كتاب مفاهيم إنجيلية للأنبا إبيفانيوس اسقف ورئيس دير أنبا مقار
غصن من أصل يسىَّ
من يطالع نبوة إشعياء النبي القائلة : « ويخرج قضيب من جذع يسَّى، وينبت غضن ( و نِصِر ) من أصوله» ( إش11: 1) ، يشعر أنها تتعارض – ولو سطحياً – مع الآية السابقة لها مباشرة في نهاية الأصحاح العاشر : «هُوَذَا السَّيِّدُ رَبُّ الْجُنُودِ يَقْضِبُ الأَغْصَانَ بِرُعْبٍ، وَالْمُرْتَفِعُو الْقَامَةِ يُقْطَعُونَ، وَالْمُتَشَامِخُونَ يَنْخَفِضُونَ. وَيُقْطَعُ غَابُ الْوَعْرِ بِالْحَدِيدِ، وَيَسْقُطُ لُبْنَانُ بِقَدِيرٍ. » ( إش 10: 33- 34 ) . ففي هذه الآية يشير إشعياء النبي إلى غابات لبنان المشهورة بأشجار الأرز الشامخة المعمرة ، وهو يرمز بشجر الأرز إلى الدولة الأشورية بكل بهائها وعظمتها في ذلك الوقت. وهو عندما يتكلم عن قطع هذه الأشجار فإنما يرمز إلى اضمحلال الإمبراطورية الأشورية . وشجر الأرز من الأشجار دائمة الخضرة ، لكنها عندما تُقطع قريباً من الأرض فإنها لا تُخرج أغصاناً، بل تجف وتموت . أما شجرة إشعياء التي يتكلم عنها ( 11: 1) والتي اجتُثت من أصولها فإنها سوف تنبت من جديد ويخرج من جذرها غص.
ونبوة إشعياء النبي الخاصة بالشجرة التي ستنبت من جديد لها مفهوم نبوي خاص وليست مجرد مقارنة بين مملكتي أشور وإسرائيل . فالنبوة تشير إلى بيت داود ، وعبارة « جذع يسَّى » تُذكر بأن بيت داود ترجع أصوله إلى بيت لحم ، حيث كان داود ابناً ليسَّى وحيث وُلد وتربي هناك. تقرر النبوة أن عائلة داود سوف يأفل نجمها وأن الملوكية سوف تزول من العائلة. لكن إشعياء يتنبأ أن الحكم سوف يعود لهذه الأسرة مرة أخرى ، وسوف يكون له بداية جديدة كنمو جديد يخرج من جذر هذه الشجرة.
لمحة تاريخية :
يرجع سبب رسالة إشعياء النبي هذه عن بداية مملكة داود الجديدة ، إلى المواجهة التي واجه بها إشعياء النبي آحاز الملك. فقد كان آحاز ملك يهوذا في ضيقة عظيمة ، إذ أن ملكي سوريا وإسرائيل كانا قد تحالفا معاً لمواجهة جيوش الأشوريين. وعندما دعا ملك إسرائيل الملك آحاز للاشتراك معهما في التحالف ورفض ، قررا الاتحاد معاً ومهاجمة أورشلیم وقتل الملك آحاز وتنصیب ملك آخر على يهوذا يوافق على التحالف معهما . فلما صعد الجيشان معاً وحاصرا أورشليم ، وأدرك آحاز العواقب الوخيمة التي ستحل بأورشليم وبشعبه ، « رجف قلبه ، وقلوب شعبه ، گرجفان شجر الوعر قُدام الريح » ( إش7: 2) .
وهنا تقابل إشعياء النبي مع آحاز وأبلغه رسالة من الرب ، وكانت الرسالة تتكون من شقين : الشق الأول ، هو تشجيع لآحاز حتى لا يخاف من الملكين المتحالفين ضده ، وهما رصين ملك الأراميين ( ملك سوريا ) وفقح ملك إسرائيل : فإنه « هكذا يقول السيد الرب: ( إن الخطة التي أعداها ضدك ) لا تقوم ؛ لآ تكون ! » ( إش7: 7) . وحتي يتيقن قلب آحاز من هذه الرسالة طلب منه النبي أن يطلب آية أي معجزة أو عجيبة من الله ، لكن آحاز رفض أن يطلب آية.
أما الشق الثاني ، من رسالة الرب ، فهي تتعلق بعدم تصديق الملك لرسالة الله له ، أن الله قادر أن يخلصه من الملوك المتحالفين ضده : « إن لم تؤمنوا فلا تأمنوا » ( إش7: 9) . أما استجابة آحاز فقد كان لها صدى أبعد من ملكه الشخصي . فإن رفض أن يثق في كلام الله له ، فإن مملكة داود نفسها سوف تزول . وبالرغم من تحذير الله ، فقد رفض الملك تصدیق مواعيده . لذلك رأى الله أن يعطيه آية من اختيار الله نفسه، آية تخص شخص الله وتتعلق بخطته الأزلية : « وَلكِنْ يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ. » ( إش 7 :14 ) .
ثم يسجل إشعياء النبي في نبوته ( الأصحاح الثامن ) میلاد طفل له ، خلال هذا الطفل يعود الله فيعطي تأكيد آخر لأحاز حتى لا يرهب إسرائيل وسوريا : «أَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ الصَّبِيُّ أَنْ يَدْعُوَ: يَا أَبِي وَيَا أُمِّي، تُحْمَلُ ثَرْوَةُ دِمَشْقَ وَغَنِيمَةُ السَّامِرَةِ قُدَّامَ مَلِكِ أَشُّورَ » ( إش 8 :4 ).
ثم يعود إشعياء في الأصحاح التاسع ويسجل مرة أخرى رسالة تحذير للملك ، وهي إن رفض الملك آحاز تصديق كلام الله ، فستكون نهاية مملكة داود حتمية. ثم يتنبأ النبي بميلاد ابن لبيت داود الذي سيثبت مملكة داود إلى الأبد:
+ “أَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ. لِنُمُوِّ رِيَاسَتِهِ، وَلِلسَّلاَمِ لاَ نِهَايَةَ عَلَى كُرْسِيِّ دَاوُدَ وَعَلَى مَمْلَكَتِهِ، لِيُثَبِّتَهَا وَيَعْضُدَهَا بِالْحَقِّ وَالْبِرِّ، مِنَ الآنَ إِلَى الأَبَدِ. غَيْرَةُ رَبِّ الْجُنُودِ تَصْنَعُ هذَا.” ( 9: 7-6).
هنا تبدو المضادة ، فقد أخبر إشعياء الملك آحاز أن مملكة داود سوف لا تثبت ، لكنه في هذه الآيات يبشره بميلاد ابن لبيت داود الذي سيثبت مملكة داود . وتبدو هذه المضادة واضحة في الآية الأولى الأصحاح الحادي عشر : « ويخرج قضيب من جذع يسَّی ، وينبت غصن من أصوله» ( 11: 1) . فجذع يسَّى إشارة إلى بيت داود الذي سيُقطع من أصوله ، والغصن إشارة إلى استمرار المملكة مرة أخرى .
ظاهرة طبيعية :
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن : هل كان إشعياء يتوقع حدوث معجزة من الله يحافظ بها على مملكة وعرش داود من الانقراض ، أم أنه كان يتوقع استمرار المملكة كظاهرة طبيعية مثلما يحدث لنمو غصن من أصل الشجرة؟
من الواضح أن إشعياء كان يتكلم عن ظاهرة طبيعية تستطيع بها بعض الأشجار النمو من جديد . فبالرغم من قطع هذه الأشجار فإنها تعاود الحياة عن طريق نمو أغصان جديدة من الجذر المتبقي في التربة . وهذه الظاهرة لم تكن خافية أيضا عن أيوب ، فهو يقول : «لأَنَّ لِلشَّجَرَةِ رَجَاءً. إِنْ قُطِعَتْ تُخْلِفْ أَيْضًا وَلاَ تُعْدَمُ خَرَاعِيبُهَا. وَلَوْ قَدُمَ فِي الأَرْضِ أَصْلُهَا، وَمَاتَ فِي التُّرَابِ جِذْعُهَا، فَمِنْ رَائِحَةِ الْمَاءِ تُفْرِخُ وَتُنْبِتُ فُرُوعًا كَالْغِرْسِ. » ( أي 14 : 7-9 ) .
ربما كان إشعياء على دراية كافية بصفات أشجار الزيتون التي كانت تنمو بكثرة في منطقة فلسطين ، والتي ورد ذكرها في الكتاب المقدس أكثر من خمسين مرة. فبالرغم من أن شجر الزيتون ينمو ببطء فإنه يستطيع أن يواصل الحياة لأكثر من ألف سنة. وأشجار الزيتون تتميز بأنها حتى لو قطعت بالقرب من سطح الأرض ، فإن أغصاناً جديدة تنمو من الجذر حول جذع الشجرة وتحمل ثماراً بعد ذلك من جديد. وهذه الخاصية لا يتميز بها شجر الزيتون فقط ، بل نجدها أيضا في أشجار أخرى كثيرة مثل التين والجوز والرمان، وأيضا کروم العنب التي تقطع عندما لا تعود تحمل ثماراً طيبة . فعندما يتم سقي هذه الجذور فإنها تخرج أغصان جديدة في العام التالي وتحمل ثماراً جيدة.
لقد استقى إشعياء درساً من الطبيعة عندما أورد نبوته عن نمو الغصن الذي سيسمح باستمرارية مملكة بيت داود. وهو لم يتكلم عن عملية تقليم الأشجار التي تجري كل عام لكي تأخذ الشجرة قوتها في النمو ، لكنه كان يتكلم عن إمكانية بعض الأشجار على مواصلة الحياة حتى بعد أن تجتث من على سطح الأرض.
ومع ذلك فإن رسالة إشعياء قد فهمت على أنها رسالة من الله . وذلك لأنها اعتمدت على أمانة الله الذي وعد داود أن مملكته سوف تدوم إلى الأبد :”وَيَأْمَنُ بَيْتُكَ وَمَمْلَكَتُكَ إِلَى الأَبَدِ أَمَامَكَ. كُرْسِيُّكَ يَكُونُ ثَابِتًا إِلَى الأَبَدِ” ( 1صم 7 : 16 ) . وينبغي أن نلاحظ أن إشعياء لم يستنتج أو يستخرج هذه النبوة من رؤيته لظاهرة طبيعية تحدث من حوله ، لكن الطبيعة أمدته بصورة توضيحية لما سوف يعمله الله حتی يثبت مملكة داود إلى الأبد حتى بعد زوال الملك عن بيته . فبالرغم من أن مملكة داود ستنتهي من خلال نسل آحاز ، فإن هذه المملكة ستقوم من جديد من خلال الغصن الذي سينمو من أصل يسَّى.
تحقيق النبوة:
العجيب أن نبؤة إشعياء النبي بكل تفاصيلها لم تتحقق إلا في شخص الرب يسوع . فقد وُلد الطفل يسوع من القديسة مريم العذراء التي من نسل داود في بيت لحم ، وهي مدينة الملك داود بن يسَّى ، وفيه تحققت الآية : «ويخرج قضيب من جذع يسَّى، وينبت غضن ( و نِصِر ) من أصوله» (إش ۱۱: ۱ ) . ويخبرنا إنجيل القديس لوقا بالترتيب الإلهي الذي قاد القديس يوسف والعذراء مريم إلى بيت لحم حيث ولد الطفل يسوع هناك.
أما القديس متي فيخبرنا في إنجيله أنه بعد میلاد الرب يسوع في بيت لحم ، هربت العائلة المقدسة إلى أرض مصر ثم عادت وسكنت في مدينة الناصرة ، لذلك دُعي يسوع ناصرياً. ويرجح علماء الكتاب المقدس أن كلمة “ناصرة” مشتقة من الكلمة العبرية ” نصر” والتي تعني ” غصن “. وإرميا النبي يدعو الرب يسوع صراحة “غصناً” ، وذلك في نبوته التي يتنبأ فيها بقيام ملك من نسل داود تكون مهمته تثبیت مملكته إلى الأبد : «هَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأُقِيمُ لِدَاوُدَ غُصْنَ بِرّ، فَيَمْلِكُ مَلِكٌ وَيَنْجَحُ، وَيُجْرِي حَقًّا وَعَدْلاً فِي الأَرْضِ. فِي أَيَّامِهِ يُخَلَّصُ يَهُوذَا، (“لأنه يخلص شعبه من خطاياهم” مت 1: 21 ) وَيَسْكُنُ إِسْرَائِيلُ آمِنًا، وَهذَا هُوَ اسْمُهُ الَّذِي يَدْعُونَهُ بِهِ: الرَّبُّ بِرُّنَا. » (إر 23 : 5 ،6 ) . فمن من جميع نسل داود تحققت فيه النبوة ودُعي « الرب برنا » إلا الرب يسوع وحده : “الذي صار لنا حكمة من الله وبراً وقداسة وفداء » ( 1 كو 1 : 30) هذا : “الذي أُسلم من أجل خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا » ( رو4: 25 ).
كما يصفه زکريا النبي أنه هو غصن الرب : « هذا قال رب الجنود : هوذا الرجل الغصن اسمه . ومن مكانه ينبت ويبني هيكل الرب » ( زك 6 : 12 ) . وهو نفس اللقب الذي دعاه به إشعياء النبي : «فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ غُصْنُ الرَّبِّ بَهَاءً وَمَجْدًا، وَثَمَرُ الأَرْضِ فَخْرًا وَزِينَةً لِلنَّاجِينَ مِنْ إِسْرَائِيلَ.» ( إش 4: 2 ).
وحتى لا يحتار شعب الله ويختلط عليه الأمر ويحاول أن يطبق نبوات إشعياء النبي على أي ملك يقوم من نسل داود ، أوضح إشعياء ، بما لا يدعو مجالاً للشك ، أن هذا المولود الذي سيخرج من جذع يسَّى سوف تكون له صفات إلهية ، أي أنه سيكون إلهاً وإنساناً في نفس الوقت . ولا نعرف كيف نطق إشعياء بهذه النبوة ، هل كان في حالة من الصحو أم في حالة اختطاف ؟ أم تراه كان قد دخل في مجال إلهي لغى كل حواسه الأرضية وإمكانياته البشرية ، وأعطى له حساً سماوياً مرهفاً ليشعر بقوة الكلمات التي ينطق بها. اسمعه وهو يتكلم عن ابن داود الذي سيقوم بتثبيت المملكة :
+ “لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ(من دمنا ولحمنا) وَنُعْطَى ابْنًا(ابن لنا أي له نفس طبيعتنا البشرية)، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ. لِنُمُوِّ رِيَاسَتِهِ، وَلِلسَّلاَمِ لاَ نِهَايَةَ عَلَى كُرْسِيِّ دَاوُدَ وَعَلَى مَمْلَكَتِهِ، لِيُثَبِّتَهَا وَيَعْضُدَهَا بِالْحَقِّ وَالْبِرِّ، مِنَ الآنَ إِلَى الأَبَدِ. غَيْرَةُ رَبِّ الْجُنُودِ تَصْنَعُ هذَا.” ( إش 9: 6-8)
نعم ، إنها غيرة رب الجنود الذي أحب خاصته ، بل أحبهم إلى المنتهى ، فأرسل ابنه الوحيد متجسداً من العذراء ، آخذاً طبيعتنا البشرية ، حاملا خطايانا وكل ما لنا في جسده ، ليهبنا كل ما له ، حتى كما صار هو ابناً للإنسان ، يمنحنا أن نصير نحن أبناء الله فيه . وكما صار هو غصناً ، بل کرمة حقيقية ، نصير نحن أغصاناً ثابتين فيه ، مغتذین من عصارته وحاملين ثماره : « أنا الكرمه وأنتم الأغصان . الذي يثبت فيَّ وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير » ( يو 15: 5 ) .
هذا هو الغصن الذي خرج من جذع يسَّى ، ليحمل شجرة يسَّى وكل بیت داود في جسده . وبدلا من أن يثبت مملكة بيت داود الأرضية ، افتتح بجسده طريقاً للملكوت السماوي لكل بيت داود وذرية داود ، إسرائيل الجديد ، أي المؤمنين باسم ابن الله .
ملء الزمان | كتب أنبا إبيفانيوس | المسيح البكر |
كتاب مفاهيم إنجيلية | ||
المكتبة المسيحية |