الأسرة : كنيسة البيت

كنيسة البيت منذ عصر الرسل:

بكلمات الحب والسلام والتحية يختم القديس بولس رسالته إلى كنيسة روما قائلا “سلموا على بريسكلا وأكيلا العاملين معي في المسيح يسوع، وعلي الكنيسة التي في بيتهما” (رو 16: 3).

وكنيسة البيت ثمرة طبيعية لمجتمع المؤمنين المتماسك في العصر الرسولي والذي سجل عنه المؤرخ القديس لوقا أنه كان يحيا باشتراكية الشعور، واشتراكية البذل واشتراكية العبادة إذ كان المؤمنون، يواظبون في الهيكل بنفس واحدة، وإذ هم يكسرون الخبز في البيوت كانوا يتناولون الطعام بابتهاج وبساطة قلب”. هكذا كانت بيوتهم مراكز حب، وعبادة، وفرح وبهجة، ولذلك فإن الثمار سرعان ما كانت تتكاثر، فكان الرب كل يوم يضم إلي الكنيسة الذين يخلصون.

فإذا عبرنا العصر الرسولي الأول إلي القرون التالية، لاقانا يوسابيوس في تاريخه المشهور بعبارة تؤكد لنا اتجاه كنيسة البيت إلي أسسها التقليدية كما تسلمتها عن الآباء فيقول: [وفي كل منزل بالأسكندرية، وما حولها، وبخاصة قرب بحيرة مريوط، كانت تخصص حجرة للعبادة تسمي القلاية أو الحجرة المقدسة وهذه التي سماها القديس ذهبي الفم “كنيسة البيت”].

في هذه الحجرة كان أهل البيت يمارسون ألوان العبادة، صائمين عن الطعام والشراب ومتع الجسد، ومواصلين القراءة في كتب الأنبياء، مسبحين الرب بالألحان والترانيم مستمعين في خشوع إلى أقوال الآباء والأناجيل والرسائل للتأمل فيها، مرددين في المناسبات سير شهدائهم وما يقترن بها من احتمال الاضطهاد، وعدم خشية الموت.

قدسية البيت المسيحي:

وفي إرسالية التلاميذ الأولي كان البيت هو الهدف الأول من كرازتهم وقد أوصاهم السيد قائلا “وحين تدخلون البيت سلموا عليه، فإن كان البيت مستحقاً فليأت سلامكم عليه. ولكن إن لم يكن مستحقا فليرجع سلامكم إليكم” (مت 10: 12، 13).

ومن أجل هذا قامت المسيحية بتشييد سياج حصين حول البيت، كما حرصت أن تهيئ له استقرارا يمتد به إلى الخلود. فالزواج في المسيحية رباط إلهي، وليس رباطاً اجتماعياً أو توثيقاً قانونياً، وما جمعه الله لا يفرقه “إنسان” فلا تفرقة بين الزوجين إلا بانتهاء الحياة أو بكسر قدسية الزواج، ولكي تثبت الكنيسة هذه المعاني الإلهية السامية تحتم أن يتم الزواج أمام الهيكل، بصلاة يستدعي إليها الأب الكاهن نعمة الروح القدس لتجعل الزوجين واحداً. وهو أعظم تعبير تتمثل فيه علاقة الوحدة وعري الرابطة التي لا تنفصم. حتي أن الرسول يشبهها باتحاد المسيح، اتحاداً سرياً عميقا بكنيسته أي بشعبه ككل، وبكل نفس علي حده. ولقد منعت المسيحية ظاهرة الطلاق، وتعدد الزوجات. وأوصت بأن تحترم الزوجة زوجها وتطيعه، وأن يحب الزوج زوجته وأن يكون حنوناً عليها وأن يعيشا معا في مخافة الله واحترام وصاياه. ولكي تؤكد المسيحية للبيت عناصر الاستقرار والتماسك، أوصت الأبناء أن يطيعوا والديهم في الرب” وأوصت الآباء “بألا يغيظوا أولادهم لئلا يفشلوا وبذلك هيأت الجو لعلاقات أسرية جديدة تختلف اختلافاً تاماً عن كل ما سبقتها من علاقات بين شعوب العالم قاطبة.

رسالة البيت المسيحي:

وواضح أن البيت المسيحي، في ظل هذا الاستقرار، يستطيع أن يؤدي رسالته الإيمانية أداء كاملاً وأول عناصر هذه الرسالة أن يسلم الإيمان للأبناء، ففي طقس العماد تنوب الأم عن الطفل في الاعتراف بالمسيح فاديا ومخلصاً، متعهدة ضمناً أن تقوم بتسليم هذا الإيمان إلى ابنها.

بل أن عملية العماد نفسها، أو الولادة الجديدة، تقترن بتغيير ملابس الطفل وإلباسه ملابس جديدة بيضاء إشارة إلى أنه لبس الإنسان الجديد صورة البر وقداسة الحق ولهذا المعني أهمية بالغة في نظر الكنيسة لاعتقادها أن النمو الروحي السليم يتم على أساس التجديد الداخلي بفاعلية منحة الله في سر العماد، فهذا السر هو المدخل إلي المسيحية وإلى السلوك الروحي الكامل الذي يتميز به المسيحيون. ولذلك جرت العادة أن يغير الاسم عقب العماد ليكون جديدا تبعا للحياة الجديدة التي بدأها صاحب الاسم. وكانت أسماء الأطفال تختار من الكتاب المقدس لتحمل معها إلي الطفل فضائل صاحبها.

فالبيت المسيحي، الذي يسلم الإيمان لأبنائه ويربيهم في نـوره هــو بيـت أدي رسالته الإيمانية، وقام بمسئوليته الروحية. وعلى الأبناء تقدير هذه النعمة العظمي واعتبارها اعتبارا صادقا قلبيا مخلصا بما يظهرونه لآبائهم وأمهاتهم من روح الطاعة والحب والاحتمال بل والخدمة والبذل وخاصة في مرحلة الشيخوخة أو أزمات المرض والعوز.

وعصرنا الحاضر ازدحمت فيه مظاهر الحضارة الحديثة وتشابكت حتى لنكاد أن نتوه في خضمها، لكن هذه الحضارة يجب ألا تصرف بيتنا المسيحي عما تسلمه من قيم، وما انحدر إليه عبر الأجيال والقرون من مبادئ ومثل إن زمن المعجزات لم ينته وليس صعبا أن يخرج من بيوتنا أمثال أثناسيوس وأنطونيوس، ودميانة، بل وتخرج منها بيوت أخري وعائلات تنجب وتتكاثر أغصاناً حية في ملكوت الله علي الأرض.

ولكن هذا يتطلب منا جميعاً آباء وأمهات وأبناء وبنات، أن نعيد اجتماعات البيت في كل بيت، لكي نكون مستحقين ، عن صدق ويقين أن يسلم علينا معلم المسيحية قائلا: “سلموا علي الكنيسة التي في بيتكم”. إننا محتاجون أن نعيد كنيسة البيت الأولي، لدخول كهنة الله الحقيقيين القديسين بيوتنا قائلين: “سلام لأهل هذا البيت”، حتى يحل سلام الله علينا ويملأ أرواحنا وضمائرنا ويعزي قلوبنا ونفوسنا….

وحول الكتاب المقدس، إذ اجتمعت كنيسة البيت، نالت بركة عظمي لأنه ” حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي – كما يقول رب المجد – فهناك أكون في وسطهم.

وفيم يطمع البيت المسيحي أكثر من وجود رب المجد وسط أعضائه؟ هنا يرتبط أفراده برباط المحبة ويملك على قلوبهم حب السلام بل هنا تُحل مشكلاتهم، وتتحد آراؤهم، فيعيشون بالرأي الواحد والنفس الواحدة.

وإننا نخشي أن تكون وسائل الإعلام الحديثة فعلا سببا يلهي بيوتنا وعائلاتنا عن أن تجتمع حول الكتاب المقدس. ألا فلنجرب. فكلمة الله تنقينا كما يقول رب المجد: “أنتم أنقياء بسبب الكلام الذي كلمتكم به، وهي أيضاً تنشطنا وتحيينا لأن الرب له المجد يقول: “كلامي هو روح وحياة”، ونحن – وسط تيارات العالم الحاضر – نحتاج إلي زيادة الارتباط، وتدعيم الصلة بين أعضاء البيت الواحد، وليس أقوي من الاجتماع الروحي، وكلمة الله وسيلة فعالة، وعاملاً موثرا، في جمع القلوب وتوحيد الآراء والأفكار …

هنا تمتد رسالة الآباء فحقيقة أنهم سلموا أبنائهم الإيمان، لكن عليهم متابعة تقويته وربط نفوسهم به حتى لا يتزعزعوا وسط تيارات وعواصف الحياة والغربة.

 والأبناء بدورهم عليهم واجب هام إزاء كنيسة البيت أن ينيروها دائما بما يحفظ لها ضياءها .ورواءها. فحبهم لبعضهم البعض، وصلاتهم بعضهم لأجل بعض، ومعاونتهم: كل منهم للآخر … هذه كلها دعامات الإيمان الذي تسلموه عن والديهم، والذي سيقومون بدورهم بتسليمه لأبنائهم ليذكروهم بالخير ويحفظوا لهم جميلهم العظيم.

إن عالمنا الحاضر في أشد الحاجة إلي عودة الأسرة الكنسية الصغيرة، الأسرة الأيقونة المعبرة التي يُري فيها نور المسيح الأسرة الممتلئة رجاء في محبة الله وعنايته فلا يأس ولا فشل ولا استسلام لعثرات العالم وتعظم المعيشة. فلينتزع أعضاء الأسرة أنفسهم بين وقت وآخر ليتعايش الكبار مع الصغار ففي هذه المعايشة يكتسب الصغار روح القدوة، ويشبعون من لبن المحبة ويتغذون من الإيمان المحيي للنفوس والمهيئ لهم لمستقبل أفضل يعرفون فيه معني حياة التسليم لعناية الله ملقين كل همكم عليه لأنه هو يعتني بكم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى