تفسير سفر عاموس ٥ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الخامس
العظة الثالثة
مرثاة على عذراء إسرائيل

في هذه العظة الثالثة والأخيرة، يوجِّه حديثه إلى بني إسرائيل كمرثاة على عذراء إسرائيل الساقطة، مُظهرًا سوء حالها، ومقدِّمًا طريق الحياة عِوض الموت الذي سيطر عليها، وقد حوى هذا الأصحاح مجموعة من الويلات [18-27]، وإن كان البعض يعتبر العبارات [10-17] مجموعة سابقة للويلات، على أي الأحوال فإن الأصحاح كله وأيضًا الأصحاح التالي في مجموعها هما عظة واحدة لعذراء إسرائيل الساقطة:

  1. عذراء إسرائيل الساقطة                    [1-3].
  2. اطلبوا الرب لا الوثن                        [4-9].
  3. الظلم في مجالس القضاء                   [10-15].
  4. ولولة ونحيب                               [16-17].
  5. مجموعة الويلات الأولى                   

          أ. اشتهاء يوم الرب                  [18-20].

          ب. العبادة المظهريَّة                  [21-24].

          ج. الخلط بالعبادة الوثنيَّة             [25-27].

1. عذراء إسرائيل الساقطة:

يبدأ العظة الثالثة بمرثاة على عذراء إسرائيل:

“اسمعوا هذا القول الذي أنا أنادي به عليكم مرثاة يا بيت إسرائيل، سقطت عذراء إسرائيل لا تعود تقوم،

انطرحت على أرضها ليس من يقيمها،

لأنه هكذا قال السيِّد الرب:

المدينة الخارجة بألف يبقى لها مائة،

والخارجة بمائة لها عشرة من بيت إسرائيل” [1-3].

القول الذي بين أيدينا إنما هو مرثاة أقامها الرب نفسه يصف فيها بحزن ما بلغت إليه عذراء إسرائيل، ولعلَّه دعا إسرائيل “عذراء” ليُعلن أن هذه المرثاة التي تقام على ميِّت إنما أقيمت على عذراء إسرائيل، التي تشبه عروسًا ماتت في شبابها المبكِّر وهي عذراء، قبل أن تنعم بفرح الحياة الزيجيَّة. إنها العذراء التي ينتظر منها الرب أن تكون عروسه الدائمة، لكنها اختارت طريق الموت الروحي، ففقدت حياتها قبل أن تنعم بحياة الاتِّحاد مع عريسها.

ولعلَّ الله دعاها “عذراء إسرائيل” علامة أنها حتى هذه اللحظة كانت العذراء التي لم تنهزم بعد ولا سقطت تحت السبي… لكنها بشرِّها تفقد عذراويَّتها بل وتفقد كل حياتها. إن لله غيرة عليها لأنها عروسه العذراء، وقد حمل الرسول بولس روح سيِّده حين قال: “فإني أغار عليكم غيرة الله لأني خطبتكم لرجل واحد لأقدِّم عذراء عفيفة للمسيح، ولكنني أخاف أنه كما خدعت الحيِّة حواء بمكرها هكذا تُفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح” (2 كو 11: 1-2).

لقد سقطت عذراء إسرائيل عمَّا كان ينبغي أن تكون عليه، كعذراء للرب تحمل قداسته وبهاءه، للأسف سقطت ولا تعود تقوم لأنها ترفض تأديبات عريسها للرجوع إليه، اتَّكلت على ذاتها أو على الآخرين دون عريسها فلم تجد من يقيمها. لقد انطرحت على أرضها، علامة الضعف الكامل، فإنها لم تخرج لتحارب ولا انسحبت إلى أرض معركة خارجيَّة، لكنها انهزمت أمام ذاتها، بسبب ضعفها الداخلي. وكما يقول الرب نفسه: “أعداء الإنسان أهل بيته” (مت 10: 36). في أورشليمنا الداخليَّة نسقط حين نقبل الأنا، ونعيش لذواتنا لا للرب الذي يحبنا!.

إذ يسقط الإنسان في معركته الداخليَّة بسبب الأنا التي تطلب ما لنفسها لا ما للآخرين تفقد الكثير،فإن خرجت بألف يبقى لها مائة، وإن خرجت بمائة يبقى لها عشرة… إنها تفقد الكثير وتبقى البقيَّة القليلة الأمينة محفوظة لدى الله. هذه البقيَّة التي تمثِّل العشر في عيني الله غالية وثمينة، ويلتزم بالحفاظ عليها من أجل أمانته نحو مؤمنيه، وقد رأينا ذلك بأكثر وضوح في دراستنا لسفر حزقيال في أكثر من موضع[42].

الله لا ينسى المائة من أجل بقيَّة الألف، ولا العشرة من أجل بقيَّة المائة، لم ينس لوطًا وبِنتيْه من أجل كل منطقة سدوم وعمورة، ولا نسيَ نوحًا وعائلته من أجل فساد العالم كله!

2. اطلبوا الرب لا الوثن:

إذ قدَّم مرثاة على عذراء إسرائيل لم يقف عند الوصف المحزن، وإنما كشف عن باب النجاة باللجوء إلى الله مصدر الحياة وترك العبادات الوثنيَّة، إذ يقول: “اطلبوا فتحيوا، ولا تطلبوا بيت إيل، وإلى الجلجال لا تذهبوا، وإلى بئر سبع لا تعبروا” [4-5].

لقد حمل الشعب في ذلك الوقت مظاهر التديُّن، فكانوا يخرجون للعبادة إلى الأماكن المقدَّسة، لكن يبدو إن العبادة لله قد امتزجت بالعبادة الوثنيَّة خاصة في المراكز الرئيسيَّة في إسرائيل: بيت إيل والجلجال وبئر سبع، أو لعلَّه قد صارت عبادتهم مجرَّد ترضية ضمائر، يذهبون إلى تلك الأماكن يقدِّمون الكثير لله، لكنهم لا يطلبونه بقلبهم ولا يحفظون وصيَّته في حياتهم وسلوكهم، وكما سبق فقلت انفصل الطقس عن الحياة الروحيِّة عندهم، وصارت عبادتهم تمثَِّل عمليَّة تغطية لمواقفهم الشرِّيرة.

إن كنَّا نطلب الأماكن المقدَّسة، فليكن طلبنا الأول والأخير فيها هو الحياة مع الله وبه “اطلبوا فتحيوا”. يلاحظ إن كلمة “اطلبوا” لا تعني مجرَّد السؤال بالفم وإنما الشوق الحقيقي الداخلي نحو الله سرّ حياتنا الحقَّة.

وكما يقول القدِّيس أغسطينوس مناجيًا الله سرّ حياته: [إذن كيف أطلبك يا رب، فإنني إذ أطلبك يا إلهي أطلب الحياة السعيدة. أطلبك فتحيا نفسي، لأن جسدي يحيا بنفسي ونفسي تحيا بك[43]].

الأماكن التي كانت يومًا مقدَّسة صارت مُعثرة بالعبادات الوثنيَّة، لذا يقول: “لأن الجلجال تُسبى سبيًا وبيت إيل عدمًا”. لقد كان الجلجال وبيت إيل موضعين مقدَّسين لكن إذ أفسدهما الإنسان يُسبى الموضع الأول ويتحطَّم الثاني تمامًا حينما قالت السامريَّة للرب يسوع: “آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه” (يو 4: 20). أجابها السيِّد: “يا امرأة صدِّقيني أنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب… الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا” (يو 4: 21، 24).

لسنا ننكر أن الله يُسرّ حتى بالمواضع المقدَّسة التي يقدِّمها الإنسان في حب لتكون موضع عبادة له، لكنه يفرح بها من أجل الإنسان الذي يتقدَّس به! حتى في الكنيسة المدشَّنة يرتفع قلب المؤمن فوق كل حدود للمكان والزمان لينطلق نحو الأبديَّة، فيجد روح الله قد رفعه إلى السماء عينها! وقد سبق ليّ الحديث كثيرًا عن المبنى الكنسي ومفهومه وارتباطه بالحياة الداخليَّة للنفس كما بالحياة السماويَّة والليتورجيَّة[44]. فإن فقد بيت الله معناه الروحي وانحصر الإنسان في التراب والأرض فإنما يحوِّل بيت الله إلى عائق بدلاً من أن يكون سرّ انطلاقة للنفس!

يكرِّر الرب “اطلبوا الرب فتحيوا” [6]، هذه هي غاية كل عبادتنا، أن نلتقي مع ربنا يسوع ونطلبه من كل القلب كسرّ حياتنا.

يُهدِّد الرب: “لئلا يقتحم بيت يوسف كنار تحرق، ولا يكون من يطفئها من بيت إيل” [6].لعلَّ كثير من أسباط إسرائيل كانوا يطوِّبون بني يوسف لأن جبل بيت إيل قد جاء من نصيبهم (يش 16: 1-2)، لكن هذا الجبل صار نارًا تحرق إذ أُسيء استخدامه. لعلَّه كالكهنوت إذ يعطي الإنسان إمكانيَّات روحيِّة ورعويَّة جبَّارة، لكنه إن أُسيء استخدامه يصير ذات السلاح للهلاك ولماذا نقول عن بيت إيل أو الكهنوت فإن السيِّد المسيح نفسه وهو سرّ خلاص الكثيرين صار مجيئه سرّ دينونة لجاحديه، إذ يقول: “لو لم أكن قد جئت وكلّمتهم لم تكن لهم خطيَّة، وأما الآن فليس لهم عذر في خطيَّتهم… لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالاً لم يعملها أحد غيري لم تكن لهم خطيَّة، وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي” (يو 15: 22-24). كما يقول الرسول بولس عن السيِّد المسيح: “لأننا رائحة المسيح الذكيَّة لله في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون، لهؤلاء رائحة موت لموت ولأولئك رائحة حياة لحياة” (2 كو 2: 15-16).

نعود إلى إسرائيل لنجده وقد مزج العبادة لله الحيّ بالعبادة الوثنيَّة، فتحوَّل بيت إيل لهلاك بيت يوسف، وهنا يقصد به كل إسرائيل القادم إلى بيت إيل، إذ تلتهب حياتهم بنار الشرّ وليس من يقدر أن يطفئها. بهذا يحوِّلون الحق إلى مرارة الظلم ويفسدون البرّ السماوي بطرحه أرضًا: “يا أيها الذين يحوِّلون الحق أفسنتينًا ويُلقون البرّ إلى الأرض” [7].

إن كان الأفسنتين هو عشب مرّ للغاية ملقى في الأرض لا يطيقه الإنسان، فإن الحق الذي يُفرِّح قلب الله والإنسان إذ ينقلب إنما يتحوَّل إلى الضد، فيصير أفسنتينًا. هكذا أصحاب الطاقات العظمى والمواهب متى تقدَّسوا بروح الحق الممتزج حبًا واتِّضاعًا يشهدون للحق ويقدِّمون بالروح القدس أعمالاً تشهد بها الأجيال وتثبتها السماء، لكنهم متى انحرفوا لا يقفوا سلبيِّين، وإنما يصيرون أفسنتينًا مرًا في فم الله وكنيسته، يتحوَّلون إلى آلات هدم عِوض البناء. إنهم يلقون بالبرّ أرضًا إذ يحمِّلهم فكرهم طبيعة أرضيَّة قاتلة وهم لا يدرون.

إذن ليكن “الرب” نفسه هو موضوع طلبنا الدائم لنحيا، ولا نتحوَّل إلى أفسنتين أو نُلقي بالبرّ في التراب… لكن من هو هذا الرب الذي نطلبه؟

“الذي صنع الثريَّا والجبَّار،

ويحوِّل ظلّ الموت صبحًا،     

ويُظلِم النهار كالليل.

الذي يدعو مياه البحر ويصبَّها على وجه الأرض،

يهوه اسمه.

الذي يفلح الخرب على القوي، فيأتي الخرب على الصحن” [8-9].

أولاً: خالق الثريا والجبَّار، وهما مجموعتان من الكواكب كانتا مشهورتين في ذلك الحين فإن كان إسرائيل قد انحرف إلى عبادة النجوم، فإن الله الحقيقي هو خالق الكواكب كلها، هذا الذي يليق بهم أن يطلبوه.

لقد برز في الترجمة السبعينيّة للنص أن الله هو خالق الأشياء وهو أيضًا مغيِّرها… وللقدِّيس يوحنا الذهبي الفم حديث جريء للغاية، إذ يرى في الله الخالق يدرِّبنا نحن أولاده على الحياة الخلاَّقة، إذ يقول: [لقد أعطانا الله جسدًا من الأرض، إنما لكي نحمله معنا إلى السماء. حقًا إنه جسد أرضي لكنه يجب أن يكون سماويًا… كأنه يقول: أنا خلقت السماء والأرض، ووهبتكم سلطان الخلق. اجعلوا أرضكم سماء، فإن هذا في سلطانكم. أنا خالق الأشياء ومحمولها [8]. كما يقول الرب نفسه، لقد أعطى الإنسان سلطانًا مشابهًا، وكأنه فنّان وأب حنون يُعلِّم ابنه فنُّه! لقد خلقت جسدكم جميلاً وأعطيتكم سلطانًا لتصنعوا أمرًا أفضل… فإن كنتم لا تقدرون أن تخلقوا الإنسان لكنكم (بالروح القدس) تقدرون أن تجعلوه بارًا ومقبولاً لدى الله. أنا شكَّلت المادة، فزيِّنوا أنتم الإرادة! اُنظروا كيف أنّي أحبُّكم وأسلِّمكم سلطانًا في أمور عُظمى! اُنظروا أيّة كرامة لنا![45]].

ثانيًا: الله الذي نطلبه يحوِّل ظلّ الموت (الليل) صباحًا، ويُظلم النهار كالليل. ليس فقط خالق السماء والأرض من العدم لكنه أيضًا يقوم بالتغيير، يغيِّر الليل إلى صباح، والنهار إلى ليل.

ما هو هذا الليل أو ما دعاه بظلّ الموت الذي تحوَّل إلى صباح إلاَّ تحقيق نبوَّات العهد القديم وظلال الناموس، حيث كان الإنسان ساقطًا تحت الموت كمن هو في ليل، إلى نهار مجيئه المفرح، فاستنرنا بنوره الإلهي. وكما يقول النبي: “الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا، الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور” (إش 9: 2).

لنقدِّم له ليّنا فيجعله صباحًا، نُسلِّمه كل أتعابنا وأحزاننا يشرق علينا فتتحوَّل إلى مباهج روحيِّة وسلام فائق وفرح مجيد لا ينطق به.

أما النهار الذي يُظلم فيصير ليلاً فيذكِّرنا بالعمل الإلهي في فترات الصلب حيث تحوَّلت الظهيرة إلى ظلمة بسبب خطايانا التي حملها فادينا على كتفيه. هذا هو عمل الرب الفائق، إذ حمل خطايانا فيه، هذا الذي لم يعرف خطيَّة!

ما هو النهار الذي يصير ظلمة أيضًا إلاَّ نهار الأشرار، الذين يعيشون في ترف الحياة وملذَّاتها، حاسبين أن فرح العالم لا يزول وأن ملذَّاتهم لا تنتهي… لكن في محبَّته يحوِّل نهارهم إلى ليل خلال تأديباته التي تبدو قاسية حتى لا يرتبطوا بنهار العالم وملذَّاته!

ثالثًا: يدعو مياه البحر ويصبَّها على وجه الأرض… أنه يحوِّل مياه البحار إلى سحب تغطِّي الأرض وتمطر عليها. وقد رأينا في دراستنا لسفر يوئيل (2: 23) إن المطر المبكِّر والمطر المتأخِّر إنما يُشير إلى نعمة الروح القدس العاملة في أولاد الله. فالله الذي نطلبه، هو الخالق، وهو الذي يُغيِّر حياتنا بمجيء المسيَّا المخلِّص، وهو واهب الثمر خلال مياه الروح القدس، كما قال السيِّد نفسه: “إن عطش أحد فليقبل إليَّ ويشرب، من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ، قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه، لأن الروح القدس لم يكن قد أُعطيَ بعد” (يو 7: 37-39).

إن كنَّا نحن أرضًا لكن مياه الروح القدس تحوِّلنا إلى فردوس الله المُبهج، نحمل ثمر روحه فينا!

رابعًا: الله الذي نطلبه اسمه يهوه، فبعدما قدَّم لنا ذاته كخالق ومجدِّد لطبيعتنا خلال عمل المسيح الخلاصي، وواهب الثمر فينا بروحه القدُّوس، دخل بنا إلى أسراره… أنه يهوه أي “الكائن” الذي لا يُدرك. إن كان قد اقترب إلينا جدًا خلال عمله الخلاصي وإرساله روحه القدُّوس لكنه يبقى الإله غير المقترَب إليه في كمال جوهره. وقد سبق لنا الحديث عن مفهوم اسم الله “يهوه” في دراستنا لسفر الخروج (ص 3).

خامسًا: الله الذي نطلبه “الذي يُفلح الخِرَب على القوي، فيأتي الخرب على الحصن” [9].يُعطي نجاحًا وقوَّة للإنسان المسلوب أو المنهوب ضد القوي الذي ظلمه، حتى أنه يقدر أن يهجم على حصنه ويرد حقّه المسلوب. إنه الإله الذي ينتصر للنفس المغلوبة ويهبها قوَّة وغلبة!

3. الظلم في مجالس القضاء:

كانت مجالس القضاء عند اليهود تُقام في ميدان عام عند باب المدينة (تث 22: 15، إش 29: 21) تحت قيادة قاض أو نبي ينتهر الظالم، ويسند البار. لكن للأسف تحوَّلت مجالس القضاء إلى مجالس للظلم، يقول:

“إنهم في الباب يبغضون المنذر ويكرهون المتكلِّم بالصدق،

لذلك من أجل أنكم تدوسون المسكين، وتأخذون منه هديَّة قمح، بنيْتم بيوتًا من حجارة منحوتة ولا تسكنون فيها، وغرستم كرومًا شهيَّة ولا تشربون خمرها،

لأني علمت أن ذنوبكم كثيرة وخطاياكم وافرة أيها المضايقون البار، الآخذون الرشوة الصادُّون البائسين في الباب” [10-12].

إنها مظاهر مؤلمة للظلم الذي ساد مجالس القضاء، فمن جهة كان هؤلاء الشيوخ عِوض أن يوبِّخوا الظالمين، يكرهون من يوبِّخهم أو يُنذرهم، إنهم يريدون مجاملة الظالمين على حساب الحق، حتى كانوا يكرهون من ينطق بكلمة حق. لأنها تجرح الأغنياء الظالمين، ومن جهة أخرى عِوض أن يرفعوا البائس عن المزبلة يدوسونه بالأقدام. يطلبون منه هديَّة هي أقرب إلى الرشوة، وإذ لا يملك مالاً يقدِّمه يلزمونه بتقديم قمحه، ويبقى هو وعائلته جائعًا. لقد منعت الشريعة رِبا الطعام (تث 23: 9). وهؤلاء يسلبون طعام المساكين لكي يقيموا لأنفسهم بيوتًا من حجارة منحوتة لا تقدر أن تهبهم طمأنينة، ولكي يغرسوا لأنفسهم كرومًا شهيَّة لا تقدر أن ترويهم بخمر الفرح.

أخيرًا في ظلمهم يضايقون البار، ويأخذون الرشوة التي تمنعها الشريعة (خر 21: 30، عد 35: 31).

وإذ تزايد الظلم جدًا حتى في مجالس القضاء قيل: “لذلك يصمت العاقل في ذلك الزمان لأنه زمان رديء” [13]. إذ يدرك الإنسان أن دفاعه عن البائسين لا يُجدي يلتزم بالصمت ليس جبنًا ولا خوفًا من الظالمين، وإنما من أجل الحكمة حتى لا يفسد وقته فيما لا يُجدي. لقد كتب القدِّيس باسيليوس في آخر كتابه عن “الروح القدس”، يقول: [لما كانت الترتبيات الإنجيليَّة بسبب الفوضى قد اختلطت تمامًا، فقد أصبح الهجوم للتقدُّم في المناصب الرئيسيَّة يفوق الخيال فكل من محبِّي الظهور يجعل من نفسه قبل غيره بالقوَّة… فصارت ابتهالات الرؤساء عقيمة وباطلة، لأن الكل في بحار جهله يحكم بأن من واجبه أن يصدر الأوامر للآخرين ولا يطيع هو أحدًا، لهذه الأسباب آثرت الصمت على الكلام، لأنه ليس في صوت بشري من القوَّة ما يجعله يسمع في ضجيج كهذا. فلو صدق قول المبشر: “كلمات الحكماء تسمع في هدوء” (ابن سيراخ 9: 7) للزم التوقُّف عن الكلام في الوقت الحاضر[46]].

الإنسان الحكيم يصمت في الزمان الرديء ولا يتكلَّم إلاَّ بالقدر الذي يدرك أن لكلماته منفعة، متشبَّهًا بالله نفسه الذي لا يُقدِّم كل أسراره الإلهيَّة إلاَّ بالقدر الذي نحتمل سماعها أو ادراكها أو الانتفاع بها. تبقى أسراره مخفيَّة حتى تصير لنا الأذن الروحيِّة القادرة على الاستماع، وإدراك الأسرار بطريقة بنَّاءة. من كلمات القدِّيس إكليمنضدس الإسكندري: [يقول الرب: “من له أُذنان للسمع فليسمع” (مت 11: 15)، معلنًا أن السمع والفهم ليسا للجميع. في هذا يكتب داود: “جعل الظلمة سترته” حوله مظلَّته ضباب المياه وظلام الغمام. من الشعاع قدَّامه عبرت سحبه، برَدْ وجمر نار” (مز 18: 11-12)، مظهرًا أن الكلمات المقدَّسة مخفاة[47]].

صمت العاقل في الزمان الرديء هو في ذاته شهادة حق ضد الظلم والاستبداد… لكن لا يقف الأمر عند هذا الحد، إنما يطالب الرب بالرجوع إليه، خلال رجوع هؤلاء القضاة أو الشيوخ الظالمين عن الظلم في مجلس القضاء (في الباب)، إذ يقول: “اطلبوا الخير لا الشرّ لكي تحيوا فعلى هذا يكون الرب إله الجنود معكم كما قلتم” [14]. كأنه يقول لهم إن كنتم تفتخرون بأن الله رب الجنود معكم وفي وسطكم، فإن علامة هذا السلوك العملي بطلب الخير ورفض الشرّ، بهذا تحيون بالرب الساكن في وسطكم.

لقد ظن إسرائيل خطأ أن اختيار الله لهم كشعب يعفيهم من العقوبة مهما أخطأوا، وأن الله يسكن في وسطهم مهما كان حالهم، لذلك يُصحِّح الله مفاهيمهم معلنًا أن اختياره لهم من بين جميع قبائل الأرض يزيدهم مسئوليَّة ويسقطهم بالأكثر تحت العقوبة إن أخطأوا (3: 2). وهنا يؤكِّد إن حلوله في وسطهم لن يكون إلاَّ بطلبهم الخير الأعظم ورفضهم الشرّ عمليًا في حياتهم وقضائهم، أخيرًا يتحدَّث عن اختياره لهم يجعلهم كالحنطة في الغربال بين يديّ الله يعاقبهم بشدَّة ويدقِّق معهم دون أن يُبيدهم (9:  7-10).

في بداية العظة قال لهم “اطلبوا الرب” (3: 6)، وهنا يُعلن التزامهم بطلبه خلال سلوكهم العملي:“أبغضوا الشرّ وأحبُّوا الخير وثبتوا الحق في الباب لعلَّ الرب إله الجنود يتراءف على بقيَّة يوسف” [15]. سيتعرَّض إسرائيل لتأديبات مرَّة ويموت بعضهم ويُقتل البعض بالسيف ويسبي البعض… لكن الله لا ينسى البقيَّة الأمينة له. إن ثبتت في الحق وأحببت الخير وأبغضت الشرّ يتراءف عليها ويُعلن حلوله في وسطها.

4. ولولة ونحيب:

يختم المرثاة بعبور الله في وسطهم لا كسرّ حياتهم وإنما لمعاقبتهم وتأديبهم، لذا يتحوَّل إسرائيل كله إلى مكان ندب وولولة، إذ صار الكل في حالة موت. صارت حضرة الله للحزن لا للفرح!

هنا يقدِّم صورة واقعيَّة للحزن الشرقي القديم حيث يستأجرون أناسًا متخصِّصين في الأغاني المؤلمة أثناء مراسيم الوفاة.

5. مجموعة الويلات الأولى:

هذه المجموعة في الواقع هي جزء من العظة الثالثة، حيث يُعلن الله الويل للشعب بسبب ثلاثة أمور:

أولاً: اشتهاء يوم الرب: “ويل للذين يشتهون يوم الرب، لماذا لكم يوم الرب هو ظلام لا نور، كما إذا هرب إنسان من أمام الأسد فصادفه الدبّ، أو دخل البيت ووضع يده على الحائط فلدغته حيَّة. أليس يوم الرب ظلامًا لا نورًا؟! وقتامًا لا نور له؟!” [18-20].

إن كان الله نور، ويومه نور في ذاته لكن بالنسبة للأعمى روحيًا. غير القادر على معاينة النور يصير النور ظلامًا. وكما يقول القدِّيس باسيليوس: [يوم الرب ظلمة للذين يستحقُّون الظلمة[48]].

يوم الرب في ذهن اليهود كان يعني إعلان الله قوَّته ونصرته في شعبه ضد أعدائهم. لهذا كان يومًا للفرح والغلبة، يوم افتخار على الأمم. أمّا وقد ارتبك الشعب بخطاياهم الكثيرة وذنوبهم بلا توبة تحوَّل إلى يوم دينونة ومرارة.

لا يستطيع أحد أن يهرب من الدينونة، فإن من يهرب يكون كمن يهرب من الأسد فيلتقي بدب شرس، أو من يُريد أن يحتمي في بيته فيضع يده على حائط يتَّكئ عليها فتلدغه حيَّة.

ثانيًا: العبادة المظهريَّة، وهذا خط واضح في أغلب كتابات الأنبياء، إذ كان إسرائيل يصنع الشرّ ويذهب إلى الأماكن المقدَّسة للعبادة العامة وتقديم محرقات وتقدمات وابتهاج بالأعياد… الله لا يُغش بالمظاهر الخارجية إذ يطلب القلب أولاً (مز 12: 33).

في مرارة يوبِّخهم: “بغضت كرهت أعيادهم ولست ألتذ باعتكافاتكم (اجتماعاتكم)، إني إذا قدَّمتم ليّ مُحرقاتكم وتقدماتكم لا ارتضي، وذبائح السلامة من مسمِّناتكم لا ألتفت إليها. أبعد عني ضجِّة أغانيك ونغمة أربابك لا أسمع، وليجرِ الحق كالمياه والبرّ كنهر دائم” [21-24]. إنه يرفض العبادة الخارجية غير الملتحمة بالحب الداخلي، وقد نسب كل العبادة إليهم لا إليه، فيقول: “أعيادكم، محرقاتكم”، مع أنه إذ يُسرّ الله بهم يحسبها أعياده وسبوته ومحرقاته هو، يبتهج بنسبتها إليه.

الله لا يطيق تسابيحهم وترنيماتهم فيحسبها ضجيجًا “ضجة أغانيك”، وكما يقول الرسول بولس إن كنت أتكلَّم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس ليّ محبَّة فقد صرتُ نحاسًا يطن أو صنجًا يرن” (1 كو 13: 1).

لكي تكون عبادتهم مقبولة يقول: “ليجرِ الحق (القضاء) كالمياه. والبرّ (الصدقة) كنهر دائم”… أي لتمتزج حياتكم بالعدل وحب العطاء، عِوض الظلم والقسوة.

ثالثًا: الخلط بالعبادة الوثنيَّة: “هل قدَّمتم ليّ ذبائح وتقدمات في البريَّة أربعين سنة يا بيت إسرائيل؟! بل حملتم خيمة ملكوكم وتمثال أصنامكم نجم إلهكم الذي صنعتم لنفوسكم فأسبيكم إلى ما وراء دمشق، قال الرب إله الجنود اسمه” [25-27].

كان الأنبياء يتطلَّعون إلى فترة البريَّة كأفضل فترة عاشها إسرائيل في علاقته بالله (هو 2: 26، إر 2: 1-3)، بكونها فترة مثاليَّة كان الله يعول إسرائيل بطريقة فريدة وفائقة. في هذه الفترة لم يُشدِّد الرب على شرائع الذبائح، وإنما على الوصايا الأدبيَّة، ولعلَّ تجوالهم في البريَّة جعل تقديم الذبائح أمرًا صعبًا، فنسمع أنهم لم يقدِّموا الفصح بعد السنة الثانية حتى عبورهم إلى كنعان.

يُلاحظ هنا إن عاموس النبي لم يقل: “لم تُقدِّموا ذبائح وتقدمات” إذ لم ينفيها بالمرَّة، لكنها لم تكن هدفًا أثناء تجوالهم في البريَّة.

لقد مزجوا عبادة الله بالوثنيَّة فكانوا يحملون خيمة “مولوك” أو “ملكوم” إله العمونيِّين كإله لهم، يحمُّون ذراعيه حتى تحمرَّا ثم يضعون عليهما الأطفال وسط دق الطبول. وأيضًا يتعبَّدون لآلهة هي مجموعة من النجوم والكواكب، لذلك كما سبوا أنفسهم إلى العبادة الوثنيَّة يذلَّهم الله بالسبي تحت سطوة عبدة الأوثان، إلى ما وراء دمشق (آرام) أي إلى سبي أشور الذي يبعد كثيرًا عن دمشق. هم حملوا الوثنيَّة في قلبهم، لذلك تركهم الله يُحملون بواسطة الوثنيِّين!.

تفسير عاموس 4 عاموس 5  تفسير سفر عاموس
تفسير العهد القديم تفسير عاموس 6
القمص تادرس يعقوب ملطي
تفاسير عاموس 5  تفاسير سفر عاموس تفاسير العهد القديم

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى