رئيس الكهنة السماوى والكنيسة

1 – لماذا ملأ الحزن قلوب التلاميذ فى حديث السيد المسيح الوداعى؟

وردت كلمة “الحزن” فى الحديث الوداعى للتلاميذ عدة مرات:

“لأنى قلت لكم هذا، قد ملأ الحزن قلوبكم” (يو16: 6).

“الحق أقول لكم إنكم ستبكون وتنوحون والعالم يفرح. أنتم ستحزنون، ولكن حزنكم يتحول إلى فرح” (يو16: 20).

“عندكم الآن حزن، ولكنى سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم (يو20: 22). لماذا ملأ الحزن قلوبهم؟ وكيف يفرحون ولا يستطيع أحد أن ينزع فرحهم منهم؟

أولاً: ملأ الحزن قلوبهم إذ لم يدركوا سرّ الصليب، وأنه يفتح لهم باب الفردوس المغلق منذ أيام آدم الذى أعطى ظهره لله ولم يثق فى الوصية الإلهية، بل وثق فى كلمات إبليس المخادعة!

ثانياً: لم يختبروا قوة القيامة، فيترنمون: “أقامنا معه، وأجلسنا معه فى السماويات” (اف2: 6).

ثالثاً: لم يختبروا بعد أن الكنيسة جسد المسيح، ما يفعله الرأس لحسابنا نحن جسده.

رابعاً: لم يكونوا بعد يدركون عمل الثالوث القدوس معاً لحسابنا. فإذ كان الابن يعمل لحساب خلاصنا قال: “أبى حتى الآن يعمل وأنا أيضاً أعمل” (يو5: 17). وعندما صعد إلى السماء وأرسل الروح القدس يمكن ان يقول: “روحى القدوس يعمل فيكم، وأنا والآب نعمل فيكم ولحسابكم”.

خامساً: لم يتوقف الثالوث القدوس عن العمل لأجل خلاصنا ونصرتنا وتمتعنا بالأمجاد السماوية.

سادساً: لم يتعرفوا بعد على السيد المسيح كرئيس كهنة فريد، قادر أن يشفع فيهم لدى الآب. يقول الرسول: “فإذ لنا رئيس كهنة عظيم قد اجتاز السماوات يسوع ابن الله فلنتمسك بالإقرار” (عب4: 14)، ليس فقط يغفر خطايانا، بل ونتبرر فيه (غل2: 17)، فنتأهل للميراث السماوى.

2 – لماذا تحول حزن التلاميذ إلى فرح عظيم بعد الصعود مباشرة؟

يقول لوقا الإنجيلى: “واخرجهم خارجاً إلى بيت عنيا، ورفع يديه وباركهم. وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأصعد إلى السماء، فسجدوا له، ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم” (لو24: 50 – 52).

أما سرّ هذا الفرح العظيم بعد الصعود مباشرة فهو إذ نزل كلمة الله متجسداً ليحقق خلاص البشرية، جذب قلوب مؤمنيه وعقولهم وكل طاقاتهم نحوه. صعوده إلى السماء لم ينزع عنهم هذه الجاذبية، بل انطلقت نفوسهم نحو السماء، فلم يعد للأرض جاذبية لهم. يقول العلامة أوريجينوس: [إن كنتم تؤمنون أنه جلس عن يمين الله فى السماويات، يليق بكم أن تؤمنوا أنه لم يعد مكانكم فى الأرضيات بل فى المنظر السماوى ([59])].

[أهم ما قاله الآباء – سواء كان القديس أثناسيوس أو الذين تبعوه – بخصوص صعود الرب أنه لم يصعد من أجل نفسه هو، بل من أجلنا نحن. لأنه من أجل نفسه، باعتباره كلمة الله الأزلى، فهو لم يفارق حضن الآب قط. فبينما كان متجسداً معنا على الأرض، قيل عنه: “الابن الوحيد الذى فى حضن الآب هو خبر” (يو1: 18). صعد إذا بالجسد من أجلنا ليفتح لنا طريق السماوات الذى كان مغلقاً أمامنا، ويعطينا إمكانية الصعود معه بصفتنا ممثلين فى جسده الصاعد المأخوذ منا. بل إن القديس أثناسيوس يجرؤ أن يقول إن الرب: كان يحملنا فى جسده الخاص فى أثناء صعوده ([60])].

يقول القديس أثناسيوس الرسولى: [لقد افتتح الرب لنا من جديد الطريق الصاعد إلى السماوات، كما قال: “ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم وارتفعى أيتها الأبواب الدهرية” (مز24: 7LXX). فلم يكن اللوغوس نفسه هو المحتاج لأن تُفتح له الأبواب، إذ هو رب الكل، ولم يكن شئ من المصنوعات مغلقاً أمام خالقه، ولكننا نحن الذين كنا محتاجين إلى ذلك. فنحن الذين كان يحملنا فى جسده الخاص. فكما أنه قدّم جسده للموت نيابة عن الجميع، هكذا أيضاً بواسطته قد أعدّ من جديد الطريق الصاعد إلى السماوات ([61])].

يعلق رهبان دير أنبا مقار: [ومن البيّن أن القديس أثناسيوس يعتمد فى ذلك على ما جاء فى الرسالة إلى العبرانيين: “… طريقاً كرّسه لنا حديثاً حياً بالحجاب، أى جسده” (عب10: 19). وأهمية جسد الرب لصعودنا نحن يأتى من كونه جسداً بشرياً مأخوذاً منا. فهو بالتالى يمثلنا تماماً، وما يتم فيه ينبغى أن يعمم على الجنس البشرى ([62]). ثم من حيث أنه صار جسداً للكلمة الحقيقى الكائن منذ الأزل فى حضن الآب، فقد كان من حقه الطبيعى إذا أن يصعد ويدخل إلى حضن الآب فيصير باكورة للبشرية وسفيراً عنا أمام الآب ([63])].

3 – ما هى سمات كنيسة العهد الجديد بعد صعود السيد المسيح؟

إذ صعد السيد المسيح رأس الكنيسة إلى السماء، تمتعت الكنيسة بما قاله السيد لتلاميذه: “ملكوت الله داخلكم” (لو17: 21). وصار عمل الكنيسة الرئيسى أن يسحب روح الله القدوس قلوب المؤمنين وافكارهم إلى العرش السماوى حيث الرأس جالس عن يمين الآب.

4 – هل توقف عمل المخلص بصعدوه إلى السماء؟

إن كانت الأناجيل قد توقفت عند صعود المخلص إلى السماء وانتظار الكنيسة مجيئه الثانى لتلتقى به على السحاب، وتدخل معه إلى العرش الإلهى فى موكب سماوى مجيد، فإن رسالة معلمنا بولس إلى العبرانيين ركزت على دور المخلص منذ صعوده وجلوسه عن يمين الآب إلى يوم مجيئه الأخير بالنسبة لكنيسته المجاهدة على الأرض. يقول الرسول: “من ثم أيها الإخوة القديسون شركاء الدعوة السماوية لاحظوا رسول اعترافنا ورئيس كهنته المسيح يسوع” (عب3: 1) كما يقول: “الذى هو لنا كمرساة للنفس مؤتمنة وثابتة تدخل إلى ما داخل الحجاب، حيث دخل يسوع كسابق لأجلنا صائراً على رتبة ملكى صادق رئيس كهنة إلى الأبد” (عب6: 19 – 20).

أبرز الرسول أنه لا يوجد وجه مقارنة بين كهنوت هرون أو الكهنوت اللاوى وكهنوت السيد المسيح وهو يشفع فى كنيسته فى السماوات بطريقة فريدة تناسبه كابن الله مخلص العالم.

5 – ماذا يعنى بقوله كمرساة للنفس مؤتمنة وثابتة تدخل إلى ما داخل الحجاب؟

أولاً: فى ظل كهنوت هرون (الكهنوت اللاوى) كانت الذبائح لا تُقدم فى قدس الأقداس ولا فى القدس بل خارجهما على المذبح النحاسى، أما رئيس الكهنة السماوى فيقدم ذاته عن مؤمنيه وهو فى داخل الحجاب، أى فى قدس الأقداس، فى السماء عينها.

ثانياً: يقول الرسول: “لاحظوا رسول اعترافنا”، الأمر الذى لا يستطيع هرون رئيس الكهنة تحقيقه. بالتجسد أرسل الآب ابنه إلينا كرسول، ليعلن الحب الإلهى عملياً على الصليب ويهبنا إمكانية القيامة بقيامته، ويدخل بنا إلى سماواته بجلوسه عن يمين الآب. فى هذا يختلف السيد المسيح عن الكهنة واللاويين والأنبياء والملائكة، فهو لم يُرسل بمعنى أنه يترك موضعاً ليذهب إلى موضع آخر، وإنما بمعنى ظهوره فى الجسد وحلوله بيننا، هذا الذى يبقى بلاهوته غير منفصل عن أبيه، يملأ السماء والأرض.

غاية رسالته هى إعلان إيماننا أو اعترافنا بالحق. قدم لنا ذاته بكونه الحق الإلهى غير المتغير، نقبله فنتعرف على أسرار الآب أيضاً، وكما يقول السيد: “لو كنتم قد عرفتمونى لعرفتم أبى أيضاً، ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه… الذى رآنى فقد رأى الآب” (يو14: 7، 9).

إذن، إرساليته فريدة، خلالها يحملنا فيه ليدخل بنا إلى حضن أبيه، نتعرف عليه معرفة الاتحاد والشركة والتلامس مع الحق، نرى فى الآب ما لا يُرى، ونتمتع بما لا يمكن للحواس الجسدية أن تعبر عنه!

يقول القديس أثناسيوس الرسولى: [متى إذن صار رئيس كهنة لاعترافنا (عب3: 1)، إلا بعدما قدّم نفسه من أجلنا، وأقام جسده من بين الأموات، فصار هو نفسه الآن يقدم ويُقرّب إلى الآب الذين يلتحقون به بالإيمان فيفدى الجميع، ويشفع فى الجميع لدى الله (الآب) ([64])].

ثالثاً: بقوله كمرساة مؤتمنة وثابتة يشبه الكنيسة بمؤمنيها بسفينة دخلت الميناء السماوى فى شخص رأسها يسوع المسيح وارتبطت به كمرساة مؤتمنة، فليس من إمكانية لكل من إبليس وقوات الظلمة وتيارات العالم وعواصف التجارب أن تسحبها من الميناء، الأمر الذى لا يستطيع الكهنة اللاويين أن يحققوه. فمهما كان برّ هرون وكهنته يحتاجون هم أنفسهم إلى من يُكفّر عنهم ويجتذبهم نحو السماء والسماويات. لهذا كانوا يقدمون الذبائح عن أنفسهم كما يقدمون عن الشعب. أما مسيحنا القدوس فباسمنا صعد إلى السماء وسحب قلوبنا إلى حيث هو جالس.

رابعاً: فى الرسالة إلى العبرانيين يوضح الرسول أن مسيحنا يمارس كهنوته وهو جالس على العرش. لم نسمع قط عبر كل التاريخ عن كاهن يقدم ذبائحه وهو جالس، خاصة إن كان عن يمين العظمة، إنما كانوا يقدمونها وهم وقوف أمام الله الجالس على العرش. حتى كهنة الأصنام لم يكونوا قادرين على تقديم الذبائح للأصنام وهم جالسين عن يمينها.

6 – ما هو دور مسيحنا فى كهنوته السماوى الفريد؟

أولاً: لم يقدم مسيحنا ذبائح حيوانية مثل هرون ونسله وهى عاجزة عن التكفير عن خطايانا، بل هى مجرد رمز لذبيحة المسيح. أما مسيحنا فقد قدم ذبيحته الفريدة مرة واحدة تمتد فاعليتها منذ الإنسان الأول وإلى نهاية الدهور دون أن تتكرر. الذبائح الحيوانية، لعجزها تتكرر على الدوام، حتى قدّم السيد المسيح نفسه ذبيحة على الصليب فأبطلها. وأما فى سرّ الإفخارستيا فلا يقدم المسيح نفسه مرة أخرى، وإنما نحتفل بذات الذبيحة الفريدة الوحيدة التى على الصليب. يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [الا نقدم الذبيحة يومياً؟ نعم نقدمها، لكن هذا “أنامنسيس” (ذكرى) لموته، وهى ذبيحة وحيدة غير متكررة لقد قُدمت مرة، ودخل إلى قدس الأقداس.

الأنامنسيس anamnesis هو علامة موته، فإن ما نقدمه هو ذات الذبيحة، فلا تُقدم ذبيحة وغداً أخرى مغايرة.

واحد هو المسيح فى كل مكان، كامل فى كل موضع، جسد واحد، فإذ يوجد جسد واحد فى كل مكان تكون الذبيحة واحدة فى كل موضع.

هذه هى الذبيحة التى لا نزال إلى اليوم نقّربها. هذاما نعنيه ب “أنامنسيس”. أننا نصنع أنامنسيس للذبيحة ([65])].

ثانياً: غاية تجسد الكلمة أنه وهو رئيس الكهنة السماوى أخذ جسداً ليكون له ما يقدمه لحسابنا. يقول القديس أثناسيوس الرسولى: [لقد ارتدى الكلمة جسداً أرضياً ليستطيع كرئيس كهنة أن يكون له هو أيضاً ما يقدمه (أى هذا الجسد عب8: 3؛ 10: 5) فيذبح نفسه للآب ويطهرنا من خطايانا ويقيمنا من بين الأموات ([66])].

ثالثاً: مسيحنا هو الكاهن السماوى الذى قدم نفسه ذبيحة عن العالم كله، وهو الشفيع والضامن لقبول الذبيحة إذ هو واحد مع الآب (يو10: 30). فالكاهن نفسه هو ابن الله الواحد معه فى ذات الجوهر. هو المحامى عن كنيسته وهو القاضى فى نفس الوقت. وكما يقول الرسول: “من الذى يدين؟ المسيح… الذى عن يمين الله، الذى يشفع فينا” (رو8: 34).

إنه الشفيع الذى يقدم طلباتنا وصلواتنا لدى الأب باسمه، وهو الضامن لاستجابتها. يقول العلامة أوريجينوس: [لتنسى الأرض وتصعد إلى سحب السماء… لتبحث عن خيمة الله (الكنيسة) حيث دخل يسوع ليعد لنا طريقنا، فيظهر أمام وجه الله يشفع لأجلنا ([67])]. ويقول القديس كيرلس الكبير: [إنه يكهن فوق الناموس، لأنه هو نفسه الذبيحة والحمل الحقيقى، وهو بعينه أيضاً رئيس الكهنة الذى بلا شر ولا لوم، الذى لا يكهن عن خطايا نفسه لأنه كإله فوق الخطية، بل يكهن لكى يُبطل خطايا العالم. فقد صار هو نفسه إذاً الكاهن الذى يكهن بذبيحة نفسه (عب7: 27) ([68])].

[إنه هو المُصالح والوسيط بين الله والناس. فلكونه حقاً رئيس كهنتنا الأعظم والأقدس، فهو يستميل بشفاعته مشاعر أبيه من نحونا، لأنه يقدم نفسه ذبيحة من أجلنا، فهو الذبيحة وهو نفسه الكاهن. هو الوسيط وهو نفسه الضحيّة الفائقة التى بلا عيب، لأنه هو الحمل الذى يرفع خطية العالم ([69])].

شتان ما بين الذبائح الحيوانية حسب الناموس وذبيحة المسيح القدوس الذى يقدم نفسه عن خطايا العالم. وكما يقول القديس كيرلس الكبير: [الكهنة بحسب الناموس لا يكفيهم أن يقدموا ذبيحة واحدة، بل بالحرى ذبائح كثيرة يقدمونها كل يوم عن نفوسهم وعن جهالات الشعب بسبب الضعف المتكرر والتهاون فى خطايا متنوعة. وأما الذى هو فوق كل خطية لكونه إلهاً، فقدّم نفسه وصار لنا رئيس كهنة مدعوّا بحسب ناسوته خادماً ليتورجياً وذابحاً جسده الخاص لله أبيه ([70])].

كما يقول: [لما صار اللوغوس مشابهاً لنا، وتألم من أجلنا بالجسد، حينئذ دُعى لنا رئيس كهنة، ليس كمن يقدم ذبيحة غريبة عن نفسه، بل بكونه هو نفسه الحمل والمحرقة العقلية واليمامة الناطقة والحمامة النقية، خبز الحياة والمذبح الذهبى ([71])].

كثيراً ما يكرر القديس كيرلس العبارات التالية: [هو الكاهن وهو الذبيحة وهو المذبح ([72])].

7 – كيف يكون رئيس كهنة وفى نفس الوقت هو غافر الخطايا؟

ما كان يشغل القديس كيرلس الكبير هو الاتحاد الأقنومى للاهوت المسيح مع ناسوته. إذ يقول: [لقد صار رئيس كهنة بحسب ناسوته. ومع ذلك فهو بحسب لاهوته يقبل إلى نفسه الذبائح المقدمة من الجميع. إنه هو نفسه بحسب الجسد الذبيحة، وبحسب سلطان لاهوته غافر الخطايا. وفى كلا الأمرين واحد هو الرب يسوع المسيح ([73])].

مرة أخرى يقارن القديس كيرلس الكبير بين كلمة الله المتجسد الذى يقدم نفسه ذبيحة عن العالم وبين كل ذبائح الكهنة عبر التاريخ. لم يجسر كاهن ما أن يقدم ذبيحة وهو جالس بجوار الإله الذى يعبده، بل يقف فى خشوع كى يقبل ذبيحته، أما السيد المسيح فهو الواحد مع الآب يجلس عن يمينه وهو نفسه ذبيحة. [إن كان حقاً إن كل كاهن يقف دائماً أثناء تقديمه الخدمة (الليتورجية) ولا يُحسب قط جليساً ولا مساوياً فى الكرامة مع الله، بل فقط متعبداً له، فكيف لا يكون المسيح كاهناً فائقاً فريداً من نوعه، لأنه فى حين تقديمه الخدمة الليتورجية – بحسب بشريته – فهو أيضاً – بحسب لاهوته يجلس على العرش الإلهى ([74])].

يقول القديس كيرلس الكبير إن تفسيره هذا ليس من عنده إنما سبق فأعلنه المرتل فى المزمور 110 حيث يبرز وحدة طبيعة المسيح. فقد أوضح هذا المزمور أن المسيا سيكون كاهناً أبدياً: “أقسم الرب ولن يندم أنت كاهن إلى الأبد على طقس ملكى صادق (مز110: 4). وفى نفس الوقت أوضح أيضاً أن هذا الكاهن جالس عن يمين الله فى العرش السماوى، إذ قال:” قال الرب لربى اجلس عن يمينى حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك “(مز110: 1).

هذا الربط بين كهنوت المسيح وجلوسه عن مين الله، هو حقيقة الاتحاد الأقنومى فى التجسد، أى وحدة كيان المسيح البشرى الإلهى، فهو الإله المتجسد، له طبيعة التجسد دون أن يفارق اللاهوت الناسوت لحظة واحدة ولا طرفة عين.

يتحدث أيضاً القديس كيرلس الكبير عن كهنوت المسيح والاتحاد الأقنومى، قائلاً: [لأنه فى حين تقديمه الخدمة الليتورجية بحسب بشريته فهو أيضاً كإله يجلس على العرش الإلهى ([75])]. كما قال: [لقد قيل عنه أنه “اجتاز السماوات” (عب4: 14) جسدياً وإلهياً بأن واحد. فقد صعد (جسدياً) ليظهر أمام وجه الله (من أجلنا)؟ ومن جهة أخرى فهو يجتاز السماوات (إلهاً) ليجلس كابن مع أبيه فوق كل رئاسة على الرغم من أنه صار مثلنا بحسب التدبير ([76])].

8 – ماذا يعنى الرسول بقوله: “رسول اعترافنا” (عب3: 2) ([77])؟

يرى القديس كيرلس الكبير ماذا كانت غاية صلوات السيد المسيح فى حياته على الأرض، [إنه يستميل بذلك أذن الآب لصراخ الطبيعة البشرية]. وأيضاً [ونحن الذين كنا فيه نصلى وبصراخ شديد ودموع ([78])].

يرى فى الآية “رسول اعترافنا” (عب3: 1) أن السيد المسيح كرئيس كهنته صعد كمُرسل عن البشرية كلها ليمثلها لدى الله الآب (عب6: 20؛ 9: 24). لقد حمل فى نفسه اعترافنا أى إقرارنا بالإيمان وجميع أنواع عبادتنا ووحّدها بذبيحة نفسه ليعطيها قيمة لا نهائية، وصعد بها كرئيس كهنة ليقدمها بالنيابة عنا لدى الآب.

[لما صار إنساناً. بحسب قول يوحنا إن الكلمة صار جسدا (يو1: 14) – حينئذ جُعل رسولاً من أجلنا ورئيس كهنة لاعترافنا، ليدفع إلى الآب اعترافنا بالإيمان ([79])]. [فإننا نقول إن الكلمة الذى من الله الآب لما صار إنساناً، صار يُقدم إلى نفسه وإلى أبيه بالإيمان ([80])].

ويفسر القديس كيرلس الكبير العبارة:

“الحق الحق أقول لكم، إن كل ما طلبتم من الآب باسمى يعطيكم” (يو16: 23)، أن السيد المسيح يؤكد لهم أن ما يطلبونه من الآب باسمه ينالونه [لأن المسيح نفسه سيكون وسيطاً وساعياً معهم ليقدمهم إلى حضرة الآب، هذا هو معنى عبارة “باسمى”. لأننا لا نستطيع أن نتقدم إلى الآب إلا بالابن وحده، لأن به لنا القدوم بروح احد إلى الآب (أف2: 18). ولذلك أيضاً هو نفسه قال: “أنا هو الباب… أنا هو الطريق… ليس أحد يأتى إلى الآب إلا بى” (يو10: 9؛ 14: 6)… هذا الأمر لم يختبره رجال العهد القديم لأنه لم يفكر أحد منهم فى هذا النوع من الصلاة، بسبب عدم المعرفة. وأما الآن فقد أعلن لنا بواسطة المسيح فى الوقت المناسب، بعد أن أشرق علينا زمان التجديد وتحقق لنا بواسطة كمال كل صلاح ([81]).

9 – ماذا يعنى الرسول بقوله: “ليظهر الآن أمام وجه الله من أجلنا” (عب9: 24)؟

يقول القديس كيرلس الكبير:

[فبأى معنى يظهر الآن أمام وجه الله من أجلنا؟ ألم يكن دائماً ظاهراً أمام الله من قبل تأنسه؟ من الواضح أنه كان كذلك، فهو حكمة الله الخالقة التى بها خرجت جميع الأشياء من العدم إلى الوجود، والتى كانت “كل يوم لذّته فرحة دائماً قدام الله” (أم8: 30). وأما الآن (فالجديد فى الأمر) أنه يظهر أمام الله ليس بعد بصفته اللوغوس المجرد وغير المتجسد، كما كان منذ البدء، بل فى شكلنا نحن وفى طبيعتنا نحن، فلذلك نقول إنه يظهر الآن من أجلنا فى حضرة الله الآب ليقدم طبيعتنا نحن، تلك التى بالحق صارت مطروحة من أمام الله بسبب مخالفة آدم. فنحن إذن الذين يُحضرنا أمام عينى الآب – فى شخصه هو كبدء لنا بصفته قد صار إنساناً – لكى يقربنا إلى الآب، ويعتقنا من العلل القديمة ويغيّر أعماقنا بالروح لتجديد الحياة حتى نُحسب مستحقين أيضاً لمعاينة الله الآب بصفتنا قد ارتقينا إلى طقس البنين ([82])].

يقول الرسول: “وأما رأس الكلام فهو أن لنا رئيس كهنة مثل هذا قد جلس عن يمين عرش العظمة فى السماوات خادماً (أى مقدماً الليتورجية) للأقداس والمسكن الحقيقى. الذى نصبه الرب لا إنسان… وقد حصل على خدمة (ليتورجية) أفضل من هرون” (عب8: 1 – 6).

كان هرون يخدم فى البرية وكانت مناسبة للناموس. أما المسكن الذى يناسب المسيح فهو المدينة البهيَّة التى من فوق أى السماء عينها التى هى الخيمة الإلهية غير المصنوعة بمهارة بشرية، ولكنها إلهية وفائقة. أما واقع خدمته الليتورجية فهى تقديس المؤمنين به بروحه القدوس وتقريبهم للآب كذبائح ماتوا عن العالم ويعيشون بالروح، هذه الخدمة اللائقة به ([83]).

فاصل

من كتاب: كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ3 – الكنيسة ملكوت الله على الأرض – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى