الثروة والأغنياء فى الإيمان المسيحى
1 – هل للمؤمن حق الملكية الخاصة؟
يصف القديس لوقا البشير حال الكنيسة فى عصر الرسل، قائلاً: “وجميع الذين آمنوا كانوا معاً وكان عندهم كل شئ مشتركاً” (أع2: 44)، كما قال: “وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة ولم يكن أحد يقول إن شيئاً من أمواله له، بل كان عندهم كل شئ مشتركاً” (أع4: 32). فهل منعت الكنيسة حق الملكية الخاصة، إذ خلال هذا الحق تظهر عدة طبقات مثل الأغنياء ومتوسطى الحال والفقراء والمعدمين تماماً.
فى العهد القديم نجد إبراهيم أب كل المؤمنين كان غنياً جداً (تك13: 2)، لكنه عُرف بحبه لاستضافته الغرباء، كما اتسم بالعطاء حتى قدم ابنه ذبيحة حب لله، هذا بجانب تواضعه ووداعته. وفى العهد الجديد انتقد السيد المسيح الغنى الغبى، ليس لأنه غنى، وإنما لأنه كان متكلاً على المال لا على الله (لو12: 20). كما انتقد ا لغنى الذى لم يُبال بلعازر الفقير، ليس من أجل غناه، وإنما من أجل قسوة قلبه وعدم مبالاته بالفقير. وانتقد الرسول يعقوب الأغنياء من أجل ظلمهم للعمال الأجراء (يع5: 4)، كما انتقد الكنيسة متى سلكت فى محاباة للأغنياء (يع2: 1 – 6). لا ننسى أن الرب قبل تقدمة يوسف الرامى الغنى حين قدم قبره كى يدفن فيه جسده. والكنيسة فى ليتورجياتها تصلى للأغنياء كما للفقراء. جاء فى قداس القديس غريغوريوس: [رحمة للتائبين، صلاحاً للأغنياء. وداعة للفضلاء، معونة للمساكين]. يربط القداس الإلهى الأغنياء بالتوبة، ليعلن عن حاجتهم كإخوتهم لحياة التوبة، ويربط الفقراء بالفضلاء، ففضيلتهم ليست الفقر بل السلوك الروحى فى المسيح يسوع.
2 – هل الملكية الخاصة شرّ؟
لم يدن آباء الكنيسة الملكية الخاصة، إنما أدانوا إساءة استخدامها وإفسادها. يقول هرماس (من الآباء الرسوليين): [استخدم مالك كما يتطلب حالك فى الحياة، ليُسبب لك سعادة. لا تسلب ولا تطمع فى ما لغيرك بأية وسيلة[336]]. وأبرز القديس إكليمنضس السكندرى بركات ملكية الثروات متى استخدمت فى مساندة المحتاجين. وأن الثروة لا تُستخدم لتمتعنا الفارغ، وإنما للصالح العام[337]. وقرر لكتانتيوس أن العدالة الكاملة تكمن فى استخدام الثروة، لا للمتعة الشخصية، وإنما لمصلحة الكثيرين[338].
فى أواخر القرن الرابع إذ ساء حال الكثيرين اقتصادياً واجتماعياً، هاجم بعض الآباء بقوة لا الملكية الخاصة، وإنما تجميع هذه الثروات بطريقة مُبالغ فيها على حساب الآخرين، كما هاجموا أسلوب الحياة المترفة مع عدم المبالاة بالفقراء، لكنهم لم يرفضوا الملكية الخاصة ولا هاجموها.
أ. يتطلع الآباء إلى الملكية، لا بكونها امتلاك بل إدارة الأموال كوكلاء أمناء[339].
ب. يُميزون بين الملكية الخاصة واشتهاء ما للغير.
ج. يرى القديس أغسطينوس أن المؤمن العاجز عن التنازل عن ممتلكاته يلزمه التنازل عن حُبه لها[340]. ويعتبر العلامة أوريجينوس ان الطمع صورة من صور الوثنية. ويرى القديس كبريانوس فى الجشع عبودية للأموال، وحرمان من حرية أولاد الله[341]. ويرى القديس يوحنا الذهبى الفم أن الإنسان البخيل يعبد المال، وله أن يختار بين عبادة شيطان المال والسيد المسيح[342].
د. يرى القديس غريغوريوس النيسى مع قبولنا حق الملكية الخاصة يلزمنا ألا نؤيد هذا الحق بطريقة مطلقة، إذ يجب على المؤمن أن يضع فى الاعتبار قوة الله وحق الآخرين فى المشاركة. فالملكية الخاصة لها دورها الروحى كما لها عملها الاجتماعى. أما التفاوت الشاسع بين الطبقات فى نظره فنابع لا عن حق الملكية الخاصة، بل عن أنانية الإنسان وافتقاره إلى الضمير الإنسانى.
ﮪ. يُميز القديس يوحنا الذهبى الفم بين مجموعتين من الممتلكات، الممتلكات العامة قدمها الله لكل البشرية كالهواء والشمس والمياه الخ. وهى أمور أساسية وضرورية للحياة، ليس لأحد أن يدعى ملكيته الخاصة لها. أما الأمور غير الضرورية فسمح أن تكون ملكية خاصة كالذهب والفضة والحجارة الثمينة الخ. حتى يمارس الأغنياء حبهم للفقراء، ويقدم الفقراء شكرهم للأغنياء.
3 – هل تهاجم الكنيسة حق الإنسان فى الملكية خاصة؟
اعتادت الكنيسة فى معالجتها للأمور أن تُقدم الجوانب الإيجابية قبل مهاجمتها، فتحث على الحب قبل مهاجمتها للكراهية والحقد والحسد. وإذ نشأت المجتمع الكنسى حثت على حياة الشركة والعطاء بسخاء ولم تهاجم حق الإنسان فى الملكية خاصة. اهتمت بطريقة استخدام المؤمنين للممتلكات فيما هو لبنيان الجماعة وسعادة الأفراد فى الرب.
يرى القديس أمبروسيوس أن كل شئ خُلق للاستخدام العام، ويحق لكل شخص أن يتمتع بخيرات الأرض. وأن الملكية الخاصة تخلق عدم مساواة[343].
فى نظر القديس أغسيطينوس، الإنسان التقى يُميز بين استخدام الشئ والتلذذ به. فستخدم ما يلزم استخدامه، ويتمتع بما يلزم التمتع به، دون الخلط بينهما، إذ يقول:
[أن نتمتع بأى شئ يعنى أن نلتصق به بقوة لأجل الشئ فى ذاته. وأما أن نستخدم شيئاً فهو أن نوظف ما نناله، لنحصل على ما نحتاج إليه، بشرط أن يكون من الائق بنا أن نحتاجه[344]].
[لا تظن أن الفضة أو الذهب يجب أن يُلاماً بسبب الجشعين، ولا الطعام والخمر بسبب النهمين والسكارى، ولا الجمال النسائى بسبب الزناة والفاسقين. وهكذا فى كل الأمور الأخرى، خاصة حينما ترى طبيباً يستخدم ناراً بطرقة صالحة بينما قاتل يستخدم خبزاً به سم لتنفيذ جريمته[345]].
[إذ فقد أيوب كل غناه وبلغ إلى أقصى الفقر، احتفظ بنفسه غير مضطربة غير مضطربة، مُركز على الله ليظهر أن الأمور الأرضية ليست بذات قيمة فى عينيه، بل كان هو أعظم منها، والله أعظم منه. فلو أن أناس أيامنا هذه لهم ذات الفكر، لما كنا قد مُنعنا بإصرار فى العهد الجديد من امتلاك هذه الأشياء لكى ما نبلغ الكمال. لأن امتلاكنا مثل هذه الأشياء دون التعلق بها لشئ جدير بالثناء أكثر من عدم امتلاكها نهائياً[346].
يرى القديس أغسطينوس أنه يليق بنا أن نستخدم ما لدينا ولا ندعها تستخدمنا، أو كما يقول: “امتلك الزمنيات ولا تدعها تمتلكك”. فمن كلماته فى هذا الأمرك [يوجد فى الكنيسة الجامعة عدد ضخم من المؤمنين لا يستخدمون الخيرات الدنيوية، ويوجد آخرون يستخدمونها وكأنهم لا يستخدمونها، كما قال الرسول (1كو7: 31). هذا ظهر عندما ألزم المسيحيون على عبادة الأوثان فى وقت ما، فكم من أثرياء وأصحاب بيوت وتجار وجنود، وكم من قادة مدنيين وأشراف، من كلا الجنسين تعذبوا من أجل الإيمان والتقوى، تخلوا عن كل تلك الخيرات الباطلة الزمنية التى كانوا يستخدمونها، ولكنهم لم يُستعبدوا لها. بهذا أثبتوا لغير المؤمنين أنهم امتلكوا هذه الأشياء دون أن تمتلكهم[347]]. كما يقول: [أية راحة يُمكن لهذه (الممتلكات) أن تجلبها، عندما يكون من الأفضل ألا نحتاج إليها من ألا نتمسك بها؟ وعندما يُعذبنا الاشتياق الشديد لامتلاكها بل ويكون العذاب أعظم من الخوف بأن نفقدها بعد أن نمتلكها؟ ليس بمثل هذه الممتلكات يصير الناس صالحين، وإنما بعدما يصيرون صالحين يجعلون هذه الأشياء صالحة باستخدامها بطريقة صالحة. لذلك لا توجد راحة صادقة فى هذه الأشياء، بل بالأحرى توجد الراحة حيث توجد الحياة الحقيقية. وسعادة الإنسان تأتى بالضرورة من ذات مصدر صلاحه[348]]. [على الرغم من امتلاك (بعض) المسيحيين الأغنياء ثروات، لكنها لا تمتلكهم، لأنهم بالحق تخلوا عن العالم فى قلوبهم، ولا يلقون رجاءهم على مثل هذه الممتلكات. إنهم يستخدمون نظاماً سليماً فى تدريب زوجاتهم وأبنائهم وكل أهل بيوتهم أن يتمسكوا بالدين المسيحى، تفيض بيوتهم بكرم الضيافة… ويُقدمون خبزاً للجائعين، ويكسون العرايا، ويفتدون الأسرى، مدخرين لأنفسهم أساساً حسناً للمستقبل لكى يتمسكوا بالحياة الأبدية (1تى6: 19) [349]]. [إن أردنا أن نرجع إلى بلدنا الأصلى حيث توجد سعادتنا، يلزمنا أن نستخدم هذا العالم، لا أن نتمتع به، لكى ما نرى “أمور الله غير المنظورة مُدركة بالمصنوعات” (رو1: 20). بمعنى أننا ندرك الأبدى الروحى من خلال ما هو جسدى وقتى[350]].
4 – لماذا توجد أشياء ملكية عامة وأخرى خاصة؟
يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [ماذا يعنى الرسول عندما يقول: “بل على الله الحى الذى يمنحنا كل شئ بغنى للتمتع” (1تى6: 17)؟ يعطينا الله بفيض كل الأشياء الضرورية أكثر من المال مثل الهواء والماء وأشعة الشمس والأشياء التى من هذا النوع. ومع ذلك لا يمكن القول إن الغنى لديه أشعة شمس أكثر من الفقير، ولا يمكن القول إن الغنى يتنفس هواء أكثر من الفقير. كل هذه الأشياء مُتاحة للكل بطريقة مشتركة بالتساوى. لماذا خلق الله الأشياء الأعظم والأهم، تلك التى تمدنا بالحياة، مشتركة للجميع، بينما الأشياء الأقل والدنيئة جداً أى المال ليس مشاعاً للناس. هذا هو ما أود أن أسأله. لكى يصون حياتنا ويفتح أمامنا طريق الفضيلة، ومن ناحية أخرى لو لم تكن ضروريات الحياة مشتركة، لاستولى عليها الأغنياء بطمعهم المعتاد، وحرموا منها الفقراء. لأنهم إن كانوا قد فعلوا هذا مع الأموال، فكم بالأحرى كانوا يفعلون ذات الأمر مع هذه الأشياء. ومن ناحية أخرى لو كان المال مشاعاً ومتاحاً للجميع، لما كانت توجد فرصة لتقديم الصدقات، ولما وُجد حافز لعمل الخير[351]]. كما يقول [أخبرنى من أين جاءت ثروتك؟ ممن؟ من جدى، ومن والدى. هل يمكنك أن تصعد إلى عدة أجيال وتثبت لى أن ثروتك شرعية؟ كلا! لا تستطيع ذلك. إذ يجب أن تبلغ إلى المصدر، وأن يكون غير ملوثٍ بالظلم. وكيف؟ لأن الله هو مصدر الأصل، وهو لم يخلق غنياً وفقيراً، ولم يعطِ أحداً كتلة من ذهب فى غفلة من الآخر، بل سلّم الجميع نفس الأرض. وإن كانت الأرض مشاعة، فكيف يمتلك الواحد الكثير من المساحات والآخر لم يحصل حتى على قطعة واحدة، تجيب أبى قد نقلها إلىّ. وممن هو استلمها؟ من أسلافه. غير أنه يجب الرجوع حتى تعرف البداية. يعقوب أصبح غنياً، لكن بالحصول على مكافأة المشاق التى تحملها. ومع ذلك لا أريد البحث فى هذه المصاعب، إن كانت الثروة نقية من كل سلبٍ أو غير مشروعة، فأنت غير مسئول عما ورثته من مكاسب غير مشروعة عن والدك… فإن كان صاحبها لم يحصل عليها ظلماً، وأعطى جزءً منه اللمحتاجين، لكنه إن رفض ذلك تكون الثروة رديئة ومملوءة بالفخاخ. لكن طالما لا تُسبب شراً فهى ليست رديئة حتى ولو لم تكن سبباً للخير. فليكن! أليس الشر هو الانفراد بأخذ ما يخص الله، والاستمتاع الفردى الأنانى بما يخص الجميع؟ أليست الأرض ملكاً لله؟ ثرواتنا تخص ربّ العالم فهى تخص البشر الذين يخدمون مثلنا، فإن كل ما يخص السيد هو لاستعمال الجميع[352]].
5 – هل الملكية الخاصة ليست مطلقة!
يقول القديس باسيليوس الكبير: [تذكر نفسك – من أنت؟ على أية وكالة أنت؟ ممن استلمتها؟ ولماذا فُضلت على الكثيرين؟ لقد جُعلت كاهناً (خادماً) لإله رؤوف، وكيلاً على العبيد زملائك. فلا تظن إذن أن كل هذه الأمور قد قٌدمت لك لأجل بطنك. الثروة التى فى يديك تخص الآخرين، فكر هكذا. لنتبهجك طويلاً، إذ سرعان ما تُسحب منك وتذهب عنك، وتُسأل أن تعطى حساباً دقيقاً عنها. فإن وضعتها خلف الأبواب وخبأتها، فالتفكير فيها يجعلك لا تنام بالليالى[353]].
6 – ماذا يعنى الاهتمام بالصالح العام؟
يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [هذا هو قانون كمال المسيحية الأعظم، ومفهومها فى أكثر دقة، وعلى أعلى مستوى، أعنى طلب الصالح العام. يُقرر بولس نفسه هذا إذ يقول: “(كونوا متمثلين بى) كما أما أيضاً بالمسيح” (1كو11: 1). ليس ما يجعلنا متمثلين بالمسيح أكثر من اهتمام الإنسان بإخوته، فإنك وإن كنت تصوم أو تفترش أرضاً، أو تتعرض للموت، ولا تفكر فى أخيك لست تفعل شيئاً عظيماً. على الرغم من كل ما تفعله، فإنك لا تزال تقف بعيداً عن مثال المسيحى الكامل[354]].
ويقول القديس باسيليوس الكبير [فى العلاقات، الاجتماعات والحياة المشتركة يتضح ضرورة ميل الإنسان لمشاركة ممتلكاته فى مساعدة المحتاجين. “من سألك فأعطه” (مت5: 42). يطلب الرب منا أن نكون مستعدين أن نعطى من يسألوننا لأجل الخير وأن نفكر فى ا حتياج كل واحد يسألنا[355]]. كما يقول: [اقتد بالأرض، أثمر كما هى تثمر! هل مكانتك البشرية أقل شأناً مما لا حياة فيه؟ فالأرض تأتى بثمر لا لمسرتها ولكن لخدمتك، فتستطيع أنت أن تحصد لنفسك ثمار الكرم، لأن مكافأة الأعمال الصالحة ترجع إلى الذين يؤدونها. فإن أعطيت الجائعين تصبح العطية ملكاً لك، وترجع إليك بما هو أكثر. وكما أن الحنطة التى تسقط على الأرض تتحول لنفع الإنسان الذى تركها تسقط، هكذا أيضاً الحبوب التى تُقدمها للجائعين تجلب لك ربحاً مائة ضعف فيما بعد. اجعل نهاية الزراعة (الحصاد) بداية لبذر الحب السماوى. يقول الكتاب المقدس: “ازرعوا لأنفسكم بالبر” (هو10: 12) [356]].
7 – ما هى نظرة المؤمن للمقتنيات الخاصة؟
يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [الثروة ليست ملكاً لنا، إنها ليست مقتنيات، بل هى قرض للاستخدام. كيف تزعم بأنها مقتنيات بينما عندما تموت – أردت أو لم ترد – يذهب كل شئ إلى آخرين، وهم بدورهم يتركونه لآخرين مرة أخرى. فكلنا رحل… الملكية فى الواقع ليست إلا كلمة، فكلنا نملك لكن لكى يقتنيها أناس آخرون… فالثروة ليست ملكنا، والمقتنيات ليست مملتكات بل هى قرض. الفضيلة وحدها قادرة أن ترحل معنا وترافقنا فى العالم العلوى[357]]. كما يقول: [أليست الأرض وملؤها لله؟ فإن كانت ممتلكاتنا تخص الرب الذى هو عام للكل، فهى أيضاً تخص العبيد رفقاءنا. ممتلكات الرب عامة للكل[358]].
8 – لماذا لا يستريح بعض الآباء للكلمتين: لى ولك؟
يرى القديس باخوميوس أب الشركة أن هاتين الكلمتين تفسد الدير والحياة الرهبانية. ويقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [لاحظ كيف أنه لا يوجد نزاع على الأشياء المشتركة، بل الكل يستخدمها فى سلام. لكن بمجرد محاولة أحد أن يقتنى شيئاً، ويجعله حكراً له، يظهر النزاع. كما لو كانت الطبيعة نفسها تحتج على هذا التصرف. فبينما يجمعنا الله بكل وسيلة، نسعى نحن لننقسم وننفصل عن بعضنا البعض، وذلك عن طريق تخصيص أشياء مع استخدام الكلمتين الباردتين “لى ولك”. عندئذ تظهر الصراعات والبغضة، وحيث لا يحدث هذا لا يظهر نزاع أو صراع[359]].
9 – كيف نكون أمناء فى الأرضيات؟
أولاً: أن نستخدمها من أجل نوال الخيرات الأبدية. يقول القديس أغسطينوس: [كل إنسان يستخدم هذه الخيرات بطريقة سليمة يجدها قد خُلقت لتخدم الإنسان لكى ينال خيرات أوفر وأفضل، أى ينال سلام الخلود والمجد والكرامة فى حياة أبدية، مُتمتعاً بالله. أما من يُسئ استخدام هذه الخيرات الأرضية، فسيفقدها، ومن ثم لا ينال عطايا السماء الفضلى! [360].
ثانياً: لا نخشى الغنى بل الجشع. يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [لنتعلم من دروس الحكمة الحقيقية ونقول إننا لا نمنع طلب الغنى، وإنما نمنع الثروات المكتسبة بطريقة غير مشروعة. فإنه لأمر شرعى أن تكون غنياً، لكن بدون طمع ولا نهب ولا عنف، وبدون سمعة رديئة لدى كل الناس[361]].
ثالثاً: العمل لحساب الصالح العام. يقول القديس يوحناالذهبى الفم: [يلزم كل واحد أن يستخدم بالكمال كل ما لديه لأجل الصالح العام. فإن كان لديك حكمة أو قوة أو غنى أو أى شئ آخر، فلا يكون ذلك لدمار العبيد زملائك ولا لدمارك أنت[362]]. كما يقول: [من أين يأتى التباين الكبر فى أحوال الحياة؟ من طمع الأغنياء وغطرستهم[363]].
رابعاً: عدم إساءة استخدام الملكية. يقول القديس أغسطينوس: [فى هذه الحياة يمكن أن يُحتمل ظُلم الملاك الأشرار، كما تُشرع ما تُدعى بالقوانين المدنية فى مواجهتهم، ليس لكى تُلزم الناس أن يستخدموا ثرواتهم حسناً، وإنما ليُحجموا من الضرر الذى يقع على الغير من الذين يسيئون استخدامها[364]].
ويقول القديس أمبروسيوس: [فى البدء كانت الأرض للجميع مشاركة، خُلقت للأغنياء والفقراء على السواء. فأى حق لكم إذن فى احتكارها؟ لاتعرف الطبيعة شيئاً عن الغنى. فالجميع عندما ولدوا كانوا فقراء، بلا ثياب ولا ذهب أو فضة أو طعام أو شراب أو غطاء. لقد وُلدنا بدون هذا كله. وتتقبل (الأرض) أبناءها فى القبر عرايا، ليس من تصحبه أرضه معه، بل تكفى قطعة صغيرة منها للفقراء والأغنياء. الأرض التى تبدو ضيقة للغاية أمام شهوات الأحياء تصير واسعة جداً فى النهاة بالنسبة للغنى وما لديه (عند دفنه) [365]]. كما يقول: [أفاضت الطبيعة بكل الأشياء للجميع للمشاركة فى استخدامها. أمر الله نفسه أن تُنتج كل الأشياء لكى يتوفر الطعام للجميع بالتشارك، وأن تكون الأرض نوعاً من الملكية المشتركة للجميع. أعطت الطبيعة حقاً مشتركاً للجميع، لكن الطمع جعلها حقاً لفئة قليلة، وحكراً لها[366]]. [خلق العالم للجميع، لكن حفنة من الأغنياء يحاولون أن يجعلوه حكراً لهم[367]].
10 – كيف عالج الإيمان المشاكل الاقتصادية البشرية؟
مع انتشار المسيحية بسرعة فائقة جاء الحلّ لهذه المشاكل، لا خلال قوانين مدنية مُلزمة، وإنما خلال مفاهيم إيمانية تعمل فى القلب والفكر، ليهتم كل مؤمن – كما الكنيسة أيضاً كجماعة – بالفقراء والأرامل والأيتام والذين يتعرضون لمتاعب مالية ومجاعات. الاهتمام بالخلاص الأبدى والحب الصادق للإنسان نحو إخوته قدم حلولاً عملية، كما يشهد بذلك سفر أعمال الرسل ورسائل القديس بولس، حيث كانت الكنائس تهتم أن تجمع لفقراء أورشليم الذين تعرضوا لمجاعة. المشاركة فى الممتلكات كانت إحدى الملامح الرئيسية للحياة الكنسية كعلامة من علامات الحب الأخوى والوحدة[368].
يقول القديس إكليمنضس السكندرى: [خلق الله كل شئ لكل أحد. لهذا فإن كل الأشياء ملكية مشاعة، فليت الأغنياء لا يدعون بأن لهم الحق فى أخذ ما هو أكثر من غيرهم. أعطانا الله السلطة أن نستخدم ثروته، لكن حسب الضرورة، وهو يريدنا أن نستخدمها مشاعاً للكل. فمن الظلم أن يقيم شخص وليمة ويتمتع، بينما يعيش كثيرون فى فقر[369]].
إن كان الأغنياء يفتخرون بممتلكاتهم، فإنها يوم تُنزع عنهم لا يختلفون فى شئ عن عبيدهم وجواريهم، وإنما غالباً ما يكون هؤلاء السادة أضعف منهم صحياً. لهذا لا تعجب إن سمح الله لخدامه الأمناء أحياناً بالاحتياج. يقول القديس إكليمنضس السكندرى: [لننزع عن النساء الشريفات زينتهن وعن السادة عبيدهم، فستلاحظ أن هؤلاء لن يختلفوا بأى شكل عن العبيد الذين يُشترون بالمال، ولا فى طريقه المشى ولا فى الملامح ولا فى أحاديثهم. وإنما يشبهون فى كل شئ من هم خاضعين لهم. وإن اختلفوا عنهم فى شئ، إنما فى أنهم أضعف فى البنية وأقل قوة من الآخرين (العبيد)، لأنهم نشأوا نشأه مترفة تعرضهم للمرض[370]].
11 – ما هى إمكانية خلاص الغنى؟
إذ يتحدث القديس أغسطينوس عن مثل الغنى الغبى ولعازر الفقير، يوضح أن لعازر حملته الملائكة إلى حضن إبراهيم، الذى قيل عنه أنه كان غنياً جداً (تك13: 2)، بينما ذهب الغنى البخيل إلى الجحيم. لم يكن الفقر هو المؤهل للعازر للتمتع بحضن إبراهيم، ولا الغنى هو علة هلاك الغنى، إنما تقوى الأول ورضاه، وجشع الثانى وقسوة قلبه وبخله، وإلا ما كان يُدعى حضن إبراهيم الغنى جداً (لو16: 22) رمزاً للتمتع بملكوت لله. يقول القديس أغسطينوس: [مع أن الغنى جداً الذى كان يرتدى الأرجوان والكتاب الفاخر ويقيم ولائم يومية مُبالغ فيها مات وتعذب فى الجحيم، إلا أنه لو كان قد أظهر رحمة للفقير الذى كانت تغطيه القروح، لوجد رحمة. ولو أن استحقاق الفقير هو فقره وليس صلاحه، بالتأكيد ما كانت قد حملته الملائكة إلى حضن إبراهيم الذى كان غنياً فى هذه الحياة. المقصود هنا أن يظهر لنا أنه من جانب لم يكن الفقر فى ذاته هو ما وهبه كرامة إلهية، ومن الجانب الآخر لم يكن الغنى فى ذاته قد دين إنما هذه هى نتائج تقوى أحدهما وشر الآخر[371]].
يقول القديس إكليمنضس السكندرى إنه يليق بنا ألا نجعل أمور بيوتنا حملاً يثقل علينا. وكما يفعل المسافر الذكى الحكيم، لنضع الأمور فى نصابها بقدرها الحقيقى، فالزوجة المُحبة لزوجها، لا تجهز للسفر أكثر مما لاحتياجات الرحلة. الزهد والقناعة هما ذخر للمسافر فى رحلته نحو السماء. وكما ان القدم هى التى تُحدد مقاس الحذاء، كذلك الجسد هو الذى يحكم ما على الإنسان أن يملك ويقتنى[372]. كما يقول: [إن كان الإنسان غنياً، يمكن أن يكون غناه سبباً لخلاصه، إن وزع منه على المحتاجين. وكما يكون الحال مع الآبار المتدفقة التى كلما سحبنا منها ماء، عادت مرة أخرى إلى ما كانت عليه من غنى وتدفق، كذلك العطاء هو النبع الذى لا ينضب للمحبة. وعندما يشارك ويعطى من مياهه العطاش، يعود ذلك النبع فيعوض مياهه، بل ويفيض به. تماماً كما يعود اللبن إلى الثدى الذى رضع منه الصغير أو الذى تمّ حلب لبنه، لأن من كان له الله القدير، الكلمة، فليس له احتياج إلى أى شئ آخر، ولا يكون أبداً فى ضيق إذا ما احتاج لشئ. لأن فى الكلمة ما يغنى عن امتلاك أى شئ آخر[373]]. أيضاً يقول يلزمنا أن نتعامل مع الثراء بعقل وحكمة، وعندما نعطى ونمنح يكون فى محبة وليس فى افتخار[374].
يلزمنا أن نُردد على الدوام هذا القول المأثور: الإنسان الصالح، لأنه معتدل وحكيم يحتفظ بكنزه فى السماء، ذاك الذى يبيع ما يملك فى هذا العالم ويوزعه على الفقراء، ويحصل بذلك على الكنز الذى لا يفنى[375]. يبدو لى الغنى كأنه ثعبان، يلتف حول الإنسان ويلدغه، إذا لم يتعامل معه الإنسان بحذر، ويعرف كيف يقبض عليه، فيأمن شره، ويتحكم فى حركة ذيله.
12 – ما هو الدافع للعطاء؟
ليس من أجل العدالة أو العاطفة البشرية، نعطى المحتاجين، وإنما يرى المؤمنون فى الفقير شخص السيد المسيح. يقول القديس غريغوريوس النزينزى: [لا تحتقروا هؤلاء الناس برفضهم، ولا تظنوا أنهم بلا قيمة. فكروا فيهم. استرجعوا كيانهم، فستعرفون أنهم أناس لهم كرامة، فغالباً ما حملوا فى أنفسهم شخص المخلص]. [ختاماً يا خدام المسيح، الإخوة، شركائى فى الميراث. إن أردتم أن تمتدحونى هلم نفتقد المسيح، هلم نهتم بالمسيح، لنطعم المسيح، ولنُرحب به. لنكرم المسيح لا بدعوته على مائدتنا كما يفعل البعض (لو7: 36)، ولا بسكب الطيب مثل مريم (يو12: 3)، ولا بدفنه كما فعل يوسف الرامى (مر15: 43)، ولا بتقديم ما هو ضرورى للدفن كما فعل نيقوديموس الذى أحب المسيح بفتور (يو7: 50 – 52)، ولا بتقديم ذهب ولبانٍ ومرٍ كما فعل المجوس قبل حدوث هذا كله (مت2: 11). لا، فإن رب المسكونة يطلب رحمة لا ذبيحة (مت9: 13)، وحنواً عظيماً أفضل من آلاف الحملان. إذن قدمها له خلال الفقراء، والذين انتشروا فى كل الأرض، حتى متى تركنا هذا العالم يستقبلوننا فى المظال الأبدية مع المسيح نفسه ربنا الذى له المجد إلى أبد الأبد. آمين[376]]. ويقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [لأنه فقير أطعمه، لتكون قد أطعمت المسيح[377]. ويقول الشهيد كبريانوس: [لابد أن نحسب أسر أخوتنا أسراً لنا… ونرى المسيح فى أخينا المأسور[378]]. ويقول القديس أغسطينوس: [المسيح جوعان وعطشان وعريان. هو غريب ومريض ومسجون، لأنه قال إنه عندما يعانى إخوته الأصاغر هنا على الأرض، فهو نفسه يعانى[379]].
13 – لماذا ترفض الفتاة المسيحية الزواج من شاب وثنى؟
كانت إضافة الغرباء أمراً أساسياً فى حياة المسيحى، حتى أن العلامة ترتليان يُقدم من بين أسباب عدم زواج المسيحية بوثنى، أنه بهذا يستحيل عليها استضافة رُحل فى بيتها. ويقول العلاممة أوريجينوس إنه يليق بالمسيحيين استضافة الغرباء كما استضاف إبراهيم ثلاثة مسافرين مجهولين له عند ممرا، وغسل أرجلهم ودهنهم[380]. ويقول القديس يوستين: [كنا قبلاً لا نستضيف أحداً فى مأوانا من جنس آخر وله عادات غير عاداتنا، لكن الآن بعد مجئ المسيح نعيش معاً فى شركة معهم[381]].
14 – بماذا ينعت الآباء الجاحدين فى العطاء؟
أولاً: يتهمونهم بالسرقة. يقول القديس أغسطينوس: [ليتنا نضيف بصلواتنا أجنحة التقوى لصدقاتنا، ونصلى لكى تطير بسرعة أعظم إلى الله. علاوة على هذا فإن النفس المسيحية تدرك أهمية تجنب سرقة خيرات الآخرين، بإدراكها أن عدم مشاركة ما يزيد عن الحاجة مع المحتاجين هو نوع من السرقة[382]]. ويقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [عدم إعطاء الإنسان جزء من ممتلكاته للغير يُحسب بالفعل نوعاً من اللصوصية… يقول الرب: “أخذتم ما للفقراء”. هذا ما يقوله ليوضح للأغنياء أن ما يمتلكونه يخص الفقراء، حتى وإن كان ميراثاً من آبائهم، أو حصلوا على بعض الأموال من أى مصدر. يقول فى موضع آخر: “لا تحرم الفقير من عيشه” (سر4: 1) [383]]. ويقول القديس جيروم: [يلزمك أن تتجنب خطية الجشع، ليس برفض الاستيلاء على ما يخص الغير فحسب، وإنما أيضاً بعدم تعلقك بممتلكاتك الخاصة التى لا تصبح ملكك فيما بعد. يقول الرب: “وإن لم تكونوا أمناء فى ما هو للغير، فمن يعطيكم ما هو لكم؟” (لو16: 12). الذهب والفضة ليسا لنا، الذى لنا هو الميراث الروحى[384]]. ويقول القديس باسيليوس الكبير: [إذا استولى أحد على ما يخص الفقير، وأخذته أنت، وجعلته جزء من ثروتك (ربما يقصد اشتراه كعبد). فإنك بذلك تكون ظالماً أكثر من الظالم، وأكثر بخلاً من البخيل[385]].
ثانياً: ينعته بالظلم. يقول القديس باسيليوس الكبير: [من هو الإنسان الطماع؟ ذاك الذى لا تكفيه الكثرة. ومن هو المحتال؟ ذاك الذى يسلب ما يخص الجميع. أفلا تكون جشعاً ومحتالاً حين تحتفظ بما أعطيت لتوزيعه للاستخدام الخاص؟ حين يجرد أحد إنساناً من ثيابه ندعوه لصاً، أفلا يُعطى ذات اللقب لمن يستطيع أن يكسو عرياناً ولا يفعل؟ الخبز الذى على مائدتك يخص الجائعين، والثوب الذى فى خزانة ملابسك يخص العرايا، والحذاء الذى تتركه يبلى يخص حفاة الأقدام. المال الذى فى سردابك يخص المُعدمين. إنك تظلم كل من تستطيع أن تساعدهم ولا تفعل[386]]. [لو كانت الممتلكات شر فى ذاتها، لا يمكن أن يكون الله خالقها بأية طريقة، “لأن كل خليقة الله جيدة، ولا يُرفض شئ” (1تى4: 4)… وصية الله لا تعلمنا أنه يلزم رفض الممتلكات وتفاديها كما لو كانت شراً، بل يلزمنا أن نديرها. الشخص الذى يُدان، لا يُدان لأنه يمتلك أشياء، بل لأنه يسئ استخدامها. بهذا فإن الممتلكات الأرضية غير مرفوضة إذا وجهتها إدارة حكيمة[387]].
15 – بماذا ينعت الآباء المحبين للعطاء؟
يقول القديس باسيليوس الكبير: [كما أن النهر الكبير يتدفق فى الآلاف من القنوات خلال أرض خصبة، هكذا دع ثروتك تجرى خلال قنوات عديدة إلى بيوت الفقراء. الآبار التى يُسحب منها تفيض ما هو أفضل، أما التى تترك بلا استخدام فإنها تعطب. هكذا المال إن احتفظ به يصير بلا قيمة، أما إن تحرك وتناقلته الأيادى، فهو يساعد المجتمع ويزداد[388]].
16 – هل نحن محتاجون إلى المحتاجين؟
يقول القديس أغسطينوس: [ليتنا لا نستخف بإلهنا المحتاج فى أشخاص فقرائه حتى يسند أعوازنا من غناه. لدينا محتاجون، لكننا نحن أنفسنا محتاجون. لنُعط فنأخذ. فى الحقيقة ماذا نعطى؟ وماذا نرغب فى أن نأخذ مقابل هذا القدر الضئيل المرئى الوقتى والأرضى؟ “ما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على بال إنسان” (1كو2: 9) [389]].
من كتاب: كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ6 – المفاهيم المسيحية والحياة اليومية – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى.