كتاب النعمة في العقيدة و الحياة النسكية للأب متى المسكين

النعمة معناها وغايتها

معنی الكلمـة

« النعمة» باليونانية خاريس ، وبالعبرية جن Hen، وجذرها اللغوي Henn ، أو حـسـيـذ Hesedh ، وتفيد معنى حنان أو إحسان . ووردت هذه الكلمة في العهد القديم مرات كثيرة (156) بمعاني متشابهة ، وأهمها ما ورد بمعنى التعطف والرأفة مع الرحمة السخية.

عمق معنى النعمة :

وقد وردت كصفة أساسية الله تعالي : فالله « إله نعمة » ، ولكن في ترجمتها السبعينية وردت «رحمة ورأفة » : « ونادي الرب : الرب إله رحيم ورؤوف (إله نعمة ) بطيء الغضب وكثير الإحسان والوفاء» (خر34: 6). وكل هذه الصفات تدور حول شرح المعنى الذي تحويه صفة النعمة .

ولـكـي يدرك القارىء عمق واتساع المعنى الذي تحويه صفة النعمة عند الله ، ما قاله داود بالروح: «لأن نعمتك ( رحمتك ) أفضل من الحياة» (مز63: 3)، وهنا تظهر نعمة الله مـتـفـوقـة على أعظم العطايا التي يمكن أن ينالها الإنسان من يد الله ، فنعمة الله أعظم من الحياة وكل بركات الأرض !!

إتصال النعمة بالمنعم :

و بـالـتـدقـيـق في أصول معنى النعمة في الأدب العبري اللاهوتى ( كما يبحث قاموس «كــتـل») نجـد مـعـنـاهـا لا يفيد مجرد صفة عابرة أو عمل خارج عن كيان الشخصية المنعمة، بل يـفـيـد حالة أو فعلاً نابعاً من حالة داخلية للشخص المنعم المانح للعطف والـرأفـة بـصـورة متصلة من نحو الشخص الآخر المنعم عليه . فيقول المزمور مثلاً: «طريق الكذب أبعد عني و بنامـوسـك أنعم علي ( « إرحمني» في الـترجمة اليونانية ) » (مز119: 29). فهنا الناموس يفيد حالة إتصال بين الله والناس ( أتقياء الله ) كنعمة فائضة من الله باستمرار على طالبي وجه الله و بره.

نعمة ونعمة :

ولكن نعمة الله ازدادت جدأ وتفوقت في العهد الجديد على العهد القديم بصورة فريدة وفـائـقـة في شـخـص يـسـوع المسيح ، لذلك يقارن يوحنا الرسول بين النعمة بيسوع المسيح والـنـعـمـة في الـعـهـد الـقـديم بـقـولـه : « ونحن جميعاً أخذنا من ملئه نعمة فوق نعمة » (يو1: 16). أي أنه إن كان الناموس « الروحي» في العهد القديم هو «نعمة » ، فالنعمة بيسوع المسيح هي نعمة فوق كل نعمة العهد القديم !!

و يـعـود يوحنا الرسول يقارن بصورة رقيقة خفية بين نعمة الناموس التي كانت شبهاً وظلاً للحق وبين نعمة الله بيسوع المسيح التي هي الحق كل الحق بقوله : « لأن الناموس بموسى أعطي ، أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا . » (يو1: 17).

لأن الـناموس هـو الـنعمة القديمة (المؤقتة) التي أعطيت من الكلمة بواسطة موسی ، … غير أن النعمة الأزلية والحق من خلال يسوع المسيح قد صارا . فبينا قال إن الـنـامـوس فقط بموسى أعطي ، فإن النعمة ( التي بيسوع المسيح ) كونها الحق الكائن من الآب ، فهي العمل الأزلي من الكلمة.] 

العلامة كلمندس الإسكندري

[ وبقوله نعمة فوق نعمة، فواضح أن اليهود ( المختارين ) خلصوا بالنعمة.] 

القديس يوحنا ذهبي الفم

[ فـبـينما الناموس كان يعطي النعمة للناس قديماً داعياً إياهم إلى المعرفة الكاملة لله ، فالنعمة والحـق بـواسـطة الإبن الوحيد يدخلان الصلاح فينا ليس بالشبه والمثال بل بالوصايا الإلهية.]

القديس كيرلس الكبير

وإن كـانـوا ( الآباء والأنبياء قديماً ) قد اختيروا من قبل الله ليس بسبب كمال أعمالهم ، فواضح أنه بالنعمة نالوا هذه الكرامة. وهكذا نحن كلنا (الآن) خلصنا بالنعمة، ولكن ليس مثلهم ، لأنه ليس بالقدر الذي كان لهم ، بل أكثر جداً . فالنعمة التي صارت لنا ليست مثل تلك ، فنحن لم نغط فقط مغفرة الخطايا ، بل أعـطـيـنـا أيضاً البر والتقديس ونعمة الروح الفائضة جداً، وصرنا من خلال هذه النعمة أعزاء الله . ] 

القديس يوحنا ذهبي الفم

[ النعمة بلغت الآباء (في زمانهم ) أيضا ، لكنها أتت بوفرة . هم حينذاك اشتركوا في الروح القدس ؛ أما الآن فقد تعمدوا فيه ( اصطبغوا ) كلية . ] 

القديس كيرلس الأورشليمي

و يـبـتـدىء الـقـديـس نيلوس ( من أنقرة سنة 430 ) يربط بين النعمة والتبني ( التي سوف نتكلم عنها باستفاضة)، فيقول :

[ قديماً أعطيت لنا النعمة ونحن أعداء منبوذون بمقتضى الناموس ؛ أما الآن فقد أعـطـيـت النعمة ونحن لسنا أعداء بعد، بل أبناء بمقتضى الإنجيل، أكثر مجداً من الأول ، هذه النعمة التي من خلالها نقترب من الله كأبناء.].

القديس نيلوس من أنقرة

غاية النعمـة

لذلك نـود لو ينتبه القارىء إلى هذا التدرج البديع في نعمة الله وسخائه بين العهد الـقـديم والـعـهـد الجـديـد. فكل عطايا الله و وعوده قديماً في خلاص الشعب من العبودية وعبوره البحر وسيناء ودخوله إلى ميراثه المريح في أرض كنعان « أرض الخيرات الوفيرة » أرض تـفـيـض لبنا وعسلاً، ثم انتصارات الشعب بيد الله في كل حرو به وضيقاته ، هذه كلها كانت «هبات نعمة»، وكانت غايتها النهائية دخول الشعب في عهد أمانة ومعرفة الله. فـغـايـة نـعـمـة الله سواء في العهد القديم أو العهد الجديد هي أن يرتبط الإنسان بالله المنعم والرحيم ليشترك أو ليكون شريكاً في نعمة الله !! غاية النعمة أن يصبح الإنسان شريكاً فيها !!

التجسد أعظم صورة للنعمـة :

لذلك ظهرت نعمة الله بأعظم وأعمق وأكمل صورة لها في تجسد ابن الله ، وهنا يركز آبـاء الـكـنـيـسـة بصورة مكثفة على أن نعمة الله العظمى ظهرت وأعطيت لنا في شخص يسوع المسيح .

يقول العلامة أوريجانس :

[هذه النعمة انتقلت إلينا بعد أن أرسل ( الله ) لنا ابنه يسوع ، فالقوة التي أظهرها بين اليهود أرسلها ( في شخص يسوع ) لمن تجدّدوا إليه من بين الأمم . ] 

العلامة أوريجانس

وفي هذا يؤكد القديس أثناسيوس :

[ هي نعمة واحدة التي أعطيت ( لنا ) من الآب في الإبن . ] 

القديس أثناسيوس

ولكن الآب والإبن لها نعمة واحدة :

[ الذي منه و به قد صارت النعمة . ] 

القديس أثناسيوس

غير أنه بالإبن إكتملت عطية نعمة الله :

[ فالكلمة واهب النعمة . ] 

القديس أثناسيوس

” ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا نعمة فوق نعمة . ” (يو1: 16)

[لأن النعمة التي أدركتنا كانت مذخرة في المسيح.] 

القديس أثناسيوس

والثالوث يشترك في عطية النعمة للإنسان :

[توجد نعمة واحدة مكتملة من الآب بواسطة الإبن في الروح القدس . ] 

القديس أثناسيوس

[ فـبـالـشـركـة في اللـوغـس ( الكلمة ) بواسطة الروح ، يأخذون هذه النعمة من الآب . ] 

القديس أثناسيوس

ولكن التجسد هو الذي أظهر النعمة بصورة واضحة وملموسة :

[ في ميلاد المسيح أعطيت النعمة للناس . ] 

قوانين الرسل

[ وبمجيء المخلص الذي يعني « نعمة تدبير التجسد ». … ] 

القديس كيرلس الكبير

السقوط من النعمة كتب القمص متى المسكين عطايا النعمة الرئيسية
كتاب النعمة في العقيدة و الحياة النسكية
المكتبة المسيحية

 

زر الذهاب إلى الأعلى