الله سر

‏”كمجهولين ونحن معروفون” ( 2 کو 6: 9)

ذات يوم جاء بعض الأخوة لمقابلة الأنبا أنطونيوس ، وكان من بينهم الأنبا يوسف. وإذ رغب أن يختبرهم، ذكر الشيخ العجوز نصا من الكتاب المقدس ، وإذ بدأ بأصغرهم سنا، سألهم ما معنى النص. وشرح كل منهم بقدر استطاعته. لكن الشيخ قال لكل واحد “لم تجد الإجابة بعد “. وأخيراً قال للأنبا يوسف “وأنت ماذا تظن معنى النص ؟ ” فأجابه “لا أعرف” فقال الأنبا أنطونيوس “حقا ، قد وجد الأنبا يوسف الطريق ، لأنه قال: لا أعرف”.

(من أقوال أباء البرية )

“كصديق يتحدث إلى صديقه ، يتحدث الإنسان مع الله ، وإذ يقترب في ثقة يقف أمام الذي يسكن في نور لا يُدني منه.

(سمعان اللاهوتي الجديد )

الله الأبدي آخر وإن كان قريبا :

ما هو أو من هو الله ؟

المسافر في الطريق الروحي ، كلما توغل أكثر، يصبح أكثر وعياً بحقيقتين متضادتين – هما : أن الله الأبدي هو ” آخر ” رغم أنه ” قريب منا ” . وفي المقام الأول ، يتيقن أكثر فأكثر أن الله سر. الله هو “الآخر تماماً” ، غير مرئي ، غير مدرك ، متعال ، يفوق كل كلام ، يفوق كل فهم . يكتب الكاتب الغربي جورج تيريل George Tyrrell “بالتأكيد فإن الطفل حديث الولادة يعرف عن الكون وطرقه قدر ما يعرفه أحكمنا عن سبل الله ، الذي تمتد سيطرته فوق السموات والأرض ، وفوق الزمان و الأبدية”. إن مسيحيا في التقليد الأرثوذكسي سيوافق تماما على هذا الرأي . وكما أصر الأباء الشرقيون ، ” إله يمكن إدراكه ليس إلهاً” ، فالإله الذي نزعم أننا نعرف عنه كل شئ بالكامل من خلال دماغنا العقلاني لا يعدو أن يكون مجرد وثن ، قد شكلناه بحسب صورتنا نحن . ومثل هذا الإله بالتأكيد ليس هو الإله الحقيقي الحي ، إله الكتاب المقدس و الكنيسة . الإنسان خُلق على صورة الله ، لكن العكس ليس صحيحاً.

ومع هذا ، فإنه في المقام الثاني ، فإن هذا الإله إله السر هو في نفس الوقت قريب منا جداً ، يملأ كل شئ ، حاضر في كل مكان حولنا وفينا . وهو حاضر ، ليس كمجرد غلاف جوي أو قوة بلا اسم ، بل هو موجود بطريقة شخصية . إن الإله الذي يفوق فهمنا إلى ما لا نهاية يكشف ذاته لنا كشخص و هو يدعو كل واحد منا باسمه ونحن نجيبه ، وهناك علاقة حب بيننا وبين الله المتعالي ، علاقة مشابهة في نوعيتها لتلك العلاقة القائمة بين كل واحد منا وبين غيرنا من أعز الناس إلينا . نحن نعرف غيرنا من البشر من خلال محبتنا لهم ومحبتهم لنا . هكذا الأمر مع الله . وبحسب كلمات نیکولاوس کاباسيلاس ، فإن الله ملكنا هو :

أحن من أي صديق
أعدل من أي حاکم
يحبنا أكثر من أي أب
ألصق بنا من أعضائنا
لازم لنا أكثر من قلبنا ..

هذان ، إذن ، هما ” القطبان ” اللذان يحددان خبرة الإنسان عن الله . الله بعيد عنا ، وقريب منا في نفس الوقت ، أكثر من أي شي آخر . ونحن نجد – وبشكل فيه مفارقة – أن هذين القطبين لا يلغي أحدهما الآخر ، على العكس : كلما ازداد انجذابنا لأحد القطبين ، كلما ازداد و عینا بالأخر في نفس الوقت . كلما تقدمنا في الطريق ، يجد كل واحد منا أن الله على الدوام يزداد قرباً وفي نفس الوقت يكون أكثر بعداً على الدوام ، معروف جيداً – ومع هذا غير معروف – معروف جيداً لأصغر طفل ، وغير مدرك لأكثر اللاهوتبين حصافة . الله يسكن في “نور لا يُدني منه” ( 1تي 6 : 16) ، ومع ذلك فالإنسان يخاطبه كصديق . الله هو نقطة البداية كما أنه نقطة النهاية . هو المُضيف الذي يرحب بنا في نهاية الرحلة ، ومع هذا فهو أيضا الرفيق الذي يسير إلى جوارنا في كل خطوة على الطريق. وإن كان الله سراً رغم أنه شخص ، فلنعالج أمرين تباعاً

١. الله سر :

إن لم نبدأ بشعور من الرهبة والدهشة – لما يسمى عادة بمفهوم ” المقدس الخارق للطبيعة – فلن نحرز تقدماً ملموسا على ” الطريق ” . وحينما قام “صامويل بالمر ” لأول مرة بزيارة “ويليام بليك ” ، سأله الرجل العجوز ، كيف توصل إلى فن الرسم . فأجابه “بالمر ” : ” بخوف ورعدة ” . فقال له ” بليك ” : ” إذن ستنجح ” .

ويشبّه الآباء الشرقيون لقاء الإنسان مع الله بخبرة واحد يسير عبر الجبال في وسط الضباب : فما أن يخطو خطوة إلى الأمام ، حتى يجد نفسه فجأة وقد بلغ حافة الهاوية ، بلا أرضية صلبة تحت قدميه بل فقط هوة سحيقة بغير قرار . أو يستخدمون مثالا لإنسان يقف ليلا في غرفة مظلمة : وما أن يفتح النافذة ، حتى يلمح بالخارج فجأة وميضا من البرق ، يجعله  يترنح إلى الخلف ، ويصاب بالعمى المؤقت . هكذا يكون أثر مواجهة السر الحي لله : إذ يمسك بنا الدوار ويتلاشى كل ما اعتدنا عليه من خطى ، ويبدو أن لا شئ يمكن أن تمسك به ، وتعمي عيوننا الداخلية ، وتنكسر افتراضاتنا المعتادة .

ومن بين الرموز التي يذكرها الآباء أيضا عن الطريق الروحي ، شخصان من العهد القديم هما إبراهيم وموسی : فإبراهيم وهو لا يزال يعيش في بيت أجداده في أور الكلدانيين ، يخبره الله : ” أذهب من أرضك و من عشيرك بيت أبيك الى الأرض التي أريك ” ( تك ۱:۱۲ ) . ويقبل إبراهيم الدعوة الإلهية فيخلع أصوله من بيئته المحيطة المألوفة و يرحل إلى المجهول ، دون أن يعرف شيئاً واضحاً عن مستقره الأخير . لقد أمره الله ببساطة . ” أخرج ..” وفي إيمان يطيع . أما موسى فيري على التتابع ثلاث رؤى من الله : فيري الله أولاً في رؤيا من نور في العليقة المشتعلة ( خر ۲:۳ ) ، ثم ينكشف الله له من خلال نور مختلط بظلمة في “عمود الدخان و النار ” الذي كان يصحب شعب إسرائيل عبر البرية ( خر ۲۱:۱۳ ) ، ثم يتقابل أخيراً مع الله في ” لا – رؤية ” ، حين يتكلم معه في ” الظلمة الكثيفة ” على قمة جبل سيناء (خر۲۱:۲۰) .

إبراهيم يرتحل من بيته المألوف إلى بلد مجهول ، وموسى يتقدم من النور إلى الظلمة . وهذا ما يحدث لكل من يتبع الطريق الروحي . إننا نخرج من المعلوم إلى المجهول ، وتتقدم من النور إلى الظلام . ونحن لا نتقدم هكذا ببساطة من ظلمة الجهل إلى نور المعرفة ، بل نحن نخرج من نور المعرفة الجزئية إلى معرفة أعظم ، تلك المعرفة الأعمق التي لا يمكن وصفها فقط إلا بأنها ” ظلمة علم المعرفة ” . ومثلما فعل سقراط نبدأ نحن في إدراك ضالة ما نفهمه ، ونعرف أن المسيحية ليست مهمتها أن تعطي إجابات سهلة على كل سؤال ، بل أن تجعلنا على الدوام نعی وجود ” سر ” . ليس الله هو موضوع معرفتنا بقدر ما هو سبب تعجبنا . وبحسب مزمور ( ۱:۸ ) ” أيها الرب ربنا ما أعجب أسمك في كل الأرض ” ويعلن القديس غريغوريوس النيسي : ” اسم الله ليس معروف – هو اسم يُتعجب منه “.

و إذ ندرك أن الله أعظم من أي شئ يمكن قوله أو التفكير فيه ، بما لا يُقاس ، نجد من الضروري أن نشير إليه لا من خلال الكلام المباشر بل بواسطة الصور والتشبيهات . إن لاهوتنا هو لاهوت رمزي إلى حد بعيد (Symbolic) . ومع ذلك فالرموز وحدها لا تكفي لتوصيل ” تعالى الله” وكونه ” آخر ” . فلكي نشير إلى ” السر العظيم” ، نحتاج أن نستخدم عبارات سلبية مع العبارات الإيجابية ، ذاکرین ما ليس هو الله ، بدلا من ذكر ما هو الله . ومن دون استخدام أسلوب النفي هذا – وهو ما يسمي بالمنهج السلبي النافي ( Apophatic ) – يصبح كلامنا عن الله مضللاً بشكل شديد . وكل ما يمكنا التأكيد عليه عن الله ، حتى وإن كان صحيحاً، يعجز عن بلوغ الحق الحي . فإن كنا نقول أنه صالح أو عادل ، فإن علينا على الفور أن نضيف أن صلاحه وعدله لا يقاس بمعاييرنا البشرية . وإن كنا نقول إنه موجود ، فعلينا أن نحدد ذلك مباشرة بإضافة أنه ليس موجوداً واحداً من بين كثيرين ، وأن في حالته تكون لفظة ” يوجد exists ” تحمل معنی خاصاً فريداً. من هنا تتوازن طريقة التأكيد الإيجابي مع طريقة النفي ، ويعبر الكاردينال ” نيومان عن ذلك بقوله ، نحن على الدوام ” نقول ولا نقول بهدف إيجابي ” . وإذا ما بدر منا تأكيد ما عن الله ، علينا أن نتجاوزه : فالعبارة و إن لم تكن عبارة غير حقيقية ، إلا أنها لا هي ولا أي شكل أخر من الكلمات يمكن أن يحمله الله المتعالي.

هكذا فإن الطريق الروحي يتبين أنه طريق توبة بكل ما تحمله الكلمة من معنى جذري ، و اللفظة اليونانية للتوبة هي ميطانيا Metanoia وتعني حرفياً ” تغيير الذهن”. وفي اقترابنا من الله ، علينا أن نغير ذهننا ، متجردین من كل عاداتنا في التفكير . علينا أن نتحول لا في مشيئتنا فقط بل في فكرنا أيضا. نحن نحتاج أن نغير مفهومنا الداخلي – ليقف الهرم على رأسه.

ومع هذا فإن ” الظلمة الكثيفة ” ، التي ندخلها مع موسي تتحول فتصير ظلمة وضاءة أو مبهرة للأبصار. إن الطريقة ” النافية” “لعدم المعرفة ” تحضرنا لا إلى فراغ بل إلى ملء . وتكون عباراتنا النافية في الحقيقة تأكيدات فائقة . وإذ يكون مدمراً في شكله الظاهري ، فإن أسلوب ” النفي ” هو مدخل إثباتي في آثاره الأخيرة ، فهو يساعدنا على أن نبلغ إلى ما وراء العبارات الإيجابية أو السلبية ، إلى ما وراء كل لغة وكل فكر ، إلى خبرة مباشرة لله الحي.

وهذا ما تتضمنه ، في الحقيقة ، الكلمة ذاتها ، كلمة “سر”. وفي المفهوم الديني الصحيح للفظة ، فإن كلمة “سر” لا تعني الخفائية فقط بل الانكشاف . فاللفظة اليونانية ” مستيريون mysterion ” مرتبطة بالفعل myein و الذي يعني ” أن نغلق العينين أو الفم ” . فالداخل الجديد إلى بعض الديانات الوثنية السرية الخاصة كان يتقدم معصوب العينين ثم يقاد إلى ممرات سرية ، ثم ترفع العصابة عن عينيه فجأة ليري ، كل الرموز السرية للديانة ، بعد أن ينكشف كل ما حوله . ولهذا فإنه في المضمون المسيحي ، لا نعني بكلمة “سر ” فقط ما هو محير وغامض ، ولا تعني لغزاً أو مشكلة بغير حل . لكن على العكس شئ ينكشف revealed أو يستعلن أمامنا لنفهمه ،‏ لكننا لا نفهمه بشكل كامل ، وذلك لأنه يقودنا إلى عمق أو خفائية الله . فالعينان مغلقتان – لكنهما أيضا مفتوحتان . هكذا ، فإنه عند الحديث عن الله کسر ، فإننا نأتي إلى ” قطبنا” الثاني ، فالله مخفي عنا ، لكنه أيضا مكشوف لنا : مکشوف كشخص وكمحبة

٢. الإيمان بالله كشخص :

لا نقول في قانون الإيمان ، “أؤمن أن هناك إلها ” ، بل نقول ” أؤمن بإله واحد ” وفيما بين أومن أن .. و أومن بـ .. هناك اختلاف جذري . فمن الممكن لي أن أؤمن أن شخصاً ما أو أن شيئاً ما موجود ، ولكن يظل هذا الاعتقاد بدون تأثير على حياتي . ويمكنني أن أفتح دليل التليفون بحثاً عن اسم مثل “ويجان ” : واستطلع الأسماء المسجلة في صفحاته ، وبينما أقرأ ينتابني اعتقاد أن أحداً ما ( أو حتى معظمهم) موجود فعلاً . لكنني لا أعرف أحدا منهم شخصياً، بل إنني حتى لم أزر ويجان أبداً، لهذا فإن اعتقادي بوجودهم لا يشكل فارقاً خاصاً لي . لكن من جهة أخرى ، حينما أقول لصديق أحبه كثيرا ” أنا أؤمن بك ” ، فإني أكثر من مجرد التعبير عن اعتقاد ما بأن هذا الشخص موجد “أنا أؤمن بك ” تعني : أنا اتجه إليك ، أنا اعتمد عليك ، أنا أضع كامل ثقتي فيك و أضع رجائي فيك . وهذا ما نقوله لله في قانون الإيمان.

الإيمان بالله ، ليس على الإطلاق نفس الشيء مثل اليقين المنطقي الذي نصل إليه في الهندسة الإقليدية . ليس الله استنتاجاً تصل إليه بعملية عقلية، أو حلاً لمسألة رياضية . الإيمان بالله لا يعني قبول إمكانية وجوده لأنه – أي وجوده – قد تبرهن لنا من خلال جدل نظري ، لكنه يعني أن نضع ثقتنا في واحد نعرفه ونحبه. ليس الإيمان افتراض أن يكون شئ ما صحيحاً، بل هو اليقين بوجود شخص ما.

ولأن الإيمان ليس يقيناً منطقيا بل هو علاقة شخصية ، ولأن هذه العلاقة الشخصية لا تزال حتى الآن ناقصة في كل واحد منا وتحتاج على الدوام إلى النمو المضطرد ، فإنه من المستحيل للإيمان أن يتواجد مع الشك. لكن لا يلغي أحدهما الآخر. ربما هناك البعض الذين بفضل نعمة الله يكون لهم في حياتهم إيمان طفل صغير، الإيمان الذي يمكنهم من قبول كل ما تعلموه دون سؤال. وبالنسبة لمعظم أولئك الذين يعيشون في الغرب اليوم ، فإن مثل هذا الموقف هو ببساطة ليس ممكناً. وعلينا أن نجعل صرختنا الخاصة هي ” أومن یا سید ، فأعن عدم ایماني ” ( مر ۲۶:۹ ) و بالنسبة للعديد جداً منا ، ستبقى هذه الكلمات صلاتنا الدائمة حتى أبواب الموت. ومع ذلك فإن الشك لا يعني في ذاته غياب الأيمان بل قد يعني العكس – أن إيماننا حي و أنه ينمو ، لأن الأيمان لا يعني الرضا الذاتي بل قبول المخاطرة، ليس أن نغلق أنفسنا بمعزل عن المجهول بل أن نتقدم في جسارة للقائه ، هنا فإن المسيحي الأرثوذكسي قد يجعل كلماته الشخصية تلك التي نطق بها الأسقف ” روبنسون ” : ” فعل الإيمان هو حوار دائم مع الشك ” . ومثلما يقول بصواب الراهب ” توماس مرتون ” : ” الإيمان مبدأ التساؤل والصراع ، قبل أن يكون أن يصير مبدأ اليقين و السلام.

يعني الإيمان إذن ، علاقة شخصية مع الله ؛ علاقة حتى وهي لا تزال ناقصة ومضطربة إلا أنها علاقة حقيقية رغم ذلك . إنها تعني ألا نتعرف على الله كنظرية أو كمبدأ مجرد ، بل كشخص . فلكي نعرف شخصاً، يعني ما هو أكثر من معرفة حقائق عن هذا الشخص . لكي نعرف شخصاً يعني بالضرورة أن نحبه ؛ لا يمكن أن يكون هناك وعي حقيقي بأشخاص آخرين بدون محبة متبادلة. نحن لا تتوفر لنا أية معرفة أصيلة لأولئك الذين نكرههم . هنا ، إذن ، أقل طريقتين تضليلاً في الحديث عن الله الذي يفوق إدراكنا : فهو شخص ، وهو محبة . وهاتان هما بالأساس طريقتان للتعبير عن نفس الشيء. إن طريقنا للدخول إلى سر الله يكون من خلال المحبة الشخصية ، ومثلما يقول کتاب سحابة الجهل ” ( The Cloud of Unknowing ) ، ” قد يمكن أن يكون الله موضع حبنا، لا موضع تفكيرنا . بالحب يمكننا أن نعرفه ونمسك به ، ولكن الفكر لا يستطيع ذلك أبدا “.

و كدليل على هذه المحبة الشخصية السائدة بين المؤمن و شخص إيمانه (الشخص الذي يؤمن به) ، فلنفحص تقرير استشهاد القديس بوليكاربوس في القرن الثاني الميلادي . كان الجنود الرومان قد وصلوا لتوهم لإلقاء القبض على الأسقف بوليكاربوس الطاعن في السن ، ليأخذوه إلى حيث يلقي حتفه ، الأمر الذي كان يعرفه جيداً : [ وحينما نما إلى علمه أنهم وصلوا ، نزل وتحدث اليهم . واندهش جميعهم من شيخوخته الطاعنة وعلى هدوئه ، وتعجبوا لماذا تتلهف السلطات للقبض على شيخ عجوز مثله؟ وفي الحال أمر بأن يُقدم لهم الطعام والشراب في سخاء بقدر ما يريدون ، رغم أن الوقت كان متأخراً، وطلب منهم أن يسمحوا له بساعة حتى يصلي دون ازعاج ، وحينما وافقوه ، وقف يصلي ، وامتلا بنعمة الله حتى أنه ظل ساعتين يصلي دون صمت . وبينما هم يسمعونه انتابتهم الدهشة ، وندم كثير منهم أنهم جاءوا للقبض على انسان قديس مثله . وكان يذكر (في الصلاة ) بالاسم كل من قابلهم ، عظيماً كان أم حقيراً ، شهيراً أم مجهولاً، وكان يذكر الكنيسة الجامعة في العالم].

كان محبته لله محبة خالصة شديدة ، وكذا محبته للبشرية كلها في الله . حتى أنه في لحظة الأزمة كان القديس بوليكاربوس يفكر في الآخرين فقط ولا يفكر في الخطر المحدق به . وحينما يطلب منه الوالي الروماني أن ينقذ حياته بإنكار المسيح ، يجيب : ” ست وثمانون سنة كنت أخدمه ، ولم يصنع بې شراً كيف إذن أجدف على ملكي الذي أحبني ؟ ” .

 

ثلاثة مؤشرات نحو السر

الله إذن ، هو الذي نحبه ، هو صديقنا الشخصي . ولسنا بحاجة أن نبرهن على وجود صديق شخصي . ويقول أوليفيه كليمنت Olivier Clement “الله ليس برهاناً خارجياً، بل هو الدعوة السرية في داخلنا”.

إن كنا نؤمن بالله ، فلأننا نعرفه مباشرة في خبرتنا الخاصة ، وليس بسبب أدلة منطقية . ورغم ذلك ، فإننا بحاجة أن نميز بين الخبرة و ” الخبرات ” ، فالخبرة المباشرة قد توجد دون أن تصحبها بالضرورة خبرات خاصة ، هناك في الحقيقة كثيرون أمنوا بالله بسبب صوت ما أو رؤية مثلما حدث للقديس بولس في الطريق إلى دمشق ( أع ۹ : ۱- ۹ ) . بينما هناك أخرون كثيرون ، لم يختبروا أي نوع من هذه الخبرات الخاصة ، ورغم ذلك يمكنهم أن يؤكدوا أن هناك خبرة كلية لله الحي حاضرة في حياتهم كلها ، وهي القناعة القائمة على مستوى أكثر تأصلاً من كل شكوكهم . ورغم أنهم لا يقدرون أن يشيروا إلى موضع معين ومحدد أو لحظة بالذات في الطريق ، مثلما فعل القديس أغسطينوس ، وبسكال أو ويسلي ، إلا أنهم يقدرون أن يعلنوا بثقة : “أنا أعرف الله شخصياً.

 ذلك إذن هو “الدليل ” الأساسي على وجود الله : دليل يعتمد على خبرة مباشرة ( وليس بالضرورة على خبرات خاصة ) . ومع ذلك، فبينما لا يمكن أن تتوفر إشارات منطقية إلى الحقيقة الإلهية ، فإن هناك مؤشرات  معينة إلى هذه الحقيقة . ففي العالم من حولنا ، كما في داخل أنفسنا أيضاً، هناك حقائق تصرخ طالبة التفسير ، لكنها تظل دون شرح إن لم نسلم أنفسنا للإيمان بإله شخصي. وهناك ثلاثة مؤشرات على وجه الخصوص يجب أن تُذکر :

المؤشر الأول : هناك عالم من حولنا .. فماذا نرى فيه ؟ نرى كثيراً من الفوضى ، و الضياع الشديد ، وكثيرا من اليأس المأساوي ، ومعاناة تبدو بلا طائل . فهل هذا كل شئ ؟ کلا بالتأكيد . إن كانت هناك ” مشكلة لوجود الشر ” فإن هناك أيضا ” مشكلة لوجود الخير ” . فأينما تنظر ، لا نري القبح فقط ، بل الجمال أيضا . في ندفة الثلج ، وفي ورقة الشجرة ، أو في الحشرة ، نكتشف نماذج متسقة للرقة والاتزان لا يساويها شئ مصنوع بالمهارة البشرية . قد لا يجب علينا أن ننظر عاطفياً إلى تلك الأشياء ، لكننا لا يمكننا تجاهلها . كيف نشأت هذه النماذج ولماذا ؟ إن أخذت رزمة بطاقات ( كوتشينة ) مباشرة من المصنع ، حيث كل أربع أوراق لعب مرتبة ترتیبا متسلسلاً ومضبوطا ، وبدأت في خلطها دون ترتيب ، فإنه كلما زاد خلط الأوراق كلما أختفي النموذج الأصلي الأول وحل محله ترتيب لا معنى له . لكن في حالة الكون حدث العكس فمن الفوضى الأولى ، نشأت نماذج ازدادت في التعقيد باستمرار ، ومع تزايد التعقيد هناك تزايد في المعنى . من بين كل هذه النماذج يظهر الإنسان نفسه أكثرها تعقيداً ومعنی . فلماذا تنعكس العملية التي تحدث مع أوراق اللعب انعكاساً في منتهى الدقة على مستوى الكون ،  ما أو من المسئول عن هذا النظام والتنسيق الكوني ؟ ومثل هذه الأسئلة هي معقولة تماماً. إن العقل ذاته هو الذي يحثنا أن نبحث عن تفسير حينما نلاحظ وجود نظام ومعنی.

“كانت السنبلة قمحة شرقية خالدة ، لا يجب حصدها أبداً، ولا بُذرت يوماً أبدا ، حتى إني خلتها وقد انتصبت من الأبد إلى الأبد . كان تراب الشارع وحجارته ثمينة كالذهب .. الأشجار الخضراء حين رأيتها أول مرة عبر إحدى البوابات حملتني وفتنتني : حلاوتها وجمالها الأخاذ جعل قلبي يقفز بين أضلعي ، و انتابني جنون ودهش ، فقد كانت أشياء غريبة و عجيبة جداً …”
تلك كانت إرهاصات طفولة ” توماس تراهيرن” عن جمال العالم ، والتي يمكن أن تتوازى مع العديد من نصوص جاءت من مصادر أرثوذكسية : هنا ، على سبيل المثال ، كلمات : فلاديمير مونوماخ ” أمير كييف :
[نري كيف أن السماء والشمس والقمر والنجوم ، والظلام والنور ، والأرض التي تبسطت على المياه ، هي في نظام ، أيها الرب ، بعنايتك الإلهية ! نري كيف أن الحيوانات المختلفة ، والطيور والأسماك مزينة بعناية محبتك ، یارب ! ونحن نعجب أيضا بهذه الأعجوبة : كيف خلقت الإنسان ، من التراب وكيف تنوعت وجوه البشر : فحتى لو جمعنا كل الناس من أرجاء العالم أجمع ، ما كان لأي واحد منهم نفس الملامح تماماً، لكن كل واحد له بحكمة الله ملامحه الخاصة . ولنتعجب أيضا كيف تنطلق طيور السماء من فردوسها : فهي لا تبقى في وطن واحد بل تسافر ، القوي  والضعيف منها على حد سواء ، عبر كل الأوطان بأمر الله ، إلى كل الغابات والحقول )

 ومثل هذا الوجود للمعنى في داخل العالم جنباً إلى جنب مع التشويش ، ووجود الانسجام و الجمال مع العبث ، يعطينا أول ” مؤشر ” نحو الله .

المؤشر الثاني : ونجد مؤشراً  ثانياً في داخل أنفسنا . فلماذا ، بخلاف رغبتي في اللذة و كرهي للألم ، أملك في داخل نفسي شعوراً بالواجب والالتزام بالأخلاق ، وإحساساً بالصواب والخطأ ، أي أملك ضمير ؟ وهذا الضمير لا يخبرني هكذا ببساطة أن أتبع المعايير التي علمها لي الأخرون ، بل هو ضمیر شخصي ، ولماذا ، فوق ذلك ، وأنا موجود ، كما أنا داخل الزمان والمكان ، أجد في داخلي ما يدعوه نيكولاس کاباسيلاس ” بالعطش اللانهائي ” أي العطش إلى اللانهائی ؟ من أنا ؟ وما أنا ؟

إن الإجابة على هذه الأسئلة مبهمة إلى أبعد حد. إن حدود الشخص الإنساني هي حدود في غاية الاتساع ، ويعرف كل منا أقل القليل عن ذاته العميقة و الحقيقية . ومن خلال ملكات إدراكنا ، الداخلية والخارجية ، وخلال ذاكرتنا ومن خلال قوة اللاشعور ، ننطلق إلى آفاق المكان ، ونمتد إلى الخلف وإلى الأمام في الزمن ، وننطلق ما وراء المكان والزمان إلى الأبدية . وتؤكد عظات القديس مقاريوس  أن في داخل القلب أعماقاً لا يمكن سبر أغوارها ،  وما القلب إلا وعاء صغير ؛ ورغم ذلك فإن فيه تنانين و أسوداً، و مخلوقات سامة وكل مكامن الشر ، وهناك المسالك الوعرة الخشنة ، و الهوات السحيقة . وهناك أيضا الله ، وهناك الملائكة ، هناك الحياة ، و الملكوت ، هناك النور والرسل ، و المدن السماوية ، وكنوز النعمة : كل شئ هناك.

بهذه الطريقة فإن لكل منا في قلبه مؤشراً  ثانياً . فما هو معنی ضميري ما هو التفسير لإحساسي باللانهائي ؟ في داخل نفسي هناك شئ ما يجعلني على الدوام أنظر إلى ما يفوق ذاتي. في داخل نفسي أحمل نبعاً للعجب ، نبعاً من تجاوز الذات الدائم .

المؤشر الثالث : وهناك مؤشر ثالث نجده في العلاقة مع أشخاص البشر الأخرين : وبالنسبة لكل منا – ربما مرة أو مرتين فقط على مدى العمر كله – هناك لحظات فجائية من الكشف حين ترى عمق كيان الأخر وحقيقته وقد انكشف ، ونكون قد اختبرنا حياته أو حياتها الداخلية و كأنها حياتنا نحن . و هذا التلاقي مع الشخصية الحقيقية للأخر هي ، مرة أخرى ، اتصال بالمتعالي و اللا زمني ، مع شئ ما أقوي من الموت . أن نقول للأخر ، بكل قلوبنا ، ” أنا أحبك ” ، معناها أننا نقصد القول ، ” أنت لن تموت ” . وفي مثل هذه اللحظات للمشاركة الشخصية فإننا نعرف ، لا من خلال المجادلات بل بالاقتناع الفوري المباشر ، أن هناك حياة بعد الموت . أيضا في علاقاتنا بالآخرين ، كما في ملاحظتنا لأنفسنا ، لنا لحظات من السمو ، تشير إلى شئ ما فيما وراء العالم المنظور . فكيف نكون مخلصين لهذه اللحظات ، وكيف نفهم ما هو المراد منها ؟

هذه ” المؤشرات الثلاثة – في العالم من حولنا ، وفي العالم داخلنا وفي علاقاتنا الشخصية ، فيما بيننا وبين الأشخاص الآخرين – يمكنها معاً أن تكون كطريق للاقتراب ، يأتي بنا إلى أعتاب الإيمان بالله . ولا يشكل أي من هذه المؤشرات ” برهاناً منطقياً. لكن ما هو البديل ؟

هل لنا أن نقول إن النظام الظاهري في الكون هو ببساطة مجرد صدفة ؛ وأن الضمير هو ببساطة نتاج تكيف اجتماعي ؛ و إنه ، حينما تنتهي الحياة على هذا الكوكب أخيراً، فإن كل ما اختبرته البشرية و كل قدراتنا ستصبح كأنها لم تكن أبدا ؟ تبدو في مثل هذه الإجابة ليس فقط إجابة غير مرضية و غير إنسانية، بل تبدو أيضا غير معقولة إلى أبعد الحدود.

إنه لشيء أساسي بالنسبة لصفتي كإنسان ، أن أبحث في كل مكان عن تفسيرات لها معنى . أفعل ذلك مع أصغر الأشياء في حياتي : فهل لا أفعل ذلك أيضا مع الأشياء الأكبر ؟ إن الإيمان بالله يساعدني أن أفهم لماذا يجب أن يكون العالم على ما هو عليه ، بجماله وقبحه ، ولماذا يجب أن أكون مثلما أنا موجود بنبلي وبحقارتي ، ولماذا يجب أن أحب الآخرين ، مؤكداً على قيمتهم الأبدية . وبمعزل عن الإيمان بالله لا أستطيع أن أجد تفسيراً آخر لكل هذا . الإيمان بالله يمكنني أن أفهم معنى الأشياء ، أراها ككل متكامل ، بطريقة لا يستطيعها شئ آخر. الإيمان يمكنني أن أقرر أمراً من بين أمور كثيرة.

الجوهر والطاقات : Essence and Energies

لكي نوضح قطبي علاقة الله بنا – مجهول ومع ذلك معروف – محتجب ومع ذلك مكشوف – فإن التقليد الأرثوذكسي يميز بين الجوهر ، أي طبيعة الله أو كيانه الداخلي ، من جهة ، وبين طاقاته ، أي أفعاله أو أعمال قدرته ، من جهة أخري . 

يكتب القديس أثناسيوس ” الله خارج كل شئ بحسب جوهره ، لكنه في كل شئ بأعمال قدرته” . ويؤكد القديس باسيليوس ” نحن نعرف الجوهر من خلال الطاقة ” ، ” ما من أحد قط رأي جوهر الله ، لكننا نؤمن بالجوهر ، لأننا نختبر القدرة” ، جوهر الله يعنى كونه الأخر ( جوهره يعني آخريته ) . أما طاقاته فتعني قربه ( منا ).

ولأن الله سر يفوق مداركنا ، فلن نعرف أبداً جوهره أو كيانه الداخلي ، لا في هذه الحياة ولا في الدهر الآتي . فلو نحن عرفنا الجوهر الإلهي ، لتبع ذلك أننا نكون قد عرفنا الله بنفس الطريقة التي يعرف بها ذاته ، وهذا مستحيل بالمرة ، طالما أنه هو الخالق ونحن مخلوقون ، لكن ، وبينما الجوهر الداخلي لله يظل إلى الأبد فوق إدراكنا ، فإن طاقاته ، ونعمته وحياته وقوته تملأ الكون كله ، ويمكن أن نحصل عليه مباشرة .

إذن فالجوهر يعني سمو الله سمواً جذرياً، بينما تدل طاقاته على حلوله وحضوره في كل مكان . وحين يتحدث الأرثوذكس عن الطاقات الإلهية ، فهم لا يعنون بذلك أنبثاقاً من الله ، أو وسيطاً بين الله و الإنسان ، أو شيئاً أو هبة  يمنحها الله. على العكس ، فإن الطاقات هي الله ذاته في فعله وكشفه لذاته . فحين يعرف الإنسان الطاقات الإلهية أو يشترك فيها ، فإنه يعرف الله حقاً ويشترك فيه هو نفسه ، بقدر ما يكون ذلك ممكناً لدي الكائن المخلوق . لكن الله هو الله ، ونحن بشر ؛ وهكذا ، فبينما هو يملكنا فإننا لا نستطيع أن نملكه بنفس الطريقة.

و تماماً مثلما يكون من الخطأ أن نفكر في الطاقات كشيء ممنوح لنا من الله، هكذا وبنفس القدر يكون من الأمور المضللة أن نعتبر الطاقات كجزء من الله . الله بسيط غير قابل للانقسام، ليس فيه أجزاء. ويشير الجوهر إلى الله بالكامل كما هو في ذاته ؛ أما الطاقات فتشير إلى الله بالكامل كما هو في فعله . والله بكليته حاضر بالكامل في كل طاقة من طاقاته الإلهية . هكذا فإن التمايز بين الجوهر والطاقات هو طريقة للتعبير في وقت واحد عن أن الله ” بالكامل ” لا يمكن الدنو منه ، وأن الله ” بالكامل ” في محبته المتدفقة قد جعل نفسه في متناول الإنسان لكي يعرفه الإنسان وبفضل هذا التمايز بين الجوهر الإلهي والطاقات الإلهية ، نستطيع أن نؤكد إمكانية اتحاد مباشر أو سري ( مستيكي ) بين الإنسان والله – أو ما يسميه الأباء الشرقيون بالتأليه – تأليه الإنسان – theosis ( ثيوسيس ) – لكننا في نفس الوقت نستبعد أي تعليم بوحدة الوجود ( أي أن يكون الله والمخلوقات شيئاً واحداً ) Pantheism بين الإنسان و الله : ذلك لأن الإنسان يشترك في طاقات الله ، لا في الجوهر . هناك اتحاد ، لكن ليس اندماجاً أو خلطاً . فعلى الرغم من أن الإنسان  يتوحد أي يصير واحدا مع الله ، إلا أنه يبقي إنساناً، فهو لا يُبتلع ولا يباد ، لكن تظل فيما بينه وبين الله على الدوام علاقة ” أنا – أنت ” ، أي علاقة شخص بشخص.

هكذا إذن هو إلهنا : مجهول في جوهره، ومع هذا معروف في طاقاته ، يفوق ويعلو على كل ما يمكن لنا أن نفكر فيه أو نعبر عنه، ومع هذا أقرب إلينا من قلوبنا. ومن خلال أسلوب النفي ( apophatic ) ، نحطم إلى أشلاء كل الأصنام أو الصور العقلية التي نكونها عنه ، لأننا نعرف أنها كلها لا ترقي إلى مستوى عظمته الفائقة . ومع هذا وفي نفس الوقت ، فمن خلال صلاتنا ومن خلال خدمتنا النشطة في العالم، نكتشف في كل لحظة طاقاته  الإلهية وحضوره المباشر في كل شخص وفي كل شئ. ويوميا، وكل ساعة نتلامس معه .

نحن ، كما قال فرانسيس تومسون ” لسنا في أرض غريبة “. كل ما حولنا هو الشيء المتعدد البهاء ، سلم يعقوب منتصب فيما بين السماء و الصليب المتفحم ” :

أيها العالم غير المنظور، نحن نراك.
أيها العالم غير الملموس، نحن نتلمسك.
أيها العالم غير المعروف، نحن نعرفك.
یا غير المدرك، نحن نمسك بك.

وفي كلمات يوحنا سكوتوس أريوجينا ، ” كل خليقة منظورة و غير منظورة هي ( ثيوفانيا ) أي ظهور إلهي . المسيحي هو الشخص الذي أينما ينظر ، يري الله في كل مكان ويفرح ويتهلل به . وليس بغير سبب يعزي المسيحيون الأوائل إلى المسيح هذا القول ” ارفعوا الحجر تجدوني ، اشطروا الخشب نصفين ، هناك أكون أنا ” .

+++

[تخيل جرفاً منزلقاً شديد الانحدار، ذا حافة بارزة عند القمة. ثم تخيل ما قد يشعر به شخص ان وضع قدمه على حافة هذا الجرف، وراح ينظر إلى الهوة أسفله ، فلا یری قاعاً صلباً ولا أي شئ يمسك به. هذا في ظني ما تختبره النفس حينما تتجاوز حدود قواعدها المادية ، في سعيها وراء اللامحدود الذي هو كائن منذ الأزل. لأنه هنا لا يوجد ما يمكنها أن تمسك به، لا مكان ولا زمان ، ولا قياس ولا أي شئ آخر ، فلا تستطيع عقولنا أن تقترب منه. هكذا فإن النفس ، اذ تنزلق في كل نقطة عن ما لا يمكن إدراكه فإنها تصاب بالدوار وتصير مرتبكة ، وتعود مرة أخرى إلى ما يتوافق مع طبيعتها. فنرضى حينئذ بأن تعرف فقط هذا الأمر عن المتعالي، انه مختلف تماماً عن طبيعة الأشياء التي تعرفها النفس]

القديس غريغوريوس النيسي 

[فكر في انسان يقف بالليل داخل بيته ، والأبواب كلها مغلقة ، وافترض أنه يفتح نافذة في نفس اللحظة التي يومض فيها برق فجاة . وان يعجز عن تحمل بهائه ، فانه في الحال يحمي نفسه بغلق عينيه و التراجع للخلف من أمام النافذة . هكذا الحال مع النفس المحبوسة في مجال الحواس : فانها كلما أطلت من خلال نافذة العقل ، فانها تغمر بواسطة البريق – کأنه البرق – الذي هو عربون الروح القدس الذي في داخلها ، وان لا تقدر النفس على تحمل بهاء النور غير المحتجب ، فانها سرعان ما تتحير في ذهنها وتتراجع الى الخلف تماماً وتنتكص على ذاتها ، وتحتمي كما في بيت ، وسط الأمور المحسوسة والبشرية ]

سمعان اللاهوتي الجديد

[كل من يحاول وصف النور الذي لا يُدنى منه بالكلام هو في الحقيقة کاذب – ليس لأنه يكره الحق ، لكن بسبب عدم كفاية وصفه .]

القديس غريغوريوس النيسي

دع الحواس وأنشطة الفكر ، وكل ما يمكن أن تدركه الحواس ويدرکه الفكر ، وكل ما هو موجود وغير موجود ، ومن خلال عدم المعرفة امتد ، بقدر ما هو مستطاع ، نحو التوحد مع ذاك الذي يفوق كل كيان وكل معرفة . وبهذه الطريقة ، فانك من خلال الخروج العنيد والمطلق والنقي ، من نفسك ومن كل شئ ، ترتفع فوق كل شئ وتتحرر من كل شئ ، تقاد الى العلاء نحو ذاك الشعاع الذي للغمام الإلهي ، الذي يفوق كل كيان.
واذ ندخل إلى العتمة التي تفوق الفهم ، نجد أنفسنا وقد أتينا ، لا الى ایجاز الكلام ، بل الى الصمت المطبق والى علم المعرفة.
وان يتفرغ الإنسان من كل معرفة ، فإنه يرتبط بأعلى ما في ذاته ، ليس مع أي شئ مخلوق ولا مع ذاته ، ولا مع غيره ، بل مع الواحد الذي لا يمكن معرفته اطلاقاً وان لا يعرف شيئا بالمرة ، فانه بذلك يعرف بطريقة تفوق الفهم.

ديونيسيوس الأوريوباغي 

هيئة الله لا يُنطق بها ولا يمكن أن توصف، ولا يمكن أن تُرى بعيني الجسد . هو ( الله ) في مجد لا يُحتوي ، وفي عظمة تفوق الفهم ، وفي علو لا يُدرك ، وفي قوة لا تقارن ، وفي حكمة لا يمكن البلوغ إليها ، وفي حب لا يُضاهى ، وفي رحمة لا يعبر عنها.
كما أن النفس في الإنسان لا تُرى ، حيث انها غير منظورة للناس ، ولكننا نعرف بوجودها من خلال حركات الجسد، هكذا أيضاً فإن الله لايمكن أن یُری بالعيون البشرية ، ولكنه يُرى ويُعرف من خلال عنايته وأعماله.

 القديس ثاوفيلوس الأنطاكي 

نحن لا نعرف الله في جوهره. نحن نعرفه بالحرى من عظمة خليقته، ومن أعمال عنايته بكل المخلوقات . لأننا بهذه الوسيلة – وكأننا نستخدم مرأة – نبلغ الى رؤية صلاحه غير المحدود ، وحكمته وقوته غير المحدوتين .

مكسيموس المعترف 

أهم ما يحدث بين الله والنفس البشرية هو أن تحب وأن تكون محبوبة 

كاليستوس كاتا فيجيوتوس

 الحب الله يتسم بحالة ذهول، ان يجعلنا نخرج خارج ذواتنا : الحب لا يدع المحب يظل ملكاً لنفسه ، بل يصير ملكاً للمحبوب وحده .

ديونيسيوس الأريوباغی

أنا أعرف أن غير المتحرك ينزل إلى أسفل .
أنا أعرف أن غير المنظور يظهر لي .
أنا أعرف أن ذاك الذي هو بعيد خارجاً عن كل خليقة ،
يأخذني داخل نفسه ويخبئني بين ذراعيه
وحين أجد نفسي خارج العالم كله
أنا ، الهش ، أنا الصغير المائت في هذا العالم ،
أمسك بخالق العالم . أمسك به كله ، داخل نفسي ،
وأعرف أنني سوف لا أموت ، لأنني موجود داخل ” الحياة ” ،
أنا حاصل على الحياة كلها تجري کينبوع في داخلي
هو موجود في قلبي ، وهو موجود في السماء :
سواء هناك أم هنا . فهو يكشف نفسه لي مجد متساو

سمعان اللاهوتي الجديد

 

 

من  كتاب الطريق الارثوذكسي (مع الأختصار) – الاسقف كاليستوس وير

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى