌ أن الرب يسوع: «أخذ السبع خبزات والسمك، وشكر وكَسَّر». هذا فعلٌ إفخارستيٌّ. فكلمة ”شَكَرَ“ في الطقس العبري، ليس معناها: ”شَكَر الله“، وإنما ”بارك الله“، لأن ”البراكوت“ أو ”البركات“ عند اليهود، هي ”نُباركك يا الله“، من أجل الحنطة مثلاً التي أعطيتها لنا. هذه ”البركة“ تحوَّلت في مفهومنا – في العهد الجديد – إلى ”شكر“، إلى ”إفخارستيا“.
هنا الشكر على العطية أي النعمة – كلمة تعني النعمة الحسنة أو النعمة الجيدة – التي أعطاها الله لنا. هنا في هذه المعجزة، مَن ذا الذي يشكر؟ المسيح هو الذي يشكر الله أباه. وفي الحقيقة إذا تأمَّلتم بعمق في هذه الكلمة، تجدون أنَّ المسيح يشكر الآب ليس على الخبز، وإنما على القمح الذي صار خبزاً.
لقد تأمَّلتُ فوجدتُ أن المعنى هنا عجيبٌ وعظيمٌ؛ مثلما نقول: ”مباركٌ الله الآب (ضابط الكل)، ومباركٌ ابنه الوحيد (ربنا يسوع المسيح)، ومباركٌ الروح القدس (المعزِّي)“؛ أو: ”قدوس قدوس قدوس…“. فالرب يسوع يُبارِك الآب، وهذه البركة بمثابة الختم الذي وضعه على الخبز، وهذا يُسمَّى: ”ختم الآب“، لأنه باسم الآب.
المسيح أراد أن يقول للجموع: «اعملوا لا للطعام البائد، بل للطعام الباقي للحياة الأبدية الذي يُعطيكم ابن الإنسان، لأنَّ هذا الله الآب قد خَتَمَه» (يو 6: 27). في هذه الآية أراد المسيح أن يقول إنه هو نفسه الذي ختمه الله الآب، وليس الخبز.
في هذه المعجزة يستدعي المسيح اسم الآب كختم على الخبز المادي الذي من الحنطة ليصير خبزاً حيّاً نازلاً من السماء. هذا هو الفعل الإفخارستي. فـ ”شَكَرَ“ في هذه المعجزة، هي أنَّ المسيح يستدعي الآب، أي يشكر الآب، يُبارك الآب. هنا إعطاء البركة، أي وَضْع ختم على الخبز، فتصير الحنطة التي من الأرض خبزاً سماوياً باسم الآب.
الفعل الإفخارستي الثاني: ”كَسَّرَ“:
هنا المسيح يستدعي قوة الصليب من وراء الزمن، أو من قدَّام الزمن؛ استدعى قوة الصليب وبثَّها في الخبزات التي على يديه لأنه ”كَسَّر“ الخبزات.
لكن ما معنى ”كسَّر“ هنا؟ الكسر فيما سبق كان رمزاً للصليب، أما الآن فهو تحقيقٌ لقوة الصليب. ”كسَّر“ بمعنى بثَّ قوة الصليب على الخبز الأرضي. وما هي قوة الصليب؟ هي قوة الانتقال من الموت إلى الحياة، قوة الانتقال من الجسد المحسوس الترابي إلى الجسد السماوي، قوة الانتقال من الخبز الأرضي البائد إلى الخبز السماوي الحي، جسد يسوع المسيح الحي والمُحيي.
+ «فأكل الجميع وشبعوا، ثم رفعوا ما فَضَلَ من الكِسَر سبعة سلال مملوءة».
الأكل والشِّبَع والفيض المتكاثر:
واضحٌ أنَّ ”الشكر“ هو فعلٌ إفخارستي. هذا الفعل الواحد الإفخارستي هو السبب المباشر للكِسَر الهائلة الفائضة. أكثر من 8000 نفس أكلت وشبعت، ثم فاض عنها هذه الكِسَر، هذا راجعٌ للفعل الإفخارستي.
«فأكل الجميع وشبعوا»: من هذه الآية يتضح أولاً كثرة العدد، وثانياً الأكل والشِّبَع. هنا الفعل الإفخارستي هو العامل الأساسي في الشِّبَع، حيث إنهم أكلوا وشبعوا من السبع خبزات المتكاثرة، ثم فاض وفضل عنهم سبعة سلال مملوءة. والسَّلُّ الواحد يمكن أن يسع لرجلٍ مُقعد عاجز، مثلما حدث مع بولس الرسول في دمشق عندما «أخذه التلاميذ ليلاً وأنزلوه مـن السور مُدَلِّين إيَّاه في سَلٍّ» (أع 9: 25).
هذه الكثرة العددية، ثم الشِّبع، ثم الفيض؛ كل هذا فعلٌ إفخارستي، نحن نعيشه في المسيح بالروح وبالجسد. وإذا أردتم أن تُشاهدوا كل هذا بالجسد، تأمَّلوا في هذا الدير. لقد جئتم فقراء لا تملكون شيئاً، وانظروا الآن هذا الخير العظيم الذي يَنْعَم فيه ديرنا، والفقراء المُعدَمون يشتركون فيه أيضاً، هذا فعلٌ إفخارستي.
ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.