كتاب حياة الصلاة الأرثوذكسية - القمص متى المسكين

الإيمان و المثابرة

+ «ينبغي أن يُصلَّى كل حين ولا يُمل.» ( لو 18: 1)
+ «كل ما تطلبونه في الصلاة مؤمنين تنالونه.» (مت 21: 22)
+ «بدون إيمان لا يمكن إرضاؤه لأنه يجب أن الذي يأتي إلى الله يؤمن بأنه موجود وأنه يجازي الذين يطلبونه.» (عب 11: 6) 
+ « لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية.»
(عب 12: 4)

أهم رباط يربطنا بالله هو الإيمان : «بدون إيمان لا يمكن إرضاؤه . لأنه يجب أن الذي يأتى إلى الله يؤمن بأنه موجود وأنه يجازي الذين يطلبونه.» (عب 11: 6)

والإيمان يعتبر أعظم موهبة منحت للبشر، لأن به نحصل على الخلاص من عبودية الخطية والموت: «من آمن واعتمد خلص ومن لم يؤمن يُدَنْ.» (مر 16: 16)

والذي يؤمن يستطيع أن يعمل كل شيء؛ ليس في الأشياء المستطاعة لدى البشر فقط بل وفي الأشياء غير المستطاعة أيضاً : «… تقولون هذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل ولا يكون شيء غير ممكن لديكم» (مت 17: 20) ، «لأن كل شيء مستطاع للمؤمن» ( مر 9: 23) . وقد أعطى الرب يسوع ، تبارك اسمه ، سلطاناً للذين يؤمنون به أن يعملوا أعماله التي عملها ويعملوا أكثر منها : « الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فالأعمال التي أعملها يعملها هو أيضاً و يعمل أعظم منها.» (يو 14: 12)

وما هو الإيمان ؟

الإيمان ليس هو شعوراً أو إحساساً أو عاطفة.
وليس هو دعوة مبهمة عمياء نحو أشياء غامضة.
وليس هو إرغام النفس للشعور بوجود الله والأشياء غير المنظورة.
وليس هو احتيالاً على العقل للإقتناع بالخلاص والتبرير والفداء.
وليس هو انفعالاً داخلياً مصطنعاً لإراحة النفس من جهة ما هو غير مدرك بالحواس.

كذلك ليس هو كبتاً ومصادمةً للشكوك التي تحوم حول المواضيع التي لا يقبلها العقل المادي بسهولة.

وليس الإيمان شيئاً شخصياً يحتفظ به الإنسان لنفسه ، و يتعذر أن يتشارك الجميع في دقائقه وهو أيضاً ليس رأيك الخاص. وليس هو اقتناعاً عقلياً وليد التحليل والقياس والمقارنة . كذلك ليس هو ثمرة البراهين العلمية:

(أ) الإيمان هو تصديق العقل للحقائق الإيمانية في قبول ورضى . و يلزم للعقل في البدء أن يتقبل هذه الحقائق ويسلم ذاته للإيمان بغير مقاومة أو فحص، مقدماً كل قواه التصويرية والفكرية ، وأن يتخلى راضياً عن كل قياس ومقارنة.

فإذا أعلن العقل هذا الخضوع وقدَّم التسليم الكامل لكل حقائق الله والإيمان، ففي هذه الطاعة المحبوبة يتقدم الروح القدس و يكشف للعقل كل ما يتعلق بهذه الحقائق الإيمانية : «الروح القدس … يعلمكم كل شيء » (يو 14: 26) ، «حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب» ( لو 24: 45) . فيقود العقل في نور المعرفة الروحانية الجديدة حتى يوصله إلى الحق ذاته أي الله : « ألم أقل لكِ إن آمنت ترین مجد الله .» (يو 11: 40)

«طوبى لك يا سمعان بن يونا إن لحماً ودماً لم يُعلن لك، لكن أبي الذي في السموات . » (مت 16: 17)

وبعد أن يقبل العقل هذه الحقائق الإيمانية بكل خضوع وتسليم و يستنير بالمعرفة الروحانية؛ يرى أن كل قواه التصويرية والفكرية وكل فحص وقياس ومقارنة، إنما تزيد هذه الحقائق وضوحاً وثباتاً بل ويجد أن هذه الحقائق الإيمانية قد أفاضت على عقله اتساعاً ونمواً وتجديداً.

أما الذي يدعونا أن نخضع ونسلم للحقائق الإيمانية، فهو أنها أمور أوحي بها من الله . ولا أحد غير الله بمستطيع أن يعلنها و يكشفها ويوضحها لنا . فلا المنطق ولا الفلسفة ولا التعليل الطبيعي ولا أي شيء مما تدركه الحواس جميعاً يستطيع أن يجعلنا ندرك هذه الأشياء في ذاتها، لأنها ليست من هذا العالم !!!

(ب) فالإيمان بالله هو قبول معرفته على أساس الحقائق التي أعلنها هو عن ذاته بنفس كلماته واصطلاحاته.

إذ أن الله لما عرف عجز العقل البشري وقصوره المطلق عن إدراك شيء من حقائق الله من تلقاء ذاته، أعلن هو ذاته لنا وكشف عن كل ما يختص بنفسه بالنسبة لنا. حتى إذا ما قبلنا هذه الحقائق، قبلناه هو وآمنا به : «إن أحبني أحد يحفظ كلامي» (يو 14: 23). فإذا آمنا به وحفظنا وصاياه فحينئذ هو سوف يكمل عجز إيماننا بإظهار ذاته لنا : «الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني والذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأظهر له ذاتى.» (يو 14: 21)

(جـ) ومعرفتنا بالله ستظل ناقصة إلى أن نعرفه كما هو في ذاته.

أما هذا فأعلنه الله لنا نحن بروحه لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله» ( 1کو 2: 10)، «أنا معكم زماناً هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس ؟ الذي رآني فقد رأى الآب . فكيف تقول أنت أرنا الآب؟» (يو 14: 9)

وما سؤال فيلبس هذا إلا هاتف يبحث عن كمال الإيمان، وهذا ما يجول في قلب كل واحد منا ! وقد أجاب المسيح تلاميذه: «أنا في الآب والآب في» (يو 14: 10) ، فكيف يكون لنا نحن أن نرى المسيح حتى نعرفه فنعرف الآب أيضاً؟ قد أجاب المسيح عن هذا السؤال : «لست أسأل من أجل هؤلاء فقط (أي تلاميذه) بل أيضاً من أجل الذين يؤمنون بي بكلامهم ليكون الجميع واحداً كما أنك أنت أيها الآب في وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا.» (يو 17: 20 و 21)

(د) إذن، فالإيمان الحي هو إدراك الله في ذاته وفينا بالروح القدس.

(هـ) والإيمان والثقة بمواعيده هو الإيمان به.

وللإيمان ثلاثة أعداء : الإستناد على المعرفة الطبيعية؛ والخوف؛ والشك:

أولاً: الإستناد على المعرفة الطبيعية : يمنع عمل الإيمان و يستبعد تصديق فاعليته . فالمعروف في الطبيعة أن الإنسان لا يستطيع أن يسير على الماء أو ينقل الجبال أو ينتهر الرياح والأمواج أو يقيم الموتى . أما الإيمان فلا يقيم للطبيعة وقوانينها وزناً ، فهو يستطيع أن يعمل كل هذا وأكثر. لذلك إن تمسك الإنسان بمعرفته الطبيعية وقياساته المنطقية تعطل إيمانه : «قال يسوع ارفعوا الحجر. قالت له مرثا يا سيد قد أنتن لأن له أربعة أيام. قال لها يسوع ألم أقل لكِ إن آمنت ترين مجد الله ! » (يو 11: 39 و 40)

وهكذا المعرفة الطبيعية تنشىء خوفاً، والخوف لا يدع مجالاً للإيمان . فواضح أن الحيات والعقارب مؤذية للغاية، فمجرد رؤيتها يثير في النفس الفزع والخوف، إلا أن الإيمان يراها مخلوقات مباركة من قبل الرب فلا يجد في منظرها ما يدعو إلى الخوف : «ها أنا أعطيكم سلطاناً لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شيء» (لو 10: 19) . العلم يثبت أن السم مميت لكن الإيمان لا يعرف أن الموت في السم : «يحملون حيات وإن شربوا شيئاً مميتاً لا يضرهم» ( مر 16: 18). وهكذا نرى أن المعرفة تحد من عمل الإيمان وتقف حائلاً دون تتميم عمله.

ثانياً: الخوف وهو دليل على التمسك بالنفس والعطف على الذات، فهو مظهر من مظاهر حب الذات، لذلك فهو يقف ضد الإيمان و يضعفه ويحرم الإنسان من ثمراته . لأن الإيمان في ذاته هو خروج عن الذات وإنكار للنفس بدافع محبتنا الله والناس، والمؤمن الحقيقي هو الذي سلّم نفسه وجسده الله ، وهو لا يخشى شيئاً قط ، مُلقياً كل ثقته على مواعيد الله الصادقة: «من آمن بي ولومات فسيحيا» (يو 11: 25). هكذا قدم ابراهيم ابنه : «إذ حسب أن الله قادر على الإقامة من الأموات» (عب 11: 19) ؛ كذلك تقدم الفتية الثلاثة إلى أتون النار غير خائفين، واثقين أن الله يحفظهم من لهيبها : «يا نبوخذ نصر لا يلزمنا أن نجيبك عن هذا الأمر، هوذا يوجد إلهنا الذي نعبده يستطيع أن ينجينا من أتون النار المتقدة وأن ينقذنا من يدك أيها الملك.» ( دا 3: 16 و 17 ) 

ودانيال أيضاً لما ألقوه في جب الأسود وثق بالهه : «فأصعد دانيال من الجب ولم يوجد به ضرر لأنه آمن بإلهه.» ( دا 6: 23)

فلكي ندرك خطورة الخوف وضرره على حياتنا الروحية، يجب أن نتأمل هذه الآية : «وأما الخائفون وغير المؤمنين والرجسون والقاتلون والزناة والسحرة وعبدة الأوثان وجميع الكذبة فنصيبهم في البحيرة المتقدة بنار وكبريت الذي هو الموت الثاني. » (رؤ 21: 8)

ربما تعجب أن الخائفين وضعوا في رأس هذه القائمة المشئومة، ولكن سبب ذلك أن الخوف هو الذي يُسقطنا في جميع هذه الخطايا.

ثالثاً : الشك : ربما يتراءى لك أن الشك هو درجة بسيطة من درجات الخوف، إلا أن العكس هو الصحيح. فالخوف مظهر من مظاهر عجز المعرفة. وأما الشك فهو خطية موجهة ضد الله مباشرةً ؛ فهو عدم تصديق وعود الله ! والشك هو الذي يولد الخوف. لأن الشك هو ابتداء ضعف الثقة بالله وأما الخوف فهو الإبتعاد التام عن الله ؛ فبطرس الرسول لما رأى الريح شديدة قدر بمعرفته أنه لا يستطيع أن يكمل المسير فخاف وابتدأ يغرق. والسر الأساسي في عجز إيمان بطرس هو أنه شك في أمر الرب وهذا ما كشفه له السيد الرب بوضوح: «يا سيد إن كنت أنت هو فمُرْني أن أتى إليك على الماء . فقال : تعال . فنزل بطرس من السفينة ومشى على الماء ليأتى إلى يسوع ، ولما رأى الريح شديدة خاف ، وإذ ابتدأ يغرق صرخ قائلاً : يا رب نجني . ففي الحال مد يسوع يده وأمسك به وقال له يا قليل الإيمان لماذا شككت؟» (مت 14: 28 – 31). لذلك أوضح يعقوب الرسول أن أي شك أو ارتياب يعتري سؤالنا وطلبتنا فإنه يكون سبباً لحرماننا من نوال أي ثمرة لجهادنا:
– «ولكن ليطلب بإيمان غير مرتاب البتّة ؛ لأن المرتاب يشبه موجاً من البحر تخبطه الريح وتدفعه، فلا يظن ذلك الإنسان أنه ينال شيئاً من عند الرب.» (يع 1: 6 و7)

-« لأني الحق أقول لكم إنَّ مَنْ قال لهذا الجبل انتقل وانطرح في البحر ولا يشك في قلبه بل يؤمن أن ما يقوله يكون، فمهما قال يكون له. لذلك أقول لكم كل ما تطلبونه حينما تصلون فآمنوا أن تنالوه فيكون لكم.» (مر 11: 23و 24)

والمثابرة على الصلاة والعبادة هي إحدى علامات فاعلية الإيمان. فإذا كان الإيمان هو دعامة الحياة الروحية، فالمثابرة هي الحجارة التي يشاد بها البناء جميعاً.

ولكي ندرك قيمة روح المثابرة في الصلاة علينا أن نلقي نظرة إلى روح اليأس.

فاليأس هو حماقة الكبرياء وغلظة الرقبة. وليس أدل على ذلك من أن الإنسان اليائس يفضل شقاء الجحيم الأبدي وهو يتبع مشورة نفسه وكبر ياءه وعناده، على أن يخضع الله ويتقبل من يديه حلو هذه الحياة ومُرَّها لينال منه إكليل الحياة الأبدية.

وهكذا تظهر روح المثابرة كعلامة اتضاع وتسليم والإنسان المثابر على الصلاة والعبادة لا يشعر في نفسه أنه كفؤ لشيء أو أن نفسه تكون محسوبة عنده ، فهو يثابر في خضوع وطاعة لأنه لا يستطيع أن يتوقف عن المثابرة والخضوع. فعلى ماذا يعتمد ونفسه ضعيفة غير محسوبة في عينيه ؟ «فقال يسوع للاثني عشر ألعلكم أنتم أيضاً تريدون أن تمضوا ؟ فأجابه سمعان بطرس : يا رب إلى من نذهب ؟ كلام الحياة الأبدية عندك ! » (يو 6: 67و 68)

روح المثابرة منشأه اقتناع داخلي بأن الحياة طريق واحد فقط يؤدي إلى الملكوت، فالمثابرة على السير هي الطريقة الوحيدة إلى الوصول وهي الطريقة الوحيدة أيضاً للتغلب على الصعاب.

أما التوقف في الطريق لأية علة كانت فإنه دليل على الوقوع في فخ الشيطان: «فسيروا ما دام لكم النور لئلا يدرككم الظلام » ( يو 12: 35) ، أي طالما أنتم تسيرون فالنور معكم وهو يقودكم ، فإذا توقفتم فإن الظلام – أي العدو- يدرككم في الحال.

أما الرجوع عن هذا الطريق فهو دليل خيبة النفس وفشلها ووقوعها في كبريائها المميتة وارتضائها بالهلاك: «ليس أحد يضع يده على المحراث و ينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله.» (لو 9: 62)

والعجيب أن استراحة السائرين في طريق العبادة والصلاة هي في مضاعفة السير والجهاد ! ! !

وكلمة «الإيمان » تُستخدم أرثوذكسياً في معنيين محددين : الأول : موضوعي محض ، ويخص حقيقة الإيمان ومنطوقه كما يشرحه الإنجيل، وتسجله قوانين الكنيسة حرفياً ، وتشرحه منطقياً في تعبيرات واصطلاحات ثابتة ومستقرة، بحكم المجامع ورأي أئمة اللاهوتيين.

وفي هذا المعنى الموضوعي للإيمان لا يمكن أن تلتحم الحقيقة الإلهية مع العقل والمنطق إلا بتدخل النعمة.

الثاني: شخصي محض، ويخص قدرة القلب على الإنفعال المباشر لله شخصياً، إنما بمقتضى الحقائق الإيمانية.

وفي هذا المعنى الشخصي للإيمان يخضع الإنسان بكل قلبه ، أي بكل كيانه، الله وبالتالي لكل وصاياه عن حب وطاعة وليس عن طريق العقل والمنطق، على أن يدخل العقل والمنطق كخادم للحب والطاعة وليس كمحرك أو متسلط : « الإيمان العامل بالمحبة . » (غل 5: 6)

ومن هذين التعريفين للإيمان يتبين :
أن الإيمان الموضوعي يحتاج إلى فكر وعقل ومنطق ودراسة واقتناع حتى يبلغ الإنسان درجة التشبع التي لا يمكن أن تبلغ درجة التصديق إلا بالنعمة.

أما الإيمان الشخصي فهو يحتاج إلى حب وطاعة ودالة شخصية كأساس حتمي حتى يبلغ بها الإنسان إلى صلة بالله عميقة، قوامها الأمانة والثقة المطلقة في الله نفسه في كل الأمور والأحوال والظروف يكون من نتيجتها الإعتماد الكلي عليه والإستسلام المطلق لمشيئته مهما اصطدم هذا الإيمان أو هذه الأمانة بالواقع أو المنطق أو العقل.

لذلك فالكنيسة الأرثوذكسية تتمسك بأن الإيمان بكلا معنييه الموضوعي والشخصي هو «هبة» ونعمة، لأن الموضوع فيه يختص بالتجسد والقيامة، وهذان عملان فائقان على الطبيعة. كما أن متطلباته الشخصية تلتزم بأعمال تفوق القوانين الطبيعية ، فالذي يؤمن بالله حقاً يتحتم عليه أن لا يشتهي شيئاً ولا يخاف شيئاً، وهذان عملان فائقان أيضاً على القوانين الطبيعية: «بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً.» (يو 15: 5) 

على أن الذي يجعل الإيمان فضيلة أيضاً ، فوق أنه هبة، هو احتياجه الأساسي إلى إرادة الإنسان. فالإنسان لا يمكن أن يقبل الإيمان إلا إذا أراد أن يؤمن ! ولكن ليس المطلوب في الإيمان مجرد إرادة بل إرادة مذعنة، إرادة موافقة منذ اللحظة الأولى حتى يمكن أن ينفتح العقل لحقائق تفوق المعقول. فالإرادة المذعنة الموافقة تجعل العقل ينفتح لقبول شيء جديد عليه، والعقل المفتوح المستعد يصبح وعاء يصلح الإنسكاب النعمة مع الحق الإلهي جنباً إلى جنب ، حينئذ يصبح غير المعقول معقولاً والفائق للطبيعة مقبولاً للطبيعة !! 

لذلك يقول القديس أوغسطينوس :[ إن الإيمان تفكير يلازمه الإذعان.]

وهذه الإرادة المذعنة الموافقة هي العنصر الأساسي الذي يجعل الإيمان عملاً تُجازَى عليه . وهكذا فالإيمان هو ـ بآن واحد – هبة وفضيلة . أي أنه عمل نعمةٍ وعمل بشري معاً. فالإنسان بإرادته يستجيب لإيحاء النعمة ،وإلحاحها، والنعمة من فضلها تستجيب لنشاط الإنسان ومبادرته !! وهذا المعنى يتصالح في ذهننا مبدأ الإيمان والعمل عند كل من بولس الرسول و يعقوب الرسول .

 

ومن هذا يتضح لنا أن إرادة الإنسان حرة أن تستجيب فتؤمن، وحرة أن لا تستجيب ولا تؤمن . لذلك يقول بولس الرسول أن « الإيمان ليس للجميع.» (2تس 3: 2)

ومن هنا أصبحت إرادة الإنسان شيئاً جوهرياً في الإيمان، وهي بحد ذاتها عمل، فبالإيمان يتبرر الإنسان ! لذلك نجد المسيح يشدد أحياناً على توفر عنصر الإرادة بمفرده كمدخل للإيمان حتى يُحسب أهلاً لإستجابة الله ، كما في حادثة المخلع بسؤاله له : « أتريد أن تبرأ » ؟ … كما أننا نجد المسيح في مواضع أخرى يشدد على عنصر الإيمان في الإرادة، وذلك نجده في صراخ الأعمى وراءه وفي الأعميين اللذين تبعاه طلباً للشفاء، حيث عنصر الإرادة متوفر جداً ؛ ولكن نجد المسيح بالرغم من ذلك يستفسر عن عنصر الإيمان في هذه الإرادة: «أتؤمنان أني أقدر أن أفعل هذا؟» (مت 9: 28)

وفي هذين المثلين نجد أن الإرادة أدت إلى الإيمان والإيمـان حـقـق المعجزة. لذلك نستطيع أن نقول إن الإيمان هو إرادة التصديق يلتحم بها في الحال فعل النعمة فتوتى المعجزة، وأقوى معجزات الإيمان هي التسليم المطلق لله الذي من خلاله يدخل الإنسان بالفعل في شركة الحياة الأبدية معه.

 هذا بخصوص الإيمان بالله في صورته العامة، ولكن إذا أدخلنا عنصر الفداء والإيمان بالفادي شخصياً، نجد أن الإيمان يتجه في الحال اتجاهاً جديداً نحو المحبة، لأن الإيمان بالفداء يعني إيماناً بالمحبة الأبوية المتجهة من الله نحونا مجاناً وبإصرار وبتضحية باهظة . هذه المحبة الفادية حينما تستقر في القلب بإحساس واقعي تجعل الإيمان بالله يتحرك حركة انفعالية وجدانية جارفة تتغلغل في صميم حياة الإنسان فتبعث فيها نبضات التكريس والبذل وتقديم النفس كلها الله . فالفداء الذي أكمله الله لنا بدم ابنه أصبح بمثابة لهيب قاس قاهر لبرودة الإنسان، يرفع درجة حرارة الإيمان إلى أقصى ذروتها حتى يكاد الإنسان يشتهي أن ينذبح حباً الله

فبعد أن كان الإيمان يمثل مجرد تصالح بين إرادة الله وإرادة الإنسان، يصبح في مجال الفداء قادراً بالحب الدموي أن يوحد بين الإرادتين !!

أما أثر ذلك بالنسبة لوصايا الله ونواميسه الأخلاقية، فبعد أن كانت الوصايا والنواميس في ظل متطلبات الإيمان ( بدون الفداء) تمثل باستمرار التعارض بين إرادة الله وإرادة الإنسان أصبحت هذه الوصايا والنواميس في مجال «الإيمان العامل بالمحبة » ـ أي في مجال الفداء – هي بعينها «روح وحياة»، إذ لم تعد مكتوبة بالحرف كَصَاً ضد الإنسان، بل صارت مكتوبة بالروح القدس على صفحات القلب المحب كمسحة قوة للحياة والتجديد . وهكذا تصبح الوصية التي كانت للموت هي نفسها قوة حياة داخلية للإنسان الذي آمن بالمسيح !! و بعد أ أن كان تنفيذ نير الوصية حسب حرفها المكتوب أمراً عسيراً بل ومستحيلاً كقول بطرس الرسول : «لم يستطع آباؤنا ولا نحن أن نحمله» (أع 15: 10) ، أصبح بالنعمة أمراً ممكناً بل ومحبوباً جداً وسهلاً للغاية بسبب الإيمان الفعال بسر محبة المسيح !! 

إسمع ما يقوله في ذلك القديس مكاريوس الكبير :

613- إن من صميم الدين المسيحي أن يذوق الإنسان نعمة الله ، هذه المذاقة هي من عمل الروح القدس كتفضّل منه ، ولكن في نفس الوقت هي من جرى تأثير ثقة الإيمان التامة الفاعلة في القلب. 
لأن كل الذين هم بنو النور وخدام العهد الجديد بالروح القدس لا يتعلمون شيئاً من البشر لأن تعليمهم يكون من الله ، لأن النعمة ذاتها تكتب في قلوبهم نواميس الروح، فلذلك لا يجب أن يتكلوا على الكتب فقط ، لأن نعمة الله تكتب سُنن ونواميس الروح والأسرار السماوية على صحيفة القلب أيضاً، فيتسلط القلب ويملك على حركات الجسد ويسمو عليها، وإذا امتلكت النعمة مراعي القلب في أيديها أصبحت مطلقة في تدبيرها الجميع ! الأعضاء والأفكار.

(العظة ١٥ )

وهكذا نرى أن الإيمان، بدخول عنصر ا الفداء فيه ، تحول إلى محبة متبادلة مع الله . فالإنسان لم يعد مطالباً بالإيمان بالله من طرف واحد ، كثفل يحمله تحت نير وصايا صعبة خشية العقاب والموت، بل صار مُنعَماً عليه بالإيمان بالمسيح بموهبة المحبة المتبادلة مع الله التي فيها يصير محبوباً الله الآب مجاناً : الآب نفسه يحبكم لأنكم قد أحببتموني وآمنتم أني من عند الله خرجت.» (يو 16: 27) 

و بسبب محبة الله المنسكبة في قلوبنا بالروح القدس أصبح للإيمان قدرات جديدة فائقة للطبيعة ومدهشة، لأن الإنسان لم يعد هو الإنسان القديم بل صار شيئاً آخر متحداً بقوة إلهية في كل كيانه.

 إسمع ما يقوله القديس مكاريوس الكبير : 

614- لذلك إن كان أحد يحب الله فالله أيضاً يصب محبته فيه ، فإذا اؤتمن الإنسان على محبة الله يزيده الله من الإيمان فيصير إنساناً آخر، حتى أن كل ما تقدمه (تكرسه ) الله من أعضائك يخلط هو به شيئاً مثله من خاصته، وبذلك تستطيع أن تتمم أعمالك بنقاوة و يكمل حبك له وتصلي إليه.

(العظة ١٥ )

أما بخصوص قيمة الإيمان في اللاهوت النسكي أي في الحياة الروحية عموماً بما فيها الصلاة؛ فإننا في تتلمذنا على القديسين لم نجد في الحقيقة من وفّى هذه العلاقة حقها مثل القديس مار إسحق أسقف نينوى، ولكن بسبب استفاضة هذا القديس العظيم في موضوع الإيمان الذي يسميه الأمانة، ولغزارة مادته اضطررنا أيها القارىء العزيز أن نلخص لك جميع مبادئه التي وردت ضمن أقواله، ووضعناها في كلمات مختصرة. لعلها تصيب اهتمامك وتزيد من إيمانك: 

مختصر مبادىء القديس مار إسحق في موضوع الإيمان والمثابرة : 

615- تحقيق الإيمان بالله ليس هو في صحة الإعتراف، وإن كان هذا يُعتبر أساس الأمانة بالله.

بل إنما يتحقق الإيمان بالله و يظهر بالفعل كقوة داخل النفس عند تداخل الإنسان في السيرة الروحانية بما يتفق مع وصايا المسيح التي نور النفس وضياؤها. 

616- الأمانة في الله هي أجنحة الصلاة.

617– الإهمال والكسل يخيبان الإنسان من معونة الله وبالتالي يزعزعان أمانة الإنسان بالله .

618 – كل شيء مستطاع للإيمان، إذا كان نظر الإنسان يتثبت في الله وليس في الأمور.

619- إن كنت تثق بسياسة الله وتدبيره وتؤمن أنه يضبط جميع أ أمورك فلا تستعمل التحايل البشري.

620- شكر الأمانة بالله ، وإحساس الإنسان بقوة الله الفائقة ، يشفي ضعف حواس الإنسان، و يعطي شجاعة للنفس تطأ بها حاجز المرئيات لترى ما بعده.

621- الأمانة بالله تشجع العقل .

622ـ من التجارب نقتني المعونة ، ومن المعونة الإلهية نقتني الأمانة بالله.

623- الأمانة بالله تتبع البساطة.

624ـ الرجوع عن طريق الأمانة، بعد سلوكها وتذوق أسرارها ، خطر لأنه يُفقد الإنسان قوة الأمانة ويُعدمه المعرفة.

625 ـ الأمانة بالله تفتح السبيل أمام الإنسان لتذوقه مؤازرة الله ومعونته في التجارب ؛ وتهب الإنسان جراءة أن يطأ المصاعب مقتفياً وراء المعونة الإلهية خفيةً ؛ وشيئاً فشيئاً يقتنع الإنسان أنه ليس كفواً أن يدبر نفسه بالمعرفة.

626ـ في الصلاة عندما يبلغ الإنسان درجة الأمانة بالله لا يعود يصلي بطلبات لأنه ينظر العناية الإلهية بعين الإيمان وهي تظلل عليه ، فلا يعود الإنسان يهتم بتدبير نفسه. ويحس الإنسان بمعاضدة الله بصورة لا يمكن أن يصدقها الناس.

627ـ الأمانة بالله هي فكر واحد بسيط لا يتغير ولا يضعف بعيد عن كل تصنع أو حيلة أو مكر أو تفتيش أو فحص أو شك.

628- لذلك فالأمانة بالله هي ضد سُنَن المعرفة البشرية، وهي أحياناً كثيرة تبطلها وتسخر منها . لأن المعرفة البشرية خارجاً عن الفحص والتفتيش والرؤية والشك لا تعمل، تحفظ حدود الطبيعة وتلتزم بقوانينها في سائر طرقها وتحترس من أذيتها وتخشاها . أما الأمانة بالله، فهي فوق الطبع تجعل أشكالها ومسلكها، وبسلطة تستعمل كل شيء، تسلك ضد الطبيعة وفوق حدودها، تسير على الماء والنار وتطأ الحية والأفعوان وتسحق الأسد والتنين، وإن شربت سُمّاً مميتاً لا يضرها شيء. 

629- فالأمانة بالله تزعزع أبواب المعرفة وتنقض طرقها القديمة.

630- المعرفة البشرية تظهر دائماً فقيرة محتاجة، تعتمد على الحيلة لتحفظ مقتناها.

أما الأمانة فكنوزها لا تنضب ، والذي يتبعها يسند قلبه حتى ولو لم يكن يملك شيئاً ، فهو بالإيمان يصلي فينال كل شيء. فالذي له الأمانة لا يهتم بشيء لأنه يتكل على الله ، ولا يعرف التحايل لأنه لا يقتني ، وهو لا يقتني لأنه لا يخاف.

المعرفة البشرية تمدح الخوف والإحتراس، وتقف عاطلة أمام العوارض الصعبة التي تفوق المعرفة.

والأمانة بالله تقول إنه : «لما خاف بدأ يغرق» ! والله يقول: «لا تخف منهم لئلا أكسرك قدامهم»!

631- المعرفة البشرية تمدح السير بالحذر والفحص والقياس قبل البدء بالعمل لئلا يبطل العمل.

والأمانة تقول : «كل شيء مستطاع لدى الله » و « أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني». 

632- يا لغنى الأمانة و يا لفيض قوتها، ما أكثر عزاءها وما أحلى السير معها وما أسهل نيرها ! 

633- الذي استحق مذاقة الإيمان ثم عاد ورجع إلى طريق الحيل والمعرفة البشرية يشبه من قايض جوهرة بفلس نحاس.

634- نحن لا نزدري بالمعرفة، ولكن بدون الإيمان يظهر لنا نقصها.

والمعرفة غير مرذولة، ولكن الإيمان أعلى منها وأشرف .

والمعرفة جُعلت للإنسان لكي يتدرج بواسطتها ليدخل الإيمان. 

635- ليس قولي الإيمان يعني أن يؤمن الإنسان بالثالوث الأقدس وطبيعته وخواصه أو بتدبير التجسد الإلهي، بل أعني بالإيمان النور الذي من النعمة يشرق في النفس، وبشهادة الضمير يتقوى القلب و يثق بدون انقسام و باقتناع الرجاء الخالي من كل الظنون والأوهام. والإيمان بهذا الوصف لا يمكن الحصول عليه من التقليد أو بسماع الأذن . بل هو قوة الباركليت التي وهبت لتحل على الإنسان في كل وقت وزمان، الذي يشعل كل أجزاء النفس بالإيمان كمثل النار. حتى أن الإنسان يجسر على الأشياء الخطرة بثقة مطلقة في الله

636- الأمانة ، هي أن يثق الإنسان بتدبير الله وبصفته سيداً على الكل، و يؤمن أنه لا يمكن أن تحصل أذية له بدون سماح منه.

637- الأمانة تجعل قلب الإنسان يثق بالله بشجاعة فائقة حتى أن الوحوش تصير في عينيه كالغنم.

638- إن أردت أن تجد طريق الحياة الأبدية، تمسك بالأمانة بالله.

639- إسأل الله لكي يجود عليك بالأمانة به ، لأنه إن أهلك لهذا الإيمان تحس في الحال بقوته و بنعمته في قلبك ، فلا يعود شيء يمنعك عن الدالة والقرب منه.

وأنا أدلك على الطريق : صلّ كل وقت و بلا ملل ولا كسل واطلبها بدموع وحرارة وتضرع واهتمام كثير، إلى أن تحظى بها فلا تعود تشقى بعد ذلك !

وحينما تلقي همك كله على الله وتبدل عنايتك بنفسك بعنايته بك و يرى الله أنك قد استأمنته على أمورك كلها وغصبت نفسك للإتكال عليه وحده ، فإنه يجود عليك في الحال بقوة ما كنت تعرفها ! تجعلك تحس بعنايته بدون شك أو ارتياب في الظروف الصعبة والخطرة ؛ وتمنح حواسك كفاية وقناعة وشجاعة فلا يعود يضعف لها فكرك ؛ وتصبح نظرة النفس للأمور والأشياء مرتفعة عن الحواس ولا تخشى مجاذبتها ؛ وتهب نفسك معرفة جديدة تؤهلك للسيرة الروحانية التي بطفولة الضمير وبساطة القلب. ولكن تظل عادات المعرفة القديمة تطل برأسها بين الحين والحين إلى أن يستأصلها الإنسان باقتناع وشجاعة.

640ـ إن كنت واقعاً في شبكة المعرفة النفسية بحيلها الكثيرة ومقيَّداً بدهائها ومكرها، فيكون أسهل عليك أن تنفك من قيود الحديد من أن تنفك منها ! وتكون دائماً لست بعيداً من فخاخ ومصايد الطغيان على الدوام ؛

ولا يمكن أن تحصل على دالة مع الله ولا ثقة في القلب ؛

ولا تمضي أيامك بدون حزن أو ألم.

فإذا أردت أن تخرج من هذه الشبكة، مزّقها بالبساطة والتجىء إلى العجز والضعف إلى أن تأتى قدام الله وتصبح بلا هم . ولا تسمح لأفكار الخوف أن تلم بك، حتى ولو اجتاحتك كل الأحزان والضواغط وأحدقت بك الأخطار، فلا تفلت زمام الإيمان بالله والثقة به، ولا تخضع لتهديد أو تخويف ولا تحسب للمستقبل حساباً.

فإن كنت قد انتمنت الله ووثقت فيه أنه كفؤ أن يحفظك ويدبر حياتك، امض وراءه واتبع مشورته ولا ترجع تهتم بشيء قط ، عند ذلك تنظر عمل الله معك وكيف يكون خلاصه دائماً قريباً من خائفيه وعنايته محيطة بهم ولو لم يبصروه.

641ـ إذا رفض الإنسان كل معاضدة بشرية منظورة وكل آمال بشرية ولصق نفسه بالإيمان بالله بقلب نقي غير منقسم، فإنه من ساعته تلازمه النعمة وتظهر فيه قوتها بمعونات مختلفة . فأولاً تعلن النعمة عن نفسها في الأمور الظاهرة وفي الأشياء الجسدية لكي بهذه تتحقق النفس منها وتحس في داخلها بمعونتها. وعندما يتأكد الإنسان من عملها في الظاهرات يبدأ يحس بعملها في الخفيات وكيف تعد له حاجة نفسه بدون تعب و بدون عناية منه !

ثم تبدأ ترفع عنه عوارض كثيرة تزيلها من طريقه وتبطل مشورات خطرة كانت محدقة به وهو لم يكن يعلم ولا كان يحسب لها حساباً ؛ فينظر بعينيه كيف كان هلاكه قريباً ومؤكداً لولا عملها واحتراسها الشديد ؛ وتكشف له هواجس أفكاره التي يسوقها عليه العدو ليرعبه وتفضح ضلالتها وتضيء بصيرته.

642- وإن وُجد الإنسان ناقصاً تُدخله النعمة في التجارب بيدها ويحس هو بذلك.

643ـ فإذا بدأ الإهمال يدخل على نفسك و يسرق كنزك تبدأ تحس أنك راجع إلى الوراء والظلام بدأ يحيط بك، وإيمانك يضعف أمام عينيك، وتبدأ تشره وتطمح في الأشياء الظاهرة وثقتك تنقص، وتبدأ تقع بقريبك وتمتلىء ملامة بالفم وبالقلب ضد كل إنسان وعلى كل أمر وعلى كل شيء تلاقيه حتى وعلى الرب نفسه وتبدأ تخاف من مؤذيات الجسد ، وأمراضه تصبح مستثقلة عليك والتي من أجلها يتسلط عليك صغر النفس.

644ـ فإذا استجبت لتأديب النعمة وتقدمت في العمل تبدأ تعود لك دلائل وعلامات الأمانة فتحس بتشجيع الرجاء في كل أمر وتبدأ صلاتك تنجح ، وتصير أفكارك مادة للمنفعة لك على الدوام و يعود لك إحساسك بعجزك فتنحفظ من العظمة وترحم زلل قريبك، وحينئذ تتحقق أن كل العوارض والتأديبات التي صارت عليك كانت كلها بحق وعدل فتبتدى تشكر عليها بكل رضى واعتراف !

645- التمسك بالأمانة لا بد أن يسبقه تعب واجتهاد في طاعة الله وعرق في تكميل وصاياه. فالأمانة بالله يلزم أن يزكيها عمل باستمرار.

والإعتماد على الله لا يصح ولا يجوز، إلا إذا كان يزكيه من الداخل شهادة الضمير، وشهادة الضمير تتولد من تكميل الوصايا.

646 – فرّق بين الأمانة بالله بكلام الفم، وبين الأمانة بالقوة المتحركة من الداخل. 

647- الإنسان الجبان يدل على أنه مرض مرضين : الأول قلة الإيمان، والثاني محبة الجسد. – 

648ـ جسارة القلب والإستهانة بالأهوال تتولد من أحد أمرين : إما قساوة القلب، وإما من كثرة الأمانة بالله . فأما الجسارة المتولدة من قساوة القلب فيتبعها دائماً إعجاب بالذات، وأما الجسارة المتولدة من كثرة الأمانة بالله فيتبعها اتضاع القلب.

649- الأمانة بالله والرجاء والثقة والشجاعة القلبية هي : ثمرة لشهادة الضمير ورضاء النية وثقتها بالله ، كما أنها تتولد من الدالة مع الله. وذلك كله أساسه التدبير الروحي الجيد وخدمة الفضائل.

650ـ لا يستطيع أحد احتمال الضيقات والصبر عليها بدون تذمر، إلا إذا كانت له أمانة في مواعيد الله التي يعتبرها أثمن من جسده وأشرف من صحته وراحته.

فالإنسان يتقوى أولاً بالإيمان وحينئذ يستطيع أن يباشر الأحزان التي تعرض له.

651ـ إذا كنت تريد أن تعيش بمعزل عن العوز، ويكون عندك كل ما تحتاجه، وتهتم بجسدك لكي يكون صحيحاً، وتتسلح لكي لا يلم بك الخوف من الأضداد، ثم تقول أنك سائر نحو المسيح ، فاعلم أنك مريض العقل وعادم الذوق لمحبة الله تعالى.

أقوال الآباء في الإيمان والمثابرة :

652- الإيمان هو جناح الصلاة، وبدونه تعود الصلاة إلى حضن الإنسان ثانيةً. 

الإيمان هو وقفة النفس ثابتة لا تزحزحها عنه أية بلية أو محنة.

ذو الإيمان الحق ليس هو الذي يفتكر أن كل شيء ممكن لدى الله ، بل الذي يرى وجوب قبول كل شيء من الله !

الإيمان يمهد الطريق لنوال ما لم نكن ننتظره أو نرجوه واللص قد أثبت ذلك على الصليب.

الإيمان أبوه العمل وأمه القلب الصادق ، فالأول يبنيه والثاني يجعله لا شك فيه !

الأب يوحنا الدرجي

 653- أهم شيء في الصلاة يجب أن نجاهد من أجله هو أن يكون لنا فيها إيمان حي واضح بالله. نتصوره واقفاً أمامنا وفينا ، نسأله كل ما نريد باسم يسوع المسيح وقوة الروح القدس، نسأله ببساطة بلا أدنى أثر للشك فيصير لنا تتميم الآية : «كل ما تطلبونه في الصلاة مؤمنين تنالونه». وفي لحظة نحظى بأمور عجيبة وكبيرة للغاية بإشارة الصليب وما تفعله من غرائب مدهشة.

الأب يوحنا ك .

654ـ قد تأكد تماماً أن صلاته لن تُستَجاب ! ومن هو هذا البائس ؟ هو الذي يصلي ولا يؤمن أنه سيحصل على جواب.

الأب يوحنا كاسيان

٦٥٥ – إذا كان سؤالك حسب مشيئة الله ومرضاته فلا تكف عن السؤال حتى : تناله. الرب نفسه لكي يلفت نظرنا إلى هذا قال مَثَل الرجل الذي تحصل على الخبز في نصف الليل من صديقه بلجاجته .(لو 11: 5)

باسيليوس الكبير

656 – إسأل الرب بمثابرة وثقة عن كل شيء يعود الخلاصك ولتقدمك في الصلاح والعبادة وأنت لن تخيب من نواله. وفي نفس الوقت اعمل ما يجب وابذل كل قوتك سائلاً الرب أن يكون معيناً لك . أما إذا استسلم الإنسان في أثناء لجاجته إلى شهوات نفسه وعاد إلى تقلبه فالله لن يساعده أو يستمع إليه، لأنه بخطيته ينفّر الله ويصده عن نفسه . 

657- الرب يريدنا أن نتوسل إليه ، و يشاء أن نغصبه و يرغب في أن يُغلب من حدتنا.

غريغوريوس الكبير

658 – إن صلوات الذين يتقدمون بإيمان هي دائماً مسموعة . وذلك إما لأمانة خادم الله الذي يتقدم بالشفاعة لدى الله أو لأمانة المتقدم بالسؤال والطلبة لدى خادم الله . لأن في كلتا الحالتين يكون السؤال بأمانة في اسم الله . فالذين تقدموا إلى الله بشفاعة الرسل نالوا الشفاء، والذين استعملوا عصائب ومناديل الرسل ووثقوا مؤمنين نالوا الشفاء أيضاً.

659 – وحتى إذا لم تأخذ طلبتك كما تود وترغب ، حصلت على المنفعة. لأن عدم نوالك ما تشتهي يفيد غالباً أنك نلت أحسن مما اشتهيت.

الأب يوحنا الدمشقي

660ـ الله يعرف الساعة بالضبط التي إذا ما أعطانا فيها الشيء يكون حينئذ ذا نفع لنا. الطفل يصيح ويحتج ويغضب ليأخذ السكين ! ومحبة الأبوين تأبى إعطاءه إياها . هكذا الرب يعاملنا مثل هذا، فهو يعطينا أحسن مما نطلب.

 661ـ إذا أخذنا ما نطلبه أو لم نأخذه يجب أن نبقى في الصلاة. ليتنا نشكر ليس فقط حينما نأخذ ولكن حينما لا نأخذ أيضاً. لأننا لا نعرف ما هو الصالح لنا بل الله. لذا فيجب أن نعتبر الأخذ وعدم الأخذ نعمة متعادلة ونشكر الله من أجل هذه وتلك.

يوحنا ذهبي الفم

662ـ حينما تدوم طويلاً في الصلاة لا تقل إني لم أستفد شيئاً . لأنك ها قد استفدت بالفعل الإتصال والثبوت في شركة غير منقطعة معه !

الأب يوحنا الدرجي

663 – الأمانة هي مفتاح كنوز الله. وهي تسكن القلوب البسيطة الرحومة التي تصدق وتؤمن كل شيء مستطاع لدى المؤمن.

الإيمان هو فم الروح، كلما انفتح بسخاء انسكبت فيه الينابيع الإلهية . آه … ! ليت هذا الفم يكون على الدوام مفتوحاً، فلا تحبسه شفتا الشك وعدم الإيمان فتنحبس عنا كثرة أنعام الله . كلما فغرت فاك وأخلصت بأمانتك في قدرة الله اللانهائية ، انفتح قلب الله لك بالجود والسخاء.

664ـ لا تقنط وتسقط في اليأس حينما تشعر في داخلك بريح الشر وهيجان الحقد، وقلة الصبر، وحتى أفكار التجديف وأي فكر شرير آخر. ولكن حارب مقابلها باستمرار، واحتمل بشجاعة، وناد بكل قلبك الرب يسوع المسيح غالب الهاوية وكاسر شوكة الموت، واتضع بنفسك كثيراً جداً في ذلك الوقت، معترفاً بشجاعة بكل خطاياك وبأنك لست مستحقاً للشركة مع الأبرار. فالرب حينما ينظر إلى اتضاعك وجهادك يساعدك . وادع شفيعتك السريعة المعونة العذراء كلية الطهارة والدة الإله قائلاً لها أن تن ن تشفي جراحات نفسك وتحارب الأعداء وتصدهم عنك.

665 ـ نشكر شفيعتنا سريعة المعونة أم إلهنا الكلية الطهارة مريم العذراء . إذ تعيننا أثناء الصلاة على ظلم الشيطان وأتعابه.

إنها قريبة منك على الدوام. تطلَّع إليها بعين الإيمان، وادعُها لتجاهد معك ضد أعدائك ، وهي في ضيقة نفسك كحسب إيمان قلبك و وثوقك بها ، وتطفىء عنك نار غضب العدو اللحظة والتو تخلصك من فيرتد عنك.

وليكن لك إيمان و وثوق في الروح القدس ودوام حضوره في كل مكان وأنه كائن غير مركب. به تصير السموات في غاية القرب منا بكل ملائكتها وقديسيها. فما علينا إلا أن ندعو الرب فيستجيب ونستشفع بالعذراء أو أي قديس من عمق القلب بإيمان قوي واضح وحينئذ يشرق خلاصنا في الحال.

عجيبة هي قوة شفاعة أم ربنا على المعونة. تفيض على القلب مسحة من بلسم شافي وعطر نسيم محيي و ينبوع ماء هادىء! فقط ثق في قدرتها على الشفاعة السريعة المقبولة عند ابنها يسوع المسيح

ليست الشفاعة أمراً هيناً، لذا فالعدو يعمل جاهداً ليحرمنا من هذه المعونة السريعة، ويجاهد ليعترض أمانتنا ونظرتنا إليها أو إلى بقية القديسين، ويقيم من نفسه ستاراً من الظلمة أمام أعين قلوبنا و يبعثر إيماننا و يشككنا حتى لا نكسب معونتهم ضده.

فعلينا أن نتشجع ونقتحم هذه الحواجز المظلمة ونهتف بهم بأكثر شدة وأمانة فيفتضح العدو و يرتد سريعاً إذ يتقدمون لمساعدتنا :« يرسل لك عوناً من قدسه ومن صهيون يعضدك.» (مز 20: 2)

666 – «يعطيك الرب حسب قلبك»، ليتك تصلي بقلب مؤمن حار ملتهب لأنه حسبما يكون القلب تكون العطية ! فإذا صليت بإيمان مخلص من كل قلبك وليس بمراءاة، فالعطية التي ستنالها من قبل الرب ستكون كإيمانك وكمقدار حرارة وغيرة قلبك. وبمقدار برودة القلب في الصلاة تصير الصلاة بلا ثمرة، بل تصير مكرهة في عيني الرب جداً لأن الله روح و ينبغي أن تكون عبادته بالروح والحق.

لذلك سواء كنت تدعو الرب يسوع، تبارك اسمه أو تستشفع بأمه العذراء أو بالملائكة أو بأحد القديسين، ادْعُهم من قلب ملتهب بالإيمان والحب نحوهم. وإذا كنت تصلي من أجل أحد الأحياء أو الأموات فصل لهم من كل قلبك ذاكراً أسماءهم بحرارة صادقة. وسواء كنت تطلب نعمة الروح القدس لك أو لأحد آخر لكي تعتق أنت أو غيرك من بليّة أو خطية أو شهوة أو عادة ردية ، فصل بحرارة وليكن طلبك بعزم و وثوق ولجاجة وثبات فيهب لك الرب سؤل قلبك :«تطلبون ما تريدون فيكون لكم .» (يو 15: 7)

أرأيت كم هو مهم أن نرغب ونشتاق إلى ما نسأله ونطلبه من الله ؟

667- آمن وثق أن الرب في كل حين هو الكل لك . ففي أثناء الصلاة هو قوة واستجابة لكل كلمة بالروح القدس، وحينما تحدث الناس عن العبادة فهو ينبوعك الحي الذي ينبع . منه كلامك الحار الدفاق. نعم هو في كل حين كل شيء لك !

كن خالياً من الهم في حضرة سيدك. لقد أغلق عليك معه وسدَّ المنافذ عليك من كل جانب ودخل فيك وتخلل أجزاءك وأعضاءك كلها وعرف كل أفكارك وكل احتياجاتك. إذن، فقد أصبح لك كل شيء، وأنت إذا عشت واثقاً فيه بالإيمان والحب فسوف تحيا بلا هم: «لا تهتموا بشيء بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع ا الشكر لتعلم طلباتكم لدى الله » ( في 4: 6) . أليس هو الذي يستطيع أن يخلق الشيء؟ إذن فهو يستطيع أن يغيره كما فعل في عجائب مصر، ر فالقادر على كل شيء يستطيع أ أن يعمل كل شيء.

668- إرفع نظر قلبك الداخلي إلى الله. واستوثق من رؤيته ملياً ثم اسأل منه ما تشاء باسم يسوع المسيح فسيُعطي لك، وفي لحظة يتم طلبك. لأنه في دقائق رفعة إيمانك الصادق به ، يصير اتحادك معه . وحينئذ ما تطلبه يكون لك حسب مشيئته، سواء كان من أجل خلاصك أنت أو لقريبك، لأنك في هذه اللحظة تكون شريك الألوهية باتحادك الروحي مع الله : « أنا قلت إنكم آلهة» (مز 82: 6). في ذلك الوقت لا يكون بينك وبين الله شيء، لا مسافة زمنية ولا مكانية . وحالما تنطق بكلماتك يكون سماعها فاستجابتها وتحقيقها ! «لأنه قال فكان هو أمر فصار» (مز 33: 9). ألم يكن هذا هو الحال بالضبط في تحويل الأسرار المقدسة !

669- مريم هي العذراء واحد مع ابنها يسوع المسيح باللحم والدم ، أعطته جسداً من جسدها هو غاية في الطهارة وغايةً في القداسة. أرضعته من لبنها وحملته على ذراعيها ؛ ألبسته من صنع يديها واهتمت بكل شئون طفولته ؛ قبلته ودللته بكل ملاطفة . يا رب من يقدر أن يصف عظمة العذراء حاملة الله الكلمة ؟

كل لسان لهو في حيرة كيف يمدحك بما يليق ! حتى وعقل الملائكة لهو في دهش مما نلت من النعمة والتطويب يا والدة الإله !

يجب أن ندعوها بقلب بسيط غير منقسم. واعلم أن موضوع خلاصك هو قريب من قلبها جداً . ادعُها كل حين وهي تلبي الدعاء.

670ـ كلمات الإنجيل والصلوات المختصة بالخدمات الكنسية والأسرار، اقرأها بإيمان وتوقير ومخافة الله ، بهدوء روح ولكن بحرارة داخلية فهي قادرة أن تنعش وتشدّد وتشفي جسدك أيضاً : الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة (يو 6: 63) ، هذه الأمور قد تعلمتها بالإختبار، فيجب أن يكون لنا إيمان حي أن الله كائن معنا لأن هذه هي ترجمة اسمه « عمانوئيل » ، وهو يتطلع إلى صلواتنا عندما تكون حارة مخلصة، وعند أول ندائنا هو يستجيب و يكون مستعداً لنجدتنا في الحال.

إذن فصلاة الإيمان هي ضرورية لنا طالما نحن نحيا في وسط هذا العالم محاطين بالأعداء الظاهرين والخفيين.

671- هل كان يظن الفريسيون أنهم يصلون بمراءاة ؟ كلا بلا شك، فقد صارت صلاة الرياء هذه عادة بل طبيعة إن أمكن هذا التعبير – وكانوا يظنون أنهم يخدمون الله بصلواتهم. فهل المراؤون في المسيحية في هذه الأيام يظنون أنهم يصلُّون أو يحيون حياة الرياء ؟ كلا بلا شك، فهم يصلون بانتظام يومياً وربما يطيلون الصلوات أحياناً . ولكن للأسف هي صلاة العادة، مخرجها ومنتهاها عند الشفتين هي فقط تتميم مراسيم وقوانين محدودة للصلاة و يظنون أنهم يقدمون خدمة الله . هؤلاء يجلبون على أنفسهم الويلات واللعنات التي صبها السيد المسيح على الكتبة والفريسيين المراثين ! لأنهم لعلة يطيلون الصلوات.

672ـ ما هي علامة المسيحي ؟ هي حبه وإيمانه بالمسيح ، تجده دائماً يلفظ اسمه الحلو و يدعوه المعونته في كل عمل يتجه إليه بعينيه وأفكاره وقلبه كل حين. كذلك فإن السيد المسيح له المجد تجده يعزيه كل حين ويتراءى له : « الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني، والذي يحبني يحبه أبي، وأنا أحبه وأظهر له ذاتى.» (يو 14: 21)

أما الإنسان البعيد عن المسيح فهو قلما يتجه بأفكاره نحو المسيح.

وحتى إذا صلَّى يكون بلا حرارة الحب و بدون فاعلية الإيمان القلبي وإنما يكون بدافع الحاجة. وهو في التجائه إليه كمن يلتجيء إلى شخص بعيد عنه غير معروف لديه لا توجد بينهما صلة، ليس له فيه سرور ولا يجذبه إليه أي ميل نحوه.

أما هؤلاء المغبوطون الذين لا يدعون المسيح يفارق عقلهم أو قلبهم فإنهم يعيشون في المسيح، ويصير لهم هواءهم وطعامهم وشرابهم وإقامتهم وكل شيء!

وبسبب الحلاوة التي يتذوقونها في اسمه وبسبب لمساته الخفية اللذيذة التي يمس بها قلوبهم ، تجدهم يلتصقون به أكثر فأكثر، وفي التصاقهم به يجدون سعادة لا ينطق بها ولا يدركها العالم.

بؤساء هؤلاء الذين لم يجدوا المسيح بعد هم يعيشون بلا تذوق حرارة وعظمة الإيمان . يهتمون ويضطر بون لأجل أشياء كثيرة عالمية، كيف يمتعون ذواتهم بالأكل والشرب واللباس الفاخر و يتلذذون بشهوات العالم الكثيرة. تجدهم يفكرون كيف يقطعون الوقت بعد أن عزّ عليهم كيف يستخدمونه لمجد الله ، مع أن الوقت هو الذي يفتش عليهم و يطلبهم وإذ لا يجدهم مكترثين يهملهم ويسرع في طريقه : يوم يتلو يوماً وليل بعد ليل وشهر تلو آخر وسنة تجر أخرى ! وأخيراً تدق الساعة الخطيرة المخيفة وإذا برسول الموت ينذر أن انتهى العمر، قد أضعت كل وقتك !!! يسيرون تتقدمهم خطاياهم وتعدياتهم وجحودهم . «خطايا بعض الناس واضحة تتقدم إلى القضاء وأما البعض فتتبعهم» (1تى 5: 24) . وهؤلاء من الذين تتقدمهم خطاياهم !

673ـ إن خدمتنا الكهنوتية هي تكرار لذات الصلوات وهي وإن كثرت تبتدىء بذات البداءة الواحدة: «يا أبانا الذي في السموات » ، لأن ليس بتنوع الصلوات يتشدد الروح ولكن بتكرارها وتثبيتها داخل قلوبنا وتخللها داخل نشاطنا وتفكيرنا ومشيئتنا حتى تصير جزءاً من حياتنا.

674- حينما تصلي إلى الله من كل قلبك فأنت في الواقع تحدث الله ليس كأنه خارج عنك بل هو في داخلك وفي عمق قلبك : «يثبت في وأنا فيه .» (يو 6: 56)

675- حينما تنطق باسم ربنا يسوع المسيح بإيمان وقوة ، يصير مفزعاً للشياطين لأن اسمه القدوس قوة في ذاته وكسيف ماض ذي حدين، فإذا سألت شيئاً من الآب السمائي ، في إيمان باسم ابنه يسوع المسيح، فإنه من أجل حبه لابنه ومسرته به فإنه يعطيك دون أن ينظر إلى استحقاقاتك أو إلى خطاياك بشرط أن يكون لك معه حب وثبوت !

676 ـ «ها أنت قد برئت فلا تخطىء أيضاً لثلا يكون لك أشر» (يو 5: 14) . يلزم أن يكون لنا عزم ثابت وإيمان كامل أن لا نعود إلى الخطية إذا منَّ الله علينا بشفائنا أو أعطانا سؤالنا. لأن من شروط استجابة الصلاة نية القلب لعدم الرجوع إلى الخطية.

677- حينما تصلي من أجل شيء أو تستشفع بالعذراء أو أحد القديسين من أجل إنسان، عليك أن تتبصر في نوع كلماتك التي توضح بها طلبتك وتحدد الموضوع أو الشيء الذي تسأله من الرب. وصدق أن عندك عهداً أكيداً من الله لمنحك كل دقائق صلاتك بذات الكلمات التي شرحت ورسمت بها طلبتك. وعلى سبيل المثال : حينما تسأل صحة لنفسك أو لإنسان آخر، التفت إلى كلمة «صحة» ذاتها ومـا تـفـيـده فعلاً وثق أنك نلت ما تتصوره في ذهنك بالفعل برحمة الله وقدرته على كل شيء. لأن ذات الكلمات والأسماء تصير عند الله أفعالاً وأعمالاً! «اسألوا تُعطوا» (مت 7: 7)، «كل ما تطلبونه حينما تصلون فآمنوا أن تنالوه فيكون لكم » (مر11:24) ، «من قال لهذا الجبل انتقل وانطرح في البحر ولا يشك في قلبه بل يؤمن أن ما يقوله يكون ، فهما قال يكون له . » (مر 11: 23)

678- لا تجزع من تصورات العدو التي يثيرها وقت الصلاة ليزعزع إيمانك فيُعدمك قوة الصلاة، بل اثبت في إيمانك راسخاً من كل قلبك – واعلم أنه ليس باستحقاقك تنال سؤالك بل بإيمانك – واعلم أن كل كلمة من كلمات الصلاة فيها كنوز الروح القدس مستورة داخلها التي هي الحق والنور الأبدي والنار المحرقة للخطايا والسلام الدائم وكل غبطة وسعادة. 

679- كل شيء تطلبه هو يقيناً أقل إلى ما لا نهاية إذا قيس بمعطي و واهب ذلك الشيء والحافظ لكيانه. فكما أن العاطي الواهب هو وأعظم من كل شيء وهو أيضاً بسيط ليس فيه تعقيد أو تركيب حتى أن عقلنا المحدود يستطيع أن يدركه و بكلمة واحدة نستدل عليه هكذا ثق أن كلمة واحدة منك وطلبة قصيرة بإيمان به من أجل تتميم أمر ما يمكن بإشارة من الله أن تأخذ في الحال فعلاً وكياناً لتصير أمراً مقضياً وقضية منتهية : «لأنه قال فكان هو أمر فصار.» (مز 33: 9)

أذكر العجائب التي صنعها موسى واذكر كيف صار رجل الله إلها» لفرعون. وكيف كان في حال خروج الكلمة من فمه أو حركة يده أو تلويح عصاته في الهواء كان كل شيء يأخذ كيانه في الحال أو يتغير ليعود كما كان ! 

إيه يا الله العظيم الأبدي يا ذا المجد الأسنى، إله العجائب، إله الرحمة، الكريم الجواد والمحب للإنسان. ليدم مجدك دائماً من دور فدورٍ وإلى أبد الدهور.

680 – حينما تسأل البركات والنعم من الله ، فآمن أن الله هو كل شيء لك . فحينما تسأل صحة فهو صحتك وعافيتك ؛ وحينما تسأل إيماناً فهو إيمانك ورجاؤك ؛ وإذا سألت سلاماً وسروراً فهو سلامك وسرورك ؛ وإذا سألت معونة ضد عدو منظور أو غير منظور فهو كل قوتك ومعونتك ؛ وإذا سألت أية نعمة أخرى فهو بذاته سيكون هذه النعمة لك طالما يرى أن فيها ربحاً لك : «الله الكل في الكل.» ( 1کو 15: 28)

681- بينما كلمات الله في أفواه بعض الناس هي حروف مجردة، فهي في أفواه الآخرين روح وحياة «الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة» ( يو 6: 63) – ليتنا نشعر بالحياة في كلمات الله ونثق بهذا الوعد.

682 ـ كما أن الجسد يتنفس بالهواء هكذا النفس تتنفس بمراحم الله ! وكما أن الأب يعطي ابنه عطايا جسدية لائقة ونافعة له هكذا أبونا السماوي «يهب خيرات للذين يسألونه» (مت 7: 11) ؛ وكما أن الناس يستقون من ماء النهر مجاناً ، هكذا الله هو نبع لا ينضب للماء الحي، وما عليك إلا أن تمد وعاءك وتغترف لنفسك على قدر ما تريد غفراناً وسلاماً، ولكن احذر من الشك فهو يجعلك تعود وإناؤك فارغ.

683- إذا لم يكن لك إيمان ثابت غير مخزي في رحمة الله وقدرته فلا تتسرع في طلب أي نعمة في صلاتك لئلا يلطمك العدو بالشك وعدم التصديق بمواعيد الله فتضعف صلاتك وتخرج من لدن الله مخزياً يائساً مغموماً . لا تكن عجولاً غير مكترث في صلاتك، بل اجلس أولاً وافرز وميز حالتك الروحية ؛ وقس إيمانك، حسب قول الرب، واحسب النفقة لثلا تسخر بك الشياطين عندما يرون عجز حسابك ونقص إفرازك : « قائلين هذا الإنسان ابتدأ يبني ولم يقدر أن يكمل.» (لو 14: 30)

لذلك قبل البدء في الصلاة إحسب درجة إيمانك ، فإذا وجدت إيمانك متوفراً حياً ثابتاً «فلتتقدم بثقة إلى عرش النعمة لكي تنال رحمة وتجد نعمة وعوناً في حينه.» (عب 4: 16)

684 – الذين لمسوا ثوب المخلص شُفوا ؛ وإلى الآن الذين يستعملون ماءاً مصلى عليه فإنهم يتعافون. ولماذا؟ لأن الصليب الذي انغمس في هذا الماء مع صلاة الإيمان يصير كمثل السيد نفسه معطي الحياة . فكما كانت الحياة تسكن في ثوب المخلص هكذا أيضاً تكون في الصليب لأن به وهبت لنا الحياة. فحالما يلمس الماء باسم المسيح تسكن فيه الحياة فيصير ماءاً حياً شافياً.

685- لكي تسأل الملك أو أي رئيس آخر يلزم أن تصل إليه وتتكبد أتعاباً كثيرة. هكذا حينما تريد أن تصل إلى الملك السمائي أو الأم البتول أو أحد أفراد جند السماء أو أحد رجال الله القديسين المنتقلين يلزمك أن تصل إليه متحرراً من كل ما لا يليق سواء كان من جهة خطايا أو شهوات أو شكوك، وتطهر النفس جيداً لتليق بمقابلة هذه الأرواح الطاهرة. كما يجب أن يكون لك حب صادق لمن تريد أن تقابله ، وغيرة وإقدام وشجاعة وثقة به وإيمان فيه.

686-  بخصوص استجابة الرب لسؤالك وطلبتك ، ثق وآمن أنه كما هو سهل هين لديك أن تخرج الكلمات من فمك هكذا هو هين وسهل على الرب جداً بل وأسهل بدرجة لا تقارن أن يستجيب و يتمم كل كلمة لك . لأنه كما خرجت الكلمة منك هكذا يصدر الفعل منه. ومع الرب لا توجد كلمة بدون فعل : 

– «أطلبوا الرب ما دام يوجد أدعوه وهو قريب . ليترك الشرير طريقه ورجل الإثم أفكاره وليتب إلى الرب فيرحمه وإلى إلهنا لأنه يُكثر الغفران . لأنه كما ينزل المطر والثلج من السماء ولا يرجعان إلى هناك بل يرويان الأرض ويجعلانها تلد وتنبت وتعطي زرعاً للمزارع وخبزاً للآكل، هكذا تكون كلمتي التي تخرج من في لا ترجع إلي فارغة بل تعمل ما سُورتُ به وتنجح فيا أرسلتها له.» (إش 55: 6-11)

واذكر وأنت قائم لتصلي أن الله موجود وقريب منك وفي استطاعته كل شيء، ومطلع على كل فكر وكل فعل، وأنه هو الحكمة كلها والقدرة كلها والنعمة كلها.

687- أقول لك إنه ما من مرة وقفت فيها أصلي بإيمان إلا وكان الرب يسمع لي و يستجيب كل کلمات صلاتي.

688 – يحدث أثناء الصلاة أحياناً أن تأتى بعض لحظات ظلمة خانقة، وذلك منشؤه عدم تصديق القلب وضعف إيمانه. ولكن لا تدع قلبك يخيبك ويخسرك من ثمرة الصلاة في هذه اللحظات الخطرة. أذكر في هذا الوقت أنه إذا كان النور الإلهي قد انقطع وانحجب عنك لحظة ، فهو في ذاته موجود ودائم لا ينقطع قط بل هو باق على الدوام بكل بهائه وعظمته. وفي اللحظة التي ينحجب فيها عنك هو مشرق على ألوف غيرك ويملأ كنيسته بل ويملأ حتى العالم المادي.

الأب يوحنا ك .

689ـ «كل ما تطلبونه حينما تصلون فآمنوا أن تنالوه فيكون لكم.» (مر 11: 24) هكذا عليك أن تصلي رافضاً كل شك ، وتصلي باستمرار للرب الذي أمر أن نصلي كل حين ولا نمل أو نيأس (لو 18: 1)، متتلمذين للصلاة بالصبر. لأنها في بداية اختبارها تكون صعبة للعقل الذي تعود أن لا يستقر على حال.

690 – الصلاة في ذاتها كحديث مع الله تُعتبر أعظم نعمة، أما السؤال والطلبة فشيء ثانوي يتغير من يوم إلى يوم . لذلك فإن الرب الرحوم لا يستجيب سريعاً لطلباتنا حتى لا يترك الإنسان الصلاة و يتلهى بالنعم الصغيرة فيخسر بركة الوقوف أمام الله والحديث معه.

الأسقف إغناطيوس ب.

691 – كثيراً ما نسأل الله أشياء هي في الواقع مُضرة ومؤذية لنا وتتعارض مع مشيئته المقدسة. ونحن في ذلك نشبه الأولاد الذين يتكرهون الإستحمام و يرغبون عنه،  فيسألون أمهاتهم أن يعفينهم منه في حين أنه ضرورة لازمة لهم . فهكذا نحن حينما نقف لنسأل الله أن يعفينا من الصليب فينجينا من مرض أو محنة أو أحد الأتعاب التي يسمح أن تحل بنا، غير عالمين أنه خير لنا جداً أن نجوز هذه الأتعاب ونبقى مع الرب من أن ندوم في الراحة والنجاح والسعادة الظاهرية بعيداً عنه.

والمريض يلح في طلب قطعة ثلج أو شيء من الطعام الممنوع تعاطيه عافاً. عن الدواء وعن صورته، أما الطبيب فيمنعه ولا يسمح له بما يضره. ونحن جميعاً أمام الله كأطفال وكمرضى لا نعرف ما هو خير لنا، وغالباً ما نسأل أشياء فيها ضرر لنفوسنا. والله كأب رحوم لا يرضى أن يعطينا عقرباً بدل السمكة ( لو 11: 11)، لذلك وجب أن يكون سؤالنا من أجل الخيرات الزمنية هكذا :

– «يا رب إذا كانت طلبتي هي وفق مسرتك ومشيئتك المقدسة وفيها خير لي امنحني إياها. ولكن إذا لم تكن كذلك فلتصر مشيئتك أنت».

و يسوع المسيح كإبن مطيع لأبيه أعطانا مثلاً من هذا القبيل، حينما صلى ثلاث مرات بذات الكلام طالباً من أبيه قبيل آلامه الإختيارية : «يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت.» (مت 26: 39)

الأسقف تيخون ز.

692 ـ إن السيد الرب ذمّ كثرة الكلام في صلوات الوثني، لكونها لم تكن إلا سؤالات عديدة من أجل الخيرات والأمور الزمنية الفانية بعبارات منمَّقة بزخرف الكلام، كأنما هذا البيان والأسلوب اللفظي الأخاذ يكون له تأثير على الله كما هو على آذاننا البشرية ! ولكن بإدانة الرب لهذه الكثرة في الكلام باطلاً لم يرذل الصلوات الطويلة كما يدعي الخارجون على الإيمان المستقيم، لأن الرب نفسه قدس الصلوات الطويلة وباشرها بنفسه : « وفي تلك الأيام خرج إلى الجبل ليصلي. وقضى الليل كله في الصلاة الله.» ( لو 6: 12)

693 – أسرع وراء المخلص واصرخ مثل الأعمى ابن طيما . أصرخ وراءه بالصلاة مثل المرأة الكنعانية ولا تحزن من طول عدم التفاته إليك، فأنت تستطيع بلجاجتك وصراخك أن تجذبه إليك وتحنن قلبه عليك (مت 15: 22). كن مثل الكنعانية ولا تمل بل بتواضع وسعة صدر احتمل البلايا والمحقرات التي يسمح بها عليك فإنه يختبر اتضاعك . وبحسب إيمانك وتواضعك ولجاجتك في الصلاة هو يعزيك ويشفي إبنتك الوحيدة المعذبة، أي نفسك، من فعل الشهوات الردية والأفكار الشريرة المتسلطة عليك، وينقل مشاعرك من الشهوة للخطية إلى الشهوة للقداسة وحياة البر.

الأسقف إغناطيوس ب.

694 – الحصول على النعمة يعتمد كثيراً على اللجاجة في الصلاة.

الأسقف إيلاري

695 ـ يشتاق الرب أن يعطينا نعمة المثابرة واللجاجة، ولكن في ذات الوقت يشاء أن نكون نحن السبب فنسألها دائماً منه. بل إنه يود أن تلزمه لرحمتنا والتحنن علينا كما في مثل الصديق الذي ذهب لصديقه في نصف الليل، وفي مثل المرأة الكنعانية، وفي مثل القاضي الظالم. بدون هذه النعمة، أي اللجاجة، لا نستطيع أن نحصل على أي نعمة أخرى.

غريغوريوس الكبير

696 ـ ثابر على الصلاة، لا تقل قد طلبت دفعة واثنتين وثلاثة ولم يستمع لي الرب، جاهد ولا تفارق الصلاة حتى تجد مسألتك. 

697 ـ ثابر على الصلاة لكي يرضى عنك سيدك ، وتعطيه أنت فرصة وسبباً ليُظهر رحمته عليك ويغفر خطاياك. أنظر لا تمنع جوده بتغافلك . فإن كنت في أسفل الخطية فهو القادر أن يقيمك، لذلك لا تبطل الصلاة. وإذا لم تكن لك دالة، فبالصلاة تصير لك الدالة عنده، لأنه يحب خلاصك من خطاياك وأتعابك أكثر مما تحب أنت ! فاحرص على المثابرة في الصلاة ولا تقل قط إني تعبت ، لأن المثابرة في الصلاة تمنع التعب ذاته ! واعلم أنه لا يمكن أن تُكلَّل وأنت نائم. إنما يُكلَّل الذي يسهر و يتعب ويثابر على الصلاة.

يوحنا ذهبي الفم

698 ـ تأمل صبر القديسين : إبراهيم أبونا دعاه الله وهو صبي ونقله من أرض الكلدانيين إلى فلسطين و وعده قائلاً: إني أعطيك هذه الأرض ولزرعك من بعدك. ثم تأنى الله على ابراهيم جداً حتى شاخ وكلَّت قوته وما عاد له قدرة على إنجاب الأولاد ولا سارة امرأته أيضاً ، ولكن ما تزعزع إيمانه وثقته بالله. فلا ينبغي أن نمل في صلاتنا حتى ولو طالت بنا السنون ، وحتى لو كانت طلبتنا مستحيلة في أعين الناس جميعاً، لأن غير المستطاع عند الناس مستطاع لدى الله!

699 ـ لعلك تقول قد سألت مراراً كثيرة ولم آخذ شيئاً . أقول لك حقاً سألت، لكن ربما سألت شيئاً حقيراً ؟ أو سألت بغير إيمان؟ أو بأفكار منحلة وأنت مرتاب ؟ أو الذي سألته غير نافع لك ؟ أو ربما لم تدم طويلاً في سؤالك فلم تأخذ لتهاونك ؟ لأن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص!

700 ـ لعلك تقول : هل الله محتاج إلى صلاتى ؟ ألا يعرف هو ما أحتاج إليه ؟ فإذا كان هو عارفاً بما أحتاجه فما الضرورة إلى سؤالي و لجاجتي ؟ أقول لك : الله يعرف ما نحتاج إليه وهو يعطينا جميع الخيرات الجسدية بدون سؤال وها هو يشرق شمسه على الأشرار والأبرار. أما الإيمان والبر والفضيلة والملكوت فإنه من أجل صلاحه ومحبته للبشر يتمهل حتى لا ينالها الإنسان إلا بالطلبة والسؤال والمشقة والأحزان المتنوعة بصبر كثير. لأنه يود أن نحب الخير ونسعى إليه ونطلبه باشتياق وتلهف حتى نكون نحن السبب في العطية، وحتى إذا ما حصلنا عليها نتمسك بها ونحافظ عليها نظير التعب والجهد الكثير الذي بذلناه للحصول عليها.

701 ـ فلا يصغر قلبك، يا ابني، إذا لم تنل مسألتك، فإنه لو علم ربنا الصالح أنك لا تتلف النعمة إذا أعطاك إياها لمنحك إياها سريعاً وبدون جهاد، لأنه ما يُسر بأتعابنا وشقائنا. وها الذي أخذ الوزنة من سيده ولم يستطع أن يتاجر بها و يربح عليها ، نال شر الجزاء وطرحوه في الظلمة. فحري بنا أن لا نطلب نعمة، إلا إذا عرفنا كيف نتجر بها ونستخدمها لمجد اسمه القدوس.

باسيليوس الكبير

702 – إن كنت خالياً من فضيلة المثابرة فلا تنتظر أن تحصل على عزاء حقيقي في صلاتك، فإن المثابرة تساوي العمل.

703- كل تدبير إن كان صلاة أو صوماً أو سهراً بدون المثابرة، لا يأتى بثمر. و يكون في نهاية تعبك فيه كما لو أنك قد ابتدأت به فقط !

704- إذا تحقق الإنسان أن كل ما يسأل ويطلب في الصلاة يُسمع ويُستجاب له حسب مشيئة الله، يكون هذا هو الإيمان والرجاء والثقة بالله

705- الإيمان والثقة ليسا من نصيب الذين فسدت ضمائرهم بالبعد عن الحق، وإنما هما من نصيب الذين ساروا في وصايا الرب يسوع وتداخلوا معه في سيرة الفضيلة واستنارت نفوسهم بالحق.

706 – وقولي « الإيمان» ، لا أقصد به الأمانة العامة التي هي أساس العقيدة، وإنما أقصد القوة العقلية التي تنير الفكر وتسند القلب بنية ثابتة وتعطي النفس ثقة كبيرة واتكالاً على الله . فلا يعود الإنسان يحمل هم نفسه، بل يلقي على الرب اهتمامه في كل شيء وبالأخص أثناء الصلاة والطلبة فلا يرى نفسه كفواً لشيء، فيُحفّظ من العظمة والكبرياء، وتهون عليه أخطاء الناس، ويرى الضيقات والأتعاب التي تحل عليه أنها بالعدل قد أصابته.

707 ـ يا للتشجيع الذي لا يُنطق به «اسألوا تُعطوا – أطلبوا تجدوا – إقرعوا يُفتح لكم – إسهروا وصلوا – صلوا لئلا تدخلوا في تجربة – كل من يسأل يأخذ وكل . يطلب يجد وكل من يقرع يُفتح له – ينبغي أن يُصلَّى كل حين ولا يُملّ». هكذا يجذبنا الرب يسوع إلى السؤال والطلبة ويشجعنا على طلب النعم والمواهب وهو يدبر و يعطي حسب ما يوافق ويليق لنا . سيدنا يعلم أنه طالما نحن مربوطون بهذا العالم فنحن قابلون للسقوط والميل إلى الشر، وإلى أن نذوق الموت ونعبر إليه ، فليست لنا فضيلة ثابتة فينا إحتمال السقوط موضوع أمام أعيننا على الدوام، لذلك حرضنا على الصلاة بمداومة والمثابرة على السؤال والطلبة.

ولئن كان ضميـرنـا صالحاً جداً و يشاء أن يدوم على الصلاح، إلا أننا ندخل التجارب بدون إرادتنا، وكثيراً ما تحيط بنا التجارب دون أن ندرك علة لذلك. وها بولس الرسول إذ يرى التجربة قد دخلت إلى عمق نفسه يصرخ إلى الرب ثلاث مرات لكي يرفعها عنه، وأخيراً يعلم أنها بسياسة القدير قد وضعت عليه لئلا يسقط في تجربة أخطر وهي الكبرياء والتعظم من كثرة الإستعلانات والرؤى التي كشفت له وعوض تجربة الجسد البسيطة حلت عليه قوة المسيح.

708 ـ أحياناً نطلب من الله ولا نأخذ وبالعدل يكون ذلك لأننا لا نطلب بصبر ومداومة في الصلاة وبلا حرارة أو ثقة، ولا نطبق قوله الصريح : الصارخين إليه ليلاً ونهاراً بل ننتظر أنه هو من ذاته يعطينا . أما هو فينتظر لنقدم له سبباً ووسيلة يعطينا بها ما يشتاق أن يمنحه لنا . فلهذا يتركنا نتضيق، ويتأنى علينا حتى نقرع بابه ونثابر في السؤال بلجاجة.

وأما نحن فكثيرة أمامنا وسائل المنفعة والأخذ ، ولكن بتراخينا نهمل السؤال. ونسلم أنفسنا للملل والضجر والفتور.

يا ابني، إن طرق الصلاة مفتوحة أمامك : خُرّ على وجهك ليلاً ونهاراً، وتضرع إلى الله بقلب حزين. والرب رحوم وصالح لا يتأخر عن العزاء والمساعدة إذا كانت مسألتك ليست بعيدة أو خارجة عن الطريق الموصل إليه.

في كل أيام حياتك أنت تأخذ منه ثم يضيع منك . فتعود تسأل بحزن فيعطيك. وأيضاً يُسرق منك فتأخذ من جديد وتصادف نعمة ما ، فتظن أن هذه نهاية سيرتك وحَدُّ قصدك، ثم تطلبها بعد قليل فهما تجدها ، إفهم هذا واعلم أن هذا هو ترتيب الطريق فلا تتضجر.

الله سيد كل أحد لا يزداد رحمة عند سؤالنا وطلبتنا ، فرحمته ليس لها قرار، وإنما بطلبتنا وسؤالنا وحزن ضميرنا نستضيء بمعرفته ونتدرب على الحديث معه فننتفع من ذلك كثيراً.

710ـ  يوجد رجاء واتكال على الله يحدث من أمانة القلب وهذا حسن . ولكن يوجد رجاء من نوع آخر ناشیء عن التهاون والإستهتار والجهل والنفاق، هذا هو الرجاء الكاذب . وعلامة الرجاء الصادق هو عدم الإهتمام بشيء مما في هذا العالم، بل أن يوقف ذاته للرب، عزَّ وجلَّ، بالصلاة ليلاً ونهاراً ، ويجعل كل همه تحصيل الفضيلة . وأما علامة الرجاء الكاذب فهو فشل الإنسان وكسله في الصلاة والسعي وراء الفضيلة. وإذا ما ضاقت به الحال أو ضغطته التجارب من ثمرة جهله وتوانيه أو أحزنه إنسان بسبب سوء عمله أو تصرفه ، يقول: قد اتكلت على الرب وهو سيرفع عني الهم ونجود علي بالراحة، فيسمع قول الرب : أيها الجاهل إلى الآن ما ذكرت الله بل باتكالك عليه وأنت متواني ومتكاسل تسبه . واسم الله بسبب إهمالك وتوانيك يُجدف عليه بين الناس.

من هو بهذه الصفة فلا يخدعن نفسه ويقول : «إني متكل على الله » ، وإلا فهو سيؤدب لا محالة . لا تضل أيها الجاهل، فإن الإعتصام بالله والإيمان به يجب أن يتقدمه تعب كثير وعرق الصلاة الذي لا يجف.

الأمانة بالله تحتاج إلى شهادة الضمير وشهادة الضمير تتولد من التعب في الفضيلة والسهر في الصلاة.

يا ابني لا تمسك الرياح في كفك أعني الأمانة بلا عمل وجهاد .

مار إسحق السرياني

711 – يا أولادي أنا لا أمل من الطلبة من الرب عنكم لكي تعرفوا عظم مقدار النعمة الموهوبة لكم وكيف أن الرب برحمته ينبه قلوبنا لطلبتها وسؤالها. فلا تملوا ولا تتكاسلوا يا أولادي عن الصراخ للرب نهاراً وليلاً حتى ينعم عليكم بمعونة من العلاء.

712- كل من يسلك بالتواني والكسل في روحياته فإن آخرته تدركه قبل أن يصل إلى المسيح. هكذا جرى لحزقيا الملك عندما أدركه فناء أيامه وهو بغير اهتمام . فلما عما كان عليه وطلب من الرب، استحق زيادة سنين أخر ونمى بالأكثر. فلما تمت تلك السنين فارقت نفسه جسده وهو في غاية رجع الكمال من خدمة الله.

أبا أنطونيوس الكبير

713 – إن الرب يطيل أناته علينا ويمتحن إيمان مشيئتنا ومحبتنا له امتحاناً. فيجب علينا أن نزيد اجتهادنا ومثابرتنا وثباتنا في طلب النعم والمواهب، مؤمنين وواثقين ثقة كاملة بأن الله أمين في وعده وهو يعطي نعمته للذين يداومون على الطلب بإيمان إلى المنتهى صابرين بغير تقلقل.

أبا مكاريوس الكبير

ملخص المبادىء الهامة :

(1) إذا كان إيماننا يتغير كل يوم حسب ما يقابلنا من ظروف محزنة أو مفرحة فنحن لم نؤمن بعد . لأن الإيمان الصحيح يكون أساساً لضبط السلوك فلا الأحزان تزعزعه ولا الأفراح تشدده .

(2) الإيمان ليس هو أن تقرر أن الله يستطيع كل شيء بل أن تقرر قبول كل شيء من يديه.

(3) أيُّ شكٍّ في الصلاة أو شعور باحتمال عدم إجابتها سوف يحرمك من ثمرتها واستجابتها .

(4) قبل أن تتقدم بالسؤال ابحث أولاً شهادة ضميرك هل أنت سائر حسب مشيئة الله ؟ وهل سؤالك يرضي الله ؟ إذا وثقت من نفسك، فثق بالله ولا تكف عن السؤال حتى تنال طلبتك.

(5) لا تكت قط عن سؤال كل ما يعود إلى خلاص نفسك وتقدمك في الفضيلة، فلن تخيب من نواله. لأن هذه مشيئة الله ، فقد أقسم أنه لا: يسر بموت الخاطيء بل بأن هي. يعود ويحيا.

(6) الإستمرار في الخطيئة يحرمنا من استجابة سؤالنا . لأن الخطية تقف حائلاً بيننا وبين الله.

(7) لا تكف عن سؤالك حتى تأخذ الإجابة إما «لا» وإما «نعم». وكثيراً ما كانت استجابة الصلاة ( لا ).

(8) إياك والتوقف عن الصلاة حينما لا تُجاب طلبتك فتظهر كطفل متمرد، فأنت لا تعرف ما هو الصالح لك.

(9) على قدر ثقتك وأمانتك في رحمة الله تأخذ منه.

(10) التوسل إلى العذراء والقديسين يعين ضعفك ويزيد إيمانك. وهم مستعدون أن يحاربوا عنك وقت جهادك إذا طلبتهم بثقة وإيمان وحب.

(11) إذا أردت أن تعرف هل قبلت صلاتك أم لا ، فاسأل قلبك لأنه «يعطيك الرب حسب قلبك . » (مز 20)

(12) الرغبة والإشتياق إلى نوال العطية يزيد من إيماننا جداً. فلا تطلب شيئاً لا تشتاق إليه أو تشك في منفعته لك.

(13) إذا ألقيت أمرك على الله واتكلت عليه من كل قلبك ، فلا تعد تفكر وتحمل هما ، ولكن داوم على الصلاة والطلبة فقط.

(14) قبل أن تسأل تأكد من وجودك في حضرة الله وأنه واقف يسمع ما ستقول، ليس أمامك أو فـوقـك ولكن في داخلك متحداً بك، وكل ما تقوله حينئذ سيكون حسب مشيئته .

( 15) إعلم أن سؤالك يهم ا الله كما يهمك وهو ينتظر طلبك ليعطيك.

(16) اسم الله هو « عمانوئيل» الذي تفسيره «الله معنا » . ألا يكفي هذا أن يعطينا الثقة أنه معنا يسمع صلاتنا و يستجيب لسؤالنا ؟ وإلا فما معنى الله معنا » ؟

(17) لا تكن مرائياً فتصلي فقط عند الحاجة. أظهر أمانتك الله بدوام الصلاة وخصوصاً في أوقات بهجتك وسرورك.

(18) لا تمل من تكرار الصلاة، لأن تكرارها يقدسنا. فليس بتنوع الصلاة يتشدد الروح بل بتكرارها، ليس باطلاً ، ولكن بالحق في القلب والفكر حتى تصبح مبدأنا في الحياة.

(19) حينما يعطي الله عطاياه، لا ينظر إلى استحقاقات الناس، وإلا لما أعطى إنساناً قط هو ينظر إلى إيمانك وحبك : «ليكن لك حسب إيمانك» – « إن خطاياها الكثيرة مغفورة لها لأنها أحبت كثيراً».

(20) من الشروط التي تتعلق استجابة الصلاة عليها ، نية القلب على عدم الرجوع إلى الخطية.

(21) قبل أن تتقدم بسؤالك حدد ما تريد بالضبط . ولا تطلب عشرات الطلبات ؛ ولا تخرج الطلبات جزافاً وتبحث عليها في فكرك بحثاً. فلن تُعطى إلا ما تشتاق إليه وتحتاجه فعلاً لخلاصك.

(22) إذا لم يكن لك إيمان ثابت في الله وفي استجابته لك ، فلا تتسرع في طلب أي نعمة لئلا تسقط في اليأس من عدم الإستجابة.

(23) الإيمان يجعل في إشارة الصليب قوة الحياة والشفاء والماء الذي يصلي عليه الكاهن ويرشمه بالصليب يكون للمؤمنين مثل ثوب المخلص الذي شفى المرأة نازفة الدم، وكالمناديل والعصائب التي كانت تُؤتى من على جسم بولس فتشفي المرضى والمعذبين بالأرواح الشريرة (أع 19: 11 و 12).

(24) في اللحظة التي يضعف فيها إيمانك وتشلُّ أن الله سامع لك، إرفع فكرك واذكر أنه في هذه اللحظة بالذات هو فاتح كنوزه ويعطي ألوفاً وربوات غيرك . فاثبت في الصلاة بثقة وانتظر حتى تأخذ أنت أيضاً نصيبك.

(25) الرب يتأنى علينا أحياناً حتى نداوم على الصلاة ونتعلم الحديث معه.

(26) الرب يستجيب لصلاتنا أحياناً بالنفي ؛ فمن حبه لنا لا يعطينا ما نسأله لأنه يكون فيه ضرر لنا ويحرمنا من عطايا ونعم قادمة.

(27) أحياناً يقسو علينا الله و يتأنى جداً حتى يمتحن إيماننا فنتزكى أمامه . بسبب صبرنا.

(28) الخيرات الزمنية يعطيها الله للجميع بسعة، حتى وللذين لا يسألونها. أما الخيرات الروحية كالخلاص من الخطايا واكتساب الفضائل ونوال النعم والمواهب الروحية والدخول إلى الملكوت، فلا يعطيها الله إلا للذين يؤمنون بها و يشتاقون إليها و يثابرون على طلبها ويحتملون في سبيلها المشقات والتجارب والإمتحانات التي يضعها الله عليهم، في شجاعة وصبر.

زر الذهاب إلى الأعلى