من مقالات الأنبا غريغوريوس أسقف عام البحث العلمي

الزهد والحياة النسكية

جزء لا يتجزأ من الحياة الرعائية

كلمة النسك في اللغة العربية تعنى التعبد، والتزهد، والتقشف، ومنها النساك وهم العباد والزهاد.

وأمـا في اللغات الأخـرى فمشتقة من الكلمة اليونانية التي تعنى في الأصل اللغوي: تدريب، تمرین، تهذيب، أو منهج للحياة، أو مهنة. ومنها صفة الفاعل وهو من يمارس فنا أو مهنة أو حرفـة ولا سيما الألعاب الرياضية، أو البطولة الرياضية التي يتوصل إليها بالتدريب، وأما النسك أو الحياة النسكية في الاصطلاح الكنسي أو الديني، فهي هذا النوع من السلوك الذي يمارس صاحبه الزهد والتقشف والحرمان وشظف الحياة، من أجل الله وابتغاء لوجهه الكريم، وتوسلاً لعبادة خالصة وانصرافاً للروحانية في مقاماتها العالية.

والنسك في هذا المعنى المحدود يتميز به الزهاد القانعون بأبسط مظاهر الحياة المادية، وهم عادة الرهبان ومن إليهم، ممن اتخذوا هذا السلوك طريقاً ومنهجاً عرفوا به، وعرف عنهم، فصار وكأنه لهم وحدهم. والحق أنهم أهل هذا الطريق، ولكن هناك من غير الرهبان إناساً يصلون فيه إلى درجة أو بضع درجات. أما الرهبان فقد ضربوا فيه بأكثر نصيب، ولا سيما المتقدمين منهم في الروحانية من المتوحدين، ممن قطعوا في طريق النسك مراحل بعيدة، فصاروا إلى الروح أقرب منهم إلى الجسد.

ولعل أولى درجات النسك وأبسطها وأقربها إلى مستوى الحياة العادية التي يحياها أفاضل الناس في العالم، هي الامتناع الإرادي عن المحرمات والممنوعات، لا بقهر أو تكلف بل بمحض الرضى والاقتناع القلبي والشعوري.

ومن هذه المرحلة الأولية ينتقل الإنسان متدرجاً خطوة خطوة إلى الزهد في الأمور المباحة، بروح القناعة طوراً، وبروح الترفع عن أباطيل الحياة الدنيا طوراً آخر، وبروح الطموح إلى حياة أفضل وأرقى وأسمى طوراً ثالثاً. فمن دون أن يطلب منه ذلك يشعر وكأن نداء يناديه من أعماق روحه الطامحة إلى السمو الروحاني، إلى أن يقنع بأقل قدر ممكن من الطعام والشراب، بل ومن النوم أيضا، ويتدرج إلى الزهد في اللباس والمسكن وكل مظاهر الحياة الخارجية، ولا يكاد يحظى إلا قليلا برأى الناس فيه أو نظرتهم إليه.

ولماذا هذا؟ ولماذا الزهد في أمور مباحة وليست ممنوعة أو غير مشروعة؟
إن الزهد في الأمور المباحة ينبع من:

أولاًـ من شعور عميق بأن هذه الأمور وإن كانت مباحة لكنها زائلة فانية غير باقية، . وهـو امـتداد لفـكرة الزهد في العالم كلـه باعتبـاره فـانـيا، أو على حد تعبير الوحي «وهيئة هذا العالم تزول»(1كو7: 31) انظر أيضاً (يع1: 10) ، (14:4). وقوله «والـعـالـم وشـهـوتـه يـزولان» (1يو2: 17)، (1بط1: 24)، (7:4). «لأننا لم ندخل العالم بشيء وواضح أننا لانقدر أن نخرج منه بشيء»(1تي6: 7).

ثانيا – من إدراك باطني بأن هذه الأمور وإن كانت مباحة ومشروعة، لكنها تزيد من تعلق الإنسان بالدنيا وتشبثه بها، وهذا يصرفه عن السعى للحياة الأخرى وإهتماماتها.

ثالثا ـ من إحساس داخلي بأن تلك الأمور وإن كانت مباحة ومشروعة، لكنها تعطل الصفاء النفسي وتعوق الامتداد للحياة الفضلى، وتعرقل الطريق السالك إلى مداخل الحياة الروحانية العاليـة ودروبهـا الخفية، التي لا تتبين إلا لمن رقت جسـومـهـم ورق أثرها على سلوكهم.

المسيحية والحياة النسكية

الحق أن الدعوة المسيحية لا يمكن فصلها عن الحياة النسكية. فالمسيحية إذا نظرنا إليها من جهة دعوتها العملية السلوكية هي في صميمها دعوة إلى الحياة النسكية. هي أولا ـ دعوة إلى التدرب على القناعة فيما يتصل بالطعام والشراب واللباس.

يقـول الـسـيد المسيح «لا تـهـتـمـوا لـحـيـاتـكـم بمـا تأكلون وبمـا تشـربون، ولا لأجسادكم بمـا تلبسـون، أليسـت النفس (الحياة) أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس…ولمـاذا تهتمـون باللباس… فلا تهتموا قائلين ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو مـاذا نـلـبـس فـإن هـذه كلها تطلبـها الأمم… لكن اطلبوا أولا ملكوت الله وبره». (مت6: 25- 33 ، لو12: 22، 23 ،  فی4: 6، 1بط5: 7).

ويقـول مـار بولس الرسـول « فإن كان لنا قوت وكـسـوة فلنكتـف بهمـا»(1تي6: 8). . ويقول أيضا «كونوا مكتفين بما عندكم، لأنه قال لا أهملك ولا أتركك» (عب13: 5).

الزهد في المسكن:

ودعوة المسيحية إلى الزهد في المسكن تظهر من قول ربنا يسوع المسيح عن نفسه، عندما تقدم إليه كاتب وقال له: يامعلم أتبعك أينما تمضي. فقال له يسوع: للثعالب أوجرة ولطيـور السـماء أوكـار. وأمـا ابن البشر فليس له أين يسند رأسه» (مت8: 20، لو9: 57، 58).

الزهد في المظاهر:

كما تتضـح دعوتهـا إلى احتقـار أباطيـل العالم، في قـول مار يوحنا الرسول: «لا تحبوا العالم ولا ما في العالم، إن كان أحد يحب العالم فليس فيه محبة الآب، لأن كل مـا في العالـم شـهـوة الجسـد وشهوة العيون وتعظم المعيشة، وليس ذلك من الآب بل مـن العـالـم. والعـالـم وشهوتـه يزولان وأما من يعمل مشيئة الله فإنه يثبت إلى الأبد». (1يو2: 15 – 17).

ولابد أن يكون المقصود من قول الكتاب «لا تحبوا العالم» لا أن ينهانا عن محبة الكون أو الطبيعة من سماء وأرض وبحار وهواء ونبات. حاشا. إنما «العالم» في هذه الوصية «لا تحبوا العالم» هو أباطيل العالم أو شـــــــهوات العالم خاصـة وقد عقـب مار يوحنا الرسول على ذلك بقوله «لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة».

وتبلغ هذه النظـرة الـزاهدة إلى الحياة المادية ذروتها في تعبير مـار بولس الرسول، إذ يقول «فأقـول هـذا أيها الأخوة إن الزمان قصير، فبقى أن يكون الذين لهم نساء كأنهـم لا نساء لهم، والباكون كأنهم لا يبكون، والفرحون كأنهم لا يفرحـون، والمشـترون كأنهـم لا يملكون، والمستعملون هذا العالم كأنهم لا يستعملونه لأن هيئة هذا العالم في زوال»(1کو7: 29- 31).

الزهد في النظرة إلى الزواج:

ومع أن الزواج طاهر ومقدس وخير مباح، لكن الزهد المسيحى لم يتوقف عن أن ينفذ إلى هذه الدائرة. وهذا منطقي لأنه إن كان يمكن للمسيحي أن يزهد في الطعام والشراب واللباس والمسكن، وهي ضرورات الحياة الأساسية التي لابد منها، فكيف لا يزهد في الزواج وهو ليس في نفس الضرورة، أو على الأقل ليس في نفس الدرجة من الأهمية لقيام الحياة الإنسانية.

إن المسيحية بنظرتها الزاهدة إلى الزواج، تتجه إلى رد الإنسان إلى صورته الأولية لأن الله خلق آدم أولاً بغير حواء ثم عاد فخلق له حواء لتكون له معينا (تك2: 18). وكان يمكنه تعالى أن يخلق حواء مع آدم في نفس لحظة الخلق، لكنه لم يفعل ذلك، ثم إذا كان قد خلق له حواء لتكون معينته، فليس وجود المعين يقتضي حتما أن يكون بينهما زواج بالمعنى المعروف.

قال السيد المسيح «لأن من الخصيان من خصوا أنفسهم من أجل ملكوت السماوات، فمن استطاع أن يحتمل فليحتمل» (مت19: 12 ، 1كو9: 5، 15). مبيناً أنه يمكن للإنسان أن يزهد في الزواج وهو قادر عليه. وهو مع اكتمال نموه الجسدانی لكنه يحيا وكأنه خصى من أجل ملكوت الله، ومعناه أنه يضبط نفسه بإرادته ويشكم رغبة الجنـس مـن أجـل حياة أفضل، هذا زهد يقبل الإنسان عليه برضى وبغير كره «من أجل السرور الموضوع أمامه» (عب12: 2). من أجل حياة السمو الروحاني في ملكوت الله، خاصة وأن المسيحية تبين لنا أن الحياة الزوجية فترة قصيرة عارضة في رحلة الحياة الطويلة إلى اللانهائية «لأنهم في القيامة لا يزوجون ولا يتزوجون ولكن يكونون كملائكة الله في السموات» (مت22: 30). ولهذا فمن يقدر أن يحتمل برضى تعب العزوبة أو البتولية من أجل الله، إنما يضحي بفترة قصيرة عارضة إذا قيست بالأبدية التي لا نهاية لها، ولهذه التضحية جزاؤها المبارك، فما دام الزواج حادثا في حياة الإنسان وقد جـاء في زمن متأخر نوعا ما عن خلقة الإنسان الأول آدم، وما دام الإنسان لا يتهيأ للزواج إلا في فترة معينة من حياته، يكون فيها اكتمال نموه الجسماني والذهنى والعاطفي، ومادام الزواج في حياة الإنسان لا يستمر غير بضع سنوات، وينتهى على الرغم منه بالموت ولا يستمر بعد الموت. فلماذا لا يزهد الإنسان في الزواج والعلاقات الزوجية، طالما أنها لفترة قصيرة فإنها لا تستغرق أكثر من بضع سنوات، وهي لذلك لا تقاس بشيء إلى جانب الأبدية اللانهائية، يقول مار بولس الرسول «حسن للرجل أن لا يمس إمرأة، ولكن لسبب الزنا ليكن لكل واحـد إمـرأته، وليكن لكل واحـدة رجلهـا».. فإنـي أود لو يكـون جـمـيـع الناس مثلي (بتوليين ـ غير متزوجين)، لكن كل واحد له من الله موهبة تخصه، فبعضهم هكذا. وبعضهم هكذا. وأقول لغير المتزوجين وللأرامل أنه حسن لهم أن يبقوا على هذا الحال (غير متزوجين) قارن (1کو7: 26). كمـا أنا، فـإن لم يضبطـوا أنفسـهم فليتزوجـوا، قارن (1تی5: 14). «إني أريد أن تكونوا بلا هم، فإن غير المتزوج يهتم فيما للرب كيف يرضى الرب. وأما المتزوج فيهتم فيما للعالم كيف يرضى إمرأته» (1کو7: 32، 33) فهو منقسم. «والمرأة غير المتزوجة والعذراء تهتم فيما للرب لتكون مقدسة في الجسد وفي الروح. وأما المتزوجة فتهتم فيما للعالم كيف ترضى رجلها» (1کو 7: 1-34).

وهكذا علم الرسول، تبعا لتعليم معلمه وسيده، أن البتولية حالة أفضل، وأقرب إلى الكمال وهي موهبة للممتازين من الناس، بها يكون الإنسان مقدسا الله بالروح والجسد، وقد جعل إهتمامه كله في الله وحده، انقطع لعبادته ولخدمته وصار له مكرساً بالروح، والجسد، لا تكريساً جزئياً بل تكريساً تاماً وكلياً، وعلم الرسول أيضا تبعا لتعليم سيده أن الزواج مقدساً، لكنه طريق أقل درجة في السمو الروحاني، وهو لغير القادرين على ضبط نفوسهم عن أن يسيروا في الطريق الأفضل والأكمل وهو طريق المتبتلين الله، الذين لا يتزوجون من أجل الله، الذين يسلكون كخصيان (إش56: 3، مت19: 12)، وإن كانوا ليسوا خصيانا بالمعنى المادي للكلمة ـ وذلك من أجل ملكوت الله، الذين يحتملون هذا الزهد وهذا النسك من أجل الله ومن أجل ملكوته.

الزهد في العلم:

وتعليمنا المسيحي يدعونا إلى الزهد في العلم البشري والمعرفة الإنسانية، إذا كانت هذه المعرفة وذلك العلم بقصد الزهو والفخر والخيلاء والتعالي على الآخرين، أو كان العلم مصحوباً بروح هدامة مدمرة للقيم الروحية، أو كان أداة يستغلها بعض الناس لتغذية الإلحاد والكفر والمبادئ المادية والنظريات الإجتماعية الضارة.

وبهذا المعنى صار العلماء والحكماء في نظر المسيحية أغبياء، «قال الجاهل في قلبه ليس إله» (مز13: 1). ولهذا قالت المسيحية أن الجاهل خير من حكيم حكمته هدامة. «وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء» (رو1: 22). يقول مار بولس الرسول «اختار الله جهال العالم (وهم الرسل ومن إليهم) ليخزى الحكماء (في نظر أنفسهم)»(1كو1: 27). ويقول «إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر فليصر جاهلاً (بذلك النوع من الحكمة الهدامة) لكي يصير حكيماً (بالمعنى الحقيقي) لأن حكمة هذا العالم هي جهالة عند الله. لأنه مكتوب الآخذ الحكماء بـمـكـرهـم وأيـضـا يـعـلـم الـرب أفـكـار الحـكماء (في نظـر أنفسهم) أنها باطلة»(1كو3: 18– 20). ويقول أيضا «تنبهوا لئلا يغريكم أحد بالفلسفة وبغرور باطل» (کو2: 8).

ومن أقوال الرسول بولس أيضا «إن المسيح لم يرسلني لأعمد بل لأبشر لا بحكمة كلام لئلا يتعطـل صليب المسيح… لأنه مكتوب سأبيد حكمة الحكماء وأرفض فهم الفهماء» أين الحكيم (الحقيقي) أين الكاتب أين مباحث هذا الدهر. ألم يجهل الله حكمة هذا العالم، لأنه إذ كان العالم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة(البشرية)، استحسن الله أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة، لأن اليهود يسألون آية واليونانيين يطلبون حكمة. ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوباً، لليهود عثرة ولليونانيين جهالة، وأما للمدعوين يهوداً ويونانيين فبالمسيح قوة الله وحكمة الله. لأن جهالة الله أحكم من الناس وضعف الله أقوى من الناس»(1کو1: 17- 25).

وفي مجـال المقارنة بين الحكمة الإنسانية الفاشلة والحكمة الإلهية، يقول الرسول «وأنا لما أتيتكم أيها الأخوة (الكورنثيون)، لم آت ببراعة الكلام أو الحكمة (البشرية) مبشراً لكم بشهادة الله» لأني حكمت بألا أعرف بينكم شيئا إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً.. ولم على يكـن كلامـى ولا كرازتي بكلام بليـغ من حكمة بشرية، بل ببرهـان الروح والقوة لكي لا يكون إيمانكم عن حكمة الناس (الفاشلة) بل عن قوة الله» (1کو2: 1-5). أن الزهد في العلم ليس معناه أن يكف الإنسان المسيحي عن طلب المعرفة، «النفس من دون علم غير صالحة» (أم19: 2). وقد قال المخلص «فتشوا الكتب» (يو5: 39). وقال الرسول بولس «امتحنوا كل شيء تمسكوا بما هو حسن» (1تس5: 21). إنما معناه أن يزهد في تلك المعرفة البشرية الناقصة ولا يقنع بها، ظاناً أن فيها الغني والكفاية ولا يتوصل بها إلى هدم المعتقدات المستقرة والقيم الروحية والأبدية، ولا يغتر بهذه المعرفة ظانا أنه بها عرف كل شيء، إنما المسيحي ينظر إلى المعرفة البشرية على أنها وإن كانت مطلوبة، لكنها معرفة ناقصة ثم هي معرفة متغيرة وغير ثابتة، فقد يقول علماء العالم اليوم شيئا يقولون بغيره في الغد، وقد ينادون الآن بنظرية يهدمونها بأيديهم هم أو غيرهم في وقت آخر. ثم إن المعرفة البشرية معرفة زائلة لأنها تعتمد على أدوات زائلة كالحواس مثلاً، والحواس تخدعنا أحيانا فضلا عن أنها زائلة، قد تنفعنا لهذا الدهر ولكنها لا تنفعنا للدهر الآتى، وهناك نوع من المعارف يفيدنا هنا في هذا العالم، ولكنه لا قيمة له في العالم الآخر، لهذا يقول الرسول «والعالم فسيبطل لأننا نعلم بعض العلم ونتنبأ بعض التنبؤ، ولكن متى جاء الكامل فحينئذ يبطل ما هو بعض. لما كنت طفلا كطفل كنت أتكلم وكطفل كنت أفطن وكطفل كنت أفتكر. ولكن لما صرت رجلاً أبطلت ما للطفل. فإننا ننظر الآن في مرآة في لغز لكن حينئذ وجهاً لوجه. الآن أعـرف بعـض المعرفة لكن حينئذ سـأعرف كما عرفت»(1کو13: 8-12).

الزهد في المال:

لعل هذه النظرة الزاهدة إلى المال، تتمثل في أوضح وأكمل صورة لها في سيدنا ومخلصنا يسوع المسيح، الذي شاء أن يولد في أدنى وأحط صورة للفقر يمكن أن يتصورها إنسان. وليس يمكن لإبن ما مهما كان والداه فقيرين، ولو كان شحاذاً لا يملك شرو نقير يولد في نفس الظروف البائسة التي ولد فيها المسيح وهو رب المجد كله. لم تجد العذراء مكاناً تلده فيه، فولدته وأضجعته في مذود البقر. هل هناك طفل آخر مهما كان فقيراً يمكن أن يولد في صورة للفقر أبأس من هذه الصورة؟

ولو كان المسيح يشاء أن يولد في ظروف أفضل لكان العالم بأسره في خدمته.

وسار المسيح على هذا النهج، الفقير المعدم في كل حياته وإلى يوم صعوده إلى السماء. لم تكن له قنية ولا كان له مال. شاء أن يعيش على صدقات المحسنين وهو مغنى الكل، كان هو وتلاميذه لهم صندوق ومن الصندوق كانوا ينفقون على إحتياجاتهم الضرورية، لم يستغل قدرة لاهوته وسلطانه على صنع المعجزات ليكون غنياً، ولكن شاء لنفسه أن يظـل فـقيـراً، حتى يكون بالفعـل قـد شـارك البشريـة في كـل بؤسهـا وفقرها، وحتـى لا يخجل الفقير من فقره والبائس من بؤسه حين يعلم أن المسيح عاش معه في أحط صورة للفقر.

والصندوق الـذي كانوا ينفقون منه على إحتياجاتهم الضرورية، لم يحمله المسيح ولا حمله التلميذ الذي كان يسوع يحبه. وإنما حمله يهوذا الذي أحب الظلم من أجل أجرة، قال يهوذا مرة ينتقد ما فعلته مريم التي سكبت الطيب على قدمي المخلص، لم لم يبع الطيب بثلاث مائة دينار ويدفع للمساكين، وقال يوحنا الرسول عنه «وإنما قال هذا ليس لأنه كان يبالي بالفقراء، بل لأنه كان سارقا وكان الصندوق عنده وكان يحمل ما يلقى فيه» (يو12: 5، 6). والعجيب الغريب أن السيد المسيح وهو يعلم من أمر يهوذا كل شيء لم ينتزع الصندوق منه ولا ورد في الكتاب ولو مرة واحدة أن المسيح ناقشه في هذا الأمر أو وبخه عليه أو عاتبه فيه أو وجه إليه حتى مجرد سؤال. إن إهمال المسيح هذا الأمر بهذه الصورة يدل على إحتقار عجيب للمال.

ومن آيات إحتقار المسيح للمال مسلكه إزاء الذين طالبوه بالجباية. ففي كفر ناحوم دنا الذين يجبون الدرهمين إلى بطرس وقالوا له: «أما يؤدي معلمكم الدرهمين قال: بلي. فلما دخل (بطرس) البيت سبقه يسوع قائلا: ما تظن يا سمعان. ممن يأخذ ملوك الأرض الخراج أو الجزية، أمن بنيهم أم من الأجانب. قال له بطرس «من الأجانب» قال له يسوع «والبنـون إذن أحـرار، ولكـن لئلا نعثـرهـم امض إلى البحـر وألق صنارة والسمكة التي تطلع أولا خذها، ومتى فتحت فاهـا تجد استارا فخذه وأعطهم عني وعنـك» (مت17: 23-26). لقد دفع المسيح الجباية أو الجزية وهو يعلم أنه من حقه كمواطن أن لا يدفع الجزية لأنها للأجانب. دفع الجباية أو الجزية وهو فقير معدم لا يملك أن يدفع، ولكنه لم يرد أن يدخل في نقاش أو جدل في هذا الأمر، ولم يرد أن يحتل هذا الأمر شيئا من الإهتمام، وهذا دليل آخر على إحتقاره الشديد للمال. «من يطلب مالاً فليأخذه».

هذه النظـرة للمـال هي التي طبعت المؤمنين بالمسيح في العصـر الرسولى «وكانوا يبيعون أملاكهم وأمتعتهـم ويوزعونها على الجميع على حسب حاجة كل واحد» (أع2: 45). «فإنه لم يكن فيهم محتاج، لأن كل الذين كانوا يملكون ضياعاً أو بيوتـا كـانـوا يبيعـونها ويأتـون بأثمـان المبيعـات ويلقونهـا عند أقـدام الرسل» (أع4: 34، 35). ، إن تعبير «يلقونها عند أقدام الرسل» تعبير مؤثر وجميل ويضع المال في موضعه الصحيح «عند أقدام الرسل، وهو تعبير يدل على احتقار المال والزهد في المال. وهذه هي الاشتراكية المسيحية. إن المسيحي يزهد في المال عن رضى ولا يضعه في قلبه، ولكن عند أقدام الرسل يطرحه أي يبذله من أجل الله وفي خدمة الناس.

زر الذهاب إلى الأعلى