كتاب ملكوت الله – القمص متى المسكين

أعوان المسيح وجنوده المخلصون

رؤساء الملائكة والملائكة القديسون

الملائكة والكنيسة والليتورجيا[1] الواحدة

أرواح مخلوقة للخدمة: الملائكة عنصر أساسي في مملكة الله. وهي أرواح سماوية مخلوقة. وكانت خلقتهم قبل خلقة الإنسان عموماً ، حسب سفر التكوين، الذي يعلمنا أن السماء وكل جندها خُلقت قبل الأرض وما عليها (تك 2: 1 ،4 ) . وهذه الجنود السماوية مخلوقة لأنواع خدم متعددة : أولها تسبيح الله تسبيحاً لا ينقطع، بأصوات لا تهدأ، بلغت بعض مقاطعها مسامع الإنسان نفسه ، فتعلمها ، وجعلها قراراً دائماً متكرراً لكل تسابيحه أمام الله : «قدوس قدوس قدوس» (إش 6: 3)، «المجد لله في الأعالي» (لو 2: 14) !! وكذلك فبعضهم معين لخدمة بني البشر العتيدين أن يرثوا الخلاص، المدعوين ليكونوا بني ملكوت ربنا (عب 1: 14).

عبيد معنا: لذلك ما أسعدنا نحن بني البشر بعشرة هؤلاء الملائكة القديسين، فهم الذين علمونا الأصول الأولى للتسبيح الله ، أي أصل الليتورجيا بمعناها الجوهري كخدمة إلهية علنية وسرية بآن واحد. وهم الذين يؤازروننا كل يوم، بل كل لحظة ، بطرق كثيرة ومنوعة ، لندرك معهم ميراثنا وعملنا في ملكوت الله . لذلك فهم محسوبون كإخوة لنا فخررت أمام رجليه لأسجد له، فقال لي أنظر لا تـفـعـل أنـا عبد معك» (رؤ 19: 10)، وكأصدقاء، ثم كأعوان، وجنود حفظ مخلصين «ملاك الله حال حول خائفيه وينجيهم» (مز34: 7)، يشقون أمامنا طريق الخلاص، بكل جبرؤوت وسلطان، ضد الشيطان وجنوده، ويجاهدون معنا مقابل كل العثرات والتجارب التي تفوق طاقتنا . فالملائكة أعوان خلاص ونصرة، ومصدر قوة وتعزية لنا، لا كمجرد خُدام للملكوت، الذي افتتحه المسيح لحسابنا وحسب، بل وشركاء فيه. فهم محسوبون عنصراً إيجابياً وأساسياً معنا ، في قيام واستعلان ملكوت الله ومجده: «لأنكم لم تأتوا إلى جبل ملموس مضطرم بالنار وإلى ضباب وظلام وزوبعة وهتاف بوق وصوت كلمات استعفى الذين سمعوه من أن تُزاد لهم كلمة لأنهم لم يحتملوا ما أمر به، وإن مست الجبل بهيمة، ترجم أو تُرمى بسهم. وكان المنظر هكذا مخيفاً حتى قال موسى: أنا مرتعب ومرتعد؛ بل قد أتيتم إلى جبل صهيون وإلى مدينة الله الحي ، أورشليم السماوية، وإلى ربوات هم محفل الملائكة، وكنيسة أبكار مكتوبين في السموات، وإلى الله ديان الجميع، وإلى أرواح أبرار مكملين، وإلى وسيط العهد الجديد يسوع، وإلى دم رش يتكلم أفضل من هابیل» (عب 12: 18-24 ) .

ينزلون ويصعدون: وخدمة الملائكة لنا ومشاركتهم معنا في استعلان وقيام ملكوت الله أمر لازم جداً وأساسي لا يمكن أن نستغني عنه، لأن الكنيسة مدعوة أن تنتقل كل يوم من الأرض إلى السماء، من أورشليم الحاضرة ، المدينة الأرضية المستعبدة، مع بنيها ، إلى أورشليم العليا الحرة، التي هي أمنا جميعاً ، مدينة الملائكة وأرواح الأبرار.

 فالملائكة رسل الطريق السمائي الحي الذي كرسه لنا المسيح بجسده، الذي يتحتم أن نعبر به تحت إرشادهم، حتى نبلغ إلى السماء فإن كان السلم الذي رآه يعقوب (تك 28: 12) يشير إلى جسد المسيح الذي نصبه الله بين الأرض والسماء ليرفعنا إليه بواسطته، فالملائكة الذين رآهم يعقوب وهم ينزلون و يصعدون عليه هم بالحقيقة المرشدون ، بوصفهم مواطنين سمائيين، استطاعوا أولاً أن ينزلوا إلينا، بسبب اتضاع المسيح ونزوله إلينا ؛ ثم هم يستطيعون أن يرتفعوا بنا إلى فوق ، بسبب قيامة المسيح وصعوده ، و بسبب مجد المسيح الذي فينا : « وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني» (يو 17: 22). وهم مكلفون دائماً وفي كل لحظة أن ينزلوا إلينا و يصعدوا بنا ، لينقلونا ، شيئاً فشيئاً، من حياة حسب الجسد إلى حياة حسب الروح، ليرفعوا عقولنا ومشاعرنا وعبادتنا من ملكوت هذا الدهر الزائل المتغير والمتزعزع إلى ملكوت الله الحي الذي لن يتزعزع، ومن سيرة حسب تقليد واستحسان الناس إلى سيرة ملائكية سماوية، حسب مسرة الروح، ومشيئة الله.

وهكذا أصبحت خدمة الملائكة في الكنيسة الحاضرة عنصراً فعالاً ونموذجياً، لأن الإنسان مدعو أن يكون في صورته الملكوتية التي خُلق بها، ليعيش في النهاية بمقتضاها، على نمط ملائكي.

يسلموننا منذ الآن أسرار خدمة العرس السمائي:

إذن، فالسيرة الملائكية أمل حي لنا ، نتطلع إليها منذ الآن ونرجوها، بل ونعيشها من خلال سر المسيح !! فإن كان الجسد الإلهي يفتح، بل قد فتح، طبيعتنا على طبيعة المسيح، فالملائكة نموذج حي لما يمكن أن تكون عليه سيرتنا منذ الآن، كخدام تسبيح وتمجيد في ملكوت ربنا، ونحن نجاهد بمعونتهم أن نصير مثلهم. فالكنيسة حينما تقدم خدمة ليتورجيتها الآن الله، فهي في الحقيقة تدخل سراً في خدمة الليتورجية الأصيلة التي ترفعها الملائكة في السماء، وتشترك فيها، بسبب حضور الملائكة مع المسيح، أثناء تقديم الذبيحة أو التسبيح . فالملائكة هم عنصر مشترك في كل ليتورجية تقدم الله هنا وهناك بآن واحد، ولا يمكن أن تقوم ليتورجية بدونهم، فهم خدام رسميون وأصليون للعرس السماوي والصورة التي رسمها لنا بولس الرسول في سفر العبرانيين، تنطق بهذه الحقيقة، حينما يكشف عن مركز الملائكة في مدينة الله الحي: أورشليم السماوية، وكيف يكونون فيها محفلاً خاصاً : “ربوات هم محفل ملائكة”. وكذلك يؤكد أيضاً يوحنا الرسول على مدى سفر الرؤيا، مركز الملائكة القيادي في التسبيح والخدمة وتكميل مقاصد الله تجاه الكنيسة، إلى أن تبلغ ملء وضعها السمائي.

الكنيسة تتحول إلى طقس ملائكي:

حينما بدأت الخدمة الإلهية في الهيكل قديماً على أيدي الكهنة واللاويين، من تسبيح، وإنشاد، وتقديم ذبائح و بخور وصلوات، كانت هذه في الواقع أول صورة مجسمة تمثل خدمة الملائكة أمام العرش السمائي غير المنظور، ولكن تطورت هذه الصورة، وذلك بتجسد ابن الله ، وظهور الملائكة فعلاً وقت ميلاده «كأشابين» ، وفي تجربته « كخدام»، وفي صليبه كحُفاظ على الجسد»؛ إلى أن استعلنت الكنيسة كجسم إلهي، حي، منظور، يتحرك و ينطق وينمو بالروح القدس، في أشخاص القديسين، حيث تكاملت فيها الخدمة الملائكية على واقع بشري، بتقديم الذبيحة السرية غير الدموية، المستمدة من الجسد السمائي مع التسابيح والشكر. كل هذا حقق الخدمة الملائكية حول الحضرة الإلهية، على واقع حي مجسم على الأرض.

فالكنيسة الآن ، هي استعلان الحقيقة السماء من حضرة إلهية وخدمة ملائكية، إنما على مستوى إنساني في تواضع الرؤيا الملموسة، حيث يتراءى الناس كمواطنين سماويين بشبه الملائكة حقاً وعملاً ، حتى أن منهم من آثر أن يتخذ الطقس الملائكي بالفعل، بكونهم لا يزوجون ولا يتزوجون (مت 30:22)، ليتفرغوا تماماً للشكر والتسبيح بغير فتور!

فالكنيسة، الآن، بسبب دخولها ضمن مجال الله ، بذبيحة المسيح، تداخلت بالتالي في مجال الملائكة، وكما أخذت صورة الإلهي، أخذت صورة الملائكي… حيث الذبيحة والأسرار والتسبيح الروحي، مركز تحول وانتقال وتجلي، مما هو أرضي، إلى ما هو سمائي، ومما هو مادي، إلى ما هو روحاني وملائكي .صرف. ألسنا نحن الآن ومن داخل الكنيسة محسوبين مواطنين سماويين، أبناء لأورشليم العليا ، أمنا الحرة (غل 4: 26)؟

إفخارستيا واحدة: وبواسطة المسيح المتجسد في طبيعتنا ، والعائش معنا، وفي وسطنا، انتقلت إلينا الخدمة الملائكية، تداخلنا فيها وتداخلت فينا ، لأننا كلينا – الكنيسة وطغمة الملائكة أصبحنا خدام حضرة إلهية، إلى الدرجة التي فيها يتراءى كل من الفريقين، أي الملائكة والكنيسة، وحدة متكاملة للخدمة، يكمل كل منها خدمة الآخر أمام العرش، بصورة غير قابلة للتجزئة قط، كما يوضحها سفر الرؤيا . فالكنيسة الروحانية يمثلها في السماء الأربعة والعشرون قسيساً، الذين يحيطون بعرش الخروف، و يتبادلون مع الملائكة نفس كلمات الخدمة والتسبيح . ومن الأمور الهامة والملفتة للنظر ، جداً، أن كلمة «الشكر» وكلمة «البركة » ، اللتين يسبح بهما كل من الملائكة والأربعة والعشرون قسيساً بقولهم : لك المجد والكرامة (والشكر)» هي هي كلمة «الإفخارستيا» في الأصل اليوناني، بمعنى أن الكنيسة ليست وحدها التي تقدم الإفخارستيا ، أي ذبيحة الشكر والتسبيح، بسبب الخلاص الذي حصلت عليه؛ بل والملائكة أيضاً باعتبارهم خدام هذا الخلاص أيضاً. 

مخلصون وخُدَّام خلاص: ولكن نقف هنا لحظة مدهوشين أمام منظر هؤلاء الأربعة والعشرين قسيساً، ممثلي الكنيسة الروحانية الخادمة في السماء، إذ بينما نجد الملائكة واقفين يغطون وجوههم أمام العرش، نجد الكهنة جالسين على عروش من حول العرش الأعظم، وفي أيديهم مجامر مملوءة ببخور الصلوات، ولابسين أكاليل على رؤوسهم . فهم ، إذن، كهنة وملوك معاً ، أي كهنوت ملوكي. وهنا يتم بالعمل و بالفعل قول الكتاب : « وأما أنتم فجنس مختار وكهنوت ملوكي، أمة مقدسة وشعب اقتناء» (1بط 2: 9). وهنا نلحظ الفارق الكبير بين رتبة المخلصين (الكنيسة)، ورتبة خادمي الخلاص (الملائكة). ولكن في لحظة يتساوى الجميع أمام مجد المسيح الجالس على العرش، حينما يقوم الكهنة من على كراسيهم، عندما يتراءى المسيح في الوسط، ويخلعون أكاليلهم، ويطرحونها عند رجلي المسيح، ويخرون و يسجدون بكل خشية وتعظيم وصراخ، مع الشكر.

فإن كان الخلاص الذي أكمله لنا المسيح، بجسده ودمه فينا ، يرفع رتبتنا فوق الملائكة، فمجد المسيح، عندما يظهر، فإنه يساوي بين كل الخليقة في الإتضاع والخدمة والتسبيح !! «مستحق أنت أيها الرب أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة لأنك أنت خلقت كل شيء» (رؤ 4: 11).

اهتمام زائد بخلاصنا : وفي موضع آخر، يكشف لنا الكتاب المقدس كيف أن الملائكة تبدو أشد اهتماماً وقلقاً على خلاصنا وعلى عهد الله الجديد معنا، وكأنها مسئولة عن ذلك الخلاص !! وذلك حينما يقف ملاك ، يصفه الكتاب بأنه «قوي»، ليعلن تحديه لكل الخلائق الروحانية والملائكة حتى الشياطين، أن يتقدم من يستطيع أن يفك ختم قضاء الله، الذي صار ضد الإنسان، بسبب عصيانه الله ، و يفتح كتاب عهد الله الجديد معنا ( رؤ 5). وهذا كله جعل يوحنا الرسول يبكي، عندما صمتت الخليقة الروحانية كلها خازية وخجلانة :
– ورأيت على يمين الجالس على العرش سفراً مكتوباً من داخل ومن وراء مختوماً بسبعة ختوم. ورأيت ملاكاً قوياً ينادي بصوت عظيم : من هو مستحق أن يفتح السفر و يفك ختومه . فلم يستطع أحد في السماء ولا على الأرض ولا تحت الأرض أن يفتح السفر، ولا أن ينظر إليه . فصرت أنا أبكي كثيراً لأنه لم يوجد أحد مستحقاً أن يفتح السفر و يقرأه ولا أن ينظر إليه» (رؤ 5: 1-4). 

فرح الملائكة بخلاصنا : ولكن حينما استُعلن في السماء اكتمال عمل المسيح، الأسد الخارج من سبط يهوذا الغالب على الصليب، وكيف ذبح من أجل خلاص العالم، ودحر الشيطان، ومزّق صك خطايانا على الصليب، صار تهليل وفرح في السماء، متساو بين الكهنة، ممثلي الكنيسة الروحانية ، وبين طغمة الملائكة :
– ورأيت فإذا في وسط العرش والحيوانات الأربعة وفي وسط الشيوخ خروف قائم كأنه مذبوح له سبعة قرون وسبع أعين هي سبعة أرواح الله المرسلة إلى كل الأرض. فأتى وأخذ السفر من يمين الجالس على العرش. ولما أخذ السفر خرت الأربعة الحيوانات والأربعة والعشرون شيخاً أمام الخروف ولهم كل واحد قيثارات وجامات من ذهب مملوة بخوراً، أ، هي صلوات القديسين وهم يترنمون ترنيمة جديدة قائلين : مستحق أنت أن تأخذ السفر وتفتح ختومه لأنك ذُبحت واشتريتنا الله بدمك من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة ، وجعلتنا لإلهنا ملوكاً وكهنة فسنملك على الأرض» (رؤ 5: 6-10).

وكأنما الملائكة أصحاب مصلحة عظمى من وراء خلاصنا ، أو كأن خلاصنا هو هو مسرتهم ومنتهى رجاء خدمتهم !! ونظرت وسمعت صوت ملائكة كثير ين حول العرش والحيوانات والشيوخ، وكان عددهم ربوات ربوات وألوف ألوف قائلين بصوت عظيم : مستحق هو الخروف أن يأخذ القدرة والغنى والحكمة والقوة والكرامة والمجد والبركة » ( وهي نفس كلمة الشكر الإفخارستيا)» (رؤ 5: 11-12).

ونلاحظ هنا أن هذه الترنيمة الخالدة التي تقدَّم للمسيح من الملائكة والشيوخ معاً ، كأنشودة دائمة إلى الأبد، هي تعبير عن الفرح والإعتراف بالجميل للمسيح، الخروف المذبوح من أجل خلاص الإنسان وفداء الخليقة كلها. وفيها ينكشف بكل وضوح نجاح مهمة الملائكة الذين وضع عليهم أدوار ومهام ومسئوليات سرية لا عدد لها، منذ البدء، لتكميل خلاص الإنسان، حتى أنهم بعد أن تحقق نجاحهم بانتصار المسيح؛ حق لهم ، كأعضاء رسميين دائمين في ملكوت المسيح، أن يشكروا و يسبحوا للمسيح، الذي أكمل سعيهم ورجاءهم.

و يلذ لنا هنا ونحن بصدد الحديث عن فرح الملائكة بنصرة المسيح، الوديع، الخروف المذبوح، والفادي، أن نلمح عن الملاك الساقط ، الذي يصفه سفر الرؤيا دائماً بالوحش المفترس والمدمر والمؤذي، الذي طالما حارب وقاوم أخوته الملائكة، وعظل أعمالهم وخدماتهم ، وطالما أغـوى آخرين منهم وأسقطهم . فهنا ينحاز الملائكة القديسون إلى المسيح القائم في الطبيعة البشرية ، و يفرحون بغلبته ضد أخيهم الذي من بني جنسهم ، عدوهم الساقط من رتبة القداسة ….

أنظمة وخوارس: ومن روائع ليتورجيا التسبيح الملائكي أمام العرش السمائي، التدرج المبدع في نظام الخوارس ودرجاتها. فإذا دققنا في الأصحاحين الرابع والخامس من سفر الرؤيا، حيث تبتدىء الليتورجيا السمائية وتنتهي، نجد أن المنظر ينكشف عن حالة تسبحة دائمة، كأساس لليتورجيا ، لا نعرف مبدأها، وهي التي يقدمها الأحياء القديسون الأربعة، وهم المعتبرون أعلى درجات الملائكة حاملي العرش. وقد عرفنا أحد مقاطعها القائل: «قدوس قدوس قدوس الرب الإله القادر على كل شيء الذي كان والكائن والذي يأتى» (رؤ 4: 8) ، وهي تسبحة العرش التي تفيد أبدية الله وأزليته ، وتكشف سر مجيئه في شخص المسيح . ثم يليها تسبحة الكنيسة الروحانية المالكة في ملكوت المسيح، منذ الأزل، حسب قصد الله ومشيئته، والممثلة في القسوس الأربعة والعشرين المتوجين، والجالسين على عروشهم ، و يقدمون بخور صلوات القديسين ، وقد عرفنا مقطعين من تسبحتهم الخالدة : المقطع الأول : «أنت مستحق أيها الرب أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة، لأنك أنت خلقت كل شيء، وهي بإرادتك كائنة» ( رؤ4: 11). والمقطع الثاني : حينما يترنمون ترنيمة جديدة قائلين : مستحق أنت أن تأخذ السفر وتفتح ختومه ، لأنك ذُبحت واشتريتنا الله بدمك من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة، وجعلتنا لإلهنا ملوكاً وكهنة، فسنملك على الأرض» (رؤ 5: 9، 10).

ثم يليها منظر عجيب، حيث ينضم خورس الأحياء الأربعة العظام، مع خورس جميع صفوف الملائكة القديسين، مع خورس الأربعة والعشرين قسيساً، وتتحد أصوات الجميع في تسبحة واحدة مشتركة بصوت عظيم، عرفنا منها المقطع القائل: «مستحق هو الخروف المذبوح أن يأخذ القدرة والغنى والحكمة والقوة والكرامة والمجد والبركة » (رؤ 5: 12).

و يلي ذلك منظر أخير مدهش، حيث تنضم جميع الخوارس السابقة مع باقي الخليقة كلها، سواء التي في السماء، أو التي على الأرض، أو التي تحت الأرض (كـنـايـة عن الخليقة المائتة المحبوسة في الهاوية)، أو التي على البحر ، مع كل ما فيها جميعاً، حيث ينشد الجميع بلا استثناء تسبحة واحدة، كما من فم ،واحد أمام الخالق والفادي معاً، عرفنا منها المقطع القائل : للجالس على العرش وللخروف البركة والكرامة والمجد والسلطان إلى أبد الآبدين» (رؤ 5: 13).

بعد وحينما تكمل التسبحة، يختمها الأحياء الأربعة العظام، حاملو العرش بكلمة : «آمين»، وكأنهم يعطونها ختم التصديق، ليكون لها الكفاءة والقدرة، لتدخل إلى حضرة القدير. والعجيب أنه كلمة «آمين» ، نجد القسوس يخرون و يسجدون أمام الجالس على العرش والخروف. وهنا تظهر الكنيسة الروحانية كمسئولة عن ختام الليتورجيا السمائية، باعتبارها ـ أي الكنيسة – منتهى قصد الله في الخليقة … وهي تعبر بدلاً من «آمين» التي ينشدها الملائكة بأفواههم، بالسجود الذي تقدمه جسدياً: «وكانت الحيوانات الأربعة تقول آمين والشيوخ الأربعة والعشرون خروا وسجدوا للحي إلى أبد الآبدين» (رؤ 5: 14). وهنا يظهر مرة أخرى التوافق البديع في ملكوت الله بين الملائكة والكنيسة معاً، كخدام ليتورجيا واحدة !!

الكنيسة تكمل عمل الملائكة: وبهذه المناسبة حينما نعود إلى الواقع العملي الآن، نجد أن صلاة “أبانا” تشير إلى هذه الحقيقة عينها ، حينما نقول : « ليتقدس إسمك… كما في السماء كذلك على الأرض»، حيث “كما في السماء” تشير إلى ليتورجية تسبيحة الملائكة الدائمة في السماء: «قدوس قدوس قدوس» ، بغير سكوت ؛ أما كلمة « كذلك على الأرض» فتفيد مسئولية الكنيسة في تسبيح وتقديس إسم الله على الأرض، في القداس، وفي صلوات النهار والليل على التوالي، لتكتمل وتستمر الليتورجيا الواحدة في السماء والأرض معاً من أفواه الملائكة و بني البشر القديسين، والأتقياء جميعاً.

ليتورجيا صفاء قلبي: فإذا حاولنا المقارنة بين طقس الليتورجيا الملائكية في السماء، مع زميلتها في الكنيسة على الأرض ، من حيث تسبيح وتقديس إسم الله ، نجد أن تسبحة الملائكة هي في ذروة الإنسجام، بسبب الألفة والخضوع والطاعة العظمى التي تربطهم برئاساتهم . فقد قيل عنها أنها كما من فم واحد ، وذلك بالرغم من تعدد الخوارس والرتب وعظم الأعداد التي تقدر بالملايين ( ربوات ربوات = ۱۰۰۰۰ × ۱۰۰۰۰).

كذلك فإن الليتورجيا الملائكية تخلو تماماً من آلات ضبط النغم (الدف)، لأن الأصوات الملائكية صافية غاية الصفاء، كما جاء في قداس القديس يعقوب « بأصوات صافية»، حيث الصفاء هنا لا يفيد الجمال والحلاوة، بل الوضوح والشفافية، التي تظهر الخشوع والتقوى الخالصة. ولذلك فإنه كلما كانت الخوارس التي في داخل الكنيسة تربطها الألفة والخضوع والطاعة ، وكان أفرادها المرتلون متقدمين في الوضوح الروحي والشفافية الروحية، التي تظهر من وراء الألحان خشوعهم وتقواهم ؛ كلما انعدمت الحاجة إلى آلات ضبط النغم ، أو بعبارة أخرى كلما اقترب طقس المرتلين في الكنيسة من الحياة الملائكية، كلما انسجمت أصواتهم وانعدمت الحاجة إلى الضوابط الملازمة لضبط النغم.

ومعروف بكل يقين أن الكنيسة الأولى كانت تحرم استخدام الآلات الموسيقية في التسبيح والصلاة، مع أن العبادة اليهودية في الهيكل التي استقت منها الكنيسة الأولى ترتیب صلواتها والكثير من مقاطع تسابيحها ، كانت كل أصناف الآلات الموسيقية تكون جزءاً أساسياً هاماً فيها ؛ وهذا بسبب أن الكنيسة المسيحية الأولى كانت تعتمد في تسبيحها على الإنسجام والإلهام الروحي والألفة العظمى التي كانت تربط المؤمنين، فكانت هذه الألفة الروحانية توحد أصواتهم ، وتعطيها الهارموني الإعجازي بشبه الملائكة .

وهذا يكشف لنا عن سر خطير، فالكنيسة الأولى أعطت أورشليم الأرضية ظهرها بهيكلها وألحانها وموسيقاها، وانطلقت تعيش منذ الآن في أورشليم العليا، أورشليم الملائكة وأرواح الأبرار المكملين بالمجد حيث تتحد أصوات الكنيسة بأصواتهم كل حين، في كل صلاة، فتتصفى وتنسجم . أو بعبارة أخرى نستطيع أن نقول ، إن الكنيسة تستمد من الملائكة انسجام ألحانها وصفائها، وليس من آلات والخدمة في الكنيسة ينبغي أن تكون صورة من خدمة الملائكة.

  1.  «ليتورجيا »  كلمة يونانية كنسية طقسية شائعة في الأسلوب الديني. وأصل تكوين الكلمة من مقطعين: «لاؤس» أي شعب، «إرجون» أي عمل. وتاريخ استعمال الكلمة في اللغة اليونانية قديم جداً من قبل المسيحية، فقد استخدمت للتعبير عن عمل شعبي عام، وليس بالضرورة أن يكون دينياً . ولكن بعد ترجمة التوراة إلى اللغة اليونانية في الترجمة السبعينية، دخلت الكلمة في محدود معنوي خاص لازمها بعد ذلك، وهو للتعبير عن خدمات الهيكل. وفي العصر الكنسي بدأ المعنى يتحدد أكثر في اتجاهين: المعنى الأول: ويشمل الخدمات الكنسية التي يشترك فيها الشعب، وبالأخص صلوات السواعي والتسابيح والمعنى الثاني: ويشمل خدمة الإفخارستيا باعتبارها مركز كافة أنواع خدمات العبادة العامة.
    ولكن الذي يهمنا من تحليل هذه الكلمة « ليتورجيا » هو وجود كلمة «لاؤس» في صميم تركيبها أي «الشعب» . فــ «الخدمة الإلهية»، حسب طبيعة الكلمة وطبيعة فهمنا لها، هي عمل شعبي بالدرجة الأولى. أما الإكليروس فهو المتقدم والقائد يحمل صوت الشعب إلى الله ويحمل سر الله وكلمته إلى الشعب.

كيف أبطل المسيح قوة الشيطان

كتب القمص متى المسكين

ملكوت الله وملكوت الناس في مواجهة

كتاب ملكوت الله
المكتبة المسيحية

 

زر الذهاب إلى الأعلى