كتاب حياة الصلاة الأرثوذكسية - القمص متى المسكين

حياة التأمل و حياة العمل

+ «وأمـا مـن عـمـل وعـلـم ، فهذا يُدعى عظيماً في ملكوت السموات.» (مت 5: 19) + « وأما نحن فـنـواظب على الصلاة وخدمة الكلمة.» (أع 6: 4)

أولاً : التسليم بمبدأ وجود الحياتين في الكنيسة :

من نعم الله على كنيستنا أن جعلت لحياة الخلوة والتأمل نظاماً مرتباً فيها، ووضعت له نظمه وقوانينه، وحافظت عليه أشد المحافظة . فردَّ لها الجميل ستة عشر قرناً وهو يغذيها من ثمرة جهاد أفراده.

هذا هو نظام الرهبنة الذي افتتحه بولا القديس السائح وأنطونيوس و باخوميوس ومقاريوس، هؤلاء الذين خرجوا من العالم طلباً للخلوة والمعيشة مع الله ، في حياة تأملية خالية من اهتمامات الجسد ومطالب الحياة الكثيرة الباطلة. فلما وصلوا في سعيهم الناجح إلى نتائج روحية واضحة وملموسة، احتضنتهم الكنيسة، واعترفت بنظام حياتهم العجيب وآمنت بالحياة التأملية في مجموعها ( أي الفقر والعفة والطاعة) كمبدأ كنسي. بل إنها امتزجت به حتى صارت الرهبنة والكنيسة شيئاً واحداً.

وإن كانت الرهبنة تعاني في هذا الجيل شَحَاً في روحانيتها فما ذلك إلا لعدم سلوك آبائها سلوكاً عملياً في حياة الخلوة بالتمرن على الصلاة والتأمل للوصول إلى بركات الحياة الروحية . فأنطونيوس خرج شاباً ضعيفاً لا يعرف كيف يصلي، خالياً من كل معرفة وحكمة اختبارية – أللهم إلا إيمانه الذي كان يملأ قلبه الكبير – حتى إن الشياطين استهزأوا به واجتمعوا عليه وأوسعوه ضرباً مبرحاً أفقده عافيته . وكذلك أبو مقاره وبقية الآباء كلهم ابتدأوا الطريق وهم مثلنا ضعاف في كل شيء . ولكن بجهادهم في الخلوة وتدربهم المستمر على حياة الصلاة والهذيذ والتأمل، امتلأوا معرفة وحكمة روحانية ووصلوا إلى أعلى آفاق الروح ؛ وإلى حد النبوة وكشف أسرار النفس، وعمل المعجزات وشفاء المرضى وإقامة الموتى . وهذه المواهب جميعها لم تعط لهم إلا كنتيجة لجهادهم الطويل وخبرتهم بالطريق وتحكمهم بالروح …

ولا زالت الرهبنة، والطريق هو هو، والروح مستعد أن يعطي بسخاء ؛ ولكن يعوزنا النفوس الملتهبة لاجتياز صعوبة الطريق الضيق اللذيذ، والقلوب المملوءة حباً لتنسكب فيها الحكمة الروحانية سكيباً.

حیاتان:

358- يعلمنا الله بكلماته المقدسة نوعين من الحياة حياة التأمل وحياة العمل: أما حياة العمل فهي أن تعطي الجائع خبزاً، وتعلم الجاهل حكمة، وتهدي الخطاة، وتدعو إلى السلوك بالتواضع، وتعنى بالمريض وتمده باحتياجاته وتتكفل بالمحتاجين الذين يلتجئون إليك.

أما حياة التأمل فهي أن يحتفظ الإنسان بعقله ومشاعره لحب الله ، يكف عن اهتمامات العالم ليلتصق فقط بشهوة خالقه، فلا يجد العقل مسرة في شيء سواه ولا يهتم بشيء إلا بالصلاة ورؤية الله … يحتمل بالفرح أحزان الجسد ويمتد بروحه ليشارك زمرة المرنمين من جوقات الملائكة متهللاً مع السمائيين من أجل نعمة الخلود التي سيتمتع بها في حضرة الله إلى الأبد.

غريغور يوس الكبير

359- في الكنيسة نوعان من الحياة: الأول بالإيمان، والثاني بالعيان، واحد لزمان الغربة والآخر الزمان الخلود. واحد للشغل والكد والآخر للهدوء والسكون واحد للطريق والآخر للبلد الذي ينتهي إليه الطريق واحد لجهاد العمل والآخر هبة التأمل واحد لترك الشر وعمل الخير والآخر ليس فيه شريترك بل خير يُدرك ، واحد في حرب العدو والآخر بلا حرب وبلا عدو. واحد ينمو و يتقوى بالتجارب والمحن والآخر ليس فيه مجال للتجربة ولا شعور بالمحنة. واحد يمتطي شهوة اللحم والآخر يسير وراء الروح . واحد يهتم لينال النصرة والآخر يحيا في النصرة بلا هم واحد يسأل المعونة في البلية والآخر يحيا غير مبال بالبلايا، إذ يكون في حفظ من يعين وقت الهموم والبلايا ، واحد يساعد المحتاج والآخر يعيش بلا حاجة . واحد يغفر للمذنب إليه ليُغفر ذنبه والآخر لا يشعر أن أحداً قد أذنب إليه أو هو أذنب إلى أحد، واحد يُرزاً بالشر لئلا يستعلي بالخير، والآخر لا يؤدَّب لأنه بالنعمة يلتصق بالخير الأعظم. واحد يميز بين الخير والشر والآخر يرى الخير في كل شيء. لذلك فالأول حسن ولكنه لا يزال يشقى أما الآخر فهو أحسن ويبقى حسناً.

أوغسطينوس

360- حقيقتان موضوعتان أمام كل إنسان الأولى عمل والثانية تأمل. بالأولى نرتحل وبالثانية نبلغ إلى نهاية الإرتحال بالأولى نكد ونتعب لكي نظهر قلوبنا، وبالثانية نهدأ فنرى الله. الأولى تصادق ناموس الحياة الحاضرة والثانية توافق روح الحياة الأبدية ! الأولى بالجهاد والتعب للطهارة والثانية بالسكوت والهدوء للتمتع بنور الطهارة المدركة بالأولى تكون لنا حياة فاضلة في هذا العمر الزائل، و بالثانية تؤهل لرؤية الحق وحياة الدهر الآتى.

لقد اختص ثلاثة من البشيرين الذين هم متى ومرقص ولوقا بتسجيل كلمات وأعمال مخلصنا للسلوك بالحق في الحياة الحاضرة، وليسهلوا لنا طريق الفضيلة والعمل، واختص يوحنا الحبيب بتزكية أفضلية حياة التأمل.

أوغسطينوس

361 – زوجتا يعقوب تمثلان لنا الموضوع بوضوح : فيعقوب قبل ليئة مُجبراً على رجاء الحصول على راحيل التي كان يحبها قلبه . فجهاد الحياة والعمل الذي نقوم به بالإيمان هو على رجاء نوال حياة التأمل الأبدية في الله واثقين من أننا سوف ننال مسرات الحق.

إنه على رجاء التنعم بالتأمل في الله إلى الأبد نتوب عن شرورنا ونطهر من خطايانا . أما إذا توخينا الحقيقة فليس أحد يميل بطبيعته إلى التعب والمشقة ، وليس أحد يُغرم بحياة الجهاد حباً في التعب أو جرياً وراء الألم. فإن كنا نقوم بهذه الأعمال ونحتملها بالرحب ، فكوسيلة توصلنا إلى حياة التأمل الأبدية في الله . فلو تُرك كل واحد لرغبته الصادقة، فإنه يود لو أمكن أن يصل مباشرة إلى بركات حياة التأمل في الله دون القيام بأعباء الجهاد الذي يجابه الإنسان في الحياة العملية، ولكن هذا مستحيل في عالمنا المادي الذي نحيا فيه، إذ يتحتم أن تتقدم حياة الجهاد والعمل ومباشرة أعمال الخير والفضيلة على التنعم بمسرات حياة التأمل . فكل عقل يتوق إلى الإطلاع على الحق، يهون أمامه جهاد حياة العمل، إذ بدون هذا الجهاد لن يستطيع العقل أن يصل إلى هدفه الحق المطلق الذي يسعى إليه في حب ملتهب.

وهكذا حينما يتذوّق الإنسان لذة الجهاد ولذة الوصول إلى هدف جهاده (أي حياة التأمل بالروح)، فإنه يتحقق من جمال اتحاد الحياتين معاً ، أي حياة جهاد العمل والفضيلة وحياة التأمل بالروح. هدفنا ، إذن، واحد وهو حياة تأملية مع الله الأبدي ، ولكن إذ يتعذر بل يمتنع أن يستطيع الإنسان البقاء في هذه الحياة التأملية دواماً بسبب ضعفات الحياة المادية، وشغب الجسد الفاسد الذي يجذب النفس من رفعة تأملها لتنحط إليه ، لذلك فإن الإنسان يعود إلى أعماله المادية وجهاده … وهكذا بسبب الشيء الواحد يحتمل الإنسان أموراً كثيرة ….

هما حياتـان الواحدة محبوبة والأخرى محتملة من أجل المحبوبة. ولكن تلك المحتملة لها ثمارها الكثيرة أيضاً، حتى أنها قد تصير هي أيضاً محبوبة، إن لم يكن لذاتها ، فلسبب إنتاجها الخصب : « ورأى الرب أن ليئة مكروهة ففتح رحمها . وأما راحيل فكانت عاقراً ، فحبلت ليئة وولدت ابناً ودعت اسمه رأو بين، لأنها قالت إن الرب قد نظر إلى مذلتي، إنه الآن يحبني رجلي . » (تك 29: 31 و 32) . فالبشارة بالإنجيل عملية ولادة مستمرة لملكوت السموات، في حين أن الحياة المحبوبة أي حياة التأمل الروحي هي اتجاه دائم نحو التخلّي عن كل المهام ، لذلك فهي حياة عاقر للعالم . لأن في السعي الدائم نحو التخلي عن كل شيء لإذكاء روح التأمل – إهمال لحياة الآخرين المحتاجين إلى معونة وإصلاح.

ولكن حياة التأمل لم تعدم إنتاجاً وأثماراً، فعند اكتمال شعلة الحب تتولد في النفس رغبة قوية التعليم الآخرين وتسليمهم ثمار حياة التأمل.

إن البشرية تميل أكثر نحو الحياة العملية، وذلك طبيعي لأن كل إنسان إنما يسعى لتكميل مصالحه وسد أعوازه، في حين أن حياة التأمل لا تحتمل إلا السعي نحو كل ما يختص بالله والحق الأبدي.

اوغسطينوس

ثانياً : العلاقة القائمة بين الحياتين:

إن موضوع العلاقة بين حياة التأمل وحياة العمل والخدمة، من أهم المواضيع التي بحثها الآباء بحثاً دقيقاً لم يترك مجالاً لمحدث . فقد تعرض الآباء لكل دقائق الموضوع وقرروا مبادىء راسخة ، وفرضوا واجبات على كل من ينتحي إحدى الحياتين:

يلخص القديس أوغسطينوس آراءه في قول بسيط : « إن دراسة الحكمة الروحانية وتحصيلها تلزم الإنسان على المسير في طريق الحياتين معاً : حياة التأمل وحياة العمل».

وإليك بعض القطع المختارة من أقواله :

362- الذين قد أُنيط بهم أعمال الخير ورعاية النفوس، مُلزمون أن يحملوا للناس شهادة عن الحياة الأخرى. لذلك وجب أن يتفرغوا لدراسة وتأمل الحق والحياة الأبدية. 

وكما أنه ليس من الإنصاف أن تكون حياة التأمل سبباً في تعويق إنسان كفء للقيام بالمهام الكنسية، كذلك أيضاً ليس من العدل أن يكون الإنسان كفءاً لأمانة القيام بإدارة شئون الكنيسة، ولكونه تواقاً وملتهباً لحياة التأمل واستلهام الحكمة ينسحب من ميدان العمل ليلقي بنفسه في فراغ التأمل اللانهائي.

إذن فالوضع السليم يحتم على عشاق حياة التأمل والخلوة ، أن ينزلوا إلى ميدان الجهاد والعمل متى ألحت عليهم ظروف العمل وحاجة الكنيسة، وبهذا تصير حياة التأمل والخلوة في موضع الإحترام عند كافة الناس.

أوغسطينوس

363ـ إن الكنيسة تفرح بمن وهبوا ذواتهم لحياة الخلوة والتأمل الروحي، وساروا في طريق هذه الحياة باتضاع ، لأنها تستطيع حينئذ أن تهتف واثقة بهم : «أنا نائمة وقلبي مستيقظ » ، « ، وتستريح إذ تعلم أن أوقات فراغها لا تضيع في الباطل إذ يكون جهاد هؤلاء على أشده التحصيل المعرفة والحكمة الروحانية . فحينما تهدأ الكنيسة من الأعمال، يسمو عقلها (أي رجالها القديسون) عالياً نحو محبة الله . ولكن هؤلاء الذين سُرَّت بهم الكنيسة وفرحت بفراغهم من الأعمال – إذا جد بها الأمر ـ تقرع بابهم بصوت عريسها: «ما تسمعونه في الأذن نادوا به على السطوح ، وتهتف بهم لتقطع عليهم خلوتهم قائلة: «إفتحوا لي إذ تكون في حاجة ملحة إلى كلمة وعظ لاكتساب قطعان جدد، ولكن إذ تشفق على هؤلاء القديسين من اضطراب حياة العمل وتخشى عليهم من الخطية، تتضرع من أجلهم نحو عريسها قائلة بصوت عروس نشيد الأنشاد : «قد غسلتُ رجلي فكيف أوسخهما ؟ » ـ حينما يخدمون أرض الخطية – ولكنها تسأل من أجلهم إغسلني كثيراً فأبيض …..»

أوغسطينوس

364 – أما بخصوص أنواع الحياة الثلاثة : حياة الفرغة من كل شيء للتأمل، وحياة الإنشغال بالعمل والخدمة، وحياة إشراك التأمل والعمل معاً، فمعروف أن أي إنسان يمكنه أن يمارس ما يلائمه منها إذا ثابر بإيمان وحب وعقيدة، فيصل إلى بركاتها الدائمة. ولكن يجب أن يكون لكل إنسان نصيب من محبة الحق ونصيب من الخدمة وعمل البر، ولو كان على حساب نفسه. فلا يجب أن يكون الإنسان متفرغاً لدرجة أنه لا يهتم بخير القريب، ولا مشغولاً لدرجة أنه لا يتفرغ للتأمل في الله . كذلك لا تكون لذته في الراحة ومسرته في الكسل، بل في فرغته وراحته يجتهد في اهتمام باحثاً عن الحق … وبذلك يستطيع كل واحد أن يتقدم في الحق ولا يحقد على الآخرين أو يضنُّ عليهم بما اختبره وناله.

وليكن المشتغلون بحياة الخدمة في هذا العالم بعيدين كل البعد عن محبة الكرامة ومظهر القوة. وإنما العمل ذاته الذي يؤدونه، إذا ما كان لصالح الآخرين كما يجب، وواسطة لخلاص النفوس بالحق، فحينئذ يكون هو الحق والكرامة والقوة معاً.

ولكن يجب أن لا يُعاق أحد من متابعة التأمل ومعرفة الحق، الذي هو عين العمل المستحق لكل مديح. فمحبة الحق هي التي تدفعنا لنسعى نحو الفراغ والهدوء المقدس، وضرورات الخدمة تجعلنا نحمل عبء المشغوليات المقدسة.

أوغسطينوس

365- ولكن إذا لم يوضع علينا هذا الثقل – أي نير الخدمة – من أحد، فعلينا أن نسلّم ذواتنا إلى البحث والتأمل في الحق، إلى أن يوضع علينا نير الخدمة فنحمله من أجل ضرورة الرحمة : «الضرورة وضعت عليّ فويل لي إن كنت لا أبشر …» وحتى في ذلك علينا ألا نهمل مسرة التأمل، لثلا إذا عُدمناها نغرق حتماً في هذه الضرورات التي تحملناها.

أوغسطينوس

وللقديس غريغور يوس الكبير تعاليم كثيرة في موضوع علاقة حياة التأمل بحياة العمل ؛ تعتبر فذة لوفرة أبوابها التي يطرقها القديس في جرأة وسماحة، فلم يترك إنساناً مسئولاً في الكنيسة إلا وأوقفه على حقيقة وظيفته وخطورة مسئوليته تجاه الحياتين معاً. ولأهمية هذه النواحي في الخدمة جعلنا في ختامها ملخصاً لأهم المبادىء التي ينادي بها القديس لكي تكون قانوناً لحياتنا الروحية :

366ـ طالما نحن في هذه الحياة فنحن لا نتذوق إلا القليل من بداية التأمل؛ في حين أن الحياة العاملة يمكن استجلاء كل نواحيها المتعددة هنا على الأرض.

367- الهدوء الكامل الذي هو قوام حياة التأمل الصحيحة لا يمكننا أن نحصل عليه في هذه الحياة … والتأمل نفسه لا يمكن استكماله أيضاً في هذه الحياة، حتى ولو كنا ممتلئين غيرةً وحماساً . فالرجل الكامل المختار يستطيع أن يتمم كل ما يُعطى له من أعمال ومهام على أتم وجه إلا التأمل، فهو لن يحصل منه إلا على مجرد بدايات لهذه الحياة اللانهائية.

368- ومع أن الحياتين هما من هبة النعمة، إلا أننا طالما نحيا في وسط الناس فنحن مجبرون للسير في حياة العمل والخدمة، غير أن حياة العمل لا بد أن ترافقها حياة تأمل لكي تكون الخدمة كاملة.

369- نحن نصعد إلى مرتفعات التأمل على درجات حياة العمل والخدمة.

370- الحياة العاملة تكون أولاً ، حتى يمكن أن تُدرك الحياة التأملية بعد ذلك . ولكن يجب أن نعلم أنه : كما أن الوضع الصحيح أن نمر أولاً على حياة العمل، كذلك يكون من النافع جداً أن نعود بين الحين والحين من حياة التأمل إلى حياة العمل والخدمة، لكي نستثمر ما اجتناه العقل من معرفة لتقويم حياة العمل … وكذلك أيضاً يجب أن تؤهلنا الحياة العملية للدخول إلى حياة التأمل ولا تقف عائقاً أمام تقدمنا في الحياة التأملية … وهكذا نستخدم ما نحصل عليه من استعلان وبصيرة في التأمل للرجوع إلى العمل …

غريغور يوس الكبير

إتحاد الحياتين لصالح الخدمة:

371- المسيح – تبارك اسمه – وضح في سلوكه الشخصي نوعين من الحياة. أي حياة الخدمة وحـيـاة النشاط الروحي. ومع أن حياة الخدمة والعمل تختلف تماماً عن حياة الهدوء والتأمل الروحي، غير أن فادينا لكونه أتى بدون خطية أو شهوة جسد، استطاع أن يعطينا في شخصه أمثلة للحياتين معاً.

372ـ إن من يتيقظ في أثناء تأدية خدماته المقدسة يشعر أن عقله يمتد به و به و يدخل إلى أعماق نفسه. لذلك فإن تأدية أنواع الخدمات الدينية المختلفة لازمة لحياة التأمل. وكل واعظ يحث الناس على الإنتقال في العبادة إلى حياة التأمل مباشرةً مهملاً الخدمة وحياة العمل التي يجب أن تُمارس أولاً ، يعتبر واعظاً غير كامل ! كذلك من يهمل واجب التأمل الروحي بسبب ارتباك الخدمة والمسئوليات … من أجل هذا كان مخلصنا الصالح يصنع المعجزات في المدن والأسواق ثم يذهب إلى الجبال مكرساً الليل كله للصلاة. «كان في النهار يعلم في الهيكل، وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل» (لو 21: 37) . «وفي تلك الأيام خرج إلى الجبل ليصلي وقضى الليل كله في الصلاة الله ، ولما كان النهار دعا تلاميذه … ونزل معهم» (لو 6: 12 و 17) ، حتى بسلوكه هذا يعلّم المرشدين الكاملين أن لا يحرموا حياة الخدمة من لذة وبركة التأمل، وألا يستخفوا بقيمة حياة الهدوء أثناء خدماتهم. لأنهم بالإعتكاف والتأمل يستلهمون الحكمة والمعرفة ثم بالخدمة يسكبونها في قلوب سامعيهم . ففي التأمل يرتفعون إلى محبة الله ، و بالخدمة والوعظ يهبطون مرة أخرى إلى محبة القريب. وهكذا يجب أن يتشبع ضميرنا بحب الإثنين معاً، أي حب الله وحب القريب. فلا يليق أن تُسرَّ النفس وتسعد بحب الله في حياة الهدوء وحسب للدرجة التي تنكر فيها الإهتمام بخدمة القريب ! كما أنه لا يليق أيضاً أن تنهمك في محبة القريب إنهما كاً يُفقدها الهدوء فتنطفىء من قلبها جذوة نار حب الله.

إذن، فكل من كرس حياته ذبيحة حية الله، يلزم عليه أن لا يمتد في الخدمة حتى يلقي بذاته في اتساعها فيفقد نفسه، وإنما عليه أن يمتد في ذات الوقت إلى علو التأمل.

غريغوريوس الكبير

ممارسة الحياتين لصالح الرعاة والرعية : 

373- الراعي سواء كان كاهناً أو أسقفاً يجب عليه أن يكون قريباً من الجميع بالشفقة، ومرتفعاً فوق الجميع بالتأمل، حتى بأحشاء رحمته يحمل فوق ذاته ضعفات الآخرين، وبرفعة التأمل في طلب الله يُحمل هو فوق ذاته. وبذلك لا يزدري بضعفات الناس حينما يشعر بضعفه في الإجتهاد نحو التأمل. وكذلك لا ينسى الخلود إلى الهدوء وحياة التأمل حينما يطلع على نقائص وضعفات الآخرين. والراعي الذي يتمسك بحياة التأمل وحياة العمل معاً يكون قد وصل إلى قمة الكمال.

غريغور يوس الكبير

دوام الرجوع إلى الخلوة والتأمل هو سر نجاح الخدمة والخدام :

374- عندما يخرج الآباء القديسون من اعتكافهم بعد حياة تأملية، يتقدمون كالأنوار ليعطوا يداً للخدمة في الحياة العامة فيضيئون كسهم من نور في فضاء الخدمة المتسع . وبعد أن يؤدوا نصيبهم يرتدون إلى حضن تأملاتهم وهدوئهم، ليُحيوا لهيب غيرتهم فيتأجج و يلمع من جديد بلمسة من نور السماء . لأنهم يجمدون بسرعة في وسط أعمالهم الخارجية ، بالرغم من صلاحهم، إذا لم يعودوا قلقين تواقين إلى نار التأمل لتنبعث فيهم الحرارة والنور، تجدهم يخرجون من حضرة القدير ومن نعيم بهاء نوره الذي ينسكب على عقولهم، ويهون عليهم ذلك من أجل الحب المشتعل فيهم نحو الآخرين ! فيتقدمون خطوة نحو الحياة العملية، إلا أنهم يرتدون سريعاً إلى درسهم اللذيذ في الهدوء والتأملات المقدسة.

حينما يتحدثون إلينا يسكبون ذواتهم في آذاننا و ينقلون إلى قلوبنا حياة مجسمة في كلمات محسوسة، إلا أنهم يتركوننا سريعاً ليعودوا إلى أفكارهم الصامتة ليطلبوا مصدر الحياة والنور!!

وهم إذا لم يعودوا على الدوام، بعقول شغوفة، إلى الهدوء والتأمل في الله فإنه يصيبهم القحط والجفاف الذي يظهر واضحاً في كلمات وعظهم !

غريغوريوس الكبير

خطورة إهمال إحدى الحياتين بالنسبة للرعاة والخدام : 

375- ليتك، أيها الراعي، لا تُنقص من اهتمامك بداخل نفسك حينما تنشغل في الخارج بأمور الآخرين. كذلك لا تهمل إشرافك على أمور رعيتك خارجاً حينما تخلد إلى نفسك، حتى لا تعثر أنت في داخلك إذا أعطيت نفسك للآخرين ولا تسقط بسببك حقوق المظلومين إذا أعطيت اهتمامك لنفسك فقط.

غريغور يوس الكبير

الإنحياز الزائد لحياة العمل والخدمة نتيجة ضعف الخادم والمخدوم :

376- الذين أقيموا لسياسة وتدبير إخوتهم ينسون غالباً أنهم مسئولون عن النفوس قبل كل شيء، فينهمكون ويرتبكون بكل قوتهم ومن كل قلبهم ليخدموا أمور الآخرين. وتجدهم تارة يبتهجون في خدمتهم وتارةً ينشغلون ويقلقون إذا انقطعت أخبارهم ، و يصابون بحمى التفكير والقلق النهار والليل …. فلو حدث أن الله أنعم على مثل هؤلاء بحياة الهدوء والتأمل بعيداً عن مصادر انشغالهم تجدهم قلقين أيضاً في هدوئهم لأنهم يظنون أن الإغراق في الإنشغال أمر حسن أو مشكور. بل إنهم يحسبون أنه تعب وألم لهم إذا لم يتعبوا ويتألموا بتوافه الأمور الأرضية الزائلة. فبينما تجدهم في انشغال كثير مضغوطين بارتباك في أمور لا قيمة لها، تجدهم جهلاء بمعرفة الروح وأسرار النفس الداخلية التي كان يجب عليهم أن يتقنوا معرفتها، حتى يتسنى لهم معرفة وقيادة النفوس التي سُلّمت إليهم. هؤلاء تجدهم ناجحين في كل شيء إلا أن الحياة بينهم فاقدة الحس.

غريغور يوس الكبير

في إنحياز الراعي لحياة التأمل والخلوة هلاك للرعية :

377 ـ وأيضاً يوجد من يأخذ مسئولية تدبير الرعية، ولكنه يوجد دائماً تواقاً للتفرغ لرياضة الروح، حتى أنه لا يريد أن يدخل في ترتيب أي عمل خارجي بالمرة. وبالنسبة لتخليته عن الأمور الجسدية تجده بعيداً عن تفهم احتياجات من هم تحت تدبيره. ولا غرابة إذا نظرنا إلى مثل هذا الراعي بنظرة صغيرة، فبالرغم من ! أنه يُصلح من شأن الخاطىء والأثيم إلا أنه لا يعينهم بحاجات الحياة الضرورية، فيصير وعظه غير محبب للنفس، لأن كلمة الشريعة والحق لا تجد طريقها إلى قلب إنسان معتاز، إذا لم تسندها يد الرحمة! لذلك فليكن الرعاة ذوي غيرة حكيمة على مطالب النفس الداخلية لمن يرعونهم، وفي نفس الوقت لا يهملون احتياجات حياتهم الجسدية، لأن عقل الرعية يتشتت عند سماع الوعظ إذا كانت حالتهم الجسدية مهملة من الراعي.

غر يغور يوس الكبير

في إنحياز الراعي لحياة الخدمة هلاك لنفسه:

378ـ على الرعاة أن يكون عندهم مخافة دائمة وعناية ساهرة، لثلا بينما يكونون مهتمين بالأمور الخارجية يبتعدون ويسقطون عن غرض خدمتهم الأساسي. لأنه عادة حينما يكون عقل الرئيس يخدم بلا حذر في هموم العالم الزمنية ، يفقد قلبه حرارة الحب الداخلي. وهذه علامة الإنسان الذي يكون موزعاً في الأمور الخارجية غير متيقظ لداخل نفسه أنه لا يخشى بل يفرح إذا قلت له إنك ستأخذ مسئولية نفوس ! يجب أن يكون هناك حد محدود يمنع تمادي الراعي من الإنشغال بهموم الأمور الخارجية. 

غريغور يوس الكبير

 379 ـ كل من كان خاضعاً تحت رئاسة دينية وعُرضت عليه وظيفة ذات سلطان- حتى ولو كان قد سبق فؤهبت له صفات يخدم بها و يصنع بها خيراً للناس – يجب عليه أن يهرب ويرفض من كل قلبه ولا يخضع إلا صاغراً وبغير إرادته.

غريغور يوس الكبير

كيفية ممارسة حياة التأمل في وسط العمل والخدمة :

380- حينما يُرغم القديسون على ضرورة العمل فيشتركون في الخدمات الخارجية، تجدهم على الدوام يركزون ذواتهم بهمة في فحص وتفتيش أسرار قلوبهم ، وهكذا تجدهم على الدوام مرتفعين بسمو أفكارهم الداخلية. وحينما يفرغون من شغب الأعمال الزائلة تجدهم عند قمة تأملاتهم ، يفحصون في أحكام الإرادة الإلهية. ومن هنا نسمع عن موسى كيف كان باستمرار يلجأ إلى خيمة الإجتماع في الأمور المشكوك فيها ، وهناك يستشير الله سراً ليعلم الأمر الحقيقي المقطوع به الذي يجب أن يسير بمقتضاه . وإن تركه للجموع المزدحمة والتجاءه إلى خيمة الإجتماع هو في الواقع بمثابة الكفّ عن شغب الأعمال الخارجية والدخول إلى خلوة العقل، لأن من هناك يُستشار الله بالحق. وما نسمعه من الداخل في هدوء القلب هو ما يجب أن ننادي به ونصنعه في الخارج علانية.

هذا الطريق الصالح يتبعه الراعي الصالح فلا يُقدم على القطع والبت في الأمور المشكوك فيها – حتى ولو كان عارفاً ببواطن الأمور – قبل أن يخلو إلى ذاته في هدوء العقل، و يتسمع سراً إلى صوت الحق الذي يهتف إليه في هدوء وعدم تشكك أو أدنى انقسام ، وحينئذ يأخذ المشورة كما من الله.

ولكي يبقي القديسون على اتصالهم الدائم بالله تجدهم وهم في وسط العمل الخارجي مستعدين على الدوام للإنسحاب بسرعة بعقلهم وقلبهم ليدخلوا إلى مخادع القلب السرية، حيث تعودوا أن يسمعوا صوت الحق من الله في أمان من ارتباك الحواس والمشاعر والميول.

غريغور يوس

العمل والخدمة ينميان الحياة التأملية :

381ـ كلما اتسعت النفس في محبة القريب كلما سمت في معرفة الله ، وهي بالحب تتسع إلى الأمام وبمعرفة الله تمتد إلى فوق ؛ ومن ثم تصير إلى أعلى فأعلى كلما اتسعت وامتدت إلى الأمام نحو القريب !

 ليتنا نحب الله ونحب القريب من عمق قلبنا . ليتنا نتسع في مشاعر الحب حتى نرتفع نحو المجد الأعلى الذي تـفـيـض منه ينابيع الحب. ليتنا نكسب حنان القريب بالحب حتى نلتصق مع الله في نور المعرفة، ليتنا ننزل وننزل حتى ندرك أقل أخ لنا في البشرية لأنه بذلك نتساوى مع الملائكة في السماء.

غريغور يوس الكبير

382- نرى الحكمة وقد سطعت واضحة تفسر لنا لماذا أخذ المسيح جسداً مثل طبيعتنا البشرية . يذهب إلى الجبال منفرداً و يقضي الليل كله في الصلاة! ثم ينزل حيث الجموع قد احتشدت فيصنع الخدمة بالمعجزات والآيات علناً ! إنه بذلك قد رسم الطريق للرعاة ومدبري النفوس، حتى يرتفعوا أولاً بالصلاة والتأمل ثم يتقدموا الخدمة المحتاج ! ترك لهم الحب على مرتفعات التأمل، وترك لهم الرحمة في الأسواق، فعليهم بقدر ما يمتدون نحو الرحمة أن يرتفعوا حيث الصلاة.

غريغوريوس الكبير

383 – حينما ترتفع عن الحياة العملية لندخل في هدوء التأمل، نجد أن العقل لا يستطيع أن يداوم ب التأمل طويلاً. فكل ما يُشخص إليه من أمور الأبدية يراه العقل كما في لغز كصورة في مرآة ، ثم يعبر عنه مطروداً من عظم الإرتفاع الشاهق ؛ ويرتد إلى نفسه ليغرق فيها من جديد. وحينئذ يقنع العقل بلزومية الجهاد في الخير وممارسة الأعمال الفاضلة ، إذ يشعر بحقارته وضعفه أمام قسم التأمل العالية (عن مستواه الروحي)، فلا يمانع في النزول إلى السفح ليخدم باتضاع على قدر ما يستطيع . وبذلك يكون الخير الذي يؤديه بين الناس من عمل وخدمة عاملاً مهماً لرفعه إلى قمة التأمل ! وهناك يتقوى من مراعي الحب التي يقوده إليها تأمل الحق.

وهكذا بسبب ضعفنا وفساد طبيعتنا لا نستطيع أن تدوم طويلاً في التأمل المطلق الحر، فنعود إلى العمل ونعمل، تلهبنا حلاوة الأوقات التي تذوقنا فيها الله . وهكذا إذ نمتلىء من الأعمال الصالحة ننمو بالتأمل في نور معرفة الحق وشهوة حب الله.

غريغوريوس الكبير

384ـ في الحياة العملية يستطيع العقل الثبات في العمل بلا سقوط ، ولكن في حياة التأمل يُغلب من ثقل ضعفاته فيخور. لأن في عمل الخير للقريب يستمر العقل بنشاط نسبياً ، إذ تكون الأعمال من طبيعته، فينفتح لها من ذاته، أما في حياة التأمل فإنه يخور سريعاً لأنه يهم ليسمو فوق حدود الجسد وطبيعته ، جاهداً ليستعلي فوق ذاته هو.

وهكذا في حـيـاة الـعـمـل نجد العقل يمتد في مستوى الأرض والأرضيات ليزرع خيراً فيجد مكاناً لقدميه ليقف. أما في التأمل فإنه يرنو إلى فوق نحو المرتفعات الروحية التي هي أعلى منه . فإذ لا يجد مكاناً لقدم يجاهد ولكنه يكل سريعاً فيهبط إلى نفسه.

وأيضاً نجد أن في الحياة العملية، الذين يتجددون بالنعمة يهجرون أعمال الشر والخطية تماماً فلا يعودون إليها إطلاقاً. ولكن في حياة التأمل نجد أن الذين يوهبون النظر الروحاني لا يستطيعون أن يدوموا باستمرار في نعمته حتى ولو انفصلوا تماماً عن حياة العمل وارتباكات العالم ؛ بل نجدهم يترددون على باب هذه النعمة من حين إلى حين . لذلك يلزم لهم عمل قـ يجدد قواهم وهيئهم للتأمل دائماً.

ولكن بالرغم من أن ممارسة حياة التأمل تكون على فترات متقطعة وليست على الدوام، إلا أننا بكل تأکید نداوم بلا إخفاق لندركها بالتمام. إذ ولو أن العقل يقع منها مغلوباً بضعفه ، ولكن بمعاودة اللحاق بها في اجتهاد مستمر يدركها حتماً . فلا يجب أن نظن أن العقل فقد ثباته في متابعة ما يرنو إليه ولو أنه يسقط كثيراً في السعي وراءه ؛ إلا أنه يقوم ليلحق به.

غريغور يوس الكبير

ليذكر من يحيا في التأمل ما عليه من دين لمن يحيون في الخدمة والعمل : 

385ـ يوجد بعض من الذين يصيبون حظاً ولو بسيطاً في بداية الحياة الروحية ، حينما يرون رؤساء هم قد وجهوا كل اهتمامهم وأفكارهم للأمور العالمية والمهام الزائلة، أنهم يبتدئون يلومون العناية الإلهية الفائقة؛ معتقدين أن هؤلاء لا يليقون للقيام بالحكم لما يقدمونه من قدوة منحرفة في سلوكهم العالمي، ولكن مهلاً فلا يمكن إدارة الأعمال وتدبيرها إلا بالإنهماك في الأمور العالمية وتفهمها . لذلك فإن الله . سبحانه لا يلقي عبء الحكم إلا على ذوي القلوب الجافة التي تليق لطبيعة العمل الذي وضعوا له، حتى يتسنى للروحانيين ذوي المزاج الرقيق أن يتخلصوا من الإنشغال بهموم العالم . فيسمح الله للبعض بتقديم ذواتهم للإنغماس في الهموم العالمية والأعمال الجسدية ليتخلص الآخرون من ضجيج العالم وضوضائه.

أما كيف يُرتب هذا في الكنيسة كما بتعيين إلهي، فإنه يظهر بوضوح في أمر تشييد خيمة الإجتماع : فالله أمر موسى أن يحيك ستائر من كتان رفيع وحرير أحمر (قرمز) وأزرق ( أسمانجوني ) ليغطي بها قدس الأقداس من الداخل ، وأن يغطي الكل من الخارج بستائر من جلد وشعر معزى. فما هو الجلد وما هو شعر المعزى الذي يغطي خيمة الإجتماع إلا العقول القاسية والجافة التي تُنصب على الكنيسة بحكمة الله وتدبيره الحي … فيا أنهم سعوا وراء التوظف ولم يخشوا خدمة المهام العالمية، فبالضرورة لا بد لهم أن يتحملوا صامتين عواصف التجارب التي يعصف العالم بها عليهم. وما هو حرير القرمز والأسمانجوني والكتان الرفيع إلا حياة القديسين الرهيفة البراقة اللماعة ؛ التي بينما هي مختبئة تحت طبقات الشعر والجلد الخشنة القاسية تحتفظ بكل جمالها ، لأنه لكي يحتفظ الكتان الأبيض بإشراقه والقرمز ببريق حمرته والأسمانجوني بصفاء زرقته يتحتم أن يحتمل الجلد والشعر الأمطار والرياح والأتربة.

وإذن، فعلى الذين يتقدمون في المجد الروحي وهم في حضن الكنيسة المقدسة، أن لا يحتقروا أعمال رؤسائهم حينما يرونهم وقد انهمكوا في مشاغلهم العالمية . لأنهم إنما يتعمقون في أسرار الروح في هدوء وأمان على حساب المعونة التي يقوم بها هؤلاء الرؤساء ، محتملين عنهم عصف الرياح التي لا تزال تعصف بهم من الخارج. أو كيف يمكن أن يحتفظ الكتان الرفيع بجمال إشراقه إذا كان يتعرض للمطر كل يوم؟ أو كيف يدوم على القرمز والأسمانجوني رونقه ولميعه إذا أتلفه التراب والضوء؟ إذن، فدع الجلد والشعر ذا القوام القاسي والجاف في مكانه فوق الكل، ليقاوم بقساوته قساوة الريح والضوء والأتربة. أما الأسمانجوني الرهيف اللائق بالزينة الدائمة فدعه من تحته ! نعم دع هؤلاء الذين يشتغلون بالسعي الروحي في هدوئهم ، لأنهم زينة الكنيسة واجعل عليهم حفظة من هؤلاء الذين لا يكلون من مشغوليات العالم.

ولا يتذمر في الكنيسة من استضاء بهجة الروح على من نُصب لخدمة شئون العالم . لأنك إذا كنت تضيء من الداخل في هدوء وأمان كالقرمز والأسمانجوني فلماذا تلوم شعر المعزى الذي يحميك؟

غريغور يوس الكبير

386 ـ الذين ليست لهم دراية بالتأمل، عليهم ألا يرشدوا أو يقودوا آخرين.

غريغور يوس الكبير

387ـ من هو الأعمى ــ الذي يقود غيره ـ إلا الذي يجهل نور التأمل الإلهي !

غريغوريوس الكبير

ثالثاً : أفضلية حياة التأمل :

يرى القديس أوغسطينوس مع كافة القديسين بلا استثناء، رفعة خاصة في حياة التأمل إذ أنها هي الحياة التي بها نبتدىء هنا لنكملها في الأبدية ؛ أي أنها عربون الحياة الأبدية، ومذاقة الملكوت الذي سوف نحيا فيه إلى الأبد، بينما يرى حياة العمل والخدمة موقوتة بحياة هذا الدهر الفاني، وأنها حتماً تنتهي بانتهاء العالم الحاضر.

 ويعتقد القديس أوغسطينوس بلا أدنى تردد أن حياة التأمل تفوق حياة العمل. ولإعتقاده هذا أهمية كبرى في الكنيسة إذ أنه من الأشخاص القليلين الذين مارسوا الحياتين أي حياة العمل بالوعظ والخدمة والتبشير والتدريس – وهو كاهن ، وحياة التأمل في هدوء وانفراد و بنى نظريته هذه – التي يتفق فيها جميع القديسين بلا استثناء ـ على ما اختبره في الحياتين سواء من جهة تحصيله الروحي لذاته أو من جهة التأثير المباشر وغير المباشر على الشعب. وهذا حق وقد أثبتته الأيام بمنتهى الوضوح. فحياة أوغسطينوس التي عاشها في تأمل وخلوة مع الله لم تنته بموت أوغسطينوس بل ظلت تعمل في ملايين النفوس في كل الأجيال ستة عشر جيلاً، وكانت سبباً لتجديد وخلاص البشر من كل لسان وأمة !! أما حياة أوغسطينوس العملية فقد ماتت يوم مات هو. ولكن الأمر المسلم به هو أن حياة أوغسطينوس التأملية مع الله ومذكراته القليلة التي كان يكتبها مخاطباً بها الله معترفاً بأخطائه وشروره، التي لم يكن يتوقع قط أن أحداً من الناس سوف يقرأها ، هي هي التي ظلت وستظل إلى الأبد ترسم طريق التوبة للخطاة وتفتح أمامهم باب الملكوت رحباً.

أو ماذا عمل بولا القديس السائح أو القديس أنطونيوس أو أبو مقاره الكبير؟ لا بد أنهم عملوا أشياء كثيرة، ولكن ما عملوه لمنفعة الآخرين جسدياً قد انتهى بانتهاء حياتهم الجسدية ؛ أما حياتهم الروحية وتأملاتهم مع الله ، فظلت وستظل نوراً للكنيسة إلى انقضاء الدهر ! إن مجرد ذكر اسم أنبا بولا لكفيل أن يعطي عظة صامتة لإحتقار عظمة العالم وفخفخته الزائلة !! إن سر فاعلية هؤلاء القديسين جميعاً، سواء كان أثناء حياتهم أو بعد انتقالهم ، لم يكن : ، أعمالهم بقدر ما كان : ، بسبب اتصالهم الشخصي بالله !

وإن طلبتنا التي نقدمها إلى الله في هذه الأيام أن يرسل لنا عينات من أنبا بولا وأنبا أنطونيوس وأنبا مكاريوس والقديس أوغسطينوس ، لا لكي يقودوا الكنيسة ؛ كلا ! فهؤلاء لم يقودوا الكنيسة، ولكن ليقودوا أنفسهم ، لأن اتصال إنسان واحد بالله اتصالاً صحيحاً كفيل بإنارة الكنيسة كلها بل والعالم !

388- مرثا اختارت نصيباً حسناً، ولكن مريم اختارت النصيب الأحسن ! ما اختارته مرثا انتهى وزال . وماذا اختارت؟ خدمة الجائع والعطشان والذي لا مأوى له هذه كلها سوف تنتهي عندما يأتى الزمان الذي لن يكون فيه جائع أو عطشان. وحينئذ يُنزع مثل هذا النصيب الزائل ويتوقف كل نشاط من هذا النوع . مريم اختارت النصيب الأصلح الذي لن يُنزع منها . وماذا اختارت مريم ؟ اختارت حياة التأمل.

نصیب مرثا مقدس وعظيم ؛ غير أن نصيب مريم أقدس وأعظم. فبينما تضطرب أختها وتخدم وتعتني بأشياء كثيرة جلست هي: بلا عمل ساكتة تسمع ! : مريم لن يُنزع منها ؛ أما نصيب مرثا فسوف ينزع منها . فخدمة المحتاجين والقديسين سوف تنتهي ، أو لمن سوف يُعطى طعام وليس هناك من جائع؟

نصیب مريم ثابت لن يزول لأن مسرتها كانت في الحق والبر وسيظل الحق والبر إلى الأبد موضوع مسرة الجميع.

ما اختارته مريم هو دائم النمو، لأن القلب الطاهر البار إذا كانت مسرته وسعادته هي الآن في الحق والحكمة والله ، فهناك سوف تكون سعادته من ذات النوع ولكن في وفرة وكثرة. لأن حلاوة الحق الأبدي أبدية أيضاً ولن تُنزع هناك، بل تزيد هنا لتكمل هناك إلى الأبد!

إن في سلوك هاتين المرأتين إعلاناً عن حياتين فيها مسرة القدير ولكن :
الأولى حياة الحاضر ؛ والثانية حياة المستقبل،
الأولى حياة انشغال ؛ والثانية حياة هدوء،
الأولى حياة الكد ؛ والثانية حياة السعادة،
الأولى حياة زائلة ؛ والثانية حياة دائمة.

كلتا الحياتين ممدوحتان ولكن الأولى بالتعب والجهاد والأخرى بالفرغة والهدوء. إن عمل مرثا هو صورة من صور الجهاد الذي نحيا فيه ؛ ولكن عمل مريم هو أملنا السعيد الذي نحيا لأجله . فبالقدر الذي تهدأ به ونترك كثرة انشغالنا واهتمامنا لترتفع إلى حياة التأمل نشابه مريم، مريم هي رمز الحياة التأملية المطلقة ولو أنها هي ذاتها لم تبلغ إلى كل حدودها !

أوغسطينوس

389ـ إن السيد المسيح سوف يقود المؤمنين إلى تأمل الله ، وذلك يكون لهم نهاية لكل أعمال الخير التي قاموا بها ، يستريحون في سرور إلى الأبد، في راحة لن تُنزع منهم. مريم سبقت فذاقت مثل هذا الأمر حينما جلست عند قدمي السيد، ملقيةً بعيداً عنها كل عمل أو إنشغال، وانعكفت تصغي إلى الحق ما استطاعت حسب ما أوتيت من حكمة في هذا الدهر. وهي بهذا استطاعت أن تختلس، إلى حد ما، صورة ما ستكون عليه في الحياة الأبدية.

كل ذلك ومرثا منهمكة في أمور رأت أن إعدادها هام ولائق ، ولكنها لم تدرك أن جميعها مقضي عليه  بالزوال عندما يحين الزمن … ولما تذمرت على أختها راجعها السيد ، لا لأن ما تعمله مرثا غير لائق، ولكن لأن تذمرها في غير وجه حق، إذ أن ما عملته مريم كان أليق وأفضل مما تعمله هي لأن الذي اختار أن يخدم حاجات وأعـواز هذا العالم سوف تنتهي خدمته عندما تبطل الحاجة، وعندئذ يكون جزاؤه نصيب مريم الذي اختارته هي منذ البدء.

لأن التأمل في الله هو الكل في الكل، ولن يكون نصيب الإنسان أعظم من هذا، إذ فيه كل استنارة وفرح وسعادة.

أوغسطينوس

وللقديس أوغسطينوس شرح مسهب في هذا المعنى رأينا لضيق المقام أن نكتفي بتلخيصه لئلا يطول بنا الحديث :

فهو يرى أن العمل الذي نقوم به لتأدية واجبات زمنية يختلف عن تأمل الأمور الروحية الذي يمتد بنا إلى الأبدية.

والحياة العملية تمتُ إلى المعرفة العقلية المحدودة، وأما التأمل فيختص بالحكمة الثابتة، والعمل سينتهي لأنه مقصور على نظام العالم الطبيعي ومرتبط بأشياء زائلة في مجموعها . ويتبسط القديس أوغسطينوس فيلخص الحياة العملية بأنها نشاط جسمي وعقلي محدود للإعراض عن الشر وإجتهاد لتحصيل الخير ، ولا يخرج هذا النشاط الخير عن كونه ممارسة للفضائل الأخلاقية وعمل الرحمة سواء بخدمة الأمور الروحية أو خدمة الأمور الجسدية للآخـريـن . في حين أن الـتـأمل أو الحكمة يختص بإدراك الأمور الأبدية إدراكاً ذهنياً مطلقاً بمعناها الحقيقي الثابت الذي سوف نصير إليه ، وبمحبة الله حباً ثابتاً يتصف بالعشق ، لشدة حرارته وانفراد الله وحده بتملك كل حدود الفكر وكل نشاط الجسد والنفس. ولذلك صارت الحياة التأملية أعلى مرتبة وأفضل قيمة من الحياة العملية . إذ أنها تشمل جميع أوجه النشاط المبذول في الحياة العملية مضافاً إليها الإنطلاق بهذا المجهود إلى دائرة أوسع، أي إلى الحياة الأبدية، وإلى هدف أعظم وأبقى ، أي الله الأبدي. وفي هذا المعنى يقول :
ومن ذا الذي لا يرى أفضلية صرف الجهود في إدراك ومعرفة الحياة الأبدية والله على صرفها في
تأدية أمور محكوم عليها بالزوال ؟

وله أيضاً قطعة تعليمية عن الحياة التأملية وأفضليتها على الحياة العملية في شرح الأصحاح الأول من سفر التكوين :

390ـ إن النفوس المتعطشة إليك التي تقف لتتراءى أمامك ، أنت ترويبها من نبعك العذب، فتثمر في الأرض أثمارها، إذ تأمر أنت أيها الرب الإله فتخرج نفوسنا براعمها التي هي أعمال الرحمة بأنواعها المتعددة. ثم تنظر إلى هذه الثمار التي أثمرت لنا في الأرض وتراها حسنة، فتبتدىء تقود نفوسنا هذا الإثمار الحطيط البسيط إلى ثمرات التأمل العليا التي تظهر كأشعة منبعثة من الحياة الأبدية على من عالمنا هذا.

أوغسطينوس

ومن تعبير أوغسطينوس المجازي البديع ، أنه يرى في تعاقب الليل والنهار في رواية الـتـكـويـن إشارة خفية إلى نوعي الحياة، أي المنهمكين بأعمال العالم والمهتمين بأعمال الروح، فالشمس هي النور الأعظم الذي يحكم النهار وهي تشير إلى الحكمة التي تنير لأبناء النور وأبناء النهار، والقمر هو النور الأصغر الذي يحكم الليل، وهو يشير إلى نور المعرفة العقلية الضئيل المنعكس من نور الحكمة الأعظم والذي ينير على أبناء الليل السائرين في ظلمة هذا العالم.

391ـ إن تأمل الحق، أي ذهاب العقل إلى عتبة بيت الله وجهاده لإدراك الأمور الحية والعظمى هناك، هو أعظم عمل يستطيع أن يقوم به إنسان، إذ ليس بعد هذا شيء أكمل أو أفضل.

أوغسطينوس

وعلى نفس النمط وبنفس الغيرة والحماس لتزكية الحياة التأملية يتحدث إلينا غر يغور يوس الكبير :

392ـ ولو أن الحياة العملية حسنة، إلا أن الحياة التأملية أحسن.

393- وإن كانت الحياة التأملية تأتى بعد حياة جهاد وخدمة، إنما في الإستحقاق هي أعلى وأعظم. فإن كان نصيب مرثا لم ينتقد ؛ إلا أن نصيب مريم مدح ، لأنه إن كانت استحقاقات العمل والخدمة مجيدة؛ إلا أن استحقاق التأمل في الله أمجد.

غريغوريوس الكبير

394- مريم ومرثا تمثلان هاتين الحياتين واحدة مرتبكة في خدمات كثيرة والأخرى جالسة عند قدمي السيد تستمع لحديثه الإلهي. وحينما ابتدأت الأولى تشتكي أختها لأنها تركتها وحدها وأهملتها ، أجابها الرب قائلاً “مرثا مرثا أنتِ تهتمين وتضطر بين لأجل أمور كثيرة ولكن الحاجة إلى واحد، فاختارت مریم النصيب الصالح الذي لن يُنزع منها.” (لو 10: 41 و 42) 

أنظر معي و وافهم، فإن السيد لم يذمّ نصيب مرثا من جهة العمل والخدمة، وإنما مدح نصيب مريم مع أنها لم تعمل ولم تخدم . لم يقل إن مريم اختارت نصيباً مساوياً لها ، ولكن قال إنها اختارت نصيباً أصلح ( نص الترجمة اليونانية) حتى يمكن أن يُقال أيضاً إن نصيب مرثا كان حسناً .

وذلك لأن الحياة العملية سوف تتوقف وتنتهي مع الجسد، لأنه هل يمكن أن يُعطى خبر لجائع في الحياة الأبدية ؟ أو هل هناك ميت ليدفن أو جاهل ليتعلم أو مريض ليعتنى به ؟ … إن الحياة العاملة ستنتهي بانتهاء هذا العالم ؛ أما الحياة التأملية فهي : تبتدىء هنا لتكمل هناك إلى الأبد. ونار الحب التي نشعلها هنا سوف تشتعل وتضطرم أكثر حينما نتلاقى مع المحبوب هناك . لذلك فإن حياة التأمل سوف تبقى معنا ولن تُنزع منا. وحينما ينطفىء سراج هذا العالم الحاضر حينئذ تكمل هناك.

غريغور يوس الكبير

395ـ القديسون حينما يحلقون عالياً في تأمل الأمور العليا … يعودون إلى أحبائهم و يعلنون لهم محاسن السماء التي استطاعوا أن يلمسوا جمالها وجلالها … وحينما يتحدثون تنفذ كلماتهم في قلوب سامعيهم فتشعلها ناراً .

غريغوريوس الكبير

-«لم أكن مـعـانـداً للرؤيا السماوية، ولكني ابتدأت أبشر بالتوبة والرجوع إلى الله( أع 26: 19و 20)

بولس الرسول

وللقديس مار إسحق رأي قاطع في الموضوع ، فهو يفضّل الحياة التأملية، بشرط ألا يكون فيها اهتمام أو اضطراب من أجل خدمة أو رحمة مهما كانت. وهو لا يمانع أن السالك في طريق التأمل والوحدة يعطي كلمة وعظ لمحتاج أو يمد الضعفاء بصلاة ، ولكنه لا يوافق قط أن يخرج من خلوته ليعمل ويخدم بين الناس ولرأي القديس مار إسحق أهمية خاصة، إذ أنه قدم لتدبير عمل الأسقفية على مدينة نينوى العظمى، ولأنه وجد أن القيام بأعمال الخدمة سيعوقه عن الإستمرار في سلوك الحياة التأملية ، قطع في الموضوع رأياً واحداً عجيباً وهو أنه ترك الأسقفية وذهب إلى المغارة ليكمل الحياة التي وجدها أفضل وأبقى . .. وهو بذلك يعطينا درساً عملياً يكاد يكون فريداً من نوعه، فهو قد فضَّل بالفعل حياة التأمل على حياة العمل والخدمة، ولم يكن تفضيله حياة التأمل هروباً من حياة العمل والخدمة. والدليل على ذلك أنه لم يمانع في الخدمة والعمل الذي يليق بطقسه ، فصار فيما بعد أباً ومرشداً لجميع طبقات الرهبان، وكتب أربعة كتب في الإرشاد الروحاني هي في غاية البلاغة والفلسفة الروحانية، وصارت إختباراته التي وصل إليها في الحياة التأملية نوراً وهداية لكل من طرق باب الحياة الروحانية من درجة العلماني المبتدىء إلى درجة المتوحد.

396ـ إن كنت علمانياً ينبغي أن تُدبَّر بالسيرة الحسنة التي للعلمانيين؛ وإن كنت راهباً تُدبَّر بالأعمال الفاضلة التي للمتوحدين ؛ وإن كنت تريد أن تسير في التدبيرين معاً، أي تدبير أهل العالم وتدبير الرهبان، فإنك تسقط وتخيب من الإثنين . لأن عمل الرهبان هو هذا : الإنعتاق من كل المحسوسات والأمور العالمية والوجود مع الله بهذيذ القلب وتعب الجسد بالصلاة. فهل يمكن أن تقرن مع هذا حياة العالم وإنشغالاته ؟ إنه يستحيل طبعاً. وكذلك يستحيل على الراهب أن يحيا حياة الفضيلة و يكون له اتصال بالعالم، أي يكمل التدبيرين معاً : الداخل ( الهذيذ بالقلب والوجود مع الله ) والخارج ( أي الإهتمام بأمور الآخرين).

ونحن نجد أن الذين يخدمون الملوك هم ذو و مكانة جليلة لوقوفهم أمام الملك في كل حين أكثر من الذين ينفذون أوامر الملك في الخارج. وهكذا أيضاً في الأمور الإلهية نرى أن الذين يتأملون في الله بالصلاة في كل وقت لهم دالة قد اقتنوها من دوام الهذيذ به، وقد سلطهم على ثروته السمائية والأرضية، وأعطاهم سلطاناً على كل الخليقة حتى أن الكل يخضع لهم بغير مقاومة و بكل وقار وكرامة . هؤلاء أفضل من الذين يخدمونه بعمل البرنحو إخوتهم الذين هم عبيد مثلهم ؛ وإن كان هذا حسناً جداً لكنه أنقص من درجة الذين يعيشون الله في خدمته المباشرة بالصلاة والهذيذ والتأمل . فإذا خُيرنا فلا نختار الدرجة الأنقص، بل لنأخذ درجة النشطاء الحاذقين أصحاب سيرة الهدوء والصلاة الذين رفضوا الأرضيات، وصاروا جنداً للملك السمائي وهم بعد على الأرض. تركوا الأرضيات ورفضوها دفعةً واحدة ورفعوا أيديهم نحو السماء.

القديس يوحنا التبايسي، كنز الفضائل وصاحب النبوة، ألعله بالأمور الجسدية كان يساعد إخوته أو الذين يأتون إليه ؟ ألم يكن بالصلاة التي كان يصليها من أجل الذين يسألونه؟

أنا أعرف أن الذين يخدمون احتياجات الآخرين هم فضلاء حقاً ، لكنهم ليسوا مثل الذين يعيشون بالصلاة وللصلاة، رافضين كل شيء من أجل حب الله ، بل هم أقل وأنقص منهم جداً.

أما المنفعة التي تكون للناس من الذين يسيرون في حياة الخلوة والتأمل فهي أن يعضدوهم بكلام وعظ نافع ، أو يصلُّوا عنهم وقت الضرورة. أما خارجاً عن هذين الأمرين فلا ينبغي لهم أن يتركوا في قلبهم ذكراً أو اهتماماً لأي من الأمور الجسدية ، لأن هذا ليس من عمل الحكمة التي يسعون وراءها.

مار إسحق السرياني

397- في بداية الرهبنة المسيحية بين رهبان مصر كانت فكرة الحياة التأملية في أوج نضوجها، واندفع الآباء في هذه الحياة بلا حدود، حتى أنهم رأوا أن في اتخاذهم نظام الشركة الباخومية تعويقاً لإنطلاقهم في حياة التأمل ؛ فعاشوا فرادي في قلالي منفردة غالباً في شبه حياة توحد. ولكن لما تجمعوا بعد ذلك في مجامع – داخل الأسوار – ابتدأوا يفقدون عظمة التأمل، لأنه معروف أن أي أمر يدفع الراهب إلى الخروج من خلوته للقيام بأي عمل جسدي – وعلى الخصوص مع آخرين ـ فإنه يشتت تركيزه العقلي و يضعف من حدة انطلاق الرؤيا التي يمارسها. 

يوحنا كاسيان

باب التأمل مفتوح للجميع:

398- الآن أجرؤ أن أؤكد أننا إذا تمسكنا بالطريق الذي رسمه لنا الله في عزم وثبات، والذي تعهدنا أن نسير فيه ، فنحن حتماً سوف نسير بقوة الله وحكمته حتى ندرك أصل كل الكائنات والعلة الأولى لكل المخلوقات.

أوغسطينوس

399 ـ إذا كنا في حياتنا أمناء مخلصين، نكون قد وصلنا إلى طريق الإيمان. ونحن إذا لم نتخل عن أمانتنا نحو الله فنحن بلا شك سوف نصل إلى معرفة الأمور غير الجسدية الدائمة غير المتغيرة التي لا يدركها أحد في هذه الحياة بالمرة، بل نحن نصل أيضاً إلى أعلى درجات التأمل التي يدعوها الرسول : « وجهاً لوجه ، لأنه حتى الأصاغر الضعفاء إذا داوموا على السير في طريق الإيمان فإنهم يبلغون إلى ملء نعمة التأمل ؛ بينما الذين عندهم كل علم وعرفان في الأمور الإلهية اللاجسدية غير المتغيرة وغير المنظورة ، حينما يرفضون السير في طريق الإيمان المؤدي إلى موطن السعادة الحقة لأنه يظهر لهم كخرافة ـ أي الإيمان بيسوع المسيح مصلوباً ـ فإن هؤلاء، بالرغم من علمهم ومعرفتهم، يستحيل عليهم أن يدركوا هذه السعادة الأبدية المقدسة، مع أن عقولهم تكون قد تلامست عن قرب بالإشعاع الصادر من هناك.

أوغسطينوس

400ـ يسعد هؤلاء النساك بحديثهم مع الله إذ يلازمونه بعقول طاهرة، وتشملهم الغبطة والسعادة في تأمل حسن جماله الذي لا تدركه إلا عقول الأطهار.

أوغسطينوس
( في كلامه عن النساك الذين في برية القديس مكاريوس بمصر)

401- ليس صحيحاً أن نعمة التأمل تُمنح فقط لذوي التدبير العالي ولا تُعطى للمبتدئين، بل إنما هي تمنح للعالين وأيضاً للمبتدئين بل ولأقل مبتدىء، كما أنها تُمنح للراهب البسيط، وأحياناً ينال المتزوجون أيضاً هذه النعمة.

فأي إنسان يحتفظ بقلبه داخله، يستنير بنور التأمل . ولا يتعظم أحد إذا نال هذه النعمة ظاناً أنها انتهت إليه وحده.

ليس عظماء الكنيسة أو مشاهيرها هم وحدهم الذين نالوا موهبة التأمل، بل كثيرون نالوها وصعدوا إلى قمتها، ولا زالوا يحتلون درجات متواضعة في الكنيسة. بل إن الله القدير يسكب من نعمة التأمل في قلوب أولاده الذين يترامون للناس كأنهم أدنياء ومزدرى بهم، وهم قد أسلموا ذواتهم سراً للحكمة الإلهية، يسعون وراءها بغير شبع وقد ثبتوا عقولهم في مسرات الحياة الأبدية.

غريغوريوس الكبير

402- يجب أن نعرف أن تركيب كل نفس يختلف عن غيرها اختلافاً غير محدود . فيوجد أشخاص لا استقرار لهم، إذا سكتوا عن الحركة والعمل، يعملون تواً في الباطل، ويكونون معرضين دائماً لشغب الفكر وطياشته في الشر كلما وجدوا فسحة أو فرصة للتفكير بلا عمل.

وأيضاً ذوو العقول الهادئة المستقرة تضرهم الأعمال الزائدة، إذ يمتنع عليهم في أثنائها أن يتسع أو ينبسط مدى تأملهم . وهكذا ذوو العقول العجولة غير المستقرة يضرهم ! الهدوء، إذ في أثنائه يمتنع عليهم أن يحصروا أو يضبطوا تفكيرهم. كذلك الذين يشتغلون بالتأمل في الله من محبي الخلوة والهدوء لا يستطيعون أن يستمروا في هدوئهم وتأملهم حينما يتحملون عبء المشغوليات. 

وأيضاً أولئك الذين عاشوا بارتياح منتفعين من انشغالهم في خدمة بني جنسهم يذبلون و يضعفون إذا ركنوا إلى الهدوء والسكينة.

ولكن من المحزن أن بعض ذوي النفوس التي لا استقرار لها بينما ينظرون إلى التأمل كشيء صعب المنال وخارج عن دائرة استطاعتهم، تجدهم يبدرون في وقتهم وتفكيرهم في مسايرة المذاهب والنظريات الخاطئة. وبينما لا يجدون وقتاً أو عقلاً يتتلمذون به للحق في روح الإتضاع يجتهدون أن يصيروا أساتذة ومعلمين في توافه الأمور الزائلة.

ويجد أيضاً بعض الناس الذين لم يستطيعوا قط أن يستطلعوا شيئاً من العالم الخارجي – إلا سفسطة كلام خارج عن الدراية الحقة والإختبار – تجدهم يزجون ذواتهم في التأملات المرتفعة فيقعون في معرفة غاشة معكوسة توقعهم في ضلالة التفكير والإيمان . فإذا كنت يا أخي غير كفء للحياة الروحية والتأمل بدرجة مناسبة من التمييز والفطنة، فالزم حياة العمل والخدمة ….

ولكن لو لم تكن الحياة التأملية لغالبية الناس لما قال السيد الرب:
– «إهدأوا (تفرغوا) واعلموا أني أنا الله .» (مز 46: 10)
– «جيد للرجل أن يحمل النير في صباه يجلس وحده ويسكت لأنه قد وضعه عليه.» (مراثي 3
: 27 و 28)

غريغوريوس الكبير

403 – ليتهم يختارون لأنفسهم النصيب الصالح !
ليتهم يكرسون ذواتهم لكلمة الله !
ليتهم يشتاقون إلى حلاوة الشريعة !
ليتهم يشتغلون بالمعرفة التي توصل إلى الخلاص.

أوغسطينوس

+++

ملخص المبادىء الهامة في هذا الفصل :

(1) الكنيسة تؤمن وتشجع الحياة العملية والحياة التأملية. فالكنيسة تحترم طريق الخلوة والتأمل كإرسالية منها للأشخاص ليتعلموا دروساً في الروح يستحيل عليهم أن يتعلموها أثناء العمل والخدمة ، ثم تطالبهم الكنيسة بهذه التعاليم التي وصلوا إليها لكي تكون معيناً ومرشداً للعمل والخدمة برسائلهم.

(2) لا يصح أن يزدري من يخدم بمن يحيا حياة الخلوة والتأمل . كذلك لا يصح أن يزدري من يسير في طريق الحياة التأملية بمن يعمل ويخدم في الكنيسة.

(3) لا يصح أن يستمر الخادم في خدمته دون أن تكون له فترات محدودة مناسبة يمارس فيها الصلاة الطويلة والتأمل بدرجاته، لأنه مُطالب أن يعلم و يرشد النفوس إلى الأمور الروحية والحكمة والحق والله.

(4) لا يصح أيضاً للمشتغلين بالتأمل أن يهملوا الكنيسة والخدمة فلا يذكروا احتياجات الآخرين. بل عليهم بقدر ما تسمح به ظروفهم واستعداداتهم أن يوصلوا للكنيسة ثمار حياتهم الروحية، إن كان بشرح كلمة الكتاب أو بالوعظ أو الإرشاد بالرسائل.

(5) لا بد لكل شخص من أن يكون له نصيب في الحياتين أي حياة العمل والخدمة وحياة التأمل.

(6) الخدمة الناجحة قوامها السلوك في الحياتين بلا تحيز، فالخدمة تكون بقدر النعمة والحكمة المأخوذة من الصلاة والتأمل ؛ وإلا فتكون خدمة عقلية ليست لها الفاعلية الروحية على التوبة والتجديد والولادة والمسيح كان يقضي الليل كله في الصلاة، ثم يقضي بعض النهار في الخدمة والتعليم . فلا يصح أن نلقي بذواتنا في مشاغل الخدمة إلى الدرجة التي ننسى فيها ذواتنا كلية ؛ فالخدام والمرشدون مسئولون عن نفوسهم قبل نفوس من يخدمونهم . والمثل الذي قاله السيد عن الأعمى الذي يقود أعمى ينصب كلية على حال الخادم الذي لم يتلق بعد نور الحكمة والمعرفة الروحية وتفسير الكلمة بقوة النعمة لا العقل، و يعتقد أنه يستطيع أن يرشد النفوس و يعرفها الحق الذي يجهله هو.

(7) ليست مسرة الكنيسة أن يكون فيها أعضاء عاملون ذو و خدمات كثيرة بلا فاعلية روحية على تجديد النفوس وولادتها ولادة حقيقية في الروح لنوال ملكوت السموات . بل مسرتها في القادة ذوي البصيرة الروحية الذين يسيرون والخراف تتبعهم . ولا تستطيع أن تحصل على البصيرة الروحية بالعمل أو الدراسة؛ ولكن بالهدوء والخلوة والصلاة الطويلة بدرجاتها المختلفة.

 (8) كل من أجبرته ظروف الخدمة على صرف أوقات كثيرة خارجاً عن خلوته، عليه أن يمارس الصلاة الداخلية ورفع القلب والعقل إلى الله والشعور بوجود الله ومحاسبة الضمير أثناء العمل، وبذلك يمارس نوعاً من التأمل البسيط وهو في عمله.

(9) الأساقفة الذين وثقت بهم الكنيسة كمدبرين ومرشدين للرعية عليهم أن يمارسوا الحياتين معاً : أي حياة مشاركة الشعب في ضيقاتهم ومشاكلهم العملية واحتياجاتهم المادية، وحياة الخلوة والتأمل واستلهام روح المعرفة والحكمة، فالأساقفة الذين ينهمكون في الأمور المادية والعملية فحسب؛ هؤلاء يذبلون روحياً وتصير أعمالهم بلا حكمة وكلماتهم يضعف منها الروح وتصير بلا قوة أو منفعة، حتى أن الرعية تنصرف من حولهم إذ تشعر بجفاف المرعى الذي اقتيدت إليه كذلك الأساقفة الذين يتركون أمور الرعية المادية والعملية ليتفرغوا للخلوة والصلاة والتأمل فقط ؛ تكون النتيجة أن الرعية لا تستطيع أن تسايرهم فتتعقد مشاكلهم، ولا يستطيعون أن ينظروا إليهم كمثل عليا، لأن الشعب يحتاج إلى من ينزل إليه ليساعده مادياً فيرفعه معه روحياً.

كذلك عليهم، كمدبرين، أن لا يقطعوا في الأمور قطعاً إلا بعد استلهام روح الحق في قلوبهم، أو بعد صلاة وتأمل حتى تكون أحكامهم صادرة عن الله.

(10) الراعي الصالح مُطالب بأن يكون شاهداً أميناً لأسرار الروح وحاملاً صورة الملكوت في عمله وفي فمه، أي أن يكون صورة ناطقة لما يعلّم به الكتاب . فأول واجب عليه، بل وأهم عمل له، هو أن يختلي ويصلي و يتدرب على التأمل لينال موهبة المعرفة الروحانية والإفراز، ليدبر بها أمور الرعية الجسدية والروحية . والخلوة للكاهن هي بمثابة قدس الأقداس، والصلاة والتأمل هي الأوريم والتميم الذي من وراثه يكلم ا و يسأل حلا لمشاكل الرعية التي تستعصي عليه . والكنيسة الرشيدة تعلم الكاهن هذا الدرس يوم ينال نعمة الكهنوت، فتضع عليه أن يختلي أربعين يوماً لا يخالط فيها بيته ولا شعبه بل يقضيها في صلاة وخلوة . ليحل عليه نور الحكمة والمعرفة التي سيدبر بها شئون رعيته.

موقفنا من الحياتين :

ولكي يكون موقفنا صحيحاً منتجاً تجاه الحياتين أي حياة العمل والخدمة وحياة الصلاة والتأمل، يجب أن نضع أمام عيوننا هذا المبدأ :
«أطلبوا أولاً ملكوت الله و بره وهذه كلها تزاد لكم» (مت 6: 33) . فيوم أن نضع أمـام عـيـونـنـا هـذا المبدأ الإلهي لن نخطىء قط في حياة الخدمة، لأن أية علاقة ننشها مع إنسان، أو صلاة نقدمها أمام الله ، إذا لم يكن ملكوت الله هو هدفنا الذي نسعى إليه وهو موضوع انشغال ذهننا وأملنا وسعادتنا التي نرنو إليها ، فلن نخدم خدمة صحيحة قوية بحب وإيمان . فأي انحراف أو ملل أو إهمال أو أي انشغال زائد في الخدمة أو انهماك كثير فيها سيشعرنا في الحال بأنه يعوقنا عن المسير في طريقنا الرئيسي نحو ملكوت السموات. وأي کسب مادي أو صيت أو شهرة أو مجد نشتهيه أو نسعى إليه خفياً، سنشعر في الحال أن ذلك سيوقفنا تماماً عن السير إلى الملكوت. وهكذا إذا كان ملكوت السموات هو طلبتنا الأولى وهدفنا المفضّل، فسيصير كالسوط يلهب ظهورنا للسير بلا تعويق في طريق الحياة العملية والخدمة.

بهذا نرى أننا إذا تمسكنا في صلواتنا بملكوت السموات وطلبناه حسب وصية الرب أول كل شيء، وقوام كل شيء ونهاية كل شيء، وطلبناه من كل عقولنا وكل قلوبنا وكل قوتنا، وطبقنا قولنا وطلبتنا بسعي عملي واضح نحو هذا الملكوت المعد لنا والقريب منا ، والذي هو بالحق فينا فنحن سوف نسير في الحياة العملية أو الحياة التأملية سيراً صحيحاً مثمراً نحو الله.

ولكن كيف نكون شعوراً دائماً لطلب الملكوت وتكون فينا رغبة مستمرة لا تهدأ لطلب الله ؟ لقد اتفق الآباء عموماً على أن ذلك لا يأتى إلا بالحب الذي هو جاذبية جارفة تجرف كل الشعور والإحساس والتفكير والأعمال والنفس بأكملها لتتصل بالله وتتحد به.

وما السبيل إلى مثل ذلك الحب الجارف ؟ قد اتفق الآباء عموماً أن ذلك لا يأتى إلا بدوام الصلاة. ليست الصلاة التي نقدمها بين الحين والآخر، أو التي نقدمها بالسؤال والطلبة، بل بتلك التي يدعونها حياة الصلاة. فالصلاة التي توصل إلى الحب هي صلاة دائمة أو هي دوام الصلاة التي يقول عنها مار إسحق : « إذا لم يداوم الإنسان على الصلاة والحديث مع الله لا يستطيع أن يحس بالحب». 

وما هو الطريق العملي إلى حياة الصلاة؟
هذا ما سنقدمه لك في الباب القادم :

زر الذهاب إلى الأعلى