لا تحزنوا روح الله القدوس

‏«لا تحزنوا روح الله القدوس، الذي به ختمتم ليوم الفداء»
«ولا تطفئوا الروح »
(أف 4: 30 ،  1تس 5: 19)

الإنسان المسيحي مجاهد بالدرجة الأولى، يتقلد «سيف الروح الناري» منذ أول لحظة يخرج فيها من ماء المعمودية كمولود جديد ، « هو يعمدكم بالروح القدس ونار» (مت 3: 11)

فالإنسان المسيحي يقوم في هذا الجهاد والسيف لا يفارق يده والنار لا تفارق عقله وقلبه حتى آخر لحظة من حياته ساعة أن يستودع الجسد للتراب الذي أخذ منه ، مضمخاً بعطر المحبة الخالصة الكثيرة الثمن ، وتنطلق الروح في نصرة الروح والتهاب الحب واستنارة الحكمة ، لتحيا إلى الأبد تسبح في حضرة خالقها.

في ساعات نصرة الجهاد الواعي تحتضن النعمة الإنسان وتلذذه بثمرات الحب الإلهي ونور المعرفة الفائقة، فيحس الإنسان أنه أسعد خليقة على الأرض، بل و يتحدى الملائكة في سعادته ودالته مع الله . في هذه الساعات يفرح الروح القدس بالإنسان جداً.

ولكن حينما ترتد النفس وتنحصر تحت حماقة غرائزها الطبيعية وهيجان اللاشعور وينبطح الإنسان في أرض المعركة و يتعدى وصايا الحب الإلهي؛ ينحصر الروح القدس داخل القلب ويكتئب جداً، إذ تتوقف رسالته الأولى والعظمى: رسالة الحب الإلهي، ويصبح خلاص الإنسان في خطر، و يتعطل عمل الفداء.

وهنا يقف الصديق الأعظم للإنسان حائراً قلقاً حزيناً: «لا تحزنوا روح الله القدوس الذي به ختمتم ليوم الفداء» .

وأمام جهالة الإنسان هذه وحماقته الشديدة، حينما يطرح الحكمة خلف ظهره و ينبذ الرزانة والوقار و يتدانى إلى مستوى البهيمة أو ما دون و يدخل عقله في منطقة الظلمة راضياً مستسلماً لأهواء الهوان صائراً في ذلةٍ واحتقار يرتد الروح القدس إلى خلف و ينطفيء نوره في القلب، ويتوقف لسانه الناري في العقل، فلا يسمع له صوت فضيلة ولا حركة نعمة ولا فعل إحراق وتطهير “لا تطفئوا الروح” !

كل خطيئة ضد المحبة هي خطيئة ضد الآب وضد الإبن، وضد الروح القدس بالدرجة الأولى؛ لأنه هو الذي يقود الإنسان إلى حضن الآب والابن. وبالتالي، فكل عداوة وكل بغضة وكل حقد وكل حسد وكل ملعة وكل دينونة وكل احتقار أو إهمال وامتهان للآخرين هي هي خطايا موجهة ضد عمل الروح القدس ورسالته ، وهي كفيلة بأن تجعله في غم وحزن واكتئاب، مع أنه هو المتكفل بتعزية الإنسان!! علماً بأن حزن الروح القدس هو بعينه الذي يرتد على الإنسان شعوراً بالخيبة والمرارة والجفاف الشديد، إن كان في القراءة أو الصلاة أو الخدمة ، مع وجع في القلب وغصة أشبه ما تكون بقصة الموت! لأنه إذا ضاع الحب والعزاء من الإنسان فماذا يتبقى له؟

كذلك، فإن كل خطيئة ضد الحكمة والحق والرزانة فهي خطيئة ضد الروح القدس، وبالتالي فكل خطيئة ضد العفة والقداسة وكل كذب أو افتراء وكل تصاغر وخفة في السلوك أو التدبير هي خطايا موجهة ضد الروح القدس مباشرة، لأنه هو المتكفل بتلقين الإنسان كل الحق، وهي كفيلة بأن تطغى على نوره وعلى تأججه واشتعاله في القلب حتى تطفئه. فإذا انطفأ الروح القدس في القلب فماذا يتبقى للإنسان إلا ظلام وبرودة، فلا إلهام ولا فهم ولا مشورة ولا حكمة، بل تخبط في الجهالة وفقدان هدف الحياة فيتخبط الإنسان ولا يعرف إلى أين يسير.

وهكذا فإن الروح القدس إذا أحزن بالأعمال والأقوال التي هي ضد المحبة وأطفىء بالأعمال والأقوال التي هي ضد الرزانة والحق، لا يتبق للإنسان أي مصدر للعزاء أو الرجاء، ولا أي ملجأ يلتجيء إليه، ولا أي معين يستصرخ نحوه. لذلك يقول الرب إن الخطيئة ضد الآب تغفر والتي ضد الإبن تغفر أيضاً ، ولكن التي ضد الروح القدس لا تجد لها منفذاً ولا غفراناً !! لأن الروح القدس هو الذي يمسك بيد الإنسان ويقوده بالحب و بالحق إلى حضن الإبن ثم حضن الآب !!

والآن إذا عدنا إلى قائمة الخطايا التي يسردها بولس الرسول في رسالته إلى أفسس وفي رسالته الأولى إلى تسالونيكي باعتبار أنها خطايا تحزن الروح القدس وتطفئه، نجدها في مجملها تنقسم بوضوح إلى قسمين واضحين خطايا ضد المحبة، وخطايا ضد الحق، وخطايا تحزن الروح القدس، وخطايا تطفىء نوره ولهيبه.

وهنا نرجو القارىء أن يقرأ بتؤدة وبفحص:
أولاً : كل الآيات الواردة في أفسس 4: 14-32 ، 5: 1-21.
ثانياً : كل الآيات الواردة في 1تس 5: 15-24 .

1- كي لا نكون في ما بعد أطفالاً مضطربين ومحمولين بكل ريح تعليم بحيلة الناس، بمكر، إلى مكيدة الضلال. بل صادقين في المحبة ننمو في كل شيء إلى ذاك الذي هو الرأس المسيح، الذي منه كل الجسد مركباً معاً ومقترناً بمؤازرة كل مفصل حسب عمل على قياس كل جزء، يحصل نمو الجسد لبنيانه في المحبة .

«فأقول هذا وأشهد في الرب أن لا تسلكوا فيما بعد كما يسلك سائر الأمم أيضاً ببطل ذهنهم، إذ هم مظلمو الفكر ومتجنّبون عن حياة الله لسبب الجهل الذي فيهم بسبب غلاظة قلوبهم الذين إذ هم قد فقدوا الحس أسلموا نفوسهم للدعارة ليعملوا كل نجاسة في الطمع. وأما أنتم فلم تتعلموا المسيح هكذا ، إن كنتم قد سمعتموه وعلمتم فيه كما هو حق في يسوع أن تخلعوا من جهة التصرف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور، وتتجدّدوا بروح ذهنكم، وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق.».

«لذلك اطرحوا عنكم الكذب وتكلموا بالصدق كل واحد مع قريبه ، لأننا بعضنا أعضاء البعض. إغضبوا ولا تخطئوا . لا تغرب الشمس على غيظكم. ولا تعطوا إبليس مكاناً. لا يسرق السارق في ما بعد بل بالحري يتعب عاملاً الصالح بيديه ليكون له أن يعطي. له احتياج. لا تخرج كلمة ردية من أفواهكم، بل كل ما كان صالحاً من للبنيان حسب الحاجة كي يعطي نعمة للسامعين ولا تحزنوا روح الله القدوس الذي به ختمتم ليوم الفداء ليُرفع من بينكم كل مرارة وسخط وغضب وصياح وتجديف مع كل خبث. وكونوا لطفاء بعضكم نحو بعض، شفوقين متسامحين كما سامحكم الله أيضاً في المسيح».

«فكونوا متمثلين بالله كأولاد أحباء. واسلكوا في المحبة، كما أحبنا المسيح أيضاً وأسلم نفسه لأجلنا قرباناً وذبيحة الله رائحة طيبة».

«وأما الزنا وكل نجاسة أو طمع فلا يسمى بينكم، كما يليق بقديسين. ولا القباحة ولا كلام السفاهة والهزل التي لا تليق بل بالحري الشكر. فإنكم تعلمون هذا أن كل زان أو نجس أو طماع الذي هو عابد للأوثان ليس له ميراث في ملكوت المسيح والله. ولا يغركم أحد بكلام باطل، لأنه بسبب هذه الأمور يأتي غضب الله على أبناء المعصية. فلا تكونوا شركاءهم، لأنكم كنتم قبلاً ظلمة، وأما الآن فنور في الرب. اسلكوا كأولاد نور، لأن ثمر الروح هو في كل صلاح و بر وحق، مختبرين ما هو مرضي : عند الرب. ولا تشتركوا في أعمال الظلمة غير المثمرة، بل بالحري وبخوها ، لأن الأمور الحادثة سراً ذكرها أيضاً قبيح. ولكن الكل إذا توبخ يُظهر بالنور. لأن كل ما أظهر فهو نور. لذلك يقول استيقظ أيها النائم وقم من الأموات فيضيء لك المسيح». 

« فانظروا كيف تسلكون بالتدقيق لا كجهلاء بل كحكماء، مفتدين الوقت لأن الأيام شريرة، من أجل ذلك لا تكونوا أغبياء، بل فاهمين ما هي مشيئة الرب. ولا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة، بل امتلئوا بالروح – مكلمين بعضكم بعضاً بمزامير وتسابيح وأغاني روحية، مترنمين ومرتلين في قلوبكم للرب. شاكرين كل حين على كل شيء في اسم ربنا يسوع المسيح الله والآب. خاضعين بعضكم لبعض في خوف الله».

2- «انظروا أن لا يجازي أحدٌ أحداً عن شر بشر بل كل حين اتبعوا الخير بعضكم لبعض وللجميع. افرحوا كل حين . صلوا بلا انقطاع. اشكروا في كل شيء. لأن هذه هي مشيئة الله في المسيح يسوع من جهتكم . لا تطفئوا الروح. لا تحتقروا النبوات . امتحنوا كل شيء. تمسكوا بالحسن امتنعوا عن كل شبه شر. وإله السلام نفسه يقدسكم بالتمام، ولتحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح . أمين هو الذي يدعوكم ، الذي سيفعل أيضاً» (أف 4: 14 – 32، 5: 21 و 1تس 5: 15-24) .

ونحن نجد أن اهتمام بولس الرسول بسرد قائمة هذه الخطايا بكل تدقيق وكل وضوح وفهم، لا ينبغي أن يعبر عليه القارىء بخفة، كمجرد قراءة، فهذه هي جذور الهلاك التي توطنت في النفس وتسببت في موت كثيرين، وبرودة كثيرين، وانصداد الكثيرين عن الصلاة وعن حب الكلمة والقراءة .

لينظر كل واحد فينا أي جذر من هذه الجذور تتغذى عليه نفسه، لأن ذلك يكون حتماً هو علة مرضه وتلف ضميره والسبب المباشر لضعف إرادته، لأن كل خطيئة من هذه الخطايا كفيلة أن تُحزن الروح القدس أو تطفئه داخل القلب، فيقطع عن القلب إن آجلاً أو عاجلاً ـ موارد حرارة الحب والنور والحق!

والمطلوب الآن كعمل سريع أو كإسعاف أوّلي أن نقف طويلاً أمام أي خطية يكون قد تربى لها خلسة سلطان على الفكر أو الجسد، وبصراخ شديد ودموع توسل لدى الروح القدس نطلب مزيداً من حساسية الضمير ضد هذه الخطية ، لأن ذلك هو بمثابة أقل ترضية للروح القدس، حتى يلتهب مرة أخرى ويشعل القلب بحرارة الحب الإلهي ونور الحق ، فنستطيع أن نقف ضد سلطان الخطية التي أحببناها وملكناها على القلب برغم وجود الروح القدس!!

هنا يلزمنا أن نفهم جيداً أن الروح القدس هو صديق حقيقي وقت الشدة والضيق والمذلة ـ لأن الصديق الحقيقي هو من يحزن لسقطة الإنسان وتدانيه في الأعمال المهينة، والروح القدس أشد من يحزن على ضياع خلاص الإنسان، ولكنه ليس صديقاً يحزن وحسب، بل هو معين قوي جداً يستطيع أن يمسك بيد الإنسان ويقيمه من كل سقطة، بل ومن أعماق الموت، ويغسله بدم المسيح ، و يرفع عنه عار أشنع الخطايا، ويقدمه للمسيح كإبن أو كجذوة منتشلة من النار، لأنه خالق ومحيي.

والروح القدس بقدر ما تحزنه أصغر الخطايا وتطفئه أقل حماقة، فهو أيضاً تسترضيه أقل أعمال التوبة وأصغر أنواع الجهادات، إذا قدمت بثقة كاملة فيه، مع إخلاص نية وصدق ضمير وانفتاح شجاع لتقبل عمله وتعزيته.

والروح القدس وديع حقاً ولطيف غاية اللطف، يحتمل كل جهالات الإنسان بأكثر مما يفتكر الإنسان. فهو يبقى على إخلاصه وحبه وتودده للإنسان، حتى ولو أحزناه سبعين مرة سبع مرات كل يوم. لأن العودة إليه ــ بتوبة ودموع ونية صادقة ـ تسترضيه غاية الرضى. وهو على طول المدى لا يجمع لنا رصيد تعديات بل يجمع لمنا رصيداً من الترضيات، يحفظ لنا كل أعمال الندامة والتوبة ولا يحفظ لنا شيئاً من أعمال قساوة القلب والجهالة عندما نعود إليه ، لأنه وديع ومتواضع القلب حقاً يأخذ مما للمسيح و يعطينا ( راجع يو 16: 14، 15).

الروح القدس وانسكاب المحبة  كتب القمص متى المسكين الروح القدس والتدرج من حياة الخطية إلى حياة القداسة 
كتاب مع الروح القدس في جهادنا اليومي
المكتبة المسيحية

 

زر الذهاب إلى الأعلى