كتاب ملكوت الله – القمص متى المسكين

كيف أبطل المسيح قوة الشيطان

وسلمنا «سلاح الله الكامل» ؟؟

وبحصول البشرية على الفداء الذي أكمله المسيح بالصليب، تحرر الإنسان من «أركان العالم»، كما يوضحه بولس الرسول في قوله : « وأما من جهتي فحاشا لي أن أفتخر إلا بـصـلـيـب ربنا يسوع المسيح الذي به قد طلب العالم لي وأنا للعالم» (غل 6: 14)، حيث العالم هنا إشارة إلى عنصر الشر وكناية عن الأرواح الشريرة المتملكة على نظام العالم الزمني والمادي التي أغوت بني الملكوت والتي كان يتعبد لها الوثنيون. لذلك يقول : « وأما الآن إذ عرفتم الله بل بالحري عُرفتم من الله ، فكيف ترجعون أيضاً إلى الأركان الضعيفة الفقيرة التي تريدون أن تستعبدوا لها من جديد؟ أتحفظون أياماً وشهوراً وأوقاتاً وسنين ؟» (غل 4: 9 و10)، «إذا إن كنتم قد مُتم مع المسيح عن أركان العالم فلماذا كأنكم عائشون في العالم تفرض عليكم فرائض ؟ » (کو 2: 20).

ويلاحظ هنا أن بولس الرسول يخاطب أهل غلاطية وكولوسي وهي بلاد وثنية، حيث يقصد بولس الرسول من كلمة «فرائض» و «المواسم » ما – ما كان سارياً في العبادة الوثنية من طقوس سحرية وشعوذة وعادات موروثة.

ولكي يبطل عنا المسيح سطوة أركان العالم ، ولد تحت نفس الظروف التي يولد فيها الإنسان ويعيش، حتى يستطيع أن يفتدينا منها بنفسه : «هكذا نحن أيضاً لما كنا قاصرين كنا مستعبدين تحت أركان العالم. ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني » (غل 4: 3 و4) . بهذا يتضح لنا أن تجسد المسيح بحد ذاته كان عملاً مباشراً ضد الشيطان وضد شروره، لذلك نسمع بوضوح من المسيح : «رأيت الشيطان ساقطاً مثل البرق من السماء» (لو 10: 18). وواضح من هذه الآية أن العمل الأول للمسيح هو مقاومة الشيطان ونقض مملكته وأعماله: «من يفعل الخطيئة فهو من إبليس لأن إبليس من البدء يخطىء، لأجل هذا أظهر ابن الله لكي ينقض أعمال إبليس» (1يو 3: 8) ، «فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيها لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس » (عب 2: 14).

لأن اتضاع المسيح ونزوله إلى الأرض وتجسده أذل كبرياء الشيطان وأحدره من السماء وحدد المواجهة معه على الأرض ! لذلك كان أول عمل بدأ المسيح يباشره باهتمام هو إخراج الشياطين بقوته الذاتية من الخليقة البشرية، أي من كل إنسان كان عليه روح نجس، مشيراً بذلك إلى الإتجاه الرئيسي الذي جاء ليكمله وهو إبطال قوة الشيطان.

وإذ تركزت شرور الشيطان في الضلالات العقلية التي طغى بها على تفكير الإنسان وعلاقته بالله ، بدأ المسيح يبطلها بتعاليمه، لتحرير عقل الإنسان من الأوهام، ثم عزز تعاليمه بإعطاء الناس مواهب وقوات وسلطاناً على الأرواح الشريرة لإخضاعها تحت سلطان الإنسان وإخراجها . والمعروف أن قوة الشيطان الأساسية هي في تأثيره على عقول الناس حتى يضلهم عن الحق وعن الله ، فيمنع عنهم نور المعرفة والإتصال بالله . وهذه الشرور والضلالات العقلية التي يبثها الشيطان في عقول الناس كانت ولا زالت في الواقع أصل الخطيئة الفعلية المعمولة بالإرادة وسلطانها الذي يزيغ الناس عن سبل الله.

ولكن المسيح أضاف إلى المواهب الموهوبة للإنسان موهبة جديدة وعجيبة زادت من قدرة الإنسان وتفوقه على الشيطان بصورة رائعة، فقد أعطى التلاميذ أي الكنيسة موهبة وقوة وسلطاناً المغفرة الخطايا ليبطل كل النتائج التي تترتب على شرور الشيطان!

لذلك نجد أن موهبة المسيح التي أعطاها لتلاميذه أي للكنيسة يمتد مفعولها و يتجاوز الأرض إلى السماء: «كـل مـا تـر بطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء. وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء» (مت 18: 18). وبذلك لم يعد للشيطان فرصة على الناس لا في حياتهم ولا بعد مماتهم إن هم تمسكوا بحق المسيح، وبذلك يبطل عنا شر الشيطان ويبطل عنا سلطان الخطيئة وكل نتائجها المهلكة في الحياة الحاضرة وفي المستقبلة أيضاً في الأرض وفي السماء !! وبهذا يكون المسيح قد حبس الشيطان في دائرة سلطان الإنسان أي الكنيسة – وعزله عن ملكوت الله وأبطل نشاطه وألغى أثره المميت وعالج نتائج شروره !!

«الآن دينونة هذا العالم الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجاً» (يو 12: 31)، أي أنه بمجرد أن ذبح المسيح على الصليب، سقط الشيطان من رئاسته على العالم، كما سحب منه كل سلطانه الذي كان له على كافة ممالك الأرض»، وصار المسيح وحده مخلص العالم» و «نور العالم » و «حياة العالم» و «ملك الملوك » ! !

معه ولكن نعود ونكرر أن المسيح أبطل قوة الشيطان وجرده من كل قوة وألغى كل أثر لشروره بآلامه وموته: «وإذ كنتم أمواتاً في الخطايا وغلف جسدكم ، أحياكم . مسامحاً لكم بجميع الخطايا، إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض الذي كان ضداً لنا، وقد رفعه من الوسط مسمراً إياه بالصليب، إذ جرد الرياسات والسلاطين، أشهرهم جهاراً ظافراً بهم فيه أي في الصليب)» (كو 2: 13-15).

ثم كانت قيامة المسيح برهان النصرة الكاملة والغلبة السافرة التي صعد في موكبها المسيح ظافراً إلى السماء وساد على كل قوات العدو، إذ بارتفاعه إلى السماء صار عدوه تحت رجليه !! : «إذ أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه في السماويات فوق كل رياسة وقوة وسيادة وكل إسم يسمى ليس في هذا الدهر فقط بل وفي المستقبل أيضاً، وأخضع كل شيء تحت قدميه، وإياه جعل رأساً فوق كل شيء للكنيسة» (أف 1: 20-22).

وفي نفس صعوده الظافر الممجد، وكنتيجة لغلبته على سلطان الشيطان، وكبرهان لألوهيته ونجاح الفداء الذي أكمله وكعلامة محققة لرضى الآب ومسرته وصفحه عن بني الإنسان، سكب المسيح على الناس عطايا ومواهب روحية فائقة ليزدادوا بها قوة فوق العدو، ويمارسوا بها سلطان المسيح نفسه ضد الشيطان وكل جنوده وشروره و يرفعوا بها كل سقم وضلالة الخطية مع مرارتها !! لذلك يقول : «إذ صعد إلى العلاء سبى سبياً وأعطى الناس عطايا » (أف 4: 8).

وهكذا امتد وجود المسيح وظفره في كل من آمنوا به ، وامتد عمل سلطانه فيهم بواسطة هذه المواهب التي هي «أصبع الله » الفعال ضد الشيطان وشروره وضد الخطية وسلطانها.

ونحن نعلم يقيناً أن انسكاب الروح كان رهن صعود المسيح : « إن لم انطلق لا يأتيكم المعزي » (يو 16: 7) ، وذلك باحتساب أن صعود المسيح هو ختام الظفر الذي حققه المسيح لنا ضد مملكة الظلمة والشر «فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل إسم يُسمى ليس في هذا الدهر فقط بل وفي المستقبل أيضاً» ( أف 1: 20). و بصعوده صعدنا معه ( في طبيعته المتجسدة)، وبجلوسه عن يمين الآب جلسنا معه ( في طبيعته المتجسدة)، فكان ذلك صكاً أبدياً بكمال تحرير طبيعة الإنسان وافتدائه وعتقه من تحت سلطان الشيطان، وأسره الذي استحققنا به انسكاب روح الله القدوس علينا ونوال حق الشركة في الحياة الإلهية.

وبقوة هذه الحياة الإلهية المنسكبة علينا تحولت الأعضاء التي كانت تخدم الشيطان مستعبدة للإثم والنجاسة، إلى أعضاء تخدم الله والبر والقداسة، ودخلنا ملكوت الله ودخل ملكوت الله فينا، وساد المسيح!!

إذن، فبالفداء الذي أكمله المسيح لنا وفينا، وبصعوده إلى السماء، انكسرت مملكة الظلمة وتضعضعت قوة الشرير.

ولكن إبطال المسيح لقوة العدو وتحطيم مملكته وسلطانه نهائياً على الناس لا يزال ينتظر عملاً جديداً سوف يعمله المسيح عندما يجيء في مجده يملك وليبطل الموت، لأن «آخر عدو يُبطل هو الموت»، وليبطل أيضاً من له سلطان الموت أي إبليس» ( 1کو 15: 26 ، عب 2: 14).

لذلك نحن نحارب ضد هذه القوات الشديدة البأس الآن بإحساس النصرة الأكيدة، على أساس ما سوف يتم حتماً بواسطة ربنا يسوع المسيح : «لأن سر الإثم الآن يعمل فقط إلى أن يُرفع من الوسط الذي يحجز الآن، وحينئذ سيستعلن الأثيم الذي الرب يبيده بنفخة فمه و يبطله بظهور مجيئه » (2تس 2: 7 و 8). وحينئذ يظهر ملكوت الله خـال خـلـواً تاماً من إبليس وكل أعماله : « و بعد ذلك النهاية متى سلم الملك الله الآب، مى أبطل كل رياسة وكل سلطان وكل قوة ، لأنه يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه» (1کو 15: 25).

ولكن الذي يزيد من ثقتنا في حربنا مع العدو ويعطينا الشجاعة والنصرة عليه، هو امع ما سبق وأعلنه الله أنه سوف يأتى اليوم الذي ينتقم فيه من الشيطان وملائكته، ونشترك نحن في دينونته: «ألستم تعلمون أننا سندین ملائكة» (1كو 6: 3).

ولكن لكل الذين لم يكمل إيمانهم ولم يكمل عمل الفداء فيهم يظل سلطان الشرير ينازعهم في مسيرهم و يعرقل دخولهم ملكوت الله بأنواع أوهام وظنون وخطايا، ويظل هذا الصراع مستمراً حتى يقبل الإنسان الفداء كاملاً و يشترك في ظفر المسيح الصاعد إلى السماء بمجد الآب، وينال معه ذلك الصعود الممجد فوق «دهر هذا العالم» وفوق كل إغراء للروح الشرير الذي يعمل الآن في أبناء المعصية». وإذ يشترك في موكب النصرة ينال عطية الروح القدس التي بها يُخضع كل فكر لطاعة المسيح و يبطل كل عمل وكل شر يرتفع ضد المسيح

أما الذين نالوا النصرة والظفر الكامل مع المسيح ، المحسوبين منذ الآن أبناء الله، أبناء الملكوت، فلا يمكن أن تكف عنهم هجمات العدو ومناوءاته وشروره وظلمته ؛ لأنهم وهم في غربة العالم يظل عليهم أن «يحرسوا حراسات الرب» ويحاربوا عن مواهبهم ومـغـانمـهـم ، و يصارعوا ضد عدو يحاول مستميتاً أن يسترد من كانوا له يوماً من الأيام !! «فاشترك أنت في احتمال المشقات كجندي صالح ليسوع المسيح. ليس أحد وهو يتجند يرتبك بأعمال الحياة لكي يُرضي من جنده. وأيضاً إن كان أحد يجاهد لا يكلل إن لم يجاهد قانونياً » ( 2تی 2: 53). فالإنسان الذي حسب جندياً ليسوع المسيح لا يكف عن أن يصد هجمات العدو سواء عليه هو من الداخل أو على انتشار الملكوت وعرقلة امتداده في قلوب الناس. وفي كلا الميدانين يحاول العدو أن يوقف قوة الملكوت وامتداده : أخيراً يا إخوتى تقووا في الرب وفي شدة قوته . البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس . فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء، مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السمويات . من أجل ذلك البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تقاوموا في اليوم الشرير، وبعد أن تتمموا كل شيء أن تثبتوا» (أف 6: 10-13).

ولكن ما هو هذا السلاح الكامل الذي يدعوه بولس الرسول : «سلاح الله الكامل» أو «سلاح الله الكلي» الذي يمكن أن نقاوم به الشرير في «اليوم الشرير» ؟ لكي ندرك قيمة أسلحتنا الروحية الكاملة ومنفعتها وضرورتها يلزم أن نعرف أولاً ما هي أسلحة الشيطان التي يستخدمها في حربه معنا، هذه الحرب الخفية المتعددة الجبهات ضد طبيعتنا العقلية؟

طبيعة الحرب الشيطانية

يكشف بولس الرسول حقيقة الصراع بين الإنسان والشيطان كحرب روحية خفية، وهي حرب لا يمكن أن يشعر بها الإنسان إلا إذا بدأ المقاومة، لأنه طالما أن الإنسان لا يقاوم المؤثرات العقلية الشريرة التي يؤثر بها الشيطان على عقله، فإن هذه المؤثرات تدخل فيه وتسيطر على فكره ومزاجه ثم قلبه ومشاعره حتى : تملك عليه كافة ملكاته وقدراته. وهنا لا يمكن أن يشعر الإنسان أن هذه المؤثرات كانت من الشيطان وإنما يظنها أنها هي أفكاره وتصوراته وأنها جزء من طبيعته.

ويلاحظ أن الشيطان يستخدم الصفة الطبيعية المشتركة بين الخليقة الروحانية والخليقة البشرية وهي «القوة العقلية». فكافة المخلوقات الروحانية سواء كانوا ملائكة قديسين أو ملائكة أشرار ساقطين، فكلهم يملكون قوة عقلية أعلى من القوة العقلية التي في الإنسان، وتستطيع أن تؤثر بها على الإنسان وتستدرجه لمجالها العقلي الخاص، فيصبح الإنسان تحت تأثير وقيادة القوة العقلية الملائكية، دون أن يشعر، إلا حينما يعترض و يقاوم.

لذلك، فالذين يقاومون الأفكار الشريرة بحزم ولا يتهاونون ولا إلى لحظة في طرد كل هاتف خاطيء أو فاسد أو شرير هؤلاء يحتفظون بالقوة العقلية التي فيهم مستقلة تماماً وطاهرة تماماً عن أي تلوث أو مشاركة أو إذعان للشيطان، فتزداد حساسيتهم العقلية ضد الشرور، ومن اعتياد الإنتباه وفرز الإلحاحات الشريرة وطردها ، يتعرف الإنسان على طرق الشيطان وحيله التي يحاول بها أولاً أن يدس أفكاره داخل عقل الإنسان، ثم إذا نجح يستطيع أن يسيطر على عقل الإنسان كله و يُدخله داخل مجاله قليلاً قليلاً بخفة واحتيال شديدين.

لذلك نسمع بولس الرسول قائلاً: « لئلا يطمع فينا الشيطان، لأننا لا نجهل أفكاره» (2کو 2: 11).

على أن الشيطان ليس له سلطان على اقتحام عقل الإنسان عنوة، بالرغم من أن قوته العقلية فائقة جداً على قوة عقل الإنسان. وذلك لأن الإنسان يملك قوة الإستقلال الذاتي كهبة تفوق في فاعليتها أي قوة مؤثرة أخرى، التي بها يملك الإنسان قوة مقاومة كفيلة أن تحفظ استقلاله العقلي الذاتى إزاء أعظم قوة عقلية أخرى . فقد حدث كثيراً أن مارس الإنسان هذا الإستقلال الذاتى وهذه المقاومة إزاء الله نفسه ! لذلك لم يعد للإنسان عذر إذا ما فرط في عقله للشيطان وأسلمه لمؤثراته الشريرة. لذلك فالشيطان يعمد إلى الحيلة بعد الحيلة، بدهاء ومكر، حتى يمكنه أن يؤثر في فكر الإنسان و يستدرجه المشورته وأفكاره.

وما هي حيل الشيطان التي يستدرج بها الإنسان لمشوراته ؟

أولاً : حيلة المناسبة :

فهو إذ يرصد شهوات الإنسان وميوله، لا يقدم له مشورات الشر إلا بما يتناسب مع حالته الجسدية والنفسية والعصبية ، فهو حينما يجدك مثلاً غاضباً من أجل الحق يسرع فيقدم لك البغضة والعداوة يدسها فيها دساً.

فالمعروف أن الغضب من أجل الحق هو عمل إلهي حيوي لازم للتجديد ، أما البغضة فهي عـمـل شـيـطـاني شـر يـرجـداً وقاتل للنفس ، ولكن « المناسبة» تجعل الفارق بينهما دقيقاً جداً للغاية. هنا يستطيع الشيطان في ثورة غضبك أن يرفع هذا الفارق الدقيق مستخدماً «المناسبة» الدقيقة بين الغضب والبغضة، ويستدرجك من مجال تفكيرك المقدس إلى مجال تفكيره النجس. وبعد أن تبدأ بعمل محيي وهو الحق تنتهي بعمل ميت وهو البغضة. لذلك ينبهنا بولس الرسول في هذا الموقف قائلاً: «إغضبوا ولا تخطئوا . لا تغرب الشمس على غيظكم. ولا تعطوا إبليس مكاناً» (أف 4: 26).

كذلك يستخدم المناسبة الشديدة بين الحزن واليأس، فحينما تستسلم للحزن بسبب خطيئة اقترفتها أو بسبب حالتك الروحية حينما تكون ضعيفة أو جافة أو متدهورة، فهنا يظهر فجأة ويطرح أمام عقلك فكرة اليأس، ولا يزال يحاصرك بها وخصوصاً لما تخفق في استعادة كيانك الروحي بعد عدة محاولات شخصية، فتقتنع من حكم الواقع أن لا مفر من اليأس، وحينئذ تدخل في مجاله في الحال دون أن تشعر، وهنا يبدأ يجردك من بهجة الأمل والرجاء. ثم هو لا يكتفي بذلك، لأنه شرير جداً، بل يمعن في جذبك أكثر إلى عمق الظلام حتى تستسلم نهائياً وتفقد كل ثقة بنفسك وكل ثقة بالله، ثم يصور لك بغضة نفسك وبغضة الله و بغضة الناس حتى يضمحل في قلبك كل معنى للحياة ويجعلك تستهين بالموت: « ذاك كان قتالاً للناس منذ البدء» (يو 8: 44).

ولكن بأقل صلاة وبأقل دعاء باسم الله ، يمكنك أن تحس بالخطر وتشعر بالفخ، وحينما تـعـود بـقـلبك إلى الرب تجده أمامك في انتظارك فاتحاً يديه وقلبه متغاضياً عن كل خطية، وحينئذ تلقى بفكرة اليأس خارج عقلك فتمزق شباكه وتخرج من الظلمة إلى نور الرجاء وتستعيد كيانك العقلي وحريتك مرة أخرى.

ويمكن تطبيق هذا الكلام تماماً على استغلال الشيطان لتوافق المناسبة بين كافة الإنفعالات الطبيعية نفسانية كانت أم جسدية أم روحانية، وبين الإنفعالات غير الطبيعية الشريرة، حتى يندفع الإنسان من الأولى إلى الثانية بسهولة مستخدماً شدة المناسبة بينهما.

فهو يستخدم فرص الفرح والمسرات الجسدية، ويستميل العقل والنفس للتمادي والإستغراق فيهما حتى يسقط الإنسان بالنهاية في الملذات الحرام : « وهذه الأمور حدثت مثالاً لنا حتى لا نكون مشتهين شروراً كما اشتهى أولئك… كما هو مكتوب جلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب، ولا نزن كما زنى أناس منهم فسقط في يوم واحد ثلاثة وعشرون ألفاً» (1كو 10: 6 -8).

كذلك يستخدم فرص النجاح أو الغنى أو الرئاسة للإنتقام والتجبر والظلم ونسيان الله ، كما يستخدم الفقر أو العوز والوقوع تحت الظلم في تسهيل التذمر على الله واليأس حتى إلى صغر النفس أو السرقة والإختلاس.

كذلك ينتهز المناسبة الطبيعية التي تربط بين الغرائز بعضها ببعض وفسيولوجية تحركها ونشاطها. فالمعروف أن اللذة تركيب طبيعي نفساني وهي تتحكم في الغريزة الطبيعية وتدفعها إما للعمل وإما للتوقف. فلذة الطعام (الشهية) هي التي تنشط غريزة الأكل، فإذا فقد الإنسان شهية الأكل يستحيل عليه الأكل. وعلى نفس النمط تعمل اللذة كدافع للنوم والعمل والكلام والتبول والتبرز. وعلى وجه العموم تعتبر اللذة، سواء من جهة أثرها على الجسد أو النفس أو الوجدان، هي العامل الأساسي الطبيعي الموهوب الله لحفظ الكيان الإنساني نشيطاً فعالاً ناجحاً مثمراً. واللذة في وضعها الطبيعي تبقى نائمة غير نشطة حتى تستدعيها ظروف الحياة وحينئذ تبدأ عملها تلقائياً دون أي تفكير أو من جهد.

كذلك فإن الغرائز لا تعمل فرادى أو مستقلة، بل هي مرتبطة في عملها ونتائجها بعضها ببعض ارتباطاً شديداً، فغريزة حب البقاء مرتبطة بغريزة التناسل، وغريزة التناسل مرتبطة بغريزة الأكل، وغريزة الأكل مرتبطة بغريزة حب القتال، وغريزة القتال والجري والسعي وراء الرزق مرتبطة بغريزة الغضب وهكذا. ولكن الشيطان لم يفت عليه أن يدس أصبعه بين هذه الغرائز في علائقها التي تربطها بعضها ببعض، أو في الرباط الطبيعي الذي يربطها باللذة الطبيعية. 

فأول كل شيء وأخطره يحاول الشيطان أن يفصل اللذة عن الغريزة ليجعل من اللذة عملية قائمة بذاتها. فبدل أن تكون شهية الأكل. حسب وضعها الطبيعي لتسهل عملية الأكل فقط يحاول العدو أن يفصل شهوة الأكل عن غريزة الأكل بأن يستثيرها إستثارة مصطنعة. فبدل أن كانت شهوة الأكل تأتى طبيعياً نتيجة جوع طبيعي تحسه المعدة محلياً ، يبدأ الشيطان يستخدم طريقاً آخر غير طبيعي لإستثارة الجوع، وهو العقل المعتبر المدخل المناسب الوحيد للتأثيرات الشريرة فيسلط العدو تصورات وأفكاراً مناسبة للأكل، فيثير شهوة الأكل في الإنسان بالرغم من أن المعدة لا تكون آنذاك في حاجة للأكل أو تكون قد أخذت كل كفايتها الطبيعية. و يظل العدو يتابع تأثيره على العقل لإثارة شهوة الأكل حتى تفقد شهوة الأكل تناسبها الطبيعي مع غريزة الأكل، فيفقد الإنسان التوازن الطبيعي بين شهوة الأكل وكمية الأكل المطلوبة وأنواع الأطعمة، فيطلب الأكل في غير مواعيده ويأكل أكثر من حاجته ، و يطلب أنواعاً غير لازمة له ، وشيئاً فشيئاً تنتقل لذة وشهوة الأكل من المعدة إلى العقل فيصاب الإنسان بجنون الأكل: «لأن كثيرين يسيرون ممن كنت أذكرهم لكم مراراً والآن أذكرهم أيضاً باكياً وهم أعداء صليب المسيح، الذين نهايتهم الهلاك الذين إلههم بطنهم ومجدهم في خزيهم» ( في 3: 18). ويمكن تطبيق هذا الكلام تماماً على الشهوة الجنسية التي إذا انفصلت عن حاجة الطبيعة تبتدىء تتسيطر على الفكر حيث يُصاب الإنسان بالنهاية بـ «الجنون الجنسي».

وعلى هذا النمط يستطيع الشيطان بتأثيراته العقلية أن ينقل كافة أنواع اللذة الطبيعية من أماكنها العضوية الجسدية ومن خضوعها الطبيعي لحاجات الجسد وظروفه الفسيولوجية الهادئة، إلى العقل حيث يستطيع أن يثيرها باستمرار و بدون مناسبة طبيعية، ويشعل الجسد كله بالشهوات إشعالاً هادماً مدمراً. لأن من المعروف أن استنزاف إحدى الغرائز يؤثر تأثيراً ضاراً على بقية الغرائز الأخرى ؛ فكثرة الإشتعال بشهوة الأكل تثير الغريزة الجنسية، والإشتعال بشهوة الجنس يُفقد الإنسان حيويته واتزانه وهكذا.

وكل هذا الإختلال الخطير الذي يتعرض له الإنسان في كافة أنواع الغرائز ولذاتها هو بسبب قبول الإيحاءات الفكرية التي يلقيها الشيطان في عقل الإنسان ليثير شهواته وملذاته إثارة غير طبيعية، حتى يُفقدها اتزانها ونسبتها الطبيعية وغايتها المباركة التي غرسها الله في طبيعتنا من أجل اتزان الحياة ودوامها!

لذلك يلزم للإنسان جداً أن يتحفّظ ، بنقاوة عقله وتفكيره، و يرفض أية إثارة عقلية من جهة أي شهوة أو لذة ؛ فالشهوات الطبيعية واللذات الغريزية ينبغي أن يختم عليها لتبقى نائمة في أعضائها الطبيعية لتعمل فقط بمقتضى حاجة الجسد وظروف الحياة الطبيعية.

ثانياً : عنصر المفاجأة :

هذه إحدى الوسائل التي يستخدمها الشيطان في إسقاط فريسته، وخصوصاً إذا كان الإنسان قد بدأ يقاوم و يسهر على نفسه من التأثيرات الشريرة التي يسوقها عليه، فالشيطان حينما يعجز عن استخدام حيلة «المناسبة» يبدأ بحيلة «المباغتة».

وهو يستخدم في ذلك كافة الحواس لتثير عقلك إثارة مفاجئة، إما باستخدام الصور أو المناظر أو الأصوات أو الرائحة أو اللمس أو الذوق أو القراءة أو الأخبار أو الأفكار المفاجئة أو الغضب؛ حيث هنا يكون تأثير الحواس على العقل شديداً وسريعاً ، لأن مراكز الحواس كلها متجمعة في المخ. ففي لحظة وجيزة تستطيع الحواس أن توقظ التفكير وتشعل العقل بالغريزة. وهنا يضع الشيطان أصبعه لينحرف بالغريزة لتعمل تحت تأثيرات شريرة يبثها العقل . كل هذا يتممه العدو في لحظة قصيرة، حتى لا يعطي للإنسان فرصة زمنية للتفكير أو المقاومة. والشيطان ينجح في إثارة الإنسان لإرتكاب أبشع الخطايا وأفظعها للضمير أو للذوق الإنساني أو للرحمة باستخدامه عنصر المفاجأة والمباغتة، فكثيرون ممن اقترفوا القتل أو السرقة أو الزنا أو الكذب كان عنصر المفاجأة الذي استخدمه الشيطان معهم هو  و السبب المباشر الذي أوقعهم صرعى تحت سطوته. 

ثالثاً : عنصر المراودة :

إذا لم ينجح الشيطان في استخدام عنصر المناسبة أو عنصر المفاجأة، يلجأ إلى عنصر المراودة. فهو يبتدىء يراود الإنسان من نحو الفكرة الشريرة سواء كانت للبغضة أو العداوة أو الإنتقام أو الكذب أو السرقة أو الزنا أو القتل، وذلك بأن يذكره بخطايا شبيهة يكون قد اقترفها سابقاً أو تكون هي نفس الخطايا إنما بصورة مصغرة، و بذلك يصور له سهولتها أو ضرورتها أو لذتها ويحاصره باستمرار حتى يجعله يعيش عقلياً في جو هذه الخطيئة فترة طويلة حتى يعتادها ، ثم شيئاً فشيئاً يجعله يتصور أنه اقترفها فعلاً. وهنا يزيد الضغط على العقل إلى أن يتوافق مع الفكرة الشريرة. وفي اللحظة التي تتم فيها هذه الموافقة المشئومة يدخل العقل تحت سلطة الشيطان وحينئذ يملي عليه الشيطان الخطية، ويمده بقوة شريرة للتنفيذ، حتى يباشر الإنسان الخطيئة وكأنه فاقد لكل إرادة ووعي وسلطان!

هذه المناورات يضعها الشيطان بخطط وجرأة أحياناً تفوق قدرة الإنسان على الرؤيا والكشف والإحتمال . ولكن الله بالمرصاد داخل المعركة، يتدخل في اللحظة الخطرة : «سمعان سمعان هوذا الشيطان طلبكم لكي يغر بلكم كالحنطة ، ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك» (لو 22: 31 و32).

رابعاً : عنصر التضليل : الفخاخ :

«ويجب أيضاً أن تكون له شهادة حسنة من الذين هم من خارج لئلا يسقط في تعيير وفخ إبليس» (1تى 3: 7 ) . «… فيستفيقوا من فخ إبليس إذ قد اقتنصهم لإرادته » (2تی 2: 26).

ليست الشرور تظهر دائماً شروراً. فالعدو له قدرة على تزييف الشر وإلباسه صورة الخير والحق، إذ له قدرة على تغيير شكله إلى شبه ملاك نور ليبشر بالصلاح الكاذب والبر الكاذب.

بهذا العنصر بالذات أصبحت الحرب مع العدو خطرة بالرغم من تفاهتها، لأن الفخاخ التي ينصبها يعطيها طبيعة الحق والصدق ويستخدم فيها رجالاً لهم صورة التقوى وشكل البر : «ولا عجب لأن الشيطان نفسه يغير شكله إلى شبه ملاك نور، فليس عظيماً إن كان خدامه أيضاً يغيرون شكلهم كخدام للبر» (2كو 11: 14 و15).

ولكن الذين لهم روح الله لا يهابون خداع الشيطان ومكره وحيله وفخاخه، لأن كل أعماله يكشفها الروح القدس لهم في الحال: «لأننا لا نجهل أفكاره» (2كو 2: 11).

والعدو يلجأ إلى تضليل الفكر بوسائل كثيرة ، إما باصطناع مقدمة من الأفكار الصالحة والحث على الأعمال التي تبدو مقدسة، كما يقول بولس الرسول : « ولا عجب لأن الشيطان نفسه يغير شكله إلى شبه ملاك نور فليس عظيماً إن كان خدامه أيضاً يغيرون شكلهم كخدام للبر» (2كو 11: 14 و15) ؛ ثم يبث فيه حرارة مصطنعة وغيرة مصطنعة ليقوم بأعمال لا تناسبه أو تفوق طاقته ، و بعد ذلك يتخلى عنه فيسقط الإنسان من المستوى العالي الذي يكون قد بلغه ، وحينئذ يصاب بألم ويأس، أو يبث في الفكر معرفة مزيفة لها صورة الحق ولكنها تحوي إيماناً فاسداً ويجعل الإنسان يتحمس لها و يناضل ويقاوم . وأخيراً ينكشف الأمر فيجد الإنسان أنه قد وقع في ضلالة : « ولكني أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها هكذا تُفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح» (2كو 11: 3).

أو قد يوحي إلى العقل بمعرفة الأمور المستقبلة فيثق الإنسان في نفسه أنه قد بلغ إلى النبوة، فيبتدىء يتنبأ عن الأمور ويتعظم في نفسه، وبذلك يستولى الشيطان على الإنسان و يقوده في طرق غريبة و يورطه في مأزق، وأخيراً يتخلى عنه فيصير الإنسان هزأة عند نفسه والناس: «لأجل هذا سيرسل إليهم الله عمل الضلال حق يصدقوا الكذب لكي يدان جميع الذين لم يصدقوا الحق بل سُرُّوا بالإثم» (2تس 2: 11 و 12).

أو قد يلقي على العقل ظلمة كثيفة من جهة كلمة الله : « فحينما يسمعون يأتى الشيطان للوقت وينزع الكلمة المزروعة في قلوبهم » (مر4: 15). فلا يجد الإنسان أي مسرة أو عزاء في كلام الإنجيل، فيبتعد عن قراءته أولاً، ثم يكره الإستماع إليه، ثم يهمله ويحتقره: «ولكن إن كان إنجيلنا مكتوماً فإنما هو مكتوم في الهالكين الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح» (2كو 4: 3 و 4).

هكذا يمكن للشيطان أن يضلل المؤمنين . لذلك يحث بولس الرسول تلميذه تيموثاوس أن يؤدب المقاومين بالوداعة ليتوبوا ويستفيقوا من فخ إبليس: «مؤدباً بالوداعة المقاومين عسى أن يعطيهم الله توبة لمعرفة الحق، فيستفيقوا من فخ إبليس إذ قد اقتنصهم لإرادته» (2تی 2: 26).

خامساً: عنصر التخويف:

«عندما يأتى العدو كنهر فنفخة الرب تدفعه» (إش 59: 19).
«إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمساً من يبتلعه هو» (1بط 5: 8).

يلجأ العدو في بعض الحالات إلى التأثير على العقل والإيحاء للنفس بأن الإنسان لن يستطيع الصمود أمامه ولا محالة من السقوط، وبذلك يجرد الإنسان من شجاعته وإرادته وحينئذ يُسقطه ؛ في حين أن الشيطان لا سلطان له على الإنسان إطلاقاً إلا إذا قبل الإنسان مشورته بحرية إرادته : «اصحوا واسهروا لأن إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمساً من يبتلعه هو» (1بط 5: 8) . وبهذه الوسيلة يتسيطر الشيطان على إرادة الإنسان بدون وجه حق، و يوجهه كيفما يشاء ؛ مع أن المسيح أعطى الناس، حتى وأضعف إنسان السلطان على كل قوة العدو. فإن كان الشيطان كالأسد بالنسبة للإنسان الضعيف، إلا أنه أسد مهشم الأسنان مقصوص الأظافر فاقد حرية الحركة، فهو لا يملك إلا الإسم والشكل والزئير فقط، لذلك فهو أضعف من أية مقاومة إيجابية: «قاوموا إبليس فيهرب منكم» (يع 4: 7).

طبيعة سلاح الله الكامل

«أخيراً يا إخوتى تقووا في الرب وفي شدة قوته ، البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس، فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم ، بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات من أجل ذلك احملوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن ن تقاوموا في اليوم الشرير و بعد أن تتمموا كل شيء أن تثبتوا . فاثبتوا ممنطقين أحقاءكم بالحق ولابسين درع البر، وحاذين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام حاملين فوق الكل ترس الإيمان الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة. وخذوا خوذة الخلاص وسيف الروح الذي هو كلمة الله . مصلين بكل صلاة وطلبة كل وقت في الروح وساهر ين لهذا بعينه بكل مواظبة وطلبة لأجل جميع القديسين. ولأجلي لكي يعطى لي كلام عند افتتاح في لأعلم جهاراً بسر الإنجيل» (أف 6: 10-19).

لاحظنا أن الطرق الشيطانية التي يستخدمها العدو في جذب الإنسان للخطيئة تقوم كلها على عامل أساسي مشترك هو الخداع أو الغش الذي هو الصفة السائدة للشيطان التي كشفها المسيح لنا : «كذَّاب وأبو الكذاب» (يو 8: 44). وعلى أساس هذه الصفة الخطيرة التي تسلح بها العدو ضدنا اهتم المسيح جداً لكي يسلحنا ضد العدو بسلاح الله الكامل. أما هذا السلاح الإلهي الكامل أو المتكامل فهو على أجزاء أو قطع قسمها بولس الرسول كالآتى :

أولاً : الحق

«تعرفون الحق والحق يحرركم» (يو 8: 32). «فالحق» هو أول وأهم جزء من أجزاء هذا السلاح كما ذكره بولس الرسول : «اثبتوا ممنطقين أحقاءكم بالحق» ، فالإنسان الذي يُخضع كل كفاءاته ومواهبه وقدراته للحق ، فيمسك به فوق كل شيء، يستطيع أن يدخل حرب العدو باطمئنان لأنه لن ينخدع .

ثانياً : البر

وهو الجزء الذي يلي الحق. فمعرفة الحق تنشيء حتماً سلوكاً بالبر، ونحن لو فحصنا كل طرق العدو وحيله ومكايده نجدها تهدف في البداية نحو هدف واحد فقط هو: إسقاط الإنسان في الخطيئة. لأنه يعلم أن ذلك كفيل بتعطيل عمل ملكوت الله ، كما يعلم أن بمجرد وقوع الإنسان في الخطيئة يصير : رتحت سلطانه. لذلك نجد أن الجزء الثاني أو القطعة الثانية من سلاح الله الكامل هي « البر» الذي هو : السلوك بلا لوم أمام الله والناس والتحفظ من أي خطيئة. وقد أعطاه بولس الرسول صفة «الدرع»، وهو الغطاء الذي يحمله المحارب لكي يقي الصدر والقلب. وهذا ينطبق جداً على قول الكتاب : «فوق كل تحفظ إحفظ قلبك» (أم 4: 23).

ثالثاً : البشارة

يلاحظ أن طرق العدو كلها لا تخرج عن كونها محاولات شديدة لعرقلة استعلان ملكوت الله ، لأنه يعلم أن اليوم الذي يكتمل فيه استعلان ملكوت الله سيكون هو اليوم الذي سيلاقي فـيـه دينونته الرهيبة وهلاكه الأبدي . لذلك أصبحت خدمة البشارة هي الوسيلة الفعالة التي يتم بها سحق قوة الشيطان قليلاً قليلاً، ويتم بها هتك مملكة الظلمة التي سقط فيها كل الذين أعمتهم طرقه الملتوية وضلالاته وأمجاده الكاذبة: «أنا الآن أرسلك إليهم لتفتح عيونهم كي يرجعوا من ظلمات إلى نور ومن سلطان الشيطان إلى الله » (أع 26: 18). لذلك تبرز أهمية القطعة الثالثة من السلاح الكامل، اللازمة لمواجهة هذه النية الخبيثة حتى لا يتعطل انتشار الملكوت واستعلانه «حاذين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام»، أي الإستعداد المتواصل للبشارة في كل حين وفي كل مكان «وإله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعاً» (رو 6: 20). وما معنى هذا؟ معناه أنه بواسطة المسير والكرازة تضمحل قوة الشيطان شيئاً فشيئاً تحت أرجل الكارزين والمبشرين !

رابعاً : الإيمان

بالفحص نجد أن كافة طرق العدو لا يوجد فيها وسيلة واحدة ثابتة أو مضمونة ، فهي مجرد محاولات يتحسس بها الشيطان منافذ الإنسان لعله يجد مدخلاً إليه . لذلك وصفها بولس الرسول على أنها سهام متقدة ناراً يقذفها العدو من الخارج لعله يصيب بها الإنسان من أي ناحية.

لذلك نجد بولس الرسول يحدد القطعة الرابعة من السلاح بـ «ترس الإيمان» الذي يجعله المحارب فوق كل جسمه ليقي به نفسه من كافة الجهات. وهذا يعني أن يجعل الإنسان إيمانه بالله كلياً وعاماً، مستعداً أن يواجه به أي ضيقة أو محنة أو خسارة… وتكون ثقته في الله لا نهائية «قاوموه راسخين في الإيمان » ( 1بط  5: 6) .

خامساً : بهجة الخلاص

ثم نلاحظ أن كل طرق العدو يحاول بها جميعاً النفاذ إلى مقتل نهائي للإنسان عبر الخطيئة المتكررة، وذلك بأن يوقعه في «اليأس»، حينما يخيم على عقل الخاطىء بظلمة قائمة لعرقلة قيام الإنسان من سقطته ويحجب عنه نور الرجاء الذي في المسيح، ويضغط نفسه بالحزن المفسد حتى لا تتسرب إليه أي مسرة روحية، حتى لا ينتعش وينتفض أو يقوم.

لذلك اجتهد بولس الرسول أن يجعل القطعة الخامسة من سلاح الله الكامل هي «الخلاص» ، وشبهه بالخوذة التي توضع على الرأس، وهذا التشبيه دقيق لأن الخلاص كما وصفه إشعياء النبي هو بهجة وفرح وسرور وإكليل الإنسان الذي يكلل رأسه : «ومفـديـو الرب يرجعون و يأتون إلى صهيون بالترنم ، وعلى رؤوسهم فرح أبدي ، ابتهاج وفرح يدركانهم» (إش 51: 11).

وكما أن المحارب يستحيل أن يغشى المعركة ورأسه عارية بدون خوذة، كذلك المسيحي يستحيل عليه مواجهة العدو دون أن يكون قد كلل رأسه بإكليل الخلاص وهجته .

سادساً : كلمة الله

ثم نلاحظ أن العدو يستخدم الفروق والمناسبات الدقيقة بين الحق والباطل، والحق وشبه الحق لتزييف طريق الملكوت وتزييف نوع الجهاد اللازم وكميته ووقته ، الأمر الذي يحتاج إلى دراية وانتباه شديدين لوصايا المسيح وأقواله. لذلك نجد بولس الرسول يجعل القطعة السادسة من سلاح الله الكامل «كلمة الله» التي شبهها بالسيف فأسماه «سـيـف الـروح» الذي يستطيع أن يصرع العدو عند أول مهاجمة، لأن كلمة الله نفاذة كالنور أو كالسيف أو كالحق، تفضح الكذب وتكشف أقل درجة من الغش والخداع، الأمور التي يبثها العدو في طريق الإنسان وفي منهج تفكيره لتضليله.

سابعاً : الصلاة

ثم نعلم تماماً أن العدو يستخدم ضعف طبيعتنا و ينفذ إلى قلبنا وفكرنا، سواء أثناء تـوانـيـنـا وإهمالنا الصلاة أو عندما نشعر بعدم كفاءتنا في الجهاد أو الخدمة أو في الوعظ ؛ فيجعلنا نضعف أمام المقاومة أو التجربة أو التهديد حتى نلقى السلاح ونترك طريق الملكوت بلا حراسة.

لذلك يبرز لنا بولس الرسول القطعة السابعة والأخيرة من سلاح الله الكامل وهي «الصلاة»، الصلاة كسهر وصراخ لطلب المعونة الشخصية أو لطلب مؤازرة الآخرين : مصلين بكل صلاة وطلبة كل وقت في الروح وساهرين لهذا بعينه بكل مواظبة وطلبة لأجل جميع القديسين، ولأجلي لكي يعطى لي كلام عند افتتاح في لأعلم جهاراً بسر الإنجيل» (أف 6: 18 و 19) . فإذا تذكرنا وصية المسيح حينما قال : «صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة» و «اسهروا وصلوا » ، علمنا علم اليقين أن الصلاة فعلاً. هي الجزء الأعظم والأخير من سلاح الله الكامل ، فالصلاة بمواظبة وسهر تربط كل أنواع الجهادات الأخرى وتجعلها قادرة أن تعمل معاً ضد العدو. فإذا اكتمل سلاح الله بالصلاة فحينئذ لا يمكن أن يقوى العدو أو يصمد أمام الإنسان : معرفة الحق، بشارة الإنجيل، إيمان، بهجة خلاص، كلمة الله، وأخيراً صلاة وسهر.

والمتيقن لدينا بالبرهان الأكيد أنه يستحيل أن يدخل الشيطان في حرب مع إنسان يطلب ويجاهد من أجل ملكوت الله إلا و يكون الله مع هذا الإنسان، وعيناه تكونان عليه باستمرار حيث يتدخل في اللحظة الحرجة بقواته غير المنظورة لإنقاذ الإنسان .

«لم تصبكم تجربة إلا بشرية ( أي في حدود قدرة البشر). ولكن الله أمين الذي لا يدعـكـم تجـربـون فـوق ما تستطيعون ، بل سيجعل مع التجربة أيضاً المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا» (1کو 10: 13).

صراع ملكوت الله في الحاضر

كتب القمص متى المسكين

أعوان المسيح وجنوده المخلصون

كتاب ملكوت الله
المكتبة المسيحية

 

زر الذهاب إلى الأعلى