الجسد المُقام

قبل الحديث عن الجسد المُقام أود إبراز اهتمام آباء الكنيسة الأولى بالحديث عن الوحدة العجيبة التى بين جسد الإنسان ونفسه. هذا يدعونا إلى الحديث عن العلاقة المتبادلة بينهما فى لحظات انفصالهما عند الموت وعند اتحادهما فى يوم القيامة.

1. ما هو الحوار الذى يدور بين النفس والجسد فى لحظة انفصالهما؟ [120]

يقدم لنا القديس أفرآم صورة رائعة لوحدة النفس مع الجسد، وحالهما فى لحظات الموت عند خروج النفس من الجسد. فالنفس المقدسة بالربّ تشعر أنها مدينة للجسد المقدس كما يشعر الجسد المقدس أنه مدين للنفس المقدسة، وأن كل منهما كان معيناً للآخر أثناء الجهاد على الأرض وذلك بواسطة عمل النعمة الإلهية فيهما، إذ كانت النفس تنمو روحياً خلال استخدام الجسد أعضاءه للبنيان. فبالعينين تقرأ كلمة الله، وباليدين تقدم خدمات محبة للآخرين، وبالقدمين يسير الإنسان نحو بيت الله، والإنسان بكل جسده يمارس الصلوات والأصوام والسجود والمطانيات للربّ… حقا ً إنها لحظات سعيدة حين يعمل الجسد المقدس متحداً بالنفس المقدسة، ويصير الإنسان بكليته فى السماء أشبه بملاك الله، ولا يقف الجسد عائقاً للنفس فى المجد الأبدى.

جاء الحوار مختصراً للغاية فى هذه التسبحة التى سجلها مار أفرآم السريانى، تكشف عن التزامنا بتقديس الجسد وتقديرنا له كعطية إلهية معينة للنفس.

[إذ تترك النفس الجسد، هذا فيه ألم عظيم، وتشعر النفس بحزن شديد.

تتشتت النفس (عند خروجها من الجسد) هنا وهناك، لتتعرف على مصيرها.

فالأرواح الشريرة ترغب أن تأخذها معها، لتدخل به فى وسط الجحيم.

والملائكة أيضاً تود أن ترحل النفس معها فى موضع النور].

[فى تلك اللحظة تدرك النفس من هم أصدقاؤها وإخوتها المحبين،.

هؤلاء الذين تكنّ لهم معزة، وجيرانها ومن كانوا معروفين لها].

هكذا يرى ما أفرآم السريانى وجود صراع بين قوات الظلمة وملائكة الله. الأولى تبذل كل الجهد فى جذب النفس إليها، وتجد مسرتها فى أن تدخل به إلى نيران الشرّ والظلمة. ومن جانب آخر فإن سعادة الملائكة وبهجتها أن تجد نفساً التصقت بالربّن وخرجت لتلتقى مع من عاشت معه وهى فى العالم، فتنطلق إلى موضع النور أو المسكن الإلهى.

محبة السمائيين لنا تتجلى بكل قوة عند خروج النفس من الجسدن إذ تحملها إلى الحضرة الإلهية كما حملت نفس لعازر المسكين (لو 16: 22)، فتسبّح الملائكة الخالق الذى خلّص الإنسان من الموت والفساد، وأعدّ له ميراثاً أبدياً.

مع انشغال النفس المقدسة بالملائكة القادمين لحملها إلى الله والترحيب بها، يرى مار أفرآم، أن النفس وهى منطلقة تحزن على إخوتها، النفوس التى التصقت بالزمنيات واستهانت بالأبديات.

يقول مار أفرآم:

[فى تلك الساعة تستخف بمن كانوا متعلقين بالثروات والممتلكات الزمنية.

لكنها إذ تقدّر عبورها، تصير لها لهفة عظمية (للانطلاق)].

يقدم لنا القديس حديثاً وداعياً للنفس:

[تقف (النفس) منفصلة عن الجسد الذى تركته وتتحدث إليه قائلة:

“لقد أذن لى الموت بالخروج: لتبق (أيها الجسد) فى سلام، فإنى منطلقة بعيداً”.

عندئذ يجيبها الجسد: “امض بسلام يا أيتها النفس الرقيقة المحبوبة!

الربّ هو شكّلنا، وهو الذى يحقق خلاصنا من جهنم “].

2. كيف يلتقى جسم الإنسان البار مع نفسه فى يوم الرب العظيم؟

تجول فى أذهان البعض عدة تساؤلات، منها: كيف يلتقى جسم البار مع نفسه البارة؟ إذ يتحد الاثنان معاً من جديد، يشعر الجسد أنه مدين للنفس المقدسة، لأنها خضعت لروح الله القدوس، وتقدست إرادتها حيث وجدت مسرتها فى الطاعة لوصية الله محبوبها، وقبلت أن يقيم المخلص ملكوته فيها، وسلكت بالحق بروح التبنّى للأب. وفى نفس الوقت تصورت النفس أنها مدينة للجسد الذى سلك بحواسه بروح القداسة، وجاهد فى دراسة الكتاب المقدس والأصوام والصلوات والسهر بروح التسبيح.

لم يوجد مجال للعتاب بينهما، بل يقف المؤمن فى يوم الرب شاكراً عمله فى نفسه وجسده وكل طاقاته!

يقول القديس أغسطينوس: [عندئذ سيكون هناك نوع من الانسجام بين الجسد والروح، فالروح يحيى الجسد الخادم دون أية حاجة إلى قوت منه. ولا يعود بعد يوجد صراع فى داخلنا. فكما سوف لا يوجد أى أعداء من الخارج، هكذا لا يعود يوجد أعداء من الداخل[121]].

3. كيف يلتقى جسد الإنسان الشرير الذى لم يعط لنفسه فرصة للرجوع إلى الله، مع النفس الشريرة؟

يبدو لى أن كل منهما يلقى باللوم على الآخر. فالنفس تحسب أن الجسد بشهواته دفع الإنسان ككل إلى محبة العالم ورفض الرجوع إلى الله والتراخى فى الالتقاء بالله وقبول نعمته لإقامة الملكوت الإلهى فى داخل الإنسان. ويشعر الجسد أن النفس مسئولة عن انحراف الإرادة، وعما مارسه الإنسان من بغضه للآخرين وجحود لنعمة الله. هكذا يقضى الشرير حياته فى صراع حتى فى جهنم. لا يطيق الجسد النفس، والنفس لا تطيق الجسد. هما فى مرارة لا تتوقف، وفى حُكم الهلاك ولا يفنيان.

فى اختصار يسود الحياة الأبدية الحب فى المسيح يسوع حتى بني النفس والجسد، ويسود جهنم الصراع المُرّ حتى بين النفس والجسد!

4. كيف يُقام الأموات؟ وبأى جسم يقومون؟ (1 كو 15: 35)

السؤال الأول يوجهه غير المؤمنين للذين يؤمنون بقيامة الأموات. وهو بأية قوة أو كيف يمكن تحقيق القيامة؟ لأن هذا فى نظرهم مستحيل. والسؤال الثانى هو إن افترضنا أنها تتحقق، فهل يقوم بذات الشكل والأعضاء. السؤال الأول هو سؤال الملحدين العاجزين عن إدراك قوة الله لتحقيق القيامة، والسؤال الثانى هو سؤال فيه حب استطلاع المتشككين.

عوض القول كيف؟ وجب الإيمان بإمكانية قوة الله لتحقيق ذلك. فعندما سُئل حزقيال النبى عن إمكانية إقامة العظام الجافة، كانت إجابته: “يا سيد الرب أنت تعلم!” (حز 37: 3).

إن كان الله صنع الشمس والقمر والكواكب بكلمة، فما هى المشكلة إن كان يقيم أجسادنا كأجساد جديدة.

يقول القديس أمبروسيوس: [ربما يُدهش أحد كيف يمكن للأجساد التى تحللت أن تعود سليمة، والأعضاء التى تبعثرت وتحطمت أن تُسترد. ومع هذا لا يعجب أحد من البذور الرقيقة التى تتحطم عندما تتبلل وتثقل بالتربية إذ بها تنمو وتعود خضراء. مثل هذه البذور حتماً تتحلل باحتكاكها بالتربة، ولكن برطوبة التربة واهبة الحياة تنال البذور المدفونة والخفية نوعاً من الحرارة المحيية، وتنال قوة واهبة الحياة لنمو النبات عندئذ بالتدريج تقوم بالطبيعة، فتظهر سنبلة نامية على الساق، وكأم معتنية بها تغلفها وهى فى مرحلة ما قبل النضوج بأغطية تحميها من الدمار، من صقيع البرد أو حرارة الشمس، حتى تظهر البذور كما لو كانت أطفالاً صغاراً[122]].

كما يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [لماذا يقدم بولس برهاناً كهذا بدلاً من أن يشير ببساطة بسامعيه عن قوة الله كما فعل فى مواضع أخرى؟ هنا يتعامل مع شعب لا يؤمنون بما يقوله، لذلك قدم لهم براهين عقلية لما يقوله[123]].

يجيب الرسول: “يا غبى الذى تزرعه لا يحيا إن لم يمت” (1 كو 15: 36). بالنسبة للجانب الأول يجيب الرسول بأن القيامة هى فى إمكانية الله القدير الذى يعمل دوماً بقوته الإلهية فى حياتنا اليومية بما يشابه القيامة. فكما تنحل حبة القمح وتبدو كأنها قد هلكت تماماً لتعود فتقدم ثماراً من ذات النوع، هكذا يحدث مع جسمنا. كأنه يقول لماذا فى غباوة نجحد قوة الله واهب القيامة ونحن نختبر فى كل يوم قوته المحيية لأشياء ميتة؟

يجيب الرسول بمثل واقعى يعرفه كل إنسان، فإن الاعتراض على إمكانية القيامة لا أساس له من خلال الواقع العملى. قيامة المسيح الذى مات من أجلنا لم تنزع عنا موت الجسد الذى حلّ بنا من آدم لكنه يُحضرنا إليه لننعم بحياة جديدة سماوية خارجة من موته المحيى.

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [إنه يحل مشكلة يقدمها الأمم ضد القيامة… فيقدم صعوبتين، إحداهما بخصوص طريقة القيامة، والثانية نوع الأجساد… لهذا يدعو الشخص غبياً إذ يجهل ما يحدث معه يومياً، يجهل أموراً تحدث معها القيامة، ومع هذا يشك فى قدرة الله. لهذا يؤكد قائلاً: “الذى تزرعه” يا أيها القابل للموت والهلاك… [124]].

ويقول القديس أمبروسيوس: [يليق بنا ألا نشك فيما هو متفق مع الطبيعة وليس ضدها. فإنه طبيعياً كل الأشياء الحية تقوم، ودمارها أمر غير طبيعى].

5. هل من أمثلة عملية يقدمها لنا الله كى نثق فى قيامة أجسادنا فى بهاء أعظم؟

يتعجب الرسول بولس أننا نرى أمثلة واقعية فى حياتنا سمح بها الخالق تؤكد إمكانية قيامة الجسد، مثال ذلك يُمكن لحبة القمح المجردة بعد دفنها فى التربة، أن تخرج سنبلة من ذات النوع، بل وأفضل وأعظم منها. هكذا بالنسبة لن نُزرع جسماً ليقوم ذات الجسم، ولكنه أبرع جمالاً وبهاءً، له طبيعة جديدة مجيدة روحية أعظم مما زُرع. فالموت ليس طريقاً لعبور الجسد وعودته فحسب، لكنه طريق لتمجيد الجسد ليشارك النفس بهاءها الأبدى.

لم ينزع الصليب الموت الجسدى، لأننا بالإيمان إذ نموت مع السيد المسيح نتهيأ للقيامة المجيدة بسمات أفضل تليق بالحياة الأبدية.

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [مقال (الرسول) هنا لم يعد بخصوص القيامة بل أسلوب القيامة… ماذا إذن يقول؟ “لست تزرع الجسم الذى سوف يصير فيما بعد”. فسنبلة القمح نهى ذات البذرة وفى نفس الوقت ليست هى بعينها. فالمادة هى ذاتها، لكنها ليست هى لأنها أفضل منها. تبقى المادة كما هى لكن يصير جمالها أفضل، يقوم نفس الجسم لكنه جديداً[125]].

يقول أيضاً: [يقول أحد: “نعم، لكن هذامن فعل الطبيعة”. أخبرنى، أية طبيعة؟ ففى هذه الحالة الله بالتأكيد هو الذى يصنع الكل، وليست الطبيعة ولا الأرض ولا المطر، بل الله هو العامل. لذلك قد صنع كل هذه الأشياء بطريقة واضحة، تاركاً الرض والمطر والجو والشمس وأيدى الفلاحين، ويقول: “الله يعطيها جسماً كما اراد” (1 كو 15: 38). لذا لا يليق بك أن تسأل أو تنشغل كيف وبأية وسيلة يتم ذلك عندما تسمع أن ذلك يتحقق بقوة الله وإرادته[126]].

ويقول القديس أمبروسيوس: [تُزرعون مثل سائر الأشياء، فلماذا تتعجبون أنكم ستقومون مثل بقية الأشياء؟ أنتم تؤمنون بالبذرة لأنكم ترونها. أنتم لا تؤمنون بالقيامة لأنكم لا ترونها. “طوبى للذين آمنوا ولم يروا” (يو 20: 29). ومع ذلك قبل حلول الموسم المناسب حتى بالنسبة للبذرة لا يصدقون بها. فإنه ليس كل موسم مناسباً للبذار كى تنمو. فالقمح يُزرع فى وقت وينمو فى وقت آخر، فى وقت ما تُطعم الكرمة. وفى وقت معين تظهر الجذور، وفى وقت آخر تظهر أوراق الشجرة بكثرة ثم تتشكل عناقيد العنب. فى وقت معين تغرس شجرة الزيتون. وفى وقت آخر تصير مثقلة كما بطفل وكمن هى حامل بحصرم العنب وتنحنى من كثرة ثمارها. لكن قبل الوقت المعين لكل نوع يبدو الإنتاج محدوداً. ليست الشجرة أو الزرع له وقت لحمل الثمار من قوته الذاتية[127]].

6. ما هى إرادة الله من جهة أجسامنا القائمة من الأموات؟

يقول الرسول: “ولكن الله يعطيها جسماً كما أراد، ولكل واحد من البذور جسمه” (1 كو 15: 38). هيب الله الجسد “كما اراد”، وما هى إرادته إلا أن يتمتع الجسم بالحياة المطوبة السماوية. هذه هى مسرته أن يهب ذات الجسم الذى شارك النفس جهادها فى هذا العالم أن يشاركها مجدها.

كل بذرة تُزرع تقيم جسماً الذى شارك النفس جهادها فى هذا العالم أن يشاركها مجدها.

كل بذرة تُزرع تقيم جسماً خاصاً بها، فلم نسمع عن بذرة قمح جلبت شعيراًن ولا بذرة تفاح جلبت ليموناً، بل كل بذرة تجلب حصاداً من ذات نوعها. يقول الرسول: “ليس كل جسد جسداً واحداً، بل للناس جسد واحد وللبهائم جسد آخر وللسمك آخر وللطير آخر” (1 كو 15: 39).

جاء وقت ادعى العلماء بأن ما يقوله الرسول بولس خطأ فإن جسد الإنسان وجسد الحيوان وأيضاً السمك والطيور هو واحد، مكون من ذات الجبلة الأولى أو بروتوبلازما الخلية أو المادة الحية الأساسية فى الخلايا protoplasm، اليوم أدرك العلماء أن مادة الخلايا cytoplasm وقلبها nuclei تختلف فى هذه الأنواع الأربعة من الجسد[128].

الجسد الذى يقيمه الرب هو جسد حقيقى، جسد إنسان له طابعه الخاص، لكنه ممجد وروحى. إنه ليس كما يظن البعض أنه جسد خيالى. يقول ثيؤدور أسقف المصيصة: [فى القيامة سيقوم جسد أفضل، جسد لا يعود فيه لحم ودم هكذا بل كائن حى خالد ولا يمكن هلاكه].

7. ماذا يعنى الرسول بقوله: “وأجسام سماوية، وأجسام أرضية، لكن مجد السماويات شئ، ومجد الأرضيات آخر” (1 كو 15: 40)؟

يعود الرسول فيقارن بين جسمنا الترابى الذى على مثال جسم آدم، وذاك الذى سنناله على مثال جسم المسيح القائم من الأموات. فإنه لا يوجد وجه للمقارنة بين مجد الجسم الترابى ومجد الجسم الروحانى السماوى. ففى السماء يكون الجسم ممجداً وبهياً وكاملاً. حقاً إنه حتى فى هذا العالم يتمتع جسمناً الترابى بعربون المجد الداخلى والبهاء، أما فى يوم الرب، فإنه “سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده بحسب عمل استطاعته أن يُخضع لنفسه كل شئ” (فى 3: 21). وكما وعدنا السيد المسيح: “حينئذ يضئ الأبرار كالشمس فى ملكوت أبيهم” (مت 13: 43).

إذ يتحدث هنا عن الأجسام السماوية ربما لا يعنى الشمس والقمر والكواكب، لكنه يعنى الملائكة والطغمات السمائية، فإنهم أرواح لكنهم بالمقارنة بالله الروح البسيط يُحسبون كمن لهم أجسام. ونحن إذ نشترك معهم فى الحياة السماوية تصير أجسامنا روحية، لكنها مختلفة عن تلك التى للسمائيين وربما يقصد بالأجسام السماوية جسم المسيح القائم من الأموات وأجسام القديسين القائمة من الأموات، وبالأجسام الأرضية أجسامنا هنا فى الحياة الزمنية على الأرض.

يقول العلامة أوريجينوس: [حتى بين الأجسام الأرضية الاختلاف ليس بقليل. خذ الجنس البشرى كمثال. البعض يونانيون والبعض قوانين منحطة، البعض لهم عادات متوحشة وآخرون ليس لهم قوانين قط يخضعون لها[129]].

8. هل سيتساوى كل المؤمنين فى المجد الأبدى؟

يقول القديس بولس: “مجد الشمس شئ، ومجد القمر آخر، ومجد النجوم آخر، لأن نجماً يمتاز عن نجم فى المجد” (1 كو 15: 41).

إن كنا ونحن نجاهد على الأرض تهبنا الحياة المقامة مع المسيح قوة لتحطيم الخطية وكسر شوكة الموت، فنعيش بروح النصرة المتهللة، كل مؤمن حسب قامته الروحية، ففى الأبدية توجد منازل كثيرة (يو 14: 2). هذه المنازل لا تسبب غيرة أو حسداً أو كبرياء، بل كل مؤمن يشعر كأن ما يناله إخوته ناله هو، فيشتهى أن يكون آخر الكل. يقول القديس جيروم: [مع تنوع المجد فى السماء إلا أن الكل يتمتعون ببيت واحد، وقد صعد الرب لا ليُعد مواضع كثيرة، بل يُعدّ بيتاً واحداً، فالكل يشتركون فى ذات البيت ويشعرون بالكفاية والشبع، وإن اختلف مجد كل نجم عن الآخر[130]].

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم:

[حقاً سيقوم الكل فى قوة وعدم فسادٍ، ولكن فى هذا المجد الذى بلا فسادٍ لا يتمتع الكل بذات الكرامة والأمان[131]].

[مع وجود قيامة واحدة توجد اختلافات ضخمة فى الكرامة من جسد إلى آخر[132]].

[إذ يقول هذا يصعد إلى السماء ويقول: “مجد الشمس شئ ومجد القمر آخر”. كما يوجد اختلاف بين الأجسام الأرضية يوجد أيضاً فى السماوية. هذا الاختلاف ليس بالأمر العادى بل يبلغ قمته. لا يوجد اختلاف فقط بين الشمس والقمر والنجوم، بل بين النجوم وبعضها البعض. فمع وجودها جميعاً فى السماء غير أن البعض لها مجد أعظم والأخرى أقل. ماذا نتعلم من هذا؟ وإن كان الجميع سيكونون فى ملكوت الله، لكن لا يتمتع بذات المكافأة، وإن كان الخطاة فى الجحيم لكن ليس الكل يعانى من نفس العقوبة[133]].

9. ماهى طبيعة الجسم القائم من الأموات وما هى سماته؟

إنه جسد جديد لكنه ليس خليقة جديدة، من الناحية العضوية يمت بصلة للجسد القديم وإن كان بينهما ارتباط كما بينهما اختلاف. وذلك مثل حبة القمح الذى تُزرع وتأتى بسنبلة، أو كالشخص المولود كاملاً الذى كان جنيناً فى بطن أمه.

فى يوم الرب ستُجمع أعضاء الجسد الموجودة فى القبر أو التى تحلّلت ويُعاد بنائها كجسم جديد، حتى تلك الأعضاء التى لا يعرف الإنسان من أين جمعها الرب، فإن الله لا يجهلها ولا يصعب عليه جمعها، أينما تبعثرت. يجمعها الرب بطريقة سرية، فتقوم بغير فساد، ويُحسب الجسم غريباً بالنسبة لهذا العالم الحاضر.

يقوم الجسد بسمات جديدة تليق بالحياة الأبدية. هذا الأمر يبقى لنا سراً يفوق قدراتنا البشرية التعرف عليها.

تحدث رب المجد عن هذا التغير، قائلاً: “لأنهم فى القيامة لا يُزوجون ولا يتزوجون كملائكة الله فى السماء” (مت 22: 30). إذ لا يستطيعون أن يموتوا أيضاً، لأنهم يصيرون مثل الملائكة، وهم أبناء الله، إذ هم أبناء القيامة “(لو 20: 36). ويقول الرسول بولس:” الأطعمة للجوف والجوف للأطعمة، والله سيبيد هذا وتلك “(1 كو 6: 13).

أولاً: بلا فساد (1 كو 15: 42). يقول الرسول: “هكذا أيضاً قيامة الأموات: يُزرع فى فساد، ويقام فى عدم فساد”. جاءت كلمة “يُزرع” كتعبير مُبهج عوض “يُدفن”.

“يُزرع فى فساد” إذ يتعرض الجسم للانحطاط والفساد والانحلال. “ويُقام فى عدم فساد”، كجسد مجيد لن يخضع بعد إلى فساد أو انحلال أو موت. يقول القديس كيرلس الأورشليمى: [سيقوم هذا الجسد ولكن ليس فى ضعفه الحالى. سيقوم نفس الجسم ولكن بعد إزالة الفساد وتحوله، وذلك كالحديد الذى يصير ناراً عندما يتحد بالنار، وذلك كما يعرف الرب الذى يقيمنا. إذن هذا الجسد سيقوم، ولكن لن يبقى فى وضعه الحالى بل يصير جسداً أبدياً. لا يعود يحتاج إلى قوت للحياة كما الآن، ولا إلى درجات يصعد عليها. يصير روحياً، إنه أمر عجيب، نسأل أن نتعرف على وضعه[134]].

يقول القديس أغسطينوس:

[مع أن القديسين روحيون فى الذهن إلا أنهم لا يزالوا جسديين فى الجسد القابل للفساد الذى يبقى ثقلاً على النفس. إنهم سيصيرون روحيين أيضاً فى الجسد عندما يُزرع الجسد الحيوانى ويقوم جسداً روحانياً. إنهم لا يزالون سجناء فى حصون الخطية، ما داموا يخضعون لإغراءات الشهوات التى لا يوافقون عليها. هكذا فهمت هذا الأمر كما حدث مع هيلاردى وغريغوريوس وأمبروسيوس وغيرهم من معلمى الكنيسة المشهورين، هؤلاء رأوا أن الرسول بكلماته حارب بقوة نفس المعركة ضد الأفكار الجسدية التى لم يكن يريدها[135]].

[كما أنه عندما تخدم الروح الجسد تُدعى بحق جسدانية، هكذا عندما يخدم الجسد الروح يدعى بحق روحانياً. ليس بمعنى أنه يتحول إلى روح كما يتوهّم البعض بتفسيرهم الكلمات: “يزرع فى فساد ويُقام فى عدم فساد”، وإنما لأنه يُخضع للروح فى استعداد للطاعة الكاملة العجيبة ويتجاوب فى كل شئ مع الإرادة التى دخلت إلى الخلود، فيزول عنها كل تخاذل وفساد وخمول. لأن الجسد ليس قفط سيكون أفضل مما عليه الآن فى أفضل حالته الصحية، بل وسيسمو فوق جسدى أبوينا الأولين اللذين أخطأ[136]].

[بطريقة ما تشرق البتولية هناك، وبطريقة أخرى تشرق هناك عفة الزواج، وبطريقة ثالثة سوف يُشرق الترمل المقدس. يشرق الكل بطرق مختلفة، لكن الكل سيكونون هناك[137]].

[لقد ضُربت (أيها الموت)، لقد جُرحت، لقد سقطت طريحاً، لكن جُرح ذاك الذى خلقنى. يا موت، يا موت، هوذا الذى أوجدنى جُرح من أجلى وبموته غلبك. بنصرة سيقولون: “أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا موت؟ (1 كو 15: 55) [138]].

[سنتجدد نحن أيضاً فى الجسد عندما يلبس هذا الفاسد عدم الفساد، فيصير جسداً روحانياً. آدم لم يتغير بعد إلى مثل هذا الجسم، بل كان موضوعاً له أن يكون هكذا لو أنه لم يتأهل بسبب الخطية للموت حتى بالنسبة لجسده الطبيعى. أخيراً فإن بولس لم يقل: “الجسد مائت بسبب الخطية”، بل الجسد مات بسبب الخطية[139]].

[لو سألنا مسيحياً صالحاً له زوجة، وقد يكون لديه أبناء منها عما إذا كان يرغب فى أن تكون له علاقة جسدية بزوجته فى ملكوت السماوات، فبالرغم من محبته لزوجته فى الحياة الحاضرة وارتباطه بهان سيجيب بلا تردد رافضاً بشدة أن تكون علاقته بها فى السماء علاقة جسدية، لأنه يهتم بتلك الحياة التى فيها يلبس الفاسد عدم فساد وهذا المائت عدم الموت (1 كو 15: 54، 533).

هل لى أن أسأله مرة أخرى عما إذا كان يرغب فى أن تكون زوجته معه بعد القيامة هناك، حيث يكون لها ذلك التغير الملائكى الذى وعد به الرب القديسين، فإنه سيجيب بالإيجاب بشدة، قدر ما رفض بشدة فى الحالة الأولى].

نفهم من أقوال أغسطينوس أن على الزوجين أن يحبا بعضهما البعض ويهتم كل منهما بالحياة الروحية للآخر فلا تكون علاقتهما ببعض مجرد اتصال جسدى، سوف ينتهى ويزول بزوال العالم… وذلك كنظرتنا إلى الطعام، فهو ليس بالشئ المحرم أو النجس ومع ذلك فينبغى ألا يكون هدفاً لنا، لأنه طعام فاسد لا يبقى إلى الأبد. فالزواج سرّ مقدس له كرامته وقدسيته لأن مؤسسه رب المجد نفسه. ويقول عنه أغسطينوس نفسه “إن قداسة السر، لها فى زيجتنا (المسيحية) قوة أكثر من قوة ثمرة الأولاد فى الدم[140]”.

لهذا ما يحبه المسيحى الصالح فى المرأة هو كونها مخلوق إلهىن هذه التى يرغب لها التجديد والتغير دون ان يهتم بالعلاقة الشهوانية. وبنفس الطريقة يحب الإنسان عدوه، لا لأجل عداوته له بل لكونه إنساناً يرغب له نفس النجاح الذى يريده لنفسه، أى بلوغ ملكوت السماوات.

وهذا ينطبق أيضاً على الأبوة والأمومة وبقية العلاقات الجسدية (الدموية)، فنبغض فيهم العلاقات الجسدية، بقدر ما نحب كل ما يؤدى بهم إلى الوصول لملكوت السماوات. فهناك لا نقول لأحد: “أبى”، بل جميعنا نقول لله “أبانا”. ولا نقول لأحد: “أمى” بل نقول جميعنا لأورشليم السماوية “أمنا”. ولا نقول لأحد: “أخى” بل يقول الكل للآخر: “أخى”.

حقاً سيكون هناك زواج من جانبنا، إذ نتقدم جميعاً كزوجة واحدة لذاك الذى خلصنا من نجاسة هذاالعالم بسفك دمه، لذلك لتلميذ المسيح أن يكون تلك الأمور الزائلة المتعلقة بأقربائه، وبقدر كراهيته لهذه الأمور يحب أشخاصهم، راجياً لهم حياة أبدية[141]].

ويقول القديس يوحنا الذهبى الفم:

[على أى الأحوال “هذا الفاسد” الذى للجسد “لابد أن يلبس عدم فساد”. أما الآخر، أى النفس، فليس فيها فساد قط حيث يوجد فيها عدم الفساد… الآن إن كنا سنرحل إلى العالم الآخر وفينا فساد فسيصير هذا الفاسد بلا فساد بلا نهاية، بل يبقى محترقاً ولا يحترق ليفنى، يبقى دوماً مضروباً بالدود، فساده لا يفسد. فيكون حاله مثل أيوب الطوباوى الذى فسد (جسده) ولم يمت ولفترة طويلة. كان “انهياره مستمراً يضع كتل التراب على قروحه” (أى 7: 5LXX) [142]].

[لئلا عندما يسمع أحد “أن لحماً ودماً لا يقدران أن يرثا ملكوت الله” يظن أن أجسامنا لا تقوم، لذلك أضاف: “ولا يرث الفساد عدم الفساد”، و “يلبس هذا المائت عدم موت”. الآن فإن الجسم فاسد، الجسم مائت، لذلك يبقى الجسم حقاً، لأن الجسم هو الذى سيلبس عدم الفساد، لكن فساده وموته يبيدان، بينما يحل عليه عدم الفساد وعدم الموت. لا تعود بعد تسأل كيف ستعيش حياة بلا نهاية، فقد سمعت الآن عن تحوله إلى عدم الفساد[143]].

ثانياً: مجيد (1 كو 15: 43). يتسم الجسم القائم من الأموات أنه مجيد، وقد قال السيد المسيح: “حينئذ يضئ الأبرار كالشمس فى ملكوت أبيهم” (مت 13: 43). بينما يضئ الأبرار كالنجوم أكثر من الشمس يكون الأشرار فى الظلمة.

يقول الرسول: “يُزرع فى هوانٍ، ويُقام فى مجد”. بسبب الخطية حُرم الجسم وطاقاته وحواسه ومشاعره من كل المجد وصار فى هوان، وأصبح مصيره الموت. لكنه يقوم فى مجد، إذ يتمتع بالخلود ويتحرر من عبودية الموت أبدياً. يقول القديس ديديموس الضرير: [عندما يُزرع الجسد الذى يتكون بواسطة العلاقات الجسدية بين ذكر وأنثى يكون فيه هوان وضعف، لأنه جسد نفس هالكة تشاركه سماته. ولكن إذ يقوم بقوة الله يظهر جسداً روحياً يحلم عدم الهلاك والقوة والكرامة]. ويقول الأب أمبروسياستر: [يُزرع الجسد فى هوان، لأنه يوضع فى كفن فيه يفسد ويأكل الدود. ولكن عندما يقوم يكون فى مجد وينتهى كل أثر للهوان[144]].

ثالثاً: فى قوة (1 كو 15: 43). يقول الرسول: “يزرع فى ضعف، ويُقام فى قوة”. “ويُزرع فى ضعف”: إذ يتعرض للأمراض، “ويُقام فى قوة”، إذ لا يتعرض بعض للتعب والمرض والشيخوخة والانحلال والموت. ماذا يقصد بالقوة هنا؟ ليست كتلك الخاصة بالله ولا بملائكة. وهى ليست بالقوة البدنية، لكنها قوة تعمل ما يبدو كأنه امر مستحيل تنفيذه الآن. أيضاً القوة هنا مقابل الضعف الذى كان الجسم يتعرض له فى هذا العالم. وكأن القوة تعنى عدم خضوع الجسم للأمراض والضعفات والاحتياجات الجسمانية من أكل وشرب ونوم، كما لا يمكن أن يحلّ به الموت أو الفساد أو الانحلال.

رابعاً: جسم روحانى (1 كو 15: 44). يقول الرسول: “يُزرع جسماً حيوانياً، ويُقام جسماً روحانياً. يوجد جسم حيوانى، ويوجد جسم روحانى”. يزرع جسماً حيوانياً، يشبه الجسم الحيوانى من جهة تكوينه كجسم به عضلات وعظام وأعصاب وأوردة وشرايين الخ، لها ذات الوظائف وبه الجهاز الهضمى الذى يحول الطعام إلى دم والجهاز التنفسى الخ. “ويُقام جسماً روحانياً” يتسم بالكمال، فلا يحتاج إلى مئونة خارجية كالطعام والشراب والهواء، ولا يخضع للموت، له وجود روحى، ومئونة روحية.

“الجسم الحيوانى”، يترجم أحياناً “الجسم الطبيعى”، وهو الجسم الذى به يمارس الحيوان حياته من أكل وشرب وتنفس وحيوية وله حواس ملموسة يحتاج إلى راحة ونوم. “الجسم الروحانى” لا يعنى روحاص، لأن الروح ليس له جسم.

ما معنى أن الجسد سيكون روحياً؟ سيكون الجسد روحياً وإن كان قد زُرع كجسد طبيعى. يرى العلامة أوريجينوس أنه سيكون روحياً لأنه سيكن رقيقاً وخفيفاً يشبه أجسام الملائكة[145].

ويقول القديس يوحنا الذهبى الفم إنه سيكون روحياً، إما لأن الروح القدس يبقى فى أجساد الأبرار ابدياً أو لأن الروح القدس يحكمه على الدوام. وأيضاً لأنه سيكون خفيفاً، أو لأن هذه الأمور كلها تجتمع معاً[146].

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [هل جسدنا الحاضر ليس بعد روحياً كما ينبغى؟ حقاً إنه روحانى، لكنه سيصير أكثر روحانية، لأنه الآن غالباً ما تفارقه نعمة الروح القدس الغنية متى ارتكب خطية عظيمة. مرة أخرى فإن الروح يستمر حاضراً وتعتمد حياة الجسد على النفس وتكون النتيجة فى هذه الحالة هو الحرمان من الروح. ولكن بعد القيامة لا يعود يكون الأمر هكذا، بل يسكن فى جسد البار على الدوام وتكون النصرة حليفة له وتكون النفس الطبيعية حاضرة… بهذا لتؤمن أن الله قادر أن يجعل هذه الأجساد الفاسدة غير فاسدة وأكثر سمواً من الأجسام المنظورة[147]].

ويقول القديس أغسطينوس: [سنكون لا نزال أجساداً لكن نحيا بالروح، فنحتفظ بمادة الجسد دون المعاناة من خموله وإماتته[148]].

كما يقول: [كما أن الروح عندما تخدم الجسد لا يكون غير لائق أن يُقال إنها جسدية هكذا الجسد عندما يخدم الروح يُدعى روحانياً بحق. ليس لأنه قد تحول إلى روح كما ظن الذين أساءوا تفسير النصر “يُزرع جسد طبيعى ويقوم جسد روحانى”، وإنما لأنه سيخضع للروح فى طاعة كاملة عجيبة مرنة، فتقبل قانونه الخاص بالخلود غير المنحل، وتطرد جانباً كل شعور بالتعب، وكل ظل للألم، وكل علامة للانحطاط. هذا الجسد الروحانى ليس فقط يصير أفضل من أى جسد على الرض فى صحة كاملة بل ويتعدى جسد آدم وحواء قبل السقوط[149]].

خامساً: على شبه جسم الإنسان الثانى، الرب من السماء (1 كو 15: 45 – 50). إننا سنلبس صورة السماوى، يقول الرسول: “هكذا مكتوب أيضاً صار آدم الإنسان الأول نفساً حية، وآدم الأخيرروحاً محيياً (1 كو 15: 45). يشير الرسول بولس إلى ما ورد فى سفر التكوين (2: 7)، بأن آدم صار نفساً حية. أما بالنسبة لآدم الثانى الذى صار روحاً محيياً، فيتحدث بعض اليهود عن روح المسياَ أنه هو الروح الذى كان يرف على وجه المياه (تك 1: 2) ليهب حياة، وأنهم دوماً كانوا يشيرون إلى المسياَ أنه يُحى الذين يسكنون فى التراب. وقد جاء فى إنجيل يوحنا:” فيه كانت الحياة “(يو 1: 4).

أقام الله آدم نفساً حية، لكنه كان يحتاج إلى الحياة من خارجه، لهذا إذ وهبه الله زوجة دعاها “حواء” أى “حياة” لتجلب حياة، وتكون أماً لكل حى، وإذ بها تجلب موتاً. أما آدم الثانى فهو الكلمة المتجسد المحيى يؤكد لنا: “أنا هو الحياة والقيامة”.

ثمرة التصاقنا بأبينا آدم الأول أننا حملنا جسداً حيوانياً، أما ثمرة اتحادنا بأبينا الجديد آدم الثانى أننا نصير جسداً روحانياً، إذ يهبنا الحياة السماوية الأبدية.

يقول بطرس خريسولوجوس:

[اليوم يعتبر الرسول القديس بولس أن شخصين هما أصل الجنس البشرى، أعنى آدم والمسيح. هما شخصان، لكنهما مختلفان فى الاستحقاق. حقاً متشابهان فى هيكل الأعضاء لكنهما بالحق مختلفان فى بدايتهما.

الإنسان الأول، آدم كما يقول النص صار نفساً حية، وآدم الأخير صار روحاً محيياً.

الإنسان الأول خلقه الأخير، منه نال نفسه لكى يحيا. هذا الأخير تكون بذاته، فهو وحده لا ينتظر الحياة من آخرن بل يهبها لكل البشر.

الأول قد تشكل من التراب الرخيص جداًن والأخير جاء من رحم العذراء الثمين.

فى حالة الأول تحوّل التراب إلى جسد، أما فى الأخير فالجسد نفسه صعد إلى الله.

لماذا؟ أقول أكثر من هذا. هذا الأخير هو آدم الذى وضع صورته فى الأول عندما خلقه. هذا هو السبب الذى لأجله قام (المسيح) بنفس الدور مثل السابق، وتقبل اسمه حتى لا يسمح له بالهلاك إذ هو مهتم به، ولهذا السبب خلقه على صورته.

آدم الأول وآدم الأخير، الأول له بداية والأخير بلا حدود. لأنه بالحق هذا الأخير هو الأول، إذ يقول: “أنا هو الأول وأنا الآخر”، فبالتأكيد هو بلا نهاية.

يقول النص: “لكن ليس الروحانى أولاً بل الجسدانى وبعد ذلك الروحانى” فبالتأكيد توجد الأرض قبل الثمرة، لكنها ليست فى قيمة الثمرة. الأرض تخرج تنهدات وأتعاب، والثمرة تهب وجوداً وحياة. بحث يمجد النبى مثل هذه الثمرة: “من ثمرة بطنك أجلس على كرسيك” (مز 132: 11).

يكمل النص: “الإنسان الأول من التراب هو أرضى، والإنسان الثانى من السماء سماوى”. أين هؤلاء الذين يظنون أن حبل العذراء وميلادها لطفلها يشبه ما يحدث مع النساء الأخريات؟ ما حدث مع النساء الأخريات هو من الأرض، وأما ما حدث للعذارء فمن السماء.

واحد تم بقوة إلهية، والآخر بضعف بشرى.

حالة تمت خلال جسد خاضع للأهواء، والأخرى خلال هدوء الروح الإلهى وسلام الجسد البشرى.

صمت الدم، ودُهش الجسد، واستراحت أعضاؤها، وكان كل رحمها فى راحة خلال افتقاد السماوى له. ارتدى موجد الجسد ثوباً، حتى يمكن لذاك الذى ليس فقط وهب الأرض للإنسان بل وهو يهبه السماء يمكنه أن يصير إنساناً سماوياً[150]].

10. هل الجسم الذى سيقوم غير الجسم الذى لنا الآن فى هذا العالم؟

يقول العلامة أوريجينوس: [بالنسبة لطبيعتنا الجسدية يليق بنا أن نفهم أنه لا يوجد جسم نعرفه فى انحطاط وفساد وضعف، وآخر مختلف عنه سنستخدمه فيما بعد فى عدم فساد وقوة ومجد. بل بالأحرى ذات الجسم يُنزع عنه ضعف وجوده الحالى، ويتحول إلى شئ من المجد ويصير روحانياً، فتكون النتيجة أنه ما كان إناء للهواء هو بعينه يتطهر ويصير إناء للكرامة ومسكن الطوباوية (رو 9: 21) [151]].

11. هل الجسد الحيوانى هو الأول أم الجسد الروحانى؟

يقول الرسول: “لكن ليس الروحانى أولاً، بل الحيوانى، وبعد ذلك الروحانى” (1 كو 15: 46). الحيوانى أو الطبيعى أولاً إذ هو الجسد الذى خُلق عليه آدم ليعيش على الأرض، أما “الروحانى” فهو ذات الجسد بعد أن يتمجد لتلتحف به النفس فى القيامة ويعيش فى السماء ككائن أشبه بالروح. يقول القديس أغسطينوس: [من الأبوين الأولين للجنس البشرى كان قايين هو البكر وكان منتسباً لمدينة البشر، بعد أن وُلد هابيل الذى انتسب لمدينة الله. فإنه كما بالنسبة للفرد تُميز الحق فى عبارة الرسول: “ليس الروحى أولاً بل الطبيعى وبعد ذلك الروحانى”، هكذا كل إنسان ينسحب من المجموعة يولد اولاً من آدم شريراً وجسمانياً، وبعد ذلك يصير صالحاً وروحانياً، عندما يُطعم فى المسيح بالتحديد، هكذا كان الأمر بالنسبة للجنس البشرى كله[152]].

كما يقول: [يُفهم الجسم الروحانى كجسم يخضع للروح ليناسب سكناها السماوية، كل ضعف أرضى وفساد وتغير يتحول إلى طهارة سماوية واستقرار[153]].

ويقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [فى خطة الله سيعبر ما هو أقل ونتوقع بالأكثر ما هو أفضل. هذا هو السبب لماذا يقول بولس أن الأمور الأقل قد عبرت والأمور الأفضل فى الطريق (2 كو 5: 17)… فإن الفلاح وهو يرى البذور تنحل لا يحزن[154]].

12. إلى من ننتمى: إلى الإنسان الترابى أم الرب السماوى؟

جهادنا فى الرب أن نلتصق به ونتحد معه كى يقيم ملكوته فينا ويقود الروح القدس حياتنا. بهذا نتمتع بعربون السماء، ونتهيأ أن نُنسب لآدم الثانى السماوى، ولا يكون للتراب موضعاً فينا. يقول الرسول: “الإنسان الأول من الأرض ترابى، الإنسان الثانى الرب من السماء” (1 كو 15: 47). “ترابى” لا تعنى أنه مجرد يسلك على الأرض التى هى تراب بل يحمل طبيعة ترابية زائلة.

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [الفارق الأول كان بين الحياة الحاضرة والحياة العتيدة، أما هذا الاختلاف فهو بين الحياة قبل إعلان النعمة وتلك التى بعد إعلان النعمة[155]]؟

ويقول القديس أغسطينوس: [الرب السماوى صار أرضياً لكى يجعل الأرضيين سمائيين. الخالد صار قابلاً للموت، بأخذه شكل عبد، وليس بتغيير طبيعة الرب، لكى يجعل المائتين خالدين بتمتعهم بنعمة الرب وعدم انشغالهم بمعصية العبد[156]].

كما يقول القديس هيلارى أسقف بواتييه: [الإنسان الأول جاء من الأرض، والثانى من السماء. بقوله: “الإنسان” يعلمنا عن ميلاد هذا الإنسان من العذراء، التى بتحقيق عملها الكامل عملت بما يتفق مع طبيعة جنسها فى الحبل بالإنسان وميلاده. وعندما يؤكد أن الإنسان الثانى من السماء يشهد أن أصله من ظهور الروح القدس الذى حلّ على العذراء. هكذا يوضح بدقة بينما كان هو إنساناً كان أيضاً سماوياً. فإن ميلاد هذا الرجل كان من العذراء، الحبل كان من الروح[157]].

13. ماذا يعنى الرسول بقوله: “كما هو الترابى هكذا الترابيون أيضاً، وكما هو السماوى هكذا السماويون أيضاً” (1 كو 15: 48)؟

كما كان آدم الذى تشكّل من التراب هكذا تكون سلالته، خاضعين للضعف والانحلال والموت. وكما هو السماوى هكذا من يتحد به يشترك فى المجد السماوى. يقول العلامة أوريجينوس: [إن بقيت فيما هو من الأرض فإنك تتحول إليها فى النهاية. يجب أن تتغير، يلزم أن تصير سماوياً[158]].

ويقول مكسيموس أسقف تورينو: [تشكل آدم من الطين بيدى الله، وتشكل المسيح فى الرحم بروح الله[159]].

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [ماذا إذن؟ ألم يمت هذا الإنسان أيضاً؟ حقاً لقد مات لكن لم تصبه أذية من هذا بل بالأحرى وضع نهاية للموت[160]].

يقول الأب بطرس خريسولوجوس:

[ليتنا نسمع ما جاء بعد ذلك: “كما كان الترابى هكذا الترابيون، وكما هو السماوى، هكذا يكون السمائيون”. كيف يمكن للذين لم يولدوا هكذا كسمائيين أن يوجدوا سمائيين؟ ليس ببقائهم على ما وُلدوا عليه بل بالاستمرار فى أن يكونوا حسب الولادة الجديدة.

أيها الإخوة هذا هو السبب أن الروح السماوى بأمر سرّى لنوره أعطى خصوبة لرحم الأم العذراء. لقد أراد أن يلد أولئك الذين لهم أصل من كم ترابى موروث فجاءوا كبشر أرضيين فى حالة يُرثى لها ليصيروا ككائنات سماوية. أراد أن يحضرهم إلى شبه خالقهم. هكذا ليتنا نحن الذين بالفعل قد وُلدنا ثانية وتشكلنا على صورة خالقنا نحقق ما أمر به الرسول. لذلك وإن كنا قد حملنا شبه الأرضى، فلنحمل شبه السماوى!

لنثق بأن كل هذا كان ضرورة وهو أننا قد تشكلنا من الأرض، فلا نقدر أن نجلب ثماراً سماوية. نحن الذين وُلدنا من الشهوة لا نقدر أن نتجنب الشهوة، نحن الذين وثلدنا من إغراءات الجسد القوية لابد لنا أن نحمل ثقل إغراءاته. وإذ نتثقل بإغراءاته حسبنا هذا العالم بيتنا وصرنا أسرى لشروره. نحن نولد من جديد على شبه ربنا (كما أشرنا) الذى حبلت به البتول، فنحيا بالروح، ونحمل التواضع ويولد فينا الكمال، وتنتعش فينا البراءة، ونتعلم القداسة ونتمرن على الفضيلة، ويتبنانا الله أبناء له.

لنحمل صورة خالقنا فى إنتاج كامل. ليكن ذلك إعادة إنتاج ليس لذاك الجلال الذى هو فريد فى هذا، وإنما تلك البراءة والبساطة والوداعة والصبر والتواضع والرحمة والسلام الذى به قد عيّن لكى يصير واحداً معنا.

ليته تبطل احتكاكات الرذائل المزعجة، وتنهزم إغراءات الخطايا، وتُضبط العين مصدر الجرائم. ليت كل ضابط الأمور الزمنية يتبدد من حواسنا. ليت كل وهن الشهوات العالمية تُطرد من أذهاننا.

لنقبل فقر المسيح الذى يخزن لنا غنى أبدياً فى السماء. لنحفظ بالكامل قداسة النفس والجسد، لكى نحمل صورة خالقنا ونعتز بها فينا، لا خلال حجمها بل طريقة عملها.

يؤكد الرسول ما قلناه بكلماته: “الآن أقول يا إخوة أن لحماً ودماً لا يقدران أن يرثا ملكوت الله”. انظر كيف يكرز بقيامة الجسد! هناك الروح تملك الجسد، لا الجسد يملك الروح، كما توضح الكلمات التالية: “ولا يرث الفساد عدم الفساد” (1 كو 15: 50).

ها أنتم ترون أنه ليس الجسد هو الذى يهلك، بل عنصر الفساد، ليس الإنسان، بل أخطاؤه، ليس الشخص بل خطاياه، حتى أن الإنسان الذى يعيش فى الله وأقامه، هو وحده يفرح عند بلوغه الخلاص من خطاياه[161]].

14. ماذا يعنى الرسول بقوله: “وكما لبسنا صورة الترابى، سنلبس أيضاً صورة السماوى” (1 كو 15: 49)؟

فى القيامة يلبس الجسم مجداً، فيصير كجسم السيد المسيح القائم من الأموات، يستطيع أن يخترق الحواجز الأرضية، ويعبر فى الهواء، ويشرق ببهاء منعكس عليه من بهاء المسيح. كأبناء لآدم وُلدنا على شبهه وخضعنا لما خضع له. الآن إذ اتحدنا بالسماوى ننعم بشبهه أيضاً. بقوله: “سنلبس” يوضح أن صورة السماوى أشبه بثوب نرتديه ونختفى فيه، فجسدنا قائم لكنه يحمل طبيعة جديدة مشرقة ببهاء عظيم.

يقول العلامة أوريجينوس: [إن كان أحد لا يزال يحمل صورة الترابى حسب الإنسان الخارجى، فإنه يتحرك بالشهوات الأرضية والحب الزمنى. أما شهوة وحب ذاك الذى يحمل صورة السماوى فى إنسانه الداخلى فهى سماوية. تتحرك النفس بالحب السماوى والاشتياق السماوى، إذ ترى بوضوح جمال كلمة الله وكماله فتسقط إلى الأعماق فى حبه وتتقبل الكلمة نفسه كسهم معين يجرحها بالحب[162]]. ويقول الأب أمبروسياستر: [هذه تعنى أنه كما نحمل الجسد الفاسد الذى لآدم الترابى هكذا فى المستقبل نحمل الجسد غير الفاسد شبه ذاك الذى للمسيح المقام[163]].

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [أن تحمل صورة (السماوى) ليس بالأمر الذى يخص الطبيعة، وإنما هو حسب اختيارنا وسلوكنا[164]]. كما يقول: [قصد بولس هو هكذا: إذ حملنا صورة الترابى، أى الأعمال الشريرة، لنحمل صورة السماوى، طريقة الحياة الفائقة بالسماويات. فإن كنا نتحدث عن الطبيعة، فإننا لا نحتاج إلى نصيحة او حث إذ واضح أنه يتحدث هنا عن أسلوب حياتنا[165]].

ويقول القديس أغسطينوس: [لماذا خلقتنى بهذه الكيفية؟ إن أردت أن تعرف هذه الأمور لا تكن طيناً بل كن ابناً لله خلال رحمة ذاك الذى يعطى المؤمنين باسمه القوة أن يصيروا أبناء الله، وإن كان لم يعطِ بعد هكذا حسبما تريد للذين يرغبون فى معرفة الإلهيات قبل أن يؤمنوا بها[166]].

15. ماذا يعنى الرسول بقوله: “إن لحماً ودماً لا يقدران أن يرثا ملكوت الله، ولا يرث الفساد عدم الفساد” (1 كو 15: 50)؟

يقصد باللحم والدم لا كيان الجسم، بل ما هو مائت وفاسد وكل أثر للخطية عليه بكونه جسدنا الفاسد العاجز أن يتمتع بالملكوت الإلهى وهو على هذه الحال. يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [يقصد بولس بالجسد هنا الأعمال الشريرة المتعمدة. فالجسم فى ذاته ليس عائقاً، وإنما بسبب شرنا لا نقدر أن نرث ملكوت الله[167]]. كما يقول: [يقصد باللحم هنا أفعال الإنسان الشريرة التى يفعلها أيضاً فى موضع آخر، وذلك كما يقول: “وأما أنتم فلستم فى الجسد بل فى الروح” (رو 8: 8 – 9)… الآن إن كان يتكلم عن الجسم فى أى موضع بالفساد، فإنه ليس بالفساد لكنه قابل للفساد. لذلك يكمل فى مقاله عنه فلا يدعوه بالفساد بل بالفاسد، قائلاً: “متى لبس هذا الفاسد عدم فساد” (1 كو 15: 54) [168]].

ويقول القديس جيروم: [ليتنا لا نحتقر الجسم بأية وسيلة، بل نرفض أعماله. لا نحتقر الجسم الذى سيملك فى السماء مع المسيح. لا يقدر جسد ودم أن يرثا ملكوت الله. هذا لا يشير إلى الجسم والدم هكذا بل إلى أعمال الجسد[169]].

ويقول القديس غريغوريوس النزينزى: [سأرى أخرى قيصريوس ليس فى منفى ولا مدفوناً ولا حزيناً ولا يحتاج إلى من يشفق عليه، بل فى بهاء ومجد وسمو[170]].

يقول الرسول بولس: “هوذا سرّ أقوله لكم، لا نرقد كلنا، ولكننا كلنا نتغير” (1 كو 15: 51). يكشف عن سرّ لم يكونوا يعرفونه من قبل، وهو أن ليس كل البشرية تموت، لكنها جميعاً تتغير. هذا ما لم يكن يدركه اليهود. يقول القديس أغسطينوس: [حيث أننا نفهم فى هذه العبارة الرقاد ليس إلا موتاُ، كيف نرقد كلنا أو نقوم إن كان أشخاص كثيرون سيجدهم المسيح فى الجسد لم يرقدوا ولم يقوموا؟ فإن كنا نعتقد بأن القديسين الذين سيوجدون أحياء عند مجئ الرب ويرتفعون لمقابلته فإنه فى ذات صعودهم يتحولون من الموت إلى عدم الموت، فإننا لا نجد صعوبة فى كلمات الرسول. أما عندما يقول: “ما تزرعه ما لم يمت”، أو قوله “سنقوم جميعنا”، “نرقد جميعنا” فإنه حتى القديسون سيحيون إلى عدم الموت بعد أن يموتوا أولاً. باختصار وبالتبعية لن يستثنوا من القيامة التى يسبقها الرقاد. ولماذا يبدو لنا أنه غير معقول ان مجموعة الأجساد يلزم أن تزرع فى الهواء، ويلزم أن يتغيروا من الفساد إلى عدم الفساد، عندما نؤمن بشهادة نفس الرسول أن تتحقق القيامة فى طرفة عين، وأن يتحول تراب الأجساد إلى سمو غير المدرك وخفيف إلى هؤلاء الأعضاء الذين يعيشون إلى ما لا نهاية؟ [171]].

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [(الأحياء عند مجئ الرب) هم أيضاً قابلون للموت. لهذا لا تخافوا لأنكم تموتون كمن لا يقوموا بعد. فإنه سيوجد أيضاً من سيهربون من هذا لكى هذا لن يشبعهم لأجل القيامة، فإنه حتى الذين لا تموت أجسامهم يلزم ان يتغيروا ويتحولوا إلى عدم الفساد… إذ يقول: “نحن” لا يتحدث عن نفسه بل عن أولئك الذين سيوجدون فى ذلك الحين أحياء[172]].

16. ماذا يعنى الرسول بالبوق الأخير؟

يقول الرسول: “فى لحظة فى طرفة عين عند البوق الأخير، فإنه سيبوق، فيُقام الأموات عديمى فساد، ونحن نتغير” (1 كو 15: 52). بقوله “فى لحظة”، يعنى نقطة من الزمن غير قابلة للانقسام، وقوله “فى طرفة عين” يشير إلى ما يكاد يكون فى غير زمن يمكن قياسه، يتحقق هذاكله. بهذا يعبّر عن حدوث القيامة بقدرة إلهية لا تحتاج إلى زمن لإتمامه.

ضرب البوق فى يوم مجئ الرب هو تعليم كتابى ورد فى زكريا 9: 14؛ مت 24: 31؛ يو 25: 5؛ 1 تس 4: 16).

توجد أبواق كثيرة، فقد حدثنا سفر الرؤيا عن الأبواق السبعة التى تُضرب عبر الأجيال حتى مجئ المسيح لتحقيق خطة الله. فى العهد القديم كانت الشريعة تقدم مع صوت بوق (خر 19: 16). وكانت الأبواق تُضرب لكى يتهيأ الكهنة والشعب للاحتفال بالأعياد الكبرى خاصة فى بدء الشهر السابع حيث يشير إلى عيد نهاية العالم وكمال الأزمنة وفى اليوم العاشر حيث عيد الكفارة والخامس عشر حيث عيد المظال احتفالاً بالخلاص من مصر روحياً (مز 50: 1 – 7؛ زك 14: 18 – 19). وعندما أقيم لعازر من الموت تحقق بصوت عظيم (يو 11: 43)، هكذا سيكون البوق الأخير عند مجئ الرب للدينونة (مت 24: 31؛ 1 تس 4: 16).

يقول القديس جيروم: [عند صوت البوق الأرض وكل شعبها يكونون فى رعب، وأما أنتم فستفرحون. العالم سوف يحزن ويتنهد عندما يأتى الرب ليدينه. قبائل الأرض تقرع الصدور. الملوك القادرون يرتعبون فى عريهم. جوبتر مع كل نسله يلتهبون، وأفلاطون مع تلاميذ يظهرون أغبياء، وبراهين أرسطو تصير باطلة. ربما تكون أنت فقيراً قروياً لكنك تتمجد وتضحك قائلاً: “هوذا المصلوب إلهى! هوذا ديانى! [173]].

ويقول القديس أغسطينوس: [بقوله “بوق” يُود أن نفهم بأنه سيكون الأمر جلياً جداً بعلامة مميزة ففى موضع آخر يدعوه صوت رئيس الملائكة وبوق الله (1 تس 4: 16) [174]].

ويقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [يعلمنا الرسول أن التغيير يتم فى لحظة زمن، موضحاً أن هذا الزمن المحدود ليس فهي أجزاء وليس له امتداد، فدعاه “لحظة” و “طرفة عين”. فلا يوجد بعد احتمال لأحد فى لحظة الزمن التى هى الأخيرة… أن ينال بالموت هذا هو التغيير الذى يقيم الأموات. يتغير الذين هم أحياء ليصيروا على شكل الذين نالوا التغيير بالقيامة، أى إلى عدم الفساد. فلا يكون ثقل الجسد بعد قائماً ولا ينزل بهم إلى الأرض بل يرتفعون إلى الهواء، إذ نرتفع على السحاب لمقابلة الرب فى الهواء، وهكذا نكون مع الرب على الدوام[175]].

وأيضاً يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [أما بخصوص وصف الرسول بولس لعجائب القيامة كيف يمكن لإنسان ما أن يعالج هذا الموضع ظاناً أنه يمكنه بسهولة أن يبلغ إليه ويقرأ عنه؟ “كل الأموات” كيف؟ إنه بصرخة… أو بضربة البوق كل الأموات والمنبطحين يتغيرون فى طرفة عين إلى كائنات خالدة[176]].

17. كيف يفقد الموت سلطانه؟

يقول الرسول: “ومتى لبس هذا الفاسد عدم فساد، ولبس هذا المائت عدم موت، فحينئذ تصير الكلمة المكتوبة: أبتلع الموت إلى غلبة” (1 كو 15: 54). لن يبقى سيف الموت متسلطاً على البشرية، لكنه سيتحطم أمام الأبدية الخالدة. هنا يُشخصن الموت ويقدمه ككائن مفترس يبتلع البشرية فى كل أجيالها، ولكن بقيامة الجسد وانهيار مملكة الموت يُبتلع الموت نفسه فتحطمه الأبدية. يملك الله ولا يكون للموت بعد وجود. حقاً إن جسدنا فى العالم تحت سيفه القاتل حتى تتحقق القيامة، فلا يعود لشوكته وجود ولا يكون له بعد أى سلطان. يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [أى أنه يتحطم بالكامل وليس جزء منه يبقى أو يترجّى العودة، لأن عدم الفساد يُبيد الفساد[177]].

يقول الرسول: “أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا (قبر) هاوية” (1 كو 15: 55). يُشخصن الرسول الموت والهاوية، فيجعل للموت شوكة على البشرية، ليس من يفلت من إمبراطوريته.

يُصور الموت فى النقوش القديمة بهيكل عظمى يحمل إكليلاً على الجمجمة وبيده حرية يقتل بها الكل. ويصورون اليهود ملاك الموت حاملاً سيفاً تتساقط منه قطرات قاتلة تنزل فى أفواه كل البشر.

كثيراً ما تستخدم كلمة “قبر” عوض الهاوية، بكونه الموضع الذى تنفصل النفوس عن الأجسام البشرية. يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [أنتم ترون ما يُعلن عن عمله فى الآخرين، فالذين أوشكوا على الموت، الطفل الذى كاد حالاً أن يفقد الحياة، والشاب الذى على باب القبر، الذين لهم الفساد يتجدّدون بأمر واحدٍ للحياة. هل تبحثون عن أولئك الذين ماتوا خلال جراحات وسفك دماء، كل ضعف القوة الواهبة للحياة تمنعهم عن التمتع بالنعمة؟ تطلّعوا إلى ذاك الذى جرحت يداه بالمسامير، تطلّعوا إلى ذاك الذى طعن جنبه بحربة. ضعوا أصابعكم على آثار المسامير وأياديكم فى موضع الحرية… إن كان قد قام فإننا حسناً ننطق بتسبيح النصرة التى نطق بها الرسول الخاصة بالأموات! [178]].

ويقول البابا أثناسيوس: [عندما يكون الجسد فى تناغم مع العقل، ويُبتلع الموت فى غلبة، فلا تبقى بعد شهوات جسدية فى العقل لتصارع، وعندما يعبر الصراع الذى على الأرض، تنتهى حرب القلب، وينتهى ما قيل عنه: “الجسد يشتهى ضد الروح، والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون” (غلا 5: 17) [179]]. كما يقول: [الإنسان بالطبيعة يخشى الموت وانحلال الجسد. ولكن توجد حقيقة مدهشة أن الذى يلبس الإيمان بالصليب يحتقر حتى ما هو مُرعب بالطبيعة ومن أجل المسيح لا يخاف الموت[180]].

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [عدم الفساد يبتلع الفساد ولا يترك شيئاً من الحياة الماضية خلف ذلك[181]]. كما يقول: [هل ترون سمو نفسه؟ كيف أنه مثل إنسان يقدم ذبيحة على رجاء النصرة هكذا كان بولس قد أوحى له أن يرى الأمور العتيدة كأمور قد حدثت فعلاًن فيثب وهو يطأ الموت كما لو كان ساقطاً تحت قدميه. وينطلق بصرخات النصرة على رأس الموت حيث يسقط صارخاً بقوة وتهليل: “أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا قبر؟” لقد ذهب الموت، لقد انتهى وزال. فإن المسيح ليس فقط جرد الموت من سلاحه وغلبه بل وحطمه ولا يعود بعد له وجود قط! [182]].

يقول القديس أغسطينوس:

[أين هو الموت؟ ابحث عنه فى المسيحن فإنه لا يعود يوجد. لو وُجد، فإن الموت قد مات الآن. يا الله أيها الحياة، يا قاتل الموت! لنكن بقلب صالح، فيموت الموت فينا أيضاً. ما قد حدث مع رأسنا سيحدث مع أعضائه. سيموت الموت فينا أيضاًز ولكن متى؟ فى نهاية العالم، فى قيامة الأموات التى نؤمن بها والتى لا نشك فيها[183]].

[عندئذ ليس فقط أننا سوف لا نطيع أية إغراءات للخطية، وإنما سوف لا توجد مثل هذه الأغراءات من النوع التى أوصينا إلا نطيعها[184]].

[من أجل الأنشطة الضرورية لهذه الحياة لا تُحتقر الصحة حتى يلبس هذا المائت عدم الموت. هذه هى الصحة الحقيقية الكاملة التى لا تنتهى، هذه التى لا تنتعش بالملذات الفاسدة عندما تفشل خلال الضعف الأرضى، وإنما تتأسس بقوة سماوية، وتصير شابة بعدم الفساد الأبدى[185]].

[إذ خضعت الطبيعة البشرية لعدو… يليق بالإنسان أن يخلص من سلطانه ليجد نفسه. عندئذ إن كانت حياته فى هذا الجسد ممتدة فإنه يُعان فى صراعه حتى يغلب العدو. وأخيراً فإن المنتصر سوف يتجمل لكى يملك، وفى النهاية عينها يتساءل: “أين فريستك يا موت؟ [186]”].

18. ما هى شوكة الموت؟

يقول الرسول: “أما شوكة الموت فهى الخطية، وقوة الخطية هى الناموس” (1 كو 15: 56). لو توجد الخطية ما وجد الموت. عصيان الإنسان عزله عن الله مصدر الحياة، فخضع لسلطان الموت وشريعته الظالمة. وبدون الناموس ما كان يمكن أن نميز الخطية (رو20، 3؛ 4: 15؛ 5: 13). أعطانا الناموس الفرصة لكشف ما نحمله فى داخلنا من عصيان لمشيئة الله فعاشت الخطية فينا.

الخطية هى والدة الموت، إذ بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وصار الموت بالخطية (رو 5: 12). يقول القديس كيرلس الأورشليمى: [تحطيم المعمودية شوكة الموت. فإنكم تنزلون إلى المياه مثقلين بخطاياكم. ولكن دعوة النعمة تهب نفوسكم هذا الختم، فلا تعود تقودكم لكى تُبتلعوا بالتنين الرهيب. تنزلون أمواتاً فى الخطية، ولكنكم تصعدون أحياء للبر[187]].

ويقول القديس أغسطينوس: [المنع (بالناموس) دائماً يزيد الرغبة الخاطئة مادام الحب والفرح فى القداسة ضعيفان غير قادرين على الغلبة على الميل للخطية. لهذا بدون معونة النعمة الإلهية يستحيل للإنسان أن يحب القداسة ويبتهج فيها[188]].

كما يقول: [عندما تمنع الشريعة (أمراً ما) نخطئ بأكثر خطورة مما لو أننا لم نمنع بواسطتها. على أى الأحوال، إذ تحل النعمة تتمم الناموس بدون صعوبة وبأكثر رغبة عما لو ضغط الناموس نفسه أن نفعله. لم نعد بعد عبيداً للناموس خلال الخوف، بل صرنا أصدقاء خلال الحب وعبيداً للبرّ الذى كان نفسه المصدر لما أعلنه الناموس[189]].

ويقول: [عندما يلبس هذا الفاسد عدم الفساد، وهذا المائت عدم الموت، يعبّر عن القول المكتوب: “قد أبتلع الموت فى غلبة. أين غلبتك يا موت؟” بحق “أين شوكتك يا موت؟” إنك تبحث عن موضعه فلا تجده. ما هى شوكة الموت؟ ماذا “أين شوكتك يا موت؟ أين الخطية؟ انت تبحث عنها وليس لها موضع، لأن شوكة الموت هى الخطية. هذه كلمات الرسول لا كلماتى. عندئذ يُقال:” أين شوكتك يا موت؟ “لا تعود توجد الخطية لكى تُدهشك، ولا لكى تحاربك، ولا لكى تلهب ضميرك[190]].

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [لأن بدون الناموس الخطية ضعيفة، فإنها وإن كانت تمارس بدونه لم يكن إدانتها بالكامل. ومع أن الشر صار له موضع، لكن لم يُشر إليه بوضوح هكذا. لهذا فإن الناموس سبب تغييراً ليس بقليل. أولاً جعلنا نتعرف على الخطية بطريقة أفضل وقد العقوبة… نعم لكى يظهر أن الناموس ليس فى ذاته يهب الخطية القوة، لذلك أكمل المسيح الناموس كله وكان بلا خطية[191]].

19. كيف ننال النصرة على الخطية والموت؟

يقول الرسول: “ولكن شكراً لله الذى يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح” (1 كو 15: 57). حياة النصرة تهب المؤمن حياة شكر لله. وكأن قيامة الرب تُعد الإنسان لتقديم ذبيحة شكر مقبولة لدى الله.

لن يمكن تحقيق النصرة بأنفسنا (مز 89: 1)، إنما هى عطية ربنا يسوع المسيح لنا.

يقول أمبروسياستر: [لم يربح المسيح النصرة لأجل نفسه بل لنفعنا. فإنه إذ صار إنساناً بقى هوالله، وغلب الشيطان. فإن ذاك الذى لم يخطئ قط اقتنى النصرة لأجلنا نحن الذين كنا مربوطين فى الموت بسبب الخطية. موت المسيح غلب الشيطان، الذى التزم أن يسلم كل الذين ماتوا بسبب الخطية[192]].

ويقول القديس أغسطينوس: [لئلا نفعل ما هو مُسر بطريقة غير شرعية، ولئلا فى هذه المعركة نعانى من متاعب ومخاطر كثيرة بأن نترجى النصرة الأكيدة بقوتنا الذاتية أو ننسبها عند تحقيقها إلى قوتنا، لا إلى نعمة ذاك الذى يقول عند الرسول: “شكراً لله الذى يهبنا الغلبة بيسوع المسيح ربنا” [193]].

ويقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [لقد أقام بنفسه الغلبة، لكنه أعطانا أن نشترك نحن لننال الأكاليل، وذلك ليس على سبيل دين بل من قبل الرحمة وحدها[194]].

يختم الرسول حديثه عن قيامة الأموات، قائلاً: “إذا يا إخوتى الأحباء كونوا راسخين غير متزعزعين، مكثرين فى عمل الرب كل حين، عالمين أن تعبكم ليس باطلاً فى الرب” (1 كو 15: 58). إذ يهبنا الإيمان بقيامة المسيح الغلبة على الخطية نقدم ذبيحة شكراً لا بالكلام فحسب، إنما أيضاً بحياة مثمرة فى الرب. يدعونا الرسول للسلوك بالحياة المُقامة كعربون للتمتع بالحياة الأبدية. يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [إن كانت الغلبة عطية إلهية فبقوله: “كونوا راسخين” يؤكد ثقة المؤمن فى نفسه أنه بالنعمة يثبت ويكون راسخاً فى إيمانه، لا يقدر أحد مهما كان مركزه أو قدراته أن يُزعزعه. يليق بنا ليس فقط ان نجاهد فى الرب، بل أن نفعل ذلك بغنى وبفيض. جهاد الإنسان بعد طرده من الفردوس هو عقوبة من أجل معاصيه، ولكن الجهاد (بالنعمة) أساس المكافآت العتيدة[195]].

فاصل

من كتاب كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ7 – الأخرويات والحياة بعد الموت – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى

زر الذهاب إلى الأعلى