الصلاة رأس الفضائل ومُضرمة النعمة
العظة الأربعون من العظات الخمسون للقديس أنبا مقار
[في أن كل الفضائل وكل الشرور مربوطة بعضها ببعض ،
وكمثل سلسلة قد اقترنت الواحدة بالاخری ]
[أ] الفضائل مربوطة ببعضها ، وكذا الشرور
1- فيما يخص النسك[1] الظاهري ، وأيَّه ممارسة هي العظمى والأولى ، فاعلموا ، يا أحبائي ، أن كل الفضائل مربوطة بعضها ببعض ، لأنها كمثل سلسلة روحانية قد اقترنت الواحدة بالأخرى[2] : فالصلاة مقترنة بالمحبة ، والمحبة بالفرح ، والفرح بالوداعة ، والوداعة بالتواضع ، والتواضع بالخدمة ، والخدمة بالرجاء ، والرجاء بالإيمان ، والإيمان بالطاعة ، والطاعة بالبساطة؛ وأيضا على الجانب الآخر ، الشرور مربوط أحدها بالآخر : فالبغضة مربوطة بالغضب ، والغضب بالكبرياء ، والكبرياء بالمجد الباطل ، والمجد الباطل بعدم الإيمان ، وعدم الإيمان بقساوة القلب ، وقساوة القلب بالتهاون ، والتهاون بالرخاوة ، والرخاوة بالضجر ، والضجر بعدم الاحتمال ، وعدم الاحتمال بمحبة اللذات ، وبقية أعضاء الشر هي معلقة بعضها ببعض . وهكذا أيضا في جانب الصلاح ، الفضائل معلقة بعضها ببعض وموصولة الروابط.
2- على أن رأس كل سعي صالح وهامة الأعمال القويمة هو المواظبة على الصلاة ، التي بواسطتها يمكننا أن نحصل كذلك على بقية الفضائل يوماً بعد يوم ، بالطلب إلى الله . لأنه من هنا تتولد للمستحقين شركتهم في قداسة الله وعمله الروحي ، واتحاد ميول ذهنهم صوب الله في محبة لا يُنطق بها. لأن الذي يغصب نفسه ، يوماً بعد يوم ، على المواظبة على الصلاة ، يضطرم – بفعل المحبة الروحانية – بعشق إلهي وشوق ناري نحو الله ، ويتقبل نعمة الكمال المقس الذي للروح القدس.
[ب] تفاوت الدرجات في الملكوت ، وكذا في جهنم
3 – سؤال : حيث إن البعض يبيعون ممتلكاتهم ويعتقون عبيدهم ويعملون الوصايا ، لكنهم لا يطلبون نيل الروح القدس في هذا العالم ، أفما يمضون، وهم يحيون هكذا ، إلى ملكوت السماوات ؟
الجواب : هذا الكلام دقيق ، فالبعض يقولون إن ثمة ملكوتاً واحداً وجهنم واحدة ، أما نحن فنقول إن هنالك درجات كثيرة واختلافات وقامات في الملكوت نفسه وفي جهنم نفسها . فمثلما توجد نفس واحدة في كل الأعضاء ، فتعمل في المخ من فوق ، وهي نفسها تُحرك القدمين أسفل ؛ هكذا أيضا اللاهوت يحيط بكل الخلائق : السماوية ، والتي تحت الأعماق. وهو مكتمل في كل مكان في الخليقة ، وإن كان خارجاً عن المخلوقات من أجل أنه لا يقاس ولا يُحد . فاللاهوت نفسه يتعهد البشر ويدبر الجميع بما يناسبهم . وحيث إن قوماً يصلون وهم لا يدرون ما يطلبون وآخرون يصومون وآخرون يثبتون في الخدمة ، فالله ، كونه الديان العادل ، يعطي الأجرة لكل منهم وفقا لقامة إيمانه ، لأن ما يعملونه إنما يعملونه من أجل خوف الله ، غير أنهم ليسوا جميعاً بنين ولا ملوكاً ولا ورثة.
4 – فبينما يوجد في العالم قوم قتله وآخرون زناة وآخرون خاطفون ، يوجد كذلك من يوزعون مقتناهم على الفقراء ، وهؤلاء وأولئك يُعيرهم الرب اهتمامه ، فيعطي للذين يصنعون الخير الراحة والمكافأة . لأنه توجد قامات فائقة وقامات صغيرة ، وفي النور نفسه وفي المجد هنالك اختلافات ، وفي جهنم نفسها وفي العذاب يظهر السحرة والسارقون وكذلك الأُخر الذين يزلون الزلات الصغار. أما الذين يقولون بأن هناك ملكوتاً واحداً وجهنم واحدة وليس من درجات ، فخطأ يقولون . فكم يوجد أناست عالميون الآن يدأبون ارتياد المشاهد[3], وباقي ما لا يليق ، وكم يوجد حالياً من يُصلون ويخافون الله ، فبهؤلاء وأولئك يُعني الله ، وکدیان عادل يعد لهؤلاء راحة ولأولئك قصاصاً.
5- كمثل إنسائين يشدَّان على فرسيهما ويقودان مركبتيهما ويسوقانهما الواحد ضد الآخر ، إذ يجاهد كل واحد كيف يطرح الذي يضاده ويُزيحه ؛ هكذا يكون المشهد في قلوب المجاهدين ، فالأرواح الشريرة تصارع النفس ، والله وملائكته يشهدون الصراع . ففي كل ساعة تنبع أفكار كثيرة جديدة من النفس وبالمثل أيضاً أفكار من الشر في الداخل . فللنفس أفكار كثيرة مخفية وفي تلك الساعة تُخرجها وتلدها ، والشر نفسه له أفكاره وممارساته الكثيرة وفي كل ساعة يلد أفكاراً جديدة قبالة النفس . والعقل هو قائد مركبة النفس وسائقها الذي يمسك بزمام الأفكار ، وهو هنا يسرع ضد مركبة إبليس الذي شد هو أيضا مركبته قُبالة النفس .
[ج] الصلاة تؤجج النعمة كما الحطب للنار
6 – سؤال : إن كانت الصلاة هي راحة ، فكيف يقول قوم : “لا نقدر أن نصلي “، ولا يداومون على الصلاة ؟ [4]
الجواب : إن هذه الراحة ، إذا ما كثرت ، تعطي أحشاء وخدمات أخرى کافتقاد الإخوة وخدمتهم بالكلمة . والطبيعة نفسها ترغب في المُضي إلى الإخوة ورؤيتهم والتحدث إليهم بالكلمة . فما من شيء يُلقى في النار ويمكنه أن يلبث في طبيعته الخاصة بل بالضرورة يصير هو نفسه ناراً، كما يحدث إذا ما ألقيت بحصى في نار فإن الحجر يصير متوهجاً لا يمكن إخماده . إن الذي تحدوه الرغبة الشديدة في أن ينزل إلى البحر ويمضي إلى وسط اللجة ينغمر بها ويتوارى عن الأنظار ، أما من يدخله خطوة خطوة فإنه يروم أن يطفو فوقه ثانيه ويعبره فيخرج إلى الميناء وينظر الناس على البر ؛ هكذا أيضا في العالم الروحاني يدخل المرء إلى عمق النعمة ثم يتذكر أيضا رفقاءه ؛ والطبيعة نفسها ترغب في المُضي إلى الإخوة وتكميل المحبة وتتميم الكلمة .
7 – سؤال : كيف يمكن أن يكون في القلب الأمران : النعمة والخطيئة ؟
الجواب : كما حينما تكون هناك نار خارج إناء من نحاس ، فإذا ما وضعت تحته حطباً فإن الإناء يُحمي وداخله يغلي ويفور جراء اتقاد النار تحته من خارج، أما إن كان أحد يتهاون فما يضع حطباً أسفل فإن النار تأخذ في الخفوت حتى تكاد تنطفى ؛ كذلك أيضا النعمة ، التي هي النار السماوية ، وهي داخلك وخارجك ، فإن كنت تصلي وتعطي أفكارك لمحبة المسيح ، فها أنت ذا تضع حطباً أسفل ، فتغدو أفكارك ناراً وتنغمر في الشوق إلى الله، بل وحتى إن كان الروح القدس ينحسر وكأنه قد بات خارجاً عنك، إلا أنه لا يبرح داخلك ويظهر أيضاً خارجك . أما إن كان أحد يتهاون ، مُسلماً نفسه قليلاً إما إلى أمور عالمية أو إلى الطيش ، فإن الشر يأتي مرة أخرى ويلبس النفس ويبدأ يُضايق الإنسان بكامله ، فتذكر النفس راحتها الأولى وتبدأ تغتم وتنتحب بلا انقطاع .
8- ومرة أخرى ينتبه الذهن نحو الله ، وتبتدئ الراحة الأولى تدنو منه ، ويشرع يطلب بأكثر شدة ويقول : ” أضرع إليك يا رب . وقليلاً قليلاً تتزايد عليه النار التي تضرم النفس وتريحها، كمثل ما ترفع الصنارة السمكة من العمق قليلاً قليلاً. لأنه ما لم يكن قد ذاق هكذا المُر والموت ، فكيف يمكنه أن يميز المر من الحلو ، والموت من الحياة ، وأن يشكر الآب المحيى والابن والروح القدس إلى الأهور ؟ آمین .
- ασκησις، ومنها ” asceticism , ascetisme في الفرنسية والإنجليزية ، وكذلك كلمة ” الإسقيط” التي أطلقت على برية أنبا مقار ( للاستزادة في أصل هذه التسمية ، انظر : الرهبنة القبطية في عصر ق . أنبا مقار – طبعة ۱۹۹۰ – ص ۲۰۸ ، ۲۰۹).
- يعود أنبا مقار ويكرر هذا المبدأ في خطابه الأخير : ” الوصايا مثل السلسلة ، متى انفكت عروة منها تلفت بأكملها ، فمن توانى عن وصية من الوصايا ضاع تعبه” ( الخطاب الأخير لأنبا مقار )
- θεατρα =مسارح ومنها الكلمة الفرنسية theatre، والإنجليزية theater
- فلنر كيف يجيب أنبا مقار على هذا السؤال بكل حذق روحي ينتفي معه تماماً أي حُكم على الآخرين أو إدانة لهم ، ويتوافق كل التوافق مع ما سبق وقاله في العظة 3 : 1، 2، 3.