كتاب النعمة في العقيدة و الحياة النسكية للأب متى المسكين

عطايا النعمة الرئيسية

 

بـدراسـة كـتـابـات الآباء نجد أن النعمة الإلهية ترتكز بصورة واضحة في العطايا الآتية :

أولاً : نعمـة التجسد، وعمل الفداء بموت المسيح وقيامته الذي أكمله الله لخلاص الإنسان .

ثانياً : النعمة الموهوبة للإنسان في المعمودية ( و بقية الأسرار ) لإقتبال غاية التجسد ، أي الشركة في موت المسيح وقيامته .

ثالثاً : نعمة التبني وعطية الروح القدس .

وسوف نجوز في هذه العطايا بدون تحديد لأنها متداخلة معاً .

أولاً : غاية التجسد هي غاية النعمة

وهي إن الغاية النهائية من التجسد هي بعينها التي رأيناها غاية نهائية « للنعمة » : أي أن يصبح الإنسان شـريـكـاً في نعمة الله، الأمر الذي تم لنا بصورة فائقة ونهائية بموت المـسـيـح وقيامته ، حيث في موته رُفعت عنا جميع الحواجز والعوائق التي تفصلنا عن الله ، الخـطـيـة بـكـل فـروعـهـا وأصـولهـا ، وفي قيامته برّرنا وأقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات . وهكذا اكتملت للبشرية في موت المسيح وقيامته شركة قائمة ودائمة في نعمة الله في السماء كنصيب وميراث محفوظ لنا لا يتدنس ولا يضمحل ، وفي الأرض فرح وسرور وسلام في أعـنـف المواقف وأشد الإضطهادات عربوناً شاهداً بصدق مواعيد الله العليا . هكذا صارت نعمة العهد الجديد ميراثاً أبدياً مع المسيح : مجداً في السماء، وسلاماً على الأرض!!

وهـكـذا ظهرت محبة الله الأزلية بكل وضوح عملي واختباري نحو البشرية الخاطئة «كـفـعـل نـعـمـة فائق الوصف » في موت المسيح وقيامته !! فأصبحت خلاصة الحياة الـروحـيـة في مـفـهـوم العهد الجديد هي أن يقتني الإنسان « هذه النعمة » ، أي يدخل في صميم فعل النعمة الفائق الوصف ، أي في موت المسيح وقيامته .

ثانياً: الأسرار الكنسية هي المدخل الوحيد لقبول غاية النعمـة

وهـذا الإقـتـنـاء لا يتم إلأ داخـل الكنيسة ، و يبدأ بسر المعمودية المعروف أنه «سر الإيمان الأول»، حيث يحصل الإنسان على شركة شخصية في موت الرب وقيامته تؤول إلى فـعـل استنارة ، أي إلى دخول في نور الخلاص، لرؤية جديدة في الله لإدراك علاقتنا السرية معه كبنين !!

[وإذ نعـتمد نستنير، وإذ نستنير نصير بنيناً، وإذ نصير بنيناً نكمل، وإذ نكمل نصير غير مائتين بعد. هذا الـعـمـل ـ أي المعمودية ـ يدعى نعمة واستنارة ، وكمالاً واغتسالاً! إغتسال لأننا بالمعمودية نغتسل من خطايانا، ونعمة لأن العقوبة المفروضة على التعدي ترفع في المعمودية ، واستنارة لأننا بالمعمودية نرى نور الخلاص أي نرى الله جيداً. ] 

العلامة كلمندس الإسكندري

وفي عُرف الآباء إن كـانـت المـعـمـوديـة تـعـتـبر نـعـمـة عتق من الخطايا وفك ربط الشيطان ، فالتناول هو نعمة دخول في الجسد :

[ الذيـن اعـتمدوا وذاقوا النعمة الإلهية… يأتى الشيطان مزمجراً عليهم … ولكن ما دمـنـا فـكـكـنـا قيودنا (بالمعمودية ) فلنتقدم إلى النعمة الإلهية ونتناول من الجسد المقدس . ] 

القديس كيرلس الكبير

وهكذا يلاحظ القارىء أن نعمة الإفخارستيا مكملة لنعمة المعمودية ، ومن الإثنين يبلغ الإنسان إلى غاية النعمة, وهي الشركة الدائمة في نعمة الله بالإتحاد بشخص يسوع المسيح ، بالإصطباغ بموته ، ونوال روح قيامته ، والدخول في امتياز عضوية جسده !

ولـكـن لا يتم هذا كله إلا من خلال الأسرار الكنسية التي هي المدخل الوحيد لقبول نعمة الله ، بـاعـتـبـار أن المسيح هو نفسه هبة الله العظمى للبشرية الحامل لنعمة الآب الـكـلـيـة. ثم إن المسيح بدوره أوصل هذه النعمة بنفسه للإنسان كنعمة أيضاً من طرفه ، نعمة الإبن ، وذلك بموته الإرادي وقيامته التي هي هي : نعمة الفداء ، مستودعاً هذا السر الخلاصي للكنيسة في نـعـمـة سر المعمودية وسر الإفخارستيا وما يتبعها من أعمال وأسرار.

المعمودية سر الإيمان الأول ، والمدخل الأول للنعمة :

وفي هذا يمـدنـا العـلامـة أوريجانس بمنهج رائع لمفهوم المعمودية كمدخل أساسي للنعمة :

فـنـعـمـة المعمودية عند أوريجانس هي أساس الحياة الروحية كلها ، منذ بدايتها حتى آخر درجاتها ؛ أما بقية الحياة الروحية بكل أعمالها وجهادها وأسرارها في جميع مراحلها بعد المعمودية فهي ليست سوى الإحتفاظ والإستزادة من نعمة المعمودية الأولى !!

فجميع التعاليم الأخلاقية وفنون الجهاد عند أوريجانس تنبع أساساً من نظرة روحية متأصلة في أن الله هو صاحب المبادرة الأولى في سكبه نعمته على الإنسان في المعمودية :

+ فالإنسان المسيحي يشترك في حياة الكلمة ( المسيح ) بالروح القدس. هذه الـشـركـة تـقـوم على ثلاث ركائز: الإيمان الشديد، والمعرفة المستنيرة، والحب الملتهب .

أما غاية هذه الشركة الممتدة في المسيح ، فهي العودة إلى الآب !!

[ المعمودية هي مبدأ و ينبوع جميع النعم الإلهية ، فغسل الماء للتطهير، الذي يشير إلى تطهير النفس التي تغتسل (بالسر) من كل دنس وكل غش ، هو نابع من قوة الدعاء باسم الثالوث المعبود، القوة التي تنسكب على من يتقدم الله.]

وتتلخص نعمة المعمودية في :

– [ أ ـ الإنعتاق من عبودية الشيطان .
ب ـ المغفرة الكاملة لجميع الخطايا دفعة واحدة .
ج – إمتلاء المعتمد من الروح القدس ونزول نار إلهية ( غير منظورة ) تأكل منه كل ما هو مادي وأرضي . ] 

+ الإنسان المعتمد يصير إنساناً جديداً :

[ لـقـد نـزلت إلى الماء وصرت صحيحاً ( صورة الله الأولى)، وقد تطهرت من كل دنس الخـطـيـة، ثم صعدت ثـانـيـة (قيامة ) إنساناً جديداً مهيئاً لتسبح تسبحة جديدة.] 

+ ما هي الحياة الجديدة وهذه الولادة الجديدة ؟

[ نعمة المعمودية هي موت وقيامة مع المسيح . ] 

[و بالمعمودية نصير أبناء الله وإخوة للمسيح . ] 

المعمودية نصير أيضاً أعضاء للمسيح وهياكل الله . ]

[ المعمودية هي شركة في الطبيعة الإلهية بالحب بواسطة الروح القدس المنسكب في القلوب] 

+ وأوريجانس واضح في تـأكـيـده على أن المعمودية وما تؤول إليه من ولادة جديدة للبشرية هي من عمل الثالوث :

[ بدون الآب والإبـن والـروح الـقـدس ، لا يمكن أن تتم الولادة الجديدة التي بها يتحقق الخلاص.] 

ويؤكد أوريجانـس أن المؤمنين يـنـالـون الروح القدس بالمعمودية، وليس كما يخطىء بعض الناس في هذه الأيام وبعض العقائد المنحرفة التي تنادي بأن الإنسان يحتاج إلى معمودية الـروح القدس، فواضح ( ليس من أوريجانس فقط بل ومن جميع الآباء ) أن الإنسان ينال الروح القدس بالمعمودية، وليس العكس .

فـالـرسـل هم وحدهم الذين اعتمدوا بالروح القدس كمسحة خاصة بشبه المسيح في الأردن ، حتى يـسـتـطـيـعـوا أن يهبوا الروح القدس بالمعمودية، وقد استلمت الكنيسة هذا الإمـتـيـاز الـفـائـق بـشـبه المسيح والرسل، أن تمنح الروح القدس بالمعمودية لا أن تعمد الآخرين بالروح القدس !!

[ في المعمودية ينال الإنسان نعمة الروح القدس.]

و يوضح أوريجـانـس أن شركتنا التي تنالها مع المسيح لا يمكن أن تتم إلا من الروح القدس ( لذلك أكد المسيح لتلاميذه أنه خير لهم أن ينطلق و يرسل لهم الروح القدس ، لأن بهذا يستطيع المسيح أن يهب نفسه و يصير شريكاً وعريساً لكل نفس بالروح !! ).

الروح القدس نحن ننال شركة مع الإبن،
«فالكلمة» فينا هو مبدأ الحياة الإلهية ـ مثل الروح ـ ،
و « الكلمة» هو عريس النفس . ] 

 

+ ونعمة هذا الإتحاد الزيجي ( العرسي ) الذي تزف إليه الكنيسة ، أو النفوس الفردية المنتمية إلى الكنيسة ، إنما تتحقق في المعمودية .

[ إن الأسرار في كـل موضع تتجاوب وتأتلف مع بعضها البعض ، فهناك توافق بين صور العهد القديم والعهد الجديد :
في الـعـهـد الـقـديم كـانـوا يذهبون إلى الآبار والماء ليجدوا الزوجات (قصة أليعازر الدمشقي وهو يخطب رفقة لإسحق على بئر يعقوب )، والآن في جرن المياه تتحد الكنيسة ( والنفس البشرية عروساً) بالمسيح!!] 

[وهكـذا فـإن حـلـول « الـكـلـمـة » ( اللوغس) في أحشاء العذراء و ولادته منها يتحقق من جديد في جسده السري ، لأن حلول « الكلمة» الذي هو صورة الله ـ في النفس البشرية ( في المعمودية ) يحولها إلى صورته.] 

والنفس التي تغيرت إلى صورة الإنسان السماوي (يسوع) في المعمودية تصير هيكلاً للثالوث الساكن فيها :

[فإذا مـا وجـد كـلـمـة الله ( المسيح) راحته في النفس ( بعد المعمودية بالسيرة والجهاد الحسن ) فإنه لهذه النفس يقول الرب : إليه نأتى أنا وأبي ونصنع فيه منزلنا ونتعشى معه.] 

[فإن تعشى المسيح وأبوه داخل النفس و وجدا فيها منزلاً لها ، كيف لا يجدان أيضاً راحتها هناك!!] 

وهكذا يصوب أوريجانس تعليمه باختصار فائق و بسرعة وتأكيد وحذق مدهش نحو الغاية النهائية لكل النعم الإلهية التي تبدأ من المعمودية .

فالإتحـاد بـالله ( الذي يبدأ بالمعمودية و يتم بالإفخارستيا ) الذي به يتحقق و يكتمل تقديسنا هو يتجه أساساً لإتحادنا بالآب بروح البنوة الثابتة والمتصلة بالله !! أما كل تدبير الخلاص فيتجه نحو هذه الغاية ، أي غاية الإتحاد بالله بقبول روح التبني !

فالآب لا يجذبنا نحو ابنه و يوحدنا به إلا لكي يصيرنا في النهاية مشابهين لذاته ( أي مشابهين للآب، فالإبن المتبنى بالنعمة الآخذ صورة الإبن الوحيد هو حتماً على قدر ما يشابه الآب).

وإن كان الآب يـعـطـيـنا الروح القدس ( في المعمودية ) ويملأنا بمواهبه ، فلكي يوجد الصلة الثابتة التي تجعلنا قادرين أن نمسك به ( أي بالآب) ونقبله في داخلنا بصورة دائمة ، فنصير هياكل حية لسكناه بحسب وعد الإبن الذي وعد أن يأتى إلى النفس مع أبيه و يصنع فيها منزلاً .

هذا أعلى تـعبير عـن نـعـمـة أبوة الله الموهوبة للإنسان بالمعمودية ، فهي ليست أبوة مترفعة متباعدة بل أبوة متنازلة قادرة أن تعاشر الأضعف والأصغر بل والمنبوذ وتأكل معه خـبـز الـدمـوع ! … « أتعشى معه وهو معي» : فكون المسيح يتعشى معي يعني أنه يقاسمني خبز آلامي، وكوني أنا أتـعـشـى مـعـه يعني أني أتناول من يده خبز آلامه ، خبز الحياة جسده !!

ثالثاً : نعمـة التبني

هي أثمن عطايا النعمة وأقصى غاية لها .

ونـعـمـة التبني هي الثمرة المباشرة لتجسد ابن الله ، إذ أخذ طبيعتنا البشرية لتكون له خاصة، وبتكمـيـلـه فداء الإنسان بالموت والقيامة اللذين أكمل بها كل قضاء الله ضد الخطاة الذين بقيامته أعطاهم حكم براءة (تبرير)، نقلهم من عبيد إلى أحرار أولاً .

ثم إذ وهب الله للإنسان الروح القدس ، أعطى للإنسان أن يكون شريكاً في هذا الموت عـيـنـه وهذه القيامة، واقتبل في كيانه وخلقته الجديدة روح يسوع المسيح بسري المعمودية والإفخارستيا اللذين بها أخذ الإنسان نعمة جديدة هي مشابهة ابن الله والإتحاد بجسده كعطية مجانية من يسوع المسيح بشهادة الروح القدس الذي يشهد لأرواحنا أننا صرنا أبناء الله بالنهاية .

أي أن التبني تم لنا أولاً : بالفداء على الصليب ، وثانياً : بالتبرير بالقيامة ، وثالثاً : بالإتحاد بالمسيح ، ونوالنا صورته بالروح القدس في سري العماد والإفخارستيا .

نعمة التبني في الإنجيل والرسائل :

والمعنى الذي يحمله سر التبني في الإنجيل عميق للغاية، فهو يعني صلة قربى جديدة الله مـن خـلال يسوع المسيح و بعمل الروح القدس . فالتبني هو الإصطلاح الأكثر وضوحاً لمفـهـوم الشركة في الطبيعة الإلهية، فالشركة في الطبيعة الإلهية لا تفيد شيئاً أكثر من أننا صرنا أبناء الله بالنعمة .

ونعمة التبني ، في الحقيقة، كما نستشفها من روح الإنجيل ـ هي استعلان أبوة الله . فـالـتـبني واقع إلهـي حـي يـتـنـاسب مع الله و يفرح قلبه أكثر بما لا يقاس مما يفرح الوالد الجسداني بإبن جديد يولد له .

لذلك فالتبني الله الذي اكتسبه المسيح لنا بموته وقيامته كان محور كل رسالته وحياته ومـوتـه . ولقد نجح المسيح في الكشف عن أبوة الله المستعدة لتبنينا قبل أن يتقدم إلى الـصـلـيـب . ففي مواقف كثيرة كالموعظة على الجبل، استطاع المسيح أن يكشف لنا عن قلب الله كأب فـائـق الحـنـو واللـطـف الكاشف أعماق قلوب البشر، باحثاً عن حب الإنسان ليحتضنه و يسكب عليه مراحم أبوته التي تفوق الوصف.

ولـقـد مـهـد المـسـيـح لمـوضـوع التبني ـ قبل أن يدخلنا فيه بصليبه ـ بتوضيح بنوته الفائقة والفريدة الله ، وبالكشف عن أبوة الله الخاصة به وحده والفائقة على كل علاقة أخرى .

مـن هـنـا كـانت دعوة المسيح في الإنجيل التي بدت غريبة على أسماع اليهود أن كل من يسمع كلامه و يؤمن به و يسير وراءه و يتألم من أجله يصير ابنا الله !! « أما كل الذين قـبـلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله » (يو1: 12). والذي يرفض المسيح يرفض الآب ويمكث عليه غضب الله (يو3: 36)! وبهذا جعل المسيح نفسه الوسيلة الوحيدة التي يصير بها الـنـاس أولاد الله ، وذلك كـونـه الإبن الوحيد الله !! هذا الكلام لم يطق اليهود سماعه ، لأن سر الصليب لم يكن قد استُعلن بعد، الذي أثبت به المسيح جدارته الفائقة أنه قادر أن يأتى بأبناء كثيرين إلى المجد (عب3: 10). « كل شيء قد دفع إلي من أبي ولـيـس أحـد يعرف الإبن إلا الآب ، ولا أحد يعرف الآب إلا الإبن ومن أراد الإبن أن يعين له . » (مت11: 27)

فـبـنـوة المسيح الله بصورة مطلقة وجوهرية هي المصدر الوحيد الذي نالت به البشرية بـنـوتهـا الله بالنعمة. ونحن يستحيل علينا أن نذوق أمجاد أبوة الله إلا بقدر التصاقنا الشديد بالإبـن الـوحيد. ولكن علينا أن نثق تماماً أن الله على الدوام طالب أبناء له بإلحاح من واقع حبه الأبوي المتفجر . و بقدر ما نشابه الإبن الوحيد في كل شيء ؛ بقدر ما يستعلن لنا الآب أحشاء حبه الأبوي .

أما مشابهتنا للمسيح الإبن الوحيد التي بها يستعلن حب الآب لنا ، فلا تتوقف فقط على جـهـدنـا الـنـسـكـي وسلوكنا الأخلاقي ، بل تكمل وتستزاد بصورة غامرة في الأسرار المجانية «لأنكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع ، لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح » (غل3: 26و27). هذا الوعد ينبغي أن يكون أساساً متيناً لجهادنا النسكي .

هنا لبس المسيح الذي يشدد عليه القديس بولس الرسول و يقرنه مراراً بخلع العتيق أيضاً هو في الحـقـيـقـة أكثر مـن طـاقـة المجـهـود الإنساني ، سواء بتغيير السلوك أو تعديل الأخلاق، ولكنه نعمة السر وسر النعمة الفائقة التي استودعها المسيح في المعمودية .

ففي المـعـمـوديـة تـلـتـحـم الـنـفـس البشرية بروح المسيح في وضع سري لتصير معه « واحداً» بالفعل، وذلك بانسكاب حياة المسيح داخل النفس البشرية، فيصير المسيح مبدأ حياة فائقة للطبيعة :

[ لأن حـلـول الـكـلمة « اللوغوس» الذي هو صورة الله في النفس (في المعمودية ) يحولها إلى صورته ] ، [ فاللوغوس « الكلمة» هو إذن مبدأ الحياة.] (أوريجانس في تفسير لوقا 8، يوحنا1: 27)

[ المسيح إذن هو قداستنا لأنه هو القداسة عينها ، وهو يقدسنا لأنه يشركنا في قداسته . ] (أوريجانس في تفسيريوحنا1: 34)

إذن ، فعملية تقديمنا كأبناء الله عملية سرية للغاية يضطلع بها المسيح بنفسه مبكراً جـداً في المعمودية وعلى مدى إشتراكنا في جسده المحيي ودمه الكريم ، إذ يحولنا إلى صورته بـشـكـب بـنـوته فينا ، أو بالحري يسكب أرواحنا في قالب روح بنوته فتنطبع علينا صورة وجهه « إلى أن يتصور المسيح فيكم» (غل4: 19)، ويشركنا في ميراث بنوته الله على قـدر سـلـطـانـه في إخلاء ذاته، وبإعطائنا هذا الحق بختم دمه وتعضيد روح قيامته من الأموات .

والمـسـيـح يعتمد اعتماداً وثيقاً على الروح القدس في حصولنا على كل ما للمسيح واتحـادنـا فـيـه « فالذي ليس له روح المسيح فذلك ليس له » (رو8: 9). والروح الذي يهبه  لنا المسيح هو هو دائماً به الذي روح تعضيد «روح التبني » (رو8: 15). وهكذا بالنهاية نصير في نظر الله «مشابهين لـصـورة ابـنـه لـيـكـون هـو بـكـراً بين إخوة كثيرين . » (رو8: 29)

نعمة التبني في الإنجيل توحي بأنها ذات اتصال سري بالله :

نقرأ في إنجـيـل يـوحـنـا الـرسـول ورسائله مراراً وتكراراً أن كل الذين اعتمدوا فهم يـولـدون الله مـن المـاء والـروح ، هؤلاء يولدون من الله . والمطلوب من القارىء أن ينتبه للعلاقة السرية القائمة بين عبارة «المولود من الله » وعبارة أخرى تجيء مرادفة للعبارة الأولى « هو من الله » . 

مولود من الله :

ـ « كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد ولد من الله . » ( 1يو5: 1)

ـ « كل من يصنع البر مولود من الله . » (1یو2: 29)

ـ « كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية . » (1يو3: 9)

ـ « ولا يستطيع أن يخطىء لأنه مولود من الله . » ( 1يو3: 10)

« كل من يحب فقد ولد من الله و يعرف الله . » ( 1يو4: 7)

ـ « كل من ولد من الله يغلب العالم . » ( 1يو5: 4)

. « كل من ولد من الله لا يخطىء . » ( 1يو5: 18)

ـ « المولود من الله يحفظ نفسه والشر ير لا يمسه . » ( 1يو5: 18)

 و يـعـود القديس يوحنا في مواضع أخرى يؤكد أن المولود من الله هو من الله بمعنى أن هناك علاقة سرية تقوم بين الله والذي يولد من الله . فيصبح المولود من الله يستمد كيانه من الله باتصال سري :

ـــ «أنتم من الله أيها الأولاد وقد غلبتموهم لأن الذي فيكم (روح المسيح ) أعظم من الذي في العالم . » ( 1يو4: 4)

ـ « نحـن مـن الله فـمـن يـعـرف الله يسمع لنا ومن ليس من الله لا يسمع لنا . » ( 1يو4: 6)

ـ « نعلم أننا نحن من الله ، والعالم كله قد وضع في الشرير . » (1يو5: 19)

وهكذا نجد أن عبارة «المولود من الله » تقابلها عبارة توضيحية « هو من الله » ، وهـذا يفيد أن عملية التبني ليست منحة وحسب ، بل شركة في الله ، لأننا نعلم تماماً أن المسيح يحيا بالفعل في أولاد الله .

لهذا يطالبنا المسيح وهو على حق في مطالبته « فكونوا كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل . » (مت5: 47 ، لو6: 36)

هنا تقوم المطالبة على أساسين : الأول : أنه طالما نحن نملك حياة المسيح فينا ، فنحن قادرون بالمسيح أن نبلغ إلى الكمال المسيحي الذي يرضي الآب .

الثاني : أن الإبـن المتبنى طالما هو على صورة الإبن السمائي وعلى صلة كيانية حية وفعالة بأبيه ، فهو قادر أن ينمو كما يشاء الآب .

معنى الكلمة كتب القمص متى المسكين نعمة التبني عند آباء الكنيسة
كتاب النعمة في العقيدة و الحياة النسكية
المكتبة المسيحية

 

زر الذهاب إلى الأعلى