كتاب مفاهيم إنجيلية للأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير أنبا مقار

ذبائح الأوثان

 

 يواجه المسيحيون في مختلف عصورهم نفس هذه المشكلة : كيف يعيش الإنسان المسيحي حياة مسيحية كاملة في مجتمع لا تحكمه الثقافة المسيحية؟ هذا ما حدث في مدينة كورنثوس حيث واجه المسيحيون هناك مشكلة اللحوم التي ذبحت كأضاحي للأوثان ( 1 كو 8:1-13) . فهل أكل مثل هذه اللحوم كان يعني قبول أو الاعتراف بمثل هذه الأوثان ؟ وهل الأكل من هذه اللحوم ينجس الإنسان المسيحي ؟ وهل ينعكس هذا الأكل على الإيمان المسيحي عموماً أو هل يسيء إلى شخص المسيح نفسه ؟ وما مفهوم مثل هذه اللحوم في أيامنا هذه؟

هناك أمران يجب أن نضعهم في الاعتبار يسهلان علينا فهم رأي القديس بولس في هذه المشكلة. الأول هو أن مؤمني كنيسة كورنثوس قبل تحولهم إلى المسيحية كانوا يؤمنون بتقاليد دينية متباينة. فالمسيحيون من أصول يهودية كانوا ينظرون إلى ذبائح الأوثان بوجهة نظر مختلفة عن المسيحيين الذين كانوا من أصول أممية أي وثنية . ثانياً : كان هناك عادات وممارسات يومية صاحبت أو أثرت على طريقة تناول اللحوم المقدمة كذبائح للأوثان. 

كان القديس بولس على دراية تامة بهذين الأمرين. وكانت كنيسة كورنثوس قد أرسلت له رسالة تشرح له فيها هذه المشكلة بكل أبعادها والممارسات التي تحكم حياتهم اليومية في هذا الأمر.

كانت كورنثوس مدينة تجارية هامة ، وكانت معبراً هاماً للتجارة ، لذلك كانت المدينة تغص بالمسافرين والتجار طوال اليوم . وكان من السهل أن تلتقي هناك بأصحاب ديانات وعوائد وثنية مختلفة. فقد كانت الثقافة اليونانية نفسها تشجع على قيام مثل هذه الديانات بما تحفل به الآداب والأساطير اليونانية من الآلهة وأشباه الآلهة. وكانت الذبائح التي تقدم لهذه الآلهة جزءاً هاماً من هذه العبادات ، سواء كانت ذبائح دموية ( حيوانية ) ، أو تقدمات غير دموية ( نباتية أو هدايا عينية).

كانت الذبائح الدموية تمثل مصدراً للحوم المستهلكة يومياً. وكانت هذه الذبائح تقدم من الثيران والغنم والماعز والخنازير وبعض الطيور. وكانت الطقوس المصاحبة لهذه الذبائح مختلفة ومتنوعة حسب المجتمعات أو التجمعات التي تقدم فيها ، وإن كان هناك طقوس عامة مشتركة في كافة النواحي .

طقوس تقديم الذبائح :

كان مقدم الذبيحة يقود ذبيحته في موكب احتفالي إلى مكان الذبح. وكرمز لتطهير الذبيحة كان يصب الماء على رأس مقدم الذبيحة وعلى رأس الحيوان . ثم يمسك مقدم الذبيحة حفنة من الحبوب الزراعية أو من الحصى ويرفعها عالياً نحو السماء ، مقدماً صلاة أو طلبة أو نذراً للآلهة ، ثم يلقي بالحبوب أو الحصى فوق الحيوان الذي يكون موضوعاً على المذبح . ثم يتقدم صاحب الأضحية بعد ذلك ماسكاً بسكين في يده ويقطع بعض خصلات من الشعر من مقدم رأس الحيوان ويلقيها في النار ، وبعد ذلك يتم ذبح الحيوان ، ويجمع الدم في وعاء ويصب فوق المذبح . وأثناء الذبح تصيح النسوة المصاحبة للذبح بأصوات عالية كرمز لنصرة الحياة على الموت.

بعد سلخ جلود الذبائح ، تطبخ الأعضاء الحيوية مثل القلب والكبد على نار المذبح ، وتكون من نصيب مقدمي الذبيحة الأقربين ، وكل ما لا يصلح للأكل يتم حرقه. وفي نهاية الطقوس يقدم ما تبقى من الذبيحة لبقية المحتفلين . إذ أنه كان من الطقوس الهامة في تقديم الذبائح أن يكون هناك شركة أو احتفال يحضره مجموعة كبيرة من أقارب وأصدقاء مقدمي الذبيحة يحيطون بالذبيحة أثناء الاحتفال بتقدميها للآلهة.

متى تقدم الذبائح :

يعتمد موعد تقديم الذبائح على مواسم الاحتفال بالآلهة المختلفة. وربما يرتبط تقديم الذبائح بالأعياد القومية للبلد أو الولاية. فلم تكن تقديم الذبائح طقوساً يومية ، بل كانت عادة ما تخضع لقواعد وأنظمة دينية عامة.

وبالإضافة إلى هذه المواسم العامة أو الأعياد ، كان هناك بعض المجموعات الخاصة ، أو الجماعات العرقية ، أو حتى بعض النوادي التي لها صبغة دينية ، تمارس تقديم الذبائح بصفة دورية معتمدة على بعض العادات والتقاليد الموروثة عندها ، وعلى الإله الذي ينتمون إليه. وطبعاً كان لكل جماعة قوانينها الخاصة وموعد اجتماعاتها والغرض من الاجتماع. وبعد أن تتم هذه الاحتفالات ، يقوم المحتفلون بتناول لحم هذه الذبائح ، وإن بقي جزء من الذبائح بعد الاحتفال كانوا يوزعونه عليهم.

أماكن تقديم الذبائح :

تقدم الذبائح عادة في الهياكل الوثنية التي كانت منتشرة في المدن ، وكان لبعض الهياكل قاعات خاصة ملحقة لإقامة الاحتفالات ولعقد الاجتماعات ، مثل حفلات العرس وأعياد الميلاد والاحتفالات الأسرية الخاصة التي تحتاج إلى قاعات كبيرة . وكانت مدينة كورنثوس تضم عدة هياكل هامة مثل هيكل الإله أبولو والإله اسكليبوس . كان هيكل الإله اسكليبوس يقع في أرقى حي بالمدينة ، وكان به عين ماء وبركة ماء للاستشفاء ، كما كان يحوي ثلاث حجرات للاجتماعات والاحتفالات الدينية ، كما كانت تستعمل كنواد عامة .

عاش المسيحيون في مدينة كورنثوس وسط هذه الأجواء الوثنية. وربما كان بعضهم أعضاء في مثل هذه النوادي قبل إيمانهم ، كما يُدعى البعض الآخر للمشاركة في بعض احتفالات الزواج التي كانت تجري هناك. وبالطبع كانوا يشاركون في الأكل من الوجبات التي تقدم ، والتي كانت تحتوي على بعض اللحوم التي كانت تتبقى من الذبائح.

مشكلة كنيسة كورنثوس:

تسببت مسألة اللحوم المقدمة كذبائح لمؤمني كورنثوس في مشكلة ذات شقين . أولاً بالنسبة للمسيحيين الذين يشتركون في الاحتفالات المقامة في الهياكل أو حتى في الاحتفالات المقامة في بيوت بعض الأصدقاء الوثنيين القدامى ، والتي كانت تقدم فيها مثل هذه اللحوم . ثانياً بالنسبة للمسيحيين الذين يشترون اللحوم من الأسواق والتي ربما تكون من بقايا الذبائح الوثنية التي كانت تترك في الهياكل كل يوم وكانت تباع لمحلات الجزارة. ومن هنا نشأ الصراع في كنيسة كورنثوس حول هذا الأمر.

فالبعض من المسيحيين ذوي الأصول الوثنية ، كانوا يدركون أن إيمانهم بالمسيح قد حررهم من تأثير الآلهة الوثنية : « فمن جهة أكل ما ذبح للأوثان ، نعلم أن ليس وثن في العالم ، وأن ليس إله آخر إلا واحداً » ( 1 كو 8: 7) . وبالتالي فإن اللحوم المقدمة كأضاحي ليست مقدسة وليس لها أي معنى ديني ولا تحمل أية قوة غيبية تفيد أو تضر الإنسان المسيحي الذي يتناولها.

والبعض الآخر من المسيحيين ذوي الأصول اليهودية أو حتى من الأمم ضعاف الإيمان ، كانوا يشعرون أن هذه اللحوم تمثل رمزاً للوثنية أو للعبادات المحرمة ، وبالتالي فإن الأكل منها يعتبر نوعاً من الموافقة على هذه العبادات.

ونظراً لأن معظم القيادات في الكنيسة المسيحية الناشئة كانت من اليهود المهتدين للمسيحية ، لذلك كانوا يميلون بالأكثر إلى تحريم الأكل من مثل هذه الذبائح ، وهذا ما ظهر بوضوح في مجمع أورشليم : « لأنه قد رأى الروح القدس ونحن ، أن لا نضع عليكم ثقلاً أكثر ، غير هذه الأشياء الواجبة . أن تمتنعوا عمّا ذبح للأصنام ، وعن الدم ، والمخنوق ، والزنا » ( أع 15 : 28-29).

فكيف عالج بولس الرسول هذه المشكلة على أرض الواقع ، خاصة أنه كان عنده قرارات مجمع أورشليم ؟ بالرغم من إيمان بولس الرسول المطلق أن هذه الذبائح ليست نجسة في حد ذاتها (1كو 8 :4) ، إلا أنه كان ينظر بعين الاعتبار إلى باقي المسيحيين وخاصة الضعفاء منهم الذين كانوا يتشككون عندما يرون البعض يأكلون مثل هذه اللحوم : «أُنَاسٌ بِالضَّمِيرِ نَحْوَ الْوَثَنِ إِلَى الآنَ يَأْكُلُونَ كَأَنَّهُ مِمَّا ذُبِحَ لِوَثَنٍ، فَضَمِيرُهُمْ إِذْ هُوَ ضَعِيفٌ يَتَنَجَّسُ.» ( 1كو 8 :7) . لذلك وضع القديس بولس هذا الحل ، فقد طلب من أعضاء الكنيسة عدم الاشتراك في الاحتفالات المقامة في الهياكل الوثنية التي تقدم فيها هذه اللحوم ، وبالتالي تجنب أكل هذه اللحوم ، ووضع حد للعثرة المتسببة من وراءها : « لأنه إن رآك أحد يا من له علم ، متكئاً في هيكل وثن ، أفلا يتقوى ضميره ، إذ هو ضعيف ، حتى يأكل ما ذبح للأوثان ؟ » (1کو8 : 10).

وفي نفس الوقت أوضح القديس بولس أن اللحوم غير المعروف صراحة أنها مقدمة كذبائح ، فمسموح بأكلها . فإن قام أحد المؤمنين بشراء لحم من السوق ، فليس له أن يسأل عن مصدرها . وأيضاً إذا دعي أي مسيحي إلى حفلة غذاء تقدم فيها لحوم ، فلا يسأل أيضاً عن مصدرها ، بل يشكر الله ويأكل مما يقدم له : « كل ما يباع في الملحمة كلوه غير فاحصين عن شيء ، من أجل الضمير ، لأنّ للرب الأرض وملأها » (1کو 10: 25-26) ، ولأن “كل خليقة الله جيدة ، ولا يرفض شئ إذا أخذ مع الشكر لأنه يقدس بكلمة الله والصلاة » ( 1 تي 4:4-5).

هذا المنهج الذي وضعه بولس الرسول سمح للمسيحيين ذوي الأصول الوثنية بأكل اللحوم ، وفي نفس الوقت جنّب المؤمن الضعيف من أن يعثر أو يتشكك . فلم تكن المشكلة أمام بولس الرسول هي مشكلة أكل وشرب ، أو مشكلة الذهاب إلى الحفلات المقامة في الهياكل الوثنية ، والتي يمثلها الآن ارتياد أي مكان يمثل عثرة للآخرين مثل أماكن اللهو والترفيه ، إذ أوضح لمؤمني كنيسة كورنثوس أن « الطعام لا يقدمنا إلى الله ، لأننا إن أكلنا لا نزيد وإن لم نأكل لا ننقض » (1کو 8:8) . بل المشكلة الأساسية في الحرية التي يمارسها بعض الأقوياء في الكنيسة ( أو من يظنون في أنفسهم أنهم أقوياء ) ، وبعض المتعلمين ( أو من يحسبون أنفسهم علماء ) غير واضعين في اعتبارهم ما تؤدي هذه الحرية إلى عثرة الآخرين : « فيهلك بسبب علمك الأخ الضعيف الذي مات المسيح من أجله » ( 1کو 8: 11).

من السهل أن يعطي الخادم أو المسئول في الكنيسة الحرية لنفسه أن يفعل ما يشاء، أو يدين من يشاء ، أو يهاجم من يخالفه في الرأي ، استناداً إلى الحرية التي أعطاها له المسيح ، أو بدافع الغيرة على المقدسات ، دون الالتفات إلى مستوى إيمان المستمعين أو خبرتهم الإيمانية : « وهكذا إذ تخطئون إلى الإخوة وتجرحون ضميرهم الضعيف ، تخطئون إلى المسيح ” ( 1کو 8 :12). لقد نطق بولس الرسول بالروح القدس هذه المقولة التي اتخذها كثير من القديسين نبراساً لحياتهم : « لذلك إن كان طعام يُعثر أخي فلن آكل لحماً إلى الأبد ، لئلا أُعثر أخي » ( 1 كو 8 : 13).

يقول القديس يوحنا ذهبي الفم في شرحه على هذه الآية:
[هذا ما يجب أن يتحلى به المعلم الصالح ، أن يعلم بسلوكه ما ينطقه
بفمه. فليس ما يعنيه أن يقول إن هذا الأمر عادل أو غير عادل ، لكن بالأولى عليه أن يرفض أموراً أخرى تبدو مباحة . فاللحوم المقدمة للأوثان وإن كان غير مسموح بأكلها لأسباب أخرى ، لكن حتى الأمور المباحة ، والتي من الممكن أن تسبب عثرة ، فسوف أمتنع عن هذه أيضاً ، ليس ليوم وليومين ، بل كل أيام حياتي ، لأن بولس يقول « لذلك إن كان طعام يُعثر أخي فلن آكل لحماً إلى الأبد ، لئلا أُعثر أخي». ولم يقل إنه سوف يمتنع عن ذلك خشية أن يهلك أخوه ، بل ببساطة لكي لا أعثر أخي . فيجب أن أضع في الاعتبار الأمور التي اهتم بها المسيح جداً وهي أنه اختار أن يموت من أجل هؤلاء . فيجب أن نهتم نحن بخلاص القريب ولا نتفوه بمثل تلك الكلمات الشيطانية : ما شأني أنا بمن يعثر أو يتشكك ]. 

 

تأديبات الله  كتب أنبا إبيفانيوس التاج والإكليل
كتاب مفاهيم إنجيلية
المكتبة المسيحية

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى