العلم والإيمان

1 – ما هو هدف الكتاب المقدس؟ وما هو هدف العلم الحديث؟

هدف الكتاب المقدس ليس البحث فى عملية الخلق وكيف تحققت، وإنما التعرف على الله محب البشر، وعدم تجاهله للإنسان بعد أن خلقه، وخطته الإلهية لاسترداد ما فقده الإنسان بعد اعتزاله عن الله. وأيضاً تعرفه على الأسرار الإلهية بما يناسب إمكانياته الحالية، وما سيتمتع به فى العالم الآتى. إنه يعلن رغبته وشوقه للتمتع بالنعمة الإلهية مع ممارسة حياة التسبيح والشكر وتذوق عربون السماويات.

أما العلم فيبقى يبحث فى أسرار الخليقة وما يسنده فى تقدمه المستمر والذى لا يتوقف حتى مجئ الرب الأخير.

2 – لماذا لم يُقدم الله كل الحقائق العلمية من بدء الخليقة لأبوينا آدم وحواء؟

أ. الله يُقدس الإدراة الحرة، والعمل البشرى، فيفتح لهم باب الدراسة والنمو فى المعرفة.

ب. لكى ندرك قيمة عطية العقل وتقديسه دون تجاهل معونة الله.

ج. يُقدم الله لكل جيل ما يحتاج إليه من معرفة، ولشكر الله على نعمة التقدم والنمو فى المعرفة البناءة.

د. المعرفة لأمور لا نحتاجها قد تُسبب أضراراً فى حياة البشرية.

ﮪ. يبقى الإنسان دائماً فى عطش إلى عطية المعرفة، فى كل جوانب الحياة هنا وفى الأبدية.

3 – ماذا يقول الآباء عن أيام الخليقة الستة؟

عندما كتب القديس باسيليوس الكبير مقالاته عن أيام الخليقة الستة Hexamaeron، أوضح ان عمل الكنيسة ليس البحث عن طبيعة الأشياء والمخلوقات، وإنما دراسة عملها ونفعها.

وأعلن القديس أغسطينوس: [كثير عليك إدراك كيف خلق الله هذه الأشياء، فقد خلقك أنت أيضاً لكى تطيعه كعبد وعندئذ تفهم كصديق له[390]]. وكأننا كخليقة الله نقبل عمله بفرح كعبيد وإذ يهبنا فهماً وحكمة وإدراكاً لأسراره نعيش معه كاصدقاء وأبناء له.

4 – ما هو موقف بعض الدارسين الغربيين فيما ورد فى سفر التكوين؟

حاول كثير من الدارسين الغربيين تأكيد أن ما ورد فى سفر التكوين لا يتنافى مع الحقائق العلمية حسب الفكر الحديث، ورأى البعض أن ما ورد من تسلسل فى الخليقة كما جاء فى التكوين يطابق الفكر الخاص بتطور الخليقة بدقة بالغة. وقد صدرت أبحاث كثيرة فى هذا الشأن كتب بعضها علماء أتقياء. وقد سبق فأصدرت كنيسة الشهيد مارجرجس باسبورتنج بحثاً مبسطاً للأستاذ الدكتور يوسف رياض، أستاذ بكلية العلوم جامعة الإسكندرية، تحت عنوان: “التوافق بين العلم الحديث والكتاب المقدس”، تعرض لهذا الموضوع فى شئ من البساطة والإيجاز، كما قدّمت أسقفية الشباب كتيباً عن: “ستة أيام الخليقة” للدكتور فوزى إلياس.

5 – ماذا تعنى كلمة “يوم” فى الأصحاح الأول من سفر التكوين؟

إنها لا تعنى فترة زمنية قياسية مدتها 24ساعة، إنما تعنى حقبة زمنية قد تطول إلى ملايين السنوات، فالشمس والقمر وبقية الكواكب لم تكن بعد قد خُلقت حتى الحقبة الزمنية الرابعة، وبالتالى لم يكن يوجد من قبل زمن مثل الذى نخضع له الآن، كما لم يكن للعالم نهار وليل بالمعنى المادى الملموس. هذا ما أكده كثير من الآباء منهم القديس جيروم[391]. وحتى بعد الخليقة كثيراً ما يتحدث الكتاب المقدس عن “اليوم” بمفهوم أوسع من اليوم الزمنى، من ذلك قول المرتل: “لأن يوماً واحداً فى ديارك خير من ألف” (مز84: 10؛ راجع مز90: 4؛ 2بط3: 8).

لقد جاءت كلمة “يوم” فى الكتاب المقدس بمفاهيم كثيرة، فأحياناً يقصد بها الأزل حيث لا توجد بداية، كقول الآب للابن: “أنت ابنى وأنا اليوم ولدتك” (مز2: 7؛ أع13: 32؛ عب1: 5)، كما قيل عن الله: “القديم الأيام” (دا7: 9) بمعنى الأزلى. وجاء عن “اليوم” بمعنى الأبدية التى فوق الزمن كالقول: “يوم الرب” (أع2: 20)، أى مجيئه الأخير حيث ينتهى الزمن، كما قيل عن السيد المسيح: “ربنا يسوع المسيح له المجد الآن وإلى يوم الدهر” (2بط3: 18).

6 – لماذا يعترض البعض على ما ورد فى سفر التكوين بخصوص خلق الإنسان الأول؟

يقولون: قد أثبت الحفريات بطريقة قاطعة وجود عظام إنسان منذ أكثر من مليون سنة كما وجدت نقوش قديمة عن أيام آدم… فبماذا نُعلل هذا؟

أولاً: بحسبة رياضية بسيطة نجد أن سكان العالم حالياً لا يمكن أن يكون ثمر أكثر من 6000 عاماً بافتراض أن كل عائلة تنجب حوالى 3 أطفال، هذا مع خصم نسبة مرتفعة من الموتى بسبب الموت الطبيعى والكوارث الطبيعية والحروب… لو أن تاريخ الإنسان يرجع إلى مليون سنة، فإن الإنسان الواحد فى مليون سنة ينجب نسلاً لا تكفى آلاف مضاعفة من مساحة الأرض لوجودهم.

ثانياً: إن كل حقبة زمنية يمكن أن تكون عدة ملايين من السنوات، فغالباً ما تكون هذه العظام لحيوانات ثديية حملت شكل الإنسان ولها أيضاً قدرات، لكن ليس لها النسمة التى من فم الله التى تميز بها آدم وحواء. هذه الكائنات لا تحسب بشراً حتى إن حملت شيئاً من التشابه.

7 – هل توقف عمل الله من أجل الإنسان بعد أيام الخليقة؟

إن كان سفر التكوين يُقدم لنا فصلاً مختصراً للغاية عن عمل الله فى بدء الخليقة، فإن الله الذى كان يعمل ليقدم لنا العالم لخدمتنا، يبقى عاملاً خلاقاً فى حياتنا بلا انقطاع. فما سبق ففعله لا يتوقف، إذ يبقى الله نفسه يعمل فى حياة الإنسان ليجعل من أعماقه سماء جديدة وأرضاً جديدة يسكنها البرّ. وفى هذا يقول السيد المسيح: “أبى يعمل حتى الآن وأنا أعمل” (يو5: 17). لهذا ففى تفسيرنا هذا نود أن نتلمس عمل الله المستمر فى حياتنا الداخلية ليخلق فينا بلا انقطاع مُجدداً أعماقنا.

8 – ماذا يعنى ما ورد فى افتتاحية السفر: “فى البدء خلق الله السماوات والأرض”؟

إن كان التعبير “فى البدء” (تك1: 1) لا يعنى زمناً معيناً، إذ لم يكن الزمن قد أوجد بعد، حيث لم تكن توجد الكواكب بنظمها الدقيقة، لكنه يعنى أن العالم المادى له بداية، وليس كما ادعى بعض الفلاسفة أنه أزلى، يشارك الله أزليته. هذا ما أكده القديس باسيليوس فى كتابه “الهكساميرون” أى “ستة أيام الخليقة”، إذ يقول إن تعبير “فى البدء” لا يعنى زمناً وإلا كان للبدء بداية ونهاية، وهكذا تكون لهذه البداية بداية وندخل فى سلسلة لانهائية من البدايات، لكن “البدء” هنا يعنى حركة أولى لا كما زمنياً، وذلك كالقول: “بدء الحكمة مخافة الله” (أم9: 10) [392]. كما يقول: [لا تظن يا إنسان أن العالم المنظور بلا بداية لمجرد أن الأجسام السماوية تتحرك فى فلك دائرى ويصعب على حواسنا تحديد نقطة البداية، أى متى تبدأ الحركة الدائرية، فتظن أنها بطبيعتها بلا بداية[393]]. ويقول: [الذى بدأ بزمن ينتهى أيضاً فى زمن[394]]. هذا لا يعنى وجود زمن فى بداية الحركة للعمل، إنما يؤكد انتزاع فكرة الأزلية، فمع عدم وجود زمن لكنه وجدت بداية قبلها إذ كان العالم عدماً. وقد جاء العلم يؤكد عدم أزلية المادة[395].

ويأخذ كثير من الآباء بجانب هذا التفسير الحرفى أو التاريخى “فى البدء” التفسير الرمزى أو الروحى، فيرون أنه يعنى “فى المسيح يسوع” أو “فى كلمة الله” خُلقت السماوات والأرض، وفيما يلى بعض كلمات الآباء فى هذا الشأن:

يقول القديس أغسطينوس: [الابن نفسه هو البدء. فعندما سأله اليهود: من انت؟ أجابهم: “أنا من البدء” (يو8: 25). هكذا فى البدء خلق الله السماوات والأرض[396]].

يقول العلامة أوريجينوس: [من هو بدء كل شئ إلا ربنا ومخلص جميع الناس (1تى4: 10) يسوع المسيح، “بكر كل خليقة” (كو1: 15)؟ ففى هذا البدء، أى فى كلمته “خلق الله السماوات والأرض”، وكما يقول الإنجيلى يوحنا فى بداية إنجيله: “فى البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان فى البدء عند الله، كل شئ به كان وبغيره لم يكن شئ مما كان” (يو1: 1 – 3). فالكتاب لا يتحدث عن بداية زمنية، إنما عن هذ البداية التى هى المخلص، إذ به صُنعت السماوات والأرض[397]].

يقول القديس ديديموس الضرير: [يفكر البعض أن “البدء” هو زمن، لكن من يتعمق فى كلمة “البد” يجد أنها لا تحمل معنى واحداً بل أكثر من معنى. فأحياناً تعنى العلة، فيكون المعنى هنا أن السماوات والأرض متواجدة فى العلة… بالحقيقة كل شئ صنعها الكلمة، ففى المسيح يسوع خُلق كل ما على الأرض وما فى السماء، الأمور المنظورة وغير المنظورة[398]].

فى اختصار نقول إن الله خلق العالم فى بداية مُعينة ولم يكن العالم شريكاً معه فى الأزلية، ومن جانب آخر فإن كلمة الله هو البدء الذى بلا بداية خالق الكل!

9 – هل كل ما ورد فى الكتاب المقدس يطابق ما جاء فى العلم الحديث؟

نبدأ أولاً بنظرة الدين للعلم.

أ. إن بدأنا بأسفار موسى الخمسة، نلاحظ أن الحديث عن الخليقة حتى عصر موسى كان يعتمد على أساطير وتخيلات جاء فيها تصوير الآلهة أنها تتزوج من بعضها البعض، وأيضاً تحارب بعضها البعض الخ، بينما ما ورد فى سفر التكوين قُدم بصورة غاية فى البساطة كى يدركها حتى الصبى الصغير ولا تتعارض مع الحقائق العلمية خاصة وإن الأيام السبعة لا يُقصد بها 24ساعة بل فترة زمنية كما يقول القديس باسيليوس الكبير.

ب. لم يهاجم الكتاب المقدس البحث العلمى، إنما يهاجم التشامخ البشرى والاستخفاف بما وراء الزمن.

ج. يدعونا الكتاب المقدس إلى تقديس الجسد بحواسه والفكر بقدراته.

د. منذ القرن الأول حيث دخل مار مرقس الرسول الإسكندرية ووجد مدرسة الإسكندرية التى أنشأها بطليموس، ومدارس يهودية ومصرية لم يأخذ موقف معادياً منها، بل أنشأ مدرسة الإسكندرية (المسيحية) كما يقول القديس جيروم، وكان منهجها يشمل الدراسة بخصوص الفلسفات المعاصرة فى ذلك الوقت والطب والفلك والرياضيات، واللغات كاليونانية والمصرية (التى تطورت إلى القبطية)، وبالحب والتفاهم كسبت مدرسة الإسكندرية علماء من المدرسة الفلسفية وكان بعضهم يرتدى زى الفلاسفة وهم يدرسون فى المدرسة المسيحية.

ﮪ. اهتم القديس باسيليوس الكبير الذى نقل الرهبنة إلى قيصرية الجديدة بإنشاء مدارس لتعليم الصبيان والشباب ملحقة بالأديرة.

و. لم يستخفّ الكتاب المقدس من عطية العقل والعلم والأبحاث، ولكن أوضح غاية كلمة الله وهى العبور بالإنسان إلى وراء هذا العالم ليتعرّف على خالقه ويشترك مع السمائيين فى حياتهم المُطوبة.

ز. لا ننسى أن كثير من النظريات التى كنا ننظر إليها كحقائق علمية ثابتة حلّ محلها نظريات تًصححها.

ح. أغلب جامعات أوربا أنشأها رهبان اهتموا بالعلم، وإن كانت الان تفصل بين العلم والإيمان.

ط. قام البعض بعمل إحصائيات للعلماء المشهورين فى علوم مختلفة الذين أنكروا الإيمان بالله، ورجعوا إليه بأكثر غيرة وحماس فى أواخر حياتهم.

ى. يليق بنا أن ننظر إلى الإنسان ككيان واحد: الجسد والروح والنفس والعقل والعواطف، فإن كان الأطباء يبحثون فى صحة الجسد والنفسانيوس فى سلامة الجانب النفسى والعلم فى تقدم المعرفة العلمية الخ، فإننا لا نتجاهل أن جميع البشرية تواجه الموت، وعمل الإيمان تقديم ما يليق بنا أن ندركه بخصوص حياتنا بعد الموت، وعن إمكانية الإيمان والنعمة الإلهية فى التمتع بالفرح الداخلى وتحدّى كل المتاعب والضيقات ليختبر الإنسان عربون السماء.

ك. للأسف مع تأكد كل البشر أنهم لن يفلتوا من الموت، ينشغل البعض بما يخص الحياة الحاضرة ويتجاهلون وجود الحياة الأبدية الخالدة.

ل. وجود مئات من النبوات عن السيد المسيح المخلص منذ بدء الخليقة حتى لحظات تجسده، وهى متناسقة معاً، ويشهد لها المؤرخون غير المؤمنين. هذه النبوات ليست من وضع الكنيسة المسيحية لأنها لازالت فى العهد القديم الذى حفظه اليهود وتُرجم إلى لغات أخرى قبل مجئ المسيح مثل الترجمة السبعينية التى اهتم بها بطليموس فى القرن الثانى قبل الميلاد، واستخدمها الرسل للكرازة، خاصة الرسول بولس الكارز للأمم.

م. تظهر حكمة الكنيسة المسيحية منذ القرن الأول حيث قدمت كل دولة العبادة بلغتها وثقافتها وعاشت الكنيسة حتى القرن الخامس فى وحدة عجيبة، ولم تُصرّ أية دولة على أن تنادى بأن لغتها هى الوحيدة المقدسة فى العبادة المسيحية. وبروح الحب كثيراً ما تُرجمت الكتابات المسيحية إلى لغات الدول الأخرى دون أن تفقد دقتها وهدفها الروحى واللاهوتى. فبعض الكتب القبطية والعربية الخاصة بالأقباط ضاعت خلال هدم وحرق الكنائس والأديرة وحفظت باللغة الأمهرية واليونانية وغيرها من اللغات.

و. لا ينكر المؤمن أهمية تقدم العلوم، لكنها نظريات قابلة للتغير. نذكر على سبيل المثال: إنجيل يوحنا إلى فترة طويلة كان علماء دراسة الكتاب المقدس يثقون بأن هذا السفر ليس من كتابة القديس يوحنا، لأن أسلوبه يطابق ما جاء فى القرن الثانى لكن عندما اكتشفت مخطوطات نجح حمادى عام 1948 ووُجدت مخطوطات من القرن الأول تطابق أسلوب هذا السفر. وأيضاً أنكر البعض بعض الأحداث الواردة فى الكتاب المقدس مثل سفر دانيال، وجاءت اكتشافات حديثة فى علم الآثار تؤكد ما ورد فى الكتاب المقدس كحقائق تاريخية.

فاصل

من كتاب: كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ6 – المفاهيم المسيحية والحياة اليومية – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى