كتاب ملكوت الله – القمص متى المسكين

ملكوت الله واستعلان مجيء المسيح

كان تصور اليهود والأتقياء والمتعمقين في روحانية الأنبياء لشخصية المسيا، الآتى يختلف كثيراً عن حقيقة المسيح لما أتى.

فقد ظن اليهود أن المسيا سيتجه بقوته الفائقة المعجزة لرفع وتعظيم مملكة اسرائيل لتبلغ أوج عظمتها المنظورة كمملكة الله بصورة لم يسبق لها مثيل في العالم. وعلى ضوء النبوات اعتقدوا أنه سيغير نظام الأمور في العالم ويخلق كل شيء جديداً وعظيماً وغير متغير بدل الأنظمة، التي ملوا من عجزها وفسادها.

وبالتالي تصوروا ملكوت المسيا كأعلى وأعظم ما يكون لحكم الله على الأرض ! بحيث يكون هذا نهاية كل إصلاح وتغيير وكآخر مرحلة من مراحل نمو وتطور البشرية مادياً .

وإذ كان من العسير أن يتمشوا مع النبوات في تطبيق وعود الله (الروحية الخالصة) على تصوراتهم المادية لتطوير النظم البشرية، قالوا في نهاية تفكيرهم واجتهادهم أن هذا الملكوت سيفوق في مجده وعظمته ودقته كل ما يخطر على بال بشر، بما يتفق مع مقدرة المسيا الخارقة للعادة والفائقة للعقل والطبيعة وحكمه الإلهي المقتدر، حينما يضبط كل الأشياء معاً لتكون وفق مشيئته العليا.

وطبعاً وبكل تأكيد تركز كل الإحساس بهذا الملكوت في المستقبل، وبذلك طُويت كل الآمال ومعها كل الجهود البشرية، ووضعت في ظلام هذا المستقبل الآتى، في انتظار عاطل خافق لما سيكون، وبالتالي أصبح نظام العالم الحاضر في أعينهم بشروره وعجزه متعارضاً كل التعارض مع ذلك المستقبل الذهبي السعيد الذي لن يكون فيه شيء من هذا الشر والعجز.

وهكذا تحـصـنـوا ضـد أي إمكانية لظهور المسيا كإنسان تحت الناموس الحاضر أو كرجل أوجاع وآلام ومختبر للحزن يحمل خطايا الناس و يئن تحت مظالمهم !! كما تحصنوا ضد أي قبول لملكوت إلهي يمكن أن يبذر كحبة خردل وسط أشواك الدنيا و ينمو صغيراً وقليلاً قليلاً تحت كل عوامل الفساد مجتمعة!!

وهكذا جاء المسيح وجاء ملكوته مخيباً لكل آمال اليهود المنتظرين مجداً دنيوياً لإسرائيل، الطالبين روحانية تخدم أغراض الإنسان وآماله على الأرض!

لقد دخل المسيح إلى العالم من بابه السري غير المنظور: «قلب الإنسان»! وابتدأ الملكوت فجأة من داخل الإنسان لا من خارجه ! …
+ «ها ملكوت الله داخلكم» (لو 17: 21)!!
+ « إن قال لكم أحد هوذا المسيح هنا أو هناك فلا تصدقوا» (مت 24: 23).

وهكذا بمجيء المسيح واستعلان حقيقة الملكوت، غيرت المسيحية المفهوم الإنساني عن ملكوت الله تغييراً جوهرياً :

+ فهو الآن ملكوت روحي سمائي ليس له أدنى علاقة بالأوضاع الزمنية أو الحكومات البشرية أو الأوطان الأرضية : مركزه السمائي أورشليم العليا، أمنا الحرة. ومركزه على الأرض الكنيسة. أما أورشليم الأرضية فقد ماتت كأم.

+ هو نظام إلهي داخلي سري خفي لا يُستعلن إلا بالإيمان في القلوب، غير أن له علامات في الظاهر.

+ وهو يختص بالحاضر كما يختص بالمستقبل، و«لا يأتى بمراقبة».

+ وهو غير محدود بـشـعب أو بأمة أو بنظام ولكنه محدود بالمسيح فقط والمسيح غير محدود ، لذلك فهو عتيد أن يشمل كل ركبة تنحني للمسيح وكل خليقة روحانية تؤمن بالمسيح.

+ كما أن ملكوت الله قائم في العالم الآن داخل قلوب المؤمنين بالرغم من وجود الشرور والآثام والخطايا في العالم، لأن الإيمان بالمسيح كفادي يُدخلنا ملكوته ويفصلنا عن الشر الذي في العالم في آن واحد. فالفداء الذي أكمله المسيح بالدم الإلهي هو طريق حـي حـديـث يُـدخـلـنـا إلى الأقداس السماوية وفي نفس الوقت حاجز إلهي يفصلنا عن العالم الشرير. ولكن الصراع لا يكف بين قوى الملكوت التي فينا وقوى الشر التي في العالم، إلى أن يبطل العالم وعلى المسيحية بصفتها المعلنة والداعية للملكوت يقع ثقل الشر وصراع الباطل الذي في العالم كله! 

وكما أن المسيحية تقوم على الإيمان والرجاء معاً: الإيمان بالخلاص الجزئي في الحاضر، والرجاء بالخلاص الكلي في المستقبل أيضاً؛ كذلك أيضاً بالنسبة للملكوت، فنحن نتصل بالملكوت المستعلن جزئياً في قلوبنا اتصالاً وثيقاً في الحاضر بواسطة الإيمان الذي لنا الآن في شخص المسيح وبره، كما نتصل بالملكوت في استعلانه الكلي عند مجيء المسيح في المستقبل اتصالاً يقينياً بالرجاء الذي لنا في شخص المسيح وأمانة وعده.

+ يستحيل علينا الآن أن نتحقق تحققاً كلياً من الملكوت ومن طبيعته لأن الملكوت لم يستعلن بعد الإستعلان الكامل بسبب أننا إلى الآن غير كاملين في الإيمان وفي الرجاء لأننا ناقصون في المعرفة : الآن نعرف بعض المعرفة» (1کو 13: 12) !

ولكن الإستعلان الكلي للملكوت لن ينشأ نشأة تدريجية بتطور النظام الطبيعي ولا بتطورنا نحن في الإيمان والرجاء والمعرفة، ولكن هذا الإستعلان الكلي سيظهر فجأة باستعلان مجيء يسوع المسيح في مجده « وملكوته».

فكما أن تجسد المسيح، أي مجيئه الأول ليبطل سلطان الخطية، كان واسطة في استعلان ملكوت الله جزئياً بالإيمان والرجاء، كذلك فإن الإستعلان الكلي لملكوت الله لن يتم إلا بتوسط المجيء الثاني للمسيح في مجده أما الإستعلان الجزئي الآن لملكوت الله فهو «ليس بكلام بل بقوة » ( 1كو 4: 20)، قوة حياة داخلية يتأيد بها الإنسان في الباطن بالروح، قوة حياة لا تزول ، قوة الله للقيامة التي تعمل في أجسادنا منذ الآن.

كما أن ملكوت الله الآن لا يتعلق بأمور خارجية، بأكل أو شرب : «ليس ملكوت الله أكلاً وشرباً بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس» (رو 14: 17). لذلك فحينما نملك هذه المفاعيل الداخلية أي البر والسلام والفرح يصير هذا برهاناً أننا صرنا شركاء في ملكوت الله ، و يكون قد بدأ يستعلن لنا فعلاً.

فكما أن «ملكوت الله داخلكم» هكذا ينبغي أن تكون علاماته الآن في داخلنا !

وأما الإستعلان الكامل لملكوت الله ، فإن كنا لا نعرفه ما هو الآن بسبب نقص معرفتنا و بسبب عدم استعلان المسيح للآن استعلاناً كاملاً في مجده، إلا أننا نعرف أنه بمجرد أن يجيء المسيح سنصير شركاء معه في هذا الملكوت : « إن كنا نصبر فسنملك أيضاً معه » ( 2تی 2: 12).

وإن كنا لا نعرف بعد ما هو مجد الله الذي سيعلن بظهور المسيح في مجيئه الثاني، إلا أننا مدعوون منذ الآن لنجاهد على رجاء أكيد للحصول على شركة في هذا المجد : «ونُشهدكم لكي تسلكوا كما يحق لله الذي دعاكم إلى ملكوته ومجده» (1تس 2: 12). لذلك فبقدر ما نحن مدعوون للحصول على شركة جزئية في ملكوت الله في الحاضر بالإيمان، يكون الفرح والسلام الداخلي علامة ذلك.

ولكن نحن مدعوون بالأكثر إلى الحصول على شركة كاملة في ملكوت الله العتيد أن يستعلن في المستقبل، وذلك بالجهاد والرجاء الذي لا يكل، والصبر حتى النفس الأخير، واحتمال الآلام والضيق حتى الموت حتى أننا نحن أنفسنا نفتخر بكم في كنائس الله من أجل صبركم وإيمانكم في جميع اضطهاداتكم والضيقات التي تحتملونها، بينة على قضاء الله العادل أنكم تؤلملون لملكوت الله الذي لأجله تتألمون أيضاً» ( 2تس 1: 4-5) .

و بواسطة شركتنا في الملكوت سواء جزئياً في الحاضر بالإيمان المبني على المحبة، أو كلياً في المستقبل بالرجاء المبني على الجهاد، فنحن نتهيأ داخلياً كل يوم لكي نأخذ مكانناً كأعضاء في هذا الملكوت الذي سوف يضم كل الخلائق الروحانية التي لن يربطنا بها إلا المسيح نفسه !!

ولكن كل ما نعمله سواء بالإيمان المبني على المحبة، أو الرجاء المبني على الجهاد، لا يمكن أن يؤهلنا من ذاته الميراث ملكوت الله ، ولكنه يعدنا فقط لظهور ربنا يسوع المسيح حينما يأتى في مجده، فلا نخاف ونخزى من ظهوره بل نحتمل مجده ! أما استحقاقنا للملكوت ودخولنا في شركته فهذا يكمله لنا استعلان مجد المسيح في حد ذاته «عند مجيئه الثاني المخوف المملوء مجداً»، وقبولنا هذا المجيء واشتراكنا فيه بغير خزي ، لأن المسيح عندما يأتى سوف يظهر في مجد ملكوته مع كافة الملائكة والخليقة الروحانية وأرواح القديسين، و يدعونا نحن الباقين لنظهر معه!

ملكوت الله ـ طبيعته

كتب القمص متى المسكين

صراع ملكوت الله في الحاضر

كتاب ملكوت الله
المكتبة المسيحية

 

زر الذهاب إلى الأعلى