التدين الصحيح

“ليس كل من يقول لى يا رب يدخل ملكوت السموات” وفي هذه الآية المقدسة أوضح لنا مخلصنا يسوع المسيح أن كثيرين ينتمون الى اسمه الأقدس لكن ليس كلهم يصل الى ملكوت السموات. فهناك تدين صحيح وهناك تدين زائف.

ولكي نبحث هذا الموضوع حسنا ، دعنا تأمل في أربعة اخوة من المتدينين:

 هذا صديقنا « هادي » : انسان يبدو عليه حسن التدين – رجل “في حاله” كالتعبير الدارج – يذهب الى الكنيسة ، ويعود منها اليه ، رجل طيب . لا يؤذى أحدا – إذا سمع عن حزين ذهب اليه مشاركة له ، واذا رأى صديقا فرحا فرح معه ، ، يتألم للمتألمين ، ويبكي اذا كانت العظة مؤثرة ، يتلو الصلوات المكتوبة والمحفوظة فقط دائما قبل أن ينام، ثم يرقد هادىء البال ـــ هذا هو الأخ هادي.

أما أخانا “عليم” : فهو معلم مشهور وشخص متعمق في الدراسات اللاهوتية ، يعرف أسرار عدد كبير من الكتب ، وعنده في منزله مكتبة مملوءة بالمؤلفات الثمينة اللاهوتية والطقسية والعقائدية ، قديمها وحديثها ، وهو حسن المنطق في الجدال الديني ، سریع الاقناع في المناقشات العقائدية ، فصيح فى الوعظ والتعليم ، وهو يدرس جماعة من الشبان فى مدارس الأحد ، وله مقالات كثيرة تنشرها المجلات الدينية مملوءة من أبحاث الأخ عليم.

ولعلك تذكر الأخ ( طاكسيس ) ـ فهو شماس طقسى هــام . حريص على اتمام الطقوس الكنسية ، تجده أول الحاضرين الى الكنيسة ، يتقن طريقة السجود وتقبيل الستور والصور وكتب القراءة. وهو حافظ تماما لجميع مقتضيات الممارسات الكنسية ، يتلو التسبحة غيبا ، ويتقن استخراج القراءات الكنسية على مدار السنة، وتجده بعد اتمام عملية قراءة التسبحة واخراج الفصول ـ يتنهد مرتاحا الى انتهائه من هذه المهمة الكبيرة – ثم يقوم بتنظيم جلوس الناس في الكنيسة، وهو من فرقة جامعى الأطباق فيها – يخبرك دون أي تردد أو تفكير بسيط عن مواعيد الاصوام ومدتها، وما يؤكل فيها وما لا يؤكل والالحان التي تصاحب كل صوم – بارع فى ايقاد الشوريا، وحمل الصليب والشموع، يعرف أصحاب جميع الصور في الكنيسة ، وهو بحكم وجوده الدائم فيها قد تليت على مسامعه عظات كثيرة – نشيط في الذهاب والاياب وقت القداس لأداء خدمات الكاهن أو الشماس – لابد أنك رأيت الأخ طاكسيس هذا عدة مرات.

وأخونا “باذل” هو شخص يبذل كل ما يستطيع لأجل الدين – يبذل المال للمساكين والمحتاجين ، يحرص على اعطاء العشور ويصرف أهواله على شراء صلبان أو صور دينية أو أناجيل ، ، يقمع جسده بالصوم الدقيق ، وحين يركعون فى الكنيسة تراه راكعا وجبهته تلمس الأرض أى ركوعا صادقا يستعمل مواهبه فى رسم الصور الدينية ، كما يحث اخواته على استعمال مواهبهم فى التطريز والحياكة بعمل الستور للكنائس واللفافات وملابس للفقراء ويتمنى لو كان صوته جميلا حتى يستعمله بحرارة فى مردات الشمامسة بالكنيسة ، اذا لاحظته بعد انتهاء صلوات الجمعة العظيمة لوجدته يشرب كمية من المر أكثر مما شرب أى واحد آخــر ـــ هــذه هي صفات الأخ باذل.

فاذا علمت يا مبارك أن ما ذكر لك عن كل واحد من هؤلاء هو كل ما يتقنه من الدين ، وكل يؤمن أن الدين لا يحتم عليه أكثر من هذا ، فأى هؤلاء تراه سالكا سبيل التدين الصديح ، وتتمنى أن تكون متدينا مثله ؟

أيهم المتدين حقا من هؤلاء ؟

الأخ هادى رأى أن كل ما في الدين هو هدوء الدين ورقته ، فوهب للدين عواطفه.

والأخ عليم رأى أن كل ما في الدين هو معلومات الدين وعقائده ، فوهب للدين عقله.

والأخ طاكسيس رأى أن كل ما في الدين هو طقوس الدين وشعائره ، فوهب للدين حواسه.

والأخ باذل رأى أن كل ما في الدين هو خدمه الدين « بعافيته » فوهب الدين قدرته .

فأيهم تراه أصحهم دينا :

ان تدين الأول هو تدين العواطف فقط ، ولكن هذا ليس كل التدين : ـ فلقد جاء الشاب الغنى الى السيد المسيح مسوقا بعاطفته “ماذا أفعل لأرث الحياة الأبدية” ولكن عواطفه لم تصلح وحدها لأن تقوده الى التدين الصحيح ، لأنها تحطمت أمام محبة المال.

لا يا أخ هادى : ان تدينك العاطفى هذا وحده ليس كافيا ـ لأن الدين ليس مجرد أخلاق و آداب.

والمعلم عليم ، تدينه تدين الفكر فقط ، وهذا ليس يكفى : أما قرات في سفر أعمال المرسل ( ص 25) أن أبولس كان رجلا فصيحا مقتدرا في الكتب ؟ ولكن هذا لم يكفه ، بل احتاج أن يأخذه بريسكلا وأكيلا ويعلماه طريق الرب بأكثر تدقيق.

فأنت يا أخ عليم : ان تدينك العقلى هذا وحده ليس كافيا لأن الدين ليس مجرد علم ودراسة.

والشماس طاكسيس : تدينه تدين الحواس فقط ، وهذا أيضا للاسف ليس يكفى. فقد تعرف كثيرا من الطقوس والشعائر وهذا حسن جدا – ولكن ممارستها بطريقة ميكانيكية ليست تؤدى إلى التدين الصحيح – فقد كان الفريسي طقسيــا حريصا : يحفظ الأصوام والمعشور – وكفى أنه فريسى – ولكن العشار سبقه الى نوال العدل الالهى.

يا أخانا الشماس طاكسيس – لا يكفى تدين الحواس وحده ، لان الدين ليس مجرد فن أو هواية.

بقى الأخ باذل : وهذا أيضا تدينه تدين القدرة فقط : فهو بقدرته وعافيته » يخدم الدين ، ولكن هذا التدين ليس كاملا : فلقد كان شاول غيورا على ديانة آبائه ، وفى سبيلها بذل كل شيء وتجشم أسفارا كثيرة وأتعابا انصرتها ، ولكن هذا البذل وحده لم يكفه ، وكان ينبغى أن يتحول شاول هذا الى بولس الرسول اكى يكون تدينه مقبولا أمام الله.

وأنت أيضا يا أخ باذل لا يكفى تدين القدرة هذا وحده ليكون تدينا صحيحا فان المتدين ليس مجرد حرفة وصناعة وممارسة أعمال شاقة.

فما هو التدين الصحيح اذا؟

ان التدين الصحيح هو أن تسلم أولا : لا العواطف أو العقل أو الحواس أو القدرة ، بل القاب نفسه ، وهذا القلب ينبغي الا أن يسلم للدين أو الأمور الدينية ، بل يسلم لصاحب الدين نفسه : ربنا يسوع المسيح ، ولهذا ينادينا الهنا قائلا “یا ابنی اعطنی قلبك” – “فوق كل تحفظ أحفظ قلبك”.

ان هؤلاء الاخوة الأربعة يحومون حول الدين ولكنهم اذ اقتصروا من التدين على هذه الأمور فان تدينهم ليس كاملا ، وقد سبق مخلصنا فعلمنا قائلا ما أضيق الباب وأكرب الطريق المؤدى الى الحياة الأبدية – وقليلون هم الذين يجدونه » – فكأن جماعة المتدينين على اختلاف أنواعهم المتقدمة : قد وجدوا الباب الضيق ، غير أن عدونا ابلیس ، محاولا أن يخيب الكثيررين من نعمة الله يعمل أن ينشغل البعض بالكلام عن الطريق ، والبعض بالكلام عن الباب والبعض بالتأمل في الباب ، حتى تنتهى حياتهم خارج الباب ، أما المتدين الحقيقي فهو لا يهتم بالطريق أو الباب فور اهتمامه بالدخول من الباب الى الأمجاد السمائية.

ولنلاحظ أن الشيطان يهمه أن تنام ضمائر هؤلاء القوم على واكتفوا به من أنواع التدين ، فيقع الواحد أنه ما دام “رجلا طيبا” فهذا غاية التدين ، ويقنع الآخر بأنه ما دام “لاهوتيا بارعا” فهذا جوهر الدين ، ويرضى الثالث بما وصل اليه من كونه “رجل طقسی ضليع” ، كما يقنع الرابع بأنه “رجل مضحى لأجل الدين” – وماذا يطلب الدين منه أكثر من هذا ، وفى هذا يتم قول الكتاب المقدس : “توجد طريق تظهر للانسان مستقيمة وعاقبتها طرق الموت”.

ما الفائدة يا اخوتى من الانسان الحسن العواطف الدينية الغزير المعلومات اللاهوتية – العريق فى ممارسة الطقوس الكنسية الباذل كل ما في جهده للدين – ما لم يتصل بينبوع الدين ويتقن دحبته والركوع تحت قدميه خضوعا وتعبدا .

ما الفائدة من الترام اذا كان حسن المنظر جميل المقاعد حديث التصميم اذا لم يتصل بينبوع الكهرباء : انه لن يسير خطوة واحدة.

“ان كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لى محبة فقد صرت نحاسا يطن أو صنجا يرن”.

“وان كانت لي نبوة وأعلم جميع الأسرار وكال، علم وان كان لى كل الايمان حتى أنقل الجبال ولكن ليس لى محبة فلست شيئا وان أطعمت كل أموالى وان أسلمت جسدى حتى أحترق ولكن ليس لى محبة فلا أنتفع شيئا”

هكذا قال الكتاب المقدس :

فبدلا من أن تحزن لأنك لم تصل فى تدينك البسيط الى هذا الهادى . أو ذاك العليم ، أو هذا الطقسي أو ذلكم الباذل ، أفرح بالكلمتين الصادرتين من قلبك المشتاق واللتين ترددهما لالهك في صلاتك ، وبالصلة التي تربطك به ، وبالبساطة الجميلة التي تسود حياتك في المسيح ابتهج أنك تلمس معونة الله لك فى جهادك ضد الشهوات الشبابية ، وانك تجد الفرصة على الدوام للتناول بتفهم من الاسرار الالهية ، ولحسن التأمل الروحى فى المواضيع التي تفيد حياة نفسك ، واعلم أن هؤلاء الأربعة . بهذا القدر فقط من تدينهم – لن يستطيعوا الانتصار على عادة رديئة ، أو احتمال تجربة شديدة ، أو التعمق في الأسرار الروحية التي تغذي الروح وتنعشها.

فلنسر جميعا على بركة الله فى طريق التدين الصحيح. في بساطة ویسر، فقد يدخل الرجل البسيط أمجاد السماء قبل العالم اللاهوتي ، الجالسة فى بساطة تحت أقدام المسيح ببركات أكثر وقد تتمتع مريم جدا مما تناله مرثا التي اهتمت واضطربت فى أمور كثيرة بينما الحاجة الى واحد ـ وهو المسيح .

على أن لا تفهم من هذا أن أمور التدين المذكورة هذه أمور يمكن اهمالها ـ بل ينبغى أن ندرك أن الأساس الصالح في حياتنا الروحية هو الذى يجب البدء به ، وبعد ذلك فحسن جدا أن يتزين الانسان بالعلم الدينى والطقوس المنعشة الروح والتضحية دائما ، لأنه حينئذ يفعل هذا بفهم وحكمة وعن أساس صالح متين.

لا يضطرب قلبك – اذا – ولا تجزع ، ولا يغرك عدوك ابليس بأنواع زائفة من التدين لكى تنشغل فتحفر لنفسك آبارا مشققة لا تضبط ماء، بل اجتهد أن تسير فى طريق الرب باستقامة – محتفظا بالحياة الأمينة معه، لكى اذا عشنا غللرب نعيش، وان متنا فلارب نموت ، وان عشنا وان متنا فللرب نحن.

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى