كتاب النعمة في العقيدة و الحياة النسكية للأب متى المسكين

كيف نقتني النعمة

وما علاقة النعمة بالجهاد النسكي ؟

 

+ [ النعمة خميرة ألقيت في طبعنا للتجنّس بالملكوت . ]
+ [ النعمة هي بمثابة الشمس للعين لترى الأشياء المنظورة لأنه بدون النور الإلهي لا تقدر النفس أن تدرك الحق . ]
+ [ المجازاة «الـكـامـلـة » العتيدة لأعمالنا هي من فضل النعمة ؛ وأما إعداد السراج واقتناء الزيت فهو لنا . ]

مار إسحق

يقول الآباء إن الله دائماً هو المبتدىء بالصلاح، والنعمة ــ في الوضع الصحيح – تزكي الجهاد، والجهاد يديمها ، ولا غنى للواحد عن الآخر. وأوضح برهان يقدمه الآباء على ذلك هو أننا بالمعمودية ننال نعمة الروح القدس لغفران ما فات وعر بوناً لجهاد آت ، فإذا جـاهـدنـا بالنعمة ضد الخطايا وثابرنا ونجحنا ، ننال نعمة أكثر ترفعنا دائماً فوق ضعفات الطبيعة باستمرار .

ولكن يبقى الله دائماً صاحب المبادرة في إعطاء نعمة يتحرك بها في ملء حريته ، وفي هذا يقول القديس مقار يوس في عظاته :
[ إذا جـاهـد الإنسان لكي يصير عزيزاً عند الله ومقبولاً لديه ، حينئذ سيرى حقاً بالإختبار  وبالإحساس اليقيني  خيرات السماء والـفـرح الذي لا ينطق به ، وغنى الله الذي لا يحد، الأشياء التي لم ترها عين ولم تسمع بها أذن ولم تخطر على قلب بشر. لأن روح الرب يستعلن لراحة أحباء الله الأبرار ولأجل مسرتهم وإسعادهم وحياتهم الأبدية . ]

القديس مقاريوس الكبير – عظة4: 12

ومـار إسحق يقدم لنا باختصار الخطوات الهادية للطريق النسكي ، من الميمر الثاني في رؤوس المعرفة ـ الباب 33 ـ الجزء الرابع .

أولاً : [ نأخذ الروح القدس من العماد كالعربون لتبطيل الخطية ] = « وأنعم لنا بالميلاد الفوقاني من الماء والروح . » ـ القداس الإلهي
ثانياً: [ بـالـروح الـقـدس نـنـال قـوة لـنـقـاتـل قبالة الآلام (شهوات الخطية )
والشيطان ] .
ثالثاً: [ بالأعمال والجهاد مقابل الآلام (شهوات الخطية ) نؤهل لزكاوة القلب ( الـزكـاوة هـي المـقـابـل الـضـد للآلام، فهي نقاء القلب من الشهوات ، وهي طهارته ، وهي تستخدم أيضاً في هذا التعبير : « الدم الزكي» ) ].
رابعاً : [ بالوصول إلى طهارة القلب يزيد الروح القدس لنا قوة لكي نستطيع أن نكون فوق الطبع ، وأن نقبل شركة ـ مجد ربنا ـ باستعلان نور مجده غير المنطوق
به ] .
خامساً: [ وهكذا يـكـمـل الـقـديـسون بالنعمة ليكونوا فوق الطبع (ضعفات الطبيعة ) بالإتحاد بيسوع المسيح ].
[ لذلك فالروح القدس يدعى « مكمل القديسين» . ]

مار إسحق

واضح هنا أن المصدر الأول لنوال النعمة هو المعمودية ، حيث النعمة لا يمكن فصلها عن المسيح والروح القدس. إذن ، فنحن جميعاً قد نلنا النعمة لأننا متعمدون ، وقد نلنا نعمـة الـروح القدس كعربون لتبطيل الخطية ، فأصبحنا في الحال مطالبين بالجهاد ضد الخـطـيـة وإغراءات الشيطان ، حيث جهادنا هنا يكون مضمون النصرة لأنه يكون بعمل قوة الروح القدس المتخصص في إبطال الخطية ، كالوعد الإلهي .

وهـنـا تـظـهـر المـعـمـوديـة كـفـعل إلهي دائم العمل والتأثير في حياتنا وقوة دائمة تسند جهادنا .

ولـكـن مـار إسحق ينبهنا ، في الدرجة الثانية، أنه ليس بقوتنا أو نشاطنا أو ذكائنا ، بـل بـالـروح الـقـدس نـنـال الـقـوة التي نـقـاتل بها قبالة الآلام أي الشهوات وإغراءات الـشـيـطـان ، أي أن الجهاد أو القتال قبالة الخطيئة لا ينجح بدون قوة أو نعمة الروح الـقـدس . لذلك ينبه مار إسحق بشدة أن نطلب قوة الروح القدس بإلحاح ومكابدة شديدة، إسمعه يقول :

تضرع إلى الله ، سبحانه ، دائماً، وابك تجاه نعمته ونُح ، وكابد الشقاء إلى أن يُنفذ( يُرسل) إلـيـك المعونة، لأنك إن رأيت مخلصك قريباً منك لن تنهزم من العدو المعاند لك .]

مار إسحق – الباب السادس ، الجزء الثالث 

هنا يلتحم الجهاد مع النعمة والنعمة مع الجهاد، حتى يكاد يتعذر تماماً أن تفرق أيها السابق .

كذلك نجـد هـنـا مـن كـلام مـار إسـحـق حالة جديدة من التأكيد المفرح والمشجع والمعزي جداً بقوله :
[لأنك إن رأيت مخلصك قريباً منك لن تنهزم من العدو المعاند لك . ]

مار إسحق

هـنـا يـسـجـل مـار إسحق حـالة جديدة للإنسان ، إذ بعد أن كان يصارع الخطيئة و يـقـاتـل مـولهـا وانـحـرافـاتهـا وجـوهـا المظلم الكئيب و يسقط و يقوم ، كطقس الجهاد والقتال ، ينال بالنعمة قرباً من المخلص يؤمن له عدم الإنهزام من العدو. فلا يعود الجسد يتسلط ولا الأعـضـاء تـتـمـرد ولا غرور الخطية ولا إغراءات الشيطان ، بل كل الحياة والآمال وكل الرجاء للمسيح ولروحه القدوس .

و يـسـتـطـرد مـار إسحق في مكان آخر فيصف هذه الحالة من التغيير أنها أحياناً تأتي بغتة ، أي أنه أثناء الجهاد والقتال ، و بينا الإنسان في مرارة القيام والسقوط ( ولكن وهو متشبث بالفضيلة ) ، تشرق عليه فجأة قوة مجددة من النعمة .

فإذا أنهـض الإنسان ذاته بحرارة ونفض عنه البرودة والثقل ( القتالات ) و بدأ يغصب نفسه قليلاً، حينئذ تدنو منه النعمة كما كانت ، وتأتى إليه قوة أخرى مخفى فيها كل خير وأنـواع معونات كثيرة ، فيتعجب الإنسان و ينذهل كيف ( انقلب ) الثقل الأول إلى خفة وقوة متجددة ، وكيف قبل بغتة هذا التغيير… أرأيـت يـا أخـي كم مقدار ما يبلغ الإنسان من النعمة إذا ما أيقظ ذاته قليلاً وصبر في أوان القتال ؟ ]

مار إسحق – الباب 14 ـ الجزء الثالث

ومار إسحق يشجع على الجهاد جداً معتبراً أنه مدخل رسمي لنوال مفاعيل النعمة :
[لأنه من الحق الواضح أن أي إنسان إذا رذل الشرور وتخلى عنها وابتعد عن كل المعاملات الباطلة وتمسك بالحياة الجديدة ، فإنه في زمان قليل يحس بالمعونة. وإن هـو جـاهـد قـلـيـلا فـإنـه يـصـادف عزاء لنفسه ويحظى بغفران خطاياه و يؤهل للنعمة .]

مار إسحق – الباب الأول ـ الجزء الثالث

كذلك وبنفس القوة والأصالة، يطالب القديس مقاريوس بالجهاد وتأجج نار الحب الله لنوال شركة الروح :

[ الـنـفـوس التي لهـا حـب مـتـأجـج مـن نحـو الله لا يخمد ، : ، تكون مستحقة للحياة الأبـديـة، ولذلك تكون أهلاً لأن تعتق من الشهوات وتنال شركة في نور الوحدة السرية غير الموصوفة مع الروح القدس في ملء النعمة، وعلى العكس من ، فإن جميع النفوس المدللة الرخوة ، بسبب كونها لا تزال في الجسد، لا تطلب التقديس بمثابرة وصبر، ليس التقديس الجزئي بل تقديس الـقـلـب بـالتمام ـ بـل ولا تـرجـو كـمـالاً لا في بـصـيـرة ، ولا يـقـيـنـاً في شيء ذلك πλειότητι μετὰ πάσης αἰσθήσεως καὶ πληροφορίας هذه النفوس لم تنل الإنعتاق من شهوات الشرور . ]

القديس مقاريوس – عظة 10

ويحث القديس مقار يوس على طلب نعمة الروح لتكميل بر الوصايا وفعل الفضائل :
[ فـكـل من وجد ، إذن ، هذا الكنز السماوي وامتلكه في باطنه ، وهو كنز الروح ، فإنـه يـكـمـل في روحه بر الوصايا كله وفعل الفضائل تماماً بنقاوة بدون عيب ،
و بلا تغضب وصعوبة .
فلنتوسل إلى الله ، إذن، ونطلب منه باجتهاد، ونسكب أمامه تضرعاتنا ، لكي يهبنا مجاناً كنز روحه ، ولكي نقدر بذلك أن نسير في جميع وصاياه بلا ملامة و بدون عيب ، ونكمل بر الروح كله بنقاوة وكمال بواسطة الكنز السماوي وهو المسيح.

لأن المسكين والـعـريـان والفقير الهالك من الجوع لا يقدر أن يبتاع شيئاً في العالم، فإن فقره يمنعه . وأما من كان حائزاً كنزاً، فإنه بسهولة و بلا تعب يتسلط على أي أملاك يشاءها كما قلنا .
كذلك النفس العريانة المحرومة من شركة الروح ، التي هي في شدائد الخطية القاسية فإنها ، وإن أظهرت مها أظهرته ، فلن تثمر ثمرة واحدة من ثمار روح البر بالحق والصحة ، إلا إن حصلت أولاً على شركة هذا الروح ذاته . ولـكـن يجب أيضاً على كل أحد أن يغصب نفسه على التوسل إلى الله لأجل أن يحسب أهلاً لنوال ووجود كنز الروح السماوي لكي يقدر بلا تعب وصعوبة أن يتمم وصايا الرب كلها بطهارة و بدون عيب ، ،، وإن لم يمكنه أن يفعل هذا قبلاً ولو بالإغتصاب ، لأن النفس إذا كانت محرومة من شركة الروح فكيف تقدر أن تحوز هذه الأملاك الروحانية دون أن يكون لها كنز الروح وغناه .
وأمـا الـنـفـس التي تجد الرب ، الذي هو الكنز الحقاني ، بطلب الروح والإيمان ومداومة الصبر، فإنها تثمر ثمار الروح كما قلنا ، وتكمل بر الرب ووصاياه كلها ، التي أمر الروح فيها وبها بنقاوة من دون تقصير أو عيب . ]

القديس مقاريوس ـ العظة 18 

ولـكـن القديس مقاريوس يعود فيحذر بشدة من أن وجود النعمة لا يعني أبدأ وصولنا إلى الكمال :
[ إذن ، فـمـن هـو الذي وصل إلى الدرجة الكاملة على الدوام ؟ أو من ذاق وحاز
على الإختبار الكامل للحياة ( الأبدية ) ؟ حتى الآن لم أقابل أي مسيحي كامل أو قد بلغ كمال تحرره، فحتى الذي جاز أعلى الأسرار والإعلانات وعظم مسرات الـنـعـمـة تبقى الخـطـيـة في نفس الوقت كائنة (كامنة) فيه ، ولكن بسبب فيض الـنـعـمـة والـنـور الـذي قبلوه يظنون أنهم تحرروا وصاروا كاملين . هؤلاء يضلون بسبب عدم أو نقص إختبارهم απειρία]

القديس مقاريوس – عظة 8: 5 

وكذلك فإن مار إسحق يعود و يؤمن الجهاد ضد الإحساس بالذات أو الإعتماد على العمل الشخصي أو الإرادة، فيؤكد أن جهادنا لا يحسب لنا على قدر كميته أو نوعيته بل بقدر حبنا الله وأمانتنا فيه !! :
[ إبتدىء بعمل الفضيلة بشجاعة، ولا ينقسم قلبك في طريق سيرتك على رجـاء نـعـمـة الله، لئلا يؤول تعبك لغير نفع وتثقل عليك أعمال فلاحتك ، لكي تحقق في قـلـبـك أن الرب رحيم ومجـيـب طـالـبـيه ومتفضل عليهم بنعمته ، لا بحسب أفعالنا بل بمقدار حبنا له وإيماننا به . ]

مار إسحق – الباب الثالث ، الجزء الثالث

كذلك، فإن مـار إسحق يكشف أن نجاحنا في الجهاد هو في الحقيقة عمل خفي من المسيح الحال فينا ، و يقص هذه القصة :
[ قـال سـقـراط كـاتـب سيرة البيعة ( المؤرخ الكنسي) أنه في أيام يوليانس الملك كان شاب اسمه ثيئوذوروس قد دفع للعذاب في مدينة أنطاكية لأجل اعترافه بالمسيح ، و بعد عذاب عظيم مشطوا جسده بأمشاط من حديد حتى انتثر لحمه كله على الأرض. وبعد ذلك تـركـوه لمـا عـرفـوا أنه لن يعيش . ولكن الله نجى هذا القديس وعاش بعد هذا العذاب مدة طويلة .
وإن كـاتـب السيرة سأله هل كان يتألم كثيراً وقت العذاب ؟ فأجاب : إنه كان لا يحس إلا بشيء قـلـيـل مـن الألم لأنه رأى شاباً واقفاً بجواره يمسح عرق 
جهاده و يشجع روحه و يقويه و يشرح نفسه ، و ينجيه من العذاب.
يا لمراحـم الرب ! مـا أقـرب نـعـمـتـه للـذيـن يقاسون من أجله في الجهاد ،
و يصبرون على الآلام…
لا تجـحـد غـايـة الله أيها الإنسان ، لأنك لست أنت الغالب ، بل الرب هو الغالب فيك، وأنت تأخذ اسم الغالبين !! موهبة مجاناً !! ]

مار إسحق

و يقول القديس مقار يوس أيضاً عن عمل الروح الحقي في النفس :
[ولهذا الموجب ، ينبغي لنا أولاً أن نطلب من الله باجتهاد قلب وإيمان ، ليهب لنا أن نجد في قلوبنا هذا الغنى، وهو كنز المسيح الصحيح بقوة الروح وفاعليته ، فإذا وجـدنـا فـائـدته فينا أولاً وهو الخلاص والحياة الأبدية والرب نفسه ، فحينئذ نفيد غـيـرنا أيضاً لإقتدارنا على التداخل فيهم ، إذ تخرج من كنز المسيح الذي فينا كل صلاح بـالأحـاديـث الـروحـانـيـة، فنعلن الأسرار السماوية . لأن إرادة الآب الصالحة إرتـضـت بـأن يحل هو مع كل من يؤمن به و يرومه ، لأن المسيح قال : « الذي يحبني يحـبـه أبي ، وأنـا أحـبـه وأظـهـر له نفسي، وإليه نأتى ونصنع عنده منزلاً » . هذا ما شاءه إحسان الرب غير المتناهي، وهذا ما إرتضت به محبة المسيح التي لا تـوصـف ، وهـذا مـا وعـد بـه صـلاح الـروح الفائق كل منطوق ، فالمجد لما للثالوث المقدس من المراحم التي تعلو على كل وصف ، لأن الذين حسبوا أهلاً لأن يـصـيـروا بني الله ولأن يـولـدوا مـن الـروح من فوق والمسيح فيهم منيراً ومريحاً إيـا هـم ، هؤلاء يـقـودهـم الروح بهدايات مختلفة متعددة، والنعمة تفعل في قلوبهم سراً، وتكون لهم مع ذلك راحة روحية . ]

القديس مقاريوس – عظة 18

[فـلـنـتـوسـل، إذن ، إلى الله ونـؤمـن بـالمحـبـة والرجاء الوافر ، لكي يمنحنا النعمة السماوية، نعمة موهبة الروح ، حتى يتولانا هذا الروح نفسه و يقودنا إلى إرادة الله كلها، ويمتـعـنـا بـأنـواع الـراحة المعهودة التي يمنحها هو، لكي بواسطة هذه الـفـاعـلـيـة وتـأثير النعمة، والتهذب الروحاني ، تحسب أهلاً لإدراك كمال ملء المسيح ، كما نص على ذلك الرسول قائلاً: « لتمتلئوا بكل ملء الروح » ، وقال أيضاً: «حتى نـبـلـغ جميعنا لرجل كامل على قدر قامة ملء المسيح » . وقد وعد الرب كل الذين يؤمنون به و يسألون منه بالحق، بأنه يعطيهم أسرار شركة الروح الفائقة الوصف ، فبعد أن ننذر نفوسنا بكليتها للرب ، يجب علينا أن نجتهد على قدر طاقتنا في المبادرة إلى إدراك الصالحات التي تقدمنا فذكرنا هما ، بحيث نتعبد نفساً وجـسـداً ونتسمر في صليب المسيح ، لعلنا نصير أهلاً للمذبت السماوي ، فنمجد الآب والابن والروح القدس مدى الدهور آمين . ]

القديس مقاريوس

نعمة التبني عند آباء الكنيسة كتب القمص متى المسكين النعمة والتجارب
كتاب النعمة في العقيدة و الحياة النسكية
المكتبة المسيحية

 

زر الذهاب إلى الأعلى