كتاب التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي - القمص متى المسكين

التقليد في العصور الأولى للكنيسة

1- أسبقية التقليد الشفاهي على الأسفار المقدسة

إن أسفار الكتاب المقدس لم تكن هي الطريق الوحيد الذي عبرت فيه البشارة، فقد انتقل الوحي المقدس وانتشر في الكنيسة المبتدئة بحرية غير مقيدة بالكتابة ، بصورة خبر سار ينتقل من فم لفم ، ثم بصورة تعليم شفاهي قائم على سلطان التسليم تحت التدقيق البشري وعناية الروح القدس : « وانتخبا لهم قسوساً في كل كنيسة، ثم صليا بأصوام واستودعاهم للرب الذي كانوا قد آمنوا به » (أع 14: 23). «فإن هؤلاء المعتبرين لم يشيروا علي بشيء بل بالعكس إذ رأوا أني أوتمنت على إنجيل الغرلة كما بطرس على إنجيل الختان، فإن الذي عمل في بطرس لرسالة الختان عمل في أيضاً للأمم ، فإذ علم بالنعمة المعطاة لي يعقوب وصفا ويوحنا المعتبرون أنهم أعمدة أعطوني وبـرنـابـا يمين الشركة.» (غل 2: 6-9)

وهو لا يذكر هنا أي شيء بخصوص تسليم أوراق أو قوانين مكتوبة أو أية إرشادات، بل كان كل اعتماد البشارة على نعمة الله المعطاة للمؤتمنين على الكرازة.

فرسالة المسيح لم تبدأ رحلتها عبر القلوب عن طريق الرسائل المكتوبة وإنما عن طريق الخبر «لأن الإيمان بالخبر والخبر بالكلمة.» (رو 10: 17)

و بطرس و يوحنا يقرران في سفر الأعمال أن كل وديعتهم الإيمانية التي تـسـلـمـوهـا مـن المسيح كانت بالنظر والسمع فقط «لأننا لا يمكننا أن لا نتكلم بما رأينا وسمعنا . » (أع 4: 20)

كما أن تعليم الممارسات العبادية ظلت لا تُسلَّم إلا شفوياً بالتوضيح العملي فقط بدون كتابة، في الوقت الذي بدأت فيه أصول الإيمان تكتب في الرسائل : «وأما الأمور الباقية فعندما أجيء أرتبها ) ( 1كو 11: 34)، وكلمة «أرتبها » جاءت في الأصل بمعنى أطقسها Starakouat . والقديس يوحنا الرسول أيضاً يقرر أن الكتابة ليست لكل شيء «إذ كان لي كثير لأكتب إليكم لم أرد أن يكون بورق وحبر لأني أرجو أن آتي إليكم وأتكلم فما لفم . » (2يو 12)

وكذلك القديس بولس الرسول يعتمد بالأكثر في كرازته على التعليم الشفوي : «فاثبتوا إذاً أيها الإخوة وتمسكوا بالتقليد الذي تعلمتموه سواء كان بالكلام أم برسالتنا » (2تس 2: 15) . وهنا يقف التقليد بنوعيه معاً جنباً إلى جنب : التقليد الشفاهي أولاً، ثم التقليد الكتابي . ونجد القديس بولس الرسول يضغط بشدة على ضرورة الإهتمام بحفظ التعاليم الشفوية التي كان يكرز بها، والتدقيق الكثير في تسليمها لأشخاص أمناء تمسك بصورة الكلام الصحيح الذي سمعته مني في الإيمان والمحبة التي في المسيح يسوع … وما سمعته مني بشهود كثيرين أودعه أناساً أمناء يكونون أكفاء أن يعلموا آخرين أيضاً. » ( 2تى 13:1 و 2:2)

ومعروف أن الرب نفسه لم يستطع أن يلقن تلاميذه كل شيء عن الإيمان والحق والأمور المختصة بملكوت الله أثناء كرازته ، بسبب بطء إيمان التلاميذ هذا الذي وبخهم عليه الرب حتى بعد القيامة : « أخيراً ظهر للأحد عشر وهم متكئون و و بخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم لأنهم لم يـصـدقـوا الـذيـن نـظـروه قد قام.» (مر 16: 14)

كذلك نسمعه يقول لهم: «إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك، روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق» (يو 16: 12 و13). وهذا يفتتح الرب أمام التلاميذ والكنيسة كلها باب المعرفة والإلهام لتقبل تعاليمه عن الحق والإيمان والحياة الأبدية إلى مالانهاية بدون توقف عبر الدهور.

ويقيناً إن الرب ظل على اتصال روحي بهم بعد القيامة، وظل يمدهم بقوة الروح القدس ويزيد من استعلانهم للحق ويقوّي من بصيرتهم وفهمهم ليدركوا كل الحق حسب وعده ، وفعلاً بدأ الرسل بعد حلول الروح القدس بقدرة جديدة فائقة على إمكانياتهم الأولى وأخذوا يعلمون كمن لهم سلطان، أي بالروح القدس.

كما اسـتـمـر القديس بولس الرسول يتلقن من فم الرب نفسه تعاليم كثيرة وتوضيحات وتوجيهات ومشورات وشروحات وتفاسير يدهش لها الإنسان : «إله آبائنا أنتخبك لتعلم مشيئته وتبصر البار، وتسمع صوتاً من فمه . لأنك ستكون له شاهداً لجميع الناس بما رأيت وسمعت» (أع 22: 14 و15). ونفس بولس الرسول يقرر ويشهد بذلك: «لأني تسلمت من الرب ما سلمتكم» (1کو 11: 23). ألستُ أنا رسولاً . ألستُ أنا حراً. أما رأيتُ يسوع المسيح ربنا . » (1کو 9: 1)

و واضح من هذه الآيات أن التلاميذ ظلوا يتلقنون من الرب نفسه، بإلهام الروح القدس، أموراً كثيرة جداً عن الإيمان وعن الممارسات التي للعبادة وعن شرح الأمور المتعلقة بالإنجيل وبملكوت الله حتى بعد كتابة الأناجيل كلها والرسائل، كما أن ما كتبه التلاميذ والرسل لم يكن سوى الحقائق المبدئية للإيمان بأن يسوع هو المسيح وأن ليس خلاص ولا حياة أبدية إلا بالإيمان به : « وآيات أخر كثيرة صنعها يسوع قدام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب» (يو 20: 30). علماً بأن القديس يوحنا الرسول سجل هذه الكلمات في نهاية إنجيله الذي كتبه في نهاية القرن الأول سنة 95م .

كما كتب أيضاً شارحاً أساس إنجيله الذي كتبه : « وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة فواحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة.» (يو 21: 25)

والسؤال : أين نجد هذه الأشياء إلا في التقليد المسلم شفاهياً الذي يتسع فيه المجال لسرد آلاف الحوادث والتعاليم والمشورات. ومعلوم أن القديس يوحنا عاش بعد قيامة المسيح ليس أقل من سبعين سنة يقص ويحكي كلام الحياة الأبدية .

 

2 – انتقال الوحي بالكتابة و بالشفاه عبر الزمان

إذن، لم يقتصر تعليم الرسل منذ البدء وحتى النهاية على تسليم الحقائق المدونة في الإنجيل والرسائل، إنما ظل أيضاً يعتمد باستمرار على أساسه الأول الذي ابتدأ به وهو «ما رأوه وما سمعوه» . وهذا ما يُعرف في اللاهوت الأرثوذكسي «بالتقليد الشفاهي المعتبر من حيث الزمان سابقاً على الأسفار المقدسة المكتوبة جميعها، والذي تـشـكـلـت مـنه ضمناً كل محتويات العهد الجديد كما يؤكده القديس إيرينيئوس : [ لأننا قد تعلمنا طريق الخلاص على يد نفس الذين سلمونا الإنجيل ، لأنهم كرزوا به أولاً في الخارج، وأخيراً كتبوه حسب مشيئة الله وسلموه إلينا مكتوباً ليبقي أساساً للإيمان وعموداً له.].

ولكن التلقين الشفاهي للتقليد فيما يختص بأسرار الإيمان منذ العصر الرسولي كان يُعتبر ذا صبغة سرية لما كان يحويه من تفاصيل وممارسات طقسية في العبادة ومباديء روحية خاصة لم تكن تُسلَّم للمؤمنين إلا بتدقيق شديد بعد التأكد من استحقاقهم .

فبينما نقرأ في الرسائل المكتوبة : «أناشدكم بالرب أن تقرأ هذه الرسالة على جميع الإخوة القديسين» (1تس 5: 27) ، وأيضاً : « ومتى قُرئت عندكم هذه الرسالة فاجعلوها تقرأ أيضاً في كنيسة اللاودكيين، والتي من لاودكية تقرأونها أنتم أيضاً» (كو 4: 16)؛ نجد أن القديس بولس ينتحي ناحية التدقيق الشديد والإختيار في توصيل التقليد الشفاهي : « ما سمعته مني بشهود كثير ين أودعه أناساً أمناء يكونون أكفاء أن يعلموا آخرين أيضاً . » ( 2تی 2: 2)

ولذلك، فقد كان التقليد الشفاهي منذ العصر الرسولي يتمتع بسرية واهتمام وفحص أوفر من التقليد الكتابي الذي في الأناجيل والأسفار: [ وكلما أتى أحد ممن كان يتبع المشايخ ( الرسل) سألته عن أقوالهم ، عما قاله أندراوس أو بطرس ، عما قاله فيلبس أو توما أو يعقوب أو يوحنا أو متى أو أي واحد آخر من تلاميذ الرب أو عما قاله أريستون أو القس يوحنا (غير يوحنا الإنجيلي) لأنني لا أعتقد أن ما أتحصل عليه من الكتب يفيدني بقدر ما يصل إلي من الصوت الحي، ذلك الصوت الحي الدائم . ] بابياس

وهذا الأمر واضح أيضاً في مقدمة إنجيل لوقا : [ إذ أخذ كثيرون في تأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا كما سلمها إلينا الذين كانوا من البدء معاينين وخداماً للكلمة، رأيت أنا أيضاً إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب… ]

ومن هذا يتبين بغاية الوضوح أن التقليد الشفاهي المسلم بتدقيق و يقين هو المصدر الذي اعتمد عليه القديس لوقا البشير، بالإضافة إلى روح الإلهام الذي كان يُبرز له الحقائق لمجد الله . كما يظهر أيضاً مقدار اليقين والثبات والتدقيق الذي كان يتمتع به تسليم التقليد الشفاهي الذي بدأ من فم الذين عاينوا المسيح .

ولكن في الحقيقة لا يمكن أن نفصل بين التقليد الشفاهي في ذلك الزمان والتقليد الذي تسجّل كتابة أي الإنجيل ، فكلاهما حق ، ومصدرهما واحد هو المسيح ؛ وكلاهما أضاء على الكنيسة بنور الإيمان بنفس القوة واليقين.

أما من حيث تقدم الواحد على الآخر تاريخياً، فلا يصح أن يكون هذا سبباً لفصلهما كمصدرين للحق أو تقسيمهما كواحد أهم وآخر أقل لأن ذلك يمس المصدر الإلهي الذي انحدرا منه. فهما بوزن واحد من جهة العمل على حسب قول القديس باسيليوس : [ متساويان في القيمة والقوة والصلاحية ]؛ أو كما يقول إكـلـيـمـندس الإسكندري : [ فالذي يزدري بالتقليد الكنسي لا يعود يُحسب من أولاد الله ]؛ وكما يؤكد أوريجانس : [ لا يُعتبر أي أمر أنه حق إلا إذا كان لا يتناقض قط مع التقليد الكنسي الرسولي.].

وكذلك أيضاً نجد أن أسفار العهد الجديد بما فيها الرسائل لم تستوعب كل التقليد الشفاهي كما هو واضح من الآيات الكثيرة السابقة، لأن ممارسة الحياة المسيحية احتاجت – وخصوصاً بالنسبة للوثنيين الذين لم يكونوا يدركون شيئاً البتة عن الله أو العبادة بالروح والحق – إلى تفسيرات وأحكام وفرائض لتناسب الظروف البدائية والمتعددة للمؤمنين ، وهذه كان يتعذر كتابتها في رسائل مما اضطر إلى تلقينها لتكون تقليداً شفاهياً قانونياً يُعمل به بنفس القوة والسلطان الذي كان في الأسفار المكتوبة : [ وإذ كانوا يجتازون في المدن كانوا يسلمونهم » القضايا  التي حكم بها الرسل والمشايخ الذين في أورشليم « يحفظوها » فكانت الكنائس تتشدد في الإيمان وتزداد في العدد ] (أع ٤:١٦). و يلاحظ هنا كلمة «يسلّمونهم »  في الأصل اليوناني وهي كلمة تقليد. أما كلمة قضايا» فهي في الأصل اليوناني «فرائض عقائدية » ، وتختص غالباً بالممارسات العملية حسب معنى الكلمة القديم (حسب تفسير القديس باسيليوس). والمعنى بذلك يمكن توضيحه هكذا : « وكانوا يسلمونهم فروض العقيدة حسب أصول التقليد». مشتقة من

وفي الآية السابقة يسترعي اهتمامنا ثلاثة أفعال كانت تختص بممارسة تسليم التقليد الشفاهي :

الأول : «حكم » بها الرسل والمشايخ الذين في أورشليم .
الثاني: «يُسلّمونهم » ،
الثالث : « ليحفظوها » .

الفعل الأول يصوّر لنا أول مجمع قانوني في الكنيسة لفرض الفرائض التقليدية اللازمة للعبادة، حيث نجد الحكم يصدر لا من الرسل المجتمعين جميعاً في أورشليم وحدهم بل والمشايخ الذين يمثلون الشعب تمثيلاً علمانياً. وهنا أول وأوضح صورة لمعنى الكنيسة وسلطانها وعصمتها .

الفعل الثاني «يُسلَّمونهم» يوضح كما سبق وفسرنا طريقة التعليم بالتلقين الشفاهي التي تعتمد على فحص المستحقين للتلقين ليستودعوهم سرائر الإيمان بالتسليم العملي مع التوضيح اللازم .

الفعل الثالث «ليحفظوها» تفيد طريقة انتشار التعليم بالتقليد الشفاهي إذ إنه لا يعتمد على الكتابة، فقد أصبح من الضروري إتقانه بالممارسة.

ومن واقع الأناجيل نفسها والرسائل يظهر الإلحاح الذي كان يعاود الرسل دائماً لحصّ المؤمنين على الرجوع إلى التقليد الشفاهي لتكميل حاجات الإيمان والعبادة :
– «تمسك بصورة الكلام الصحيح الذي سمعته مني . » ( 2تی 1: 13)
– «أما تذكرون أني وأنا بعد عندكم كنت أقول لكم هذا . » ( 2تس 2: 5)
– «على أنكم تذكرونني في كل شيء وتحفظون التعاليم كما سلمتها إليكم .» (1كو 1: 11)
– «ولكي تعلموا أنتم أيضاً أحوالي وماذا أفعـل يـعـرفـكـم بـكل شيء تيخيكس . » (أف 6: 21)

ومن هذا كله نرى أن طريقة التعليم المسيحي التي بدأت منذ أيام الرسل كانت تعتمد على الرسائل والكتب المقدسة، كما كانت تعتمد على التسليم الشفاهي جنباً إلى جنب كضرورة محتمة فقد أرسلنا يهوذا وسيلا وهما يخبرانكم بنفس الأمور شفاهاً .» (أع 15: 27)

و بذلك لم يتوقف « التقليد الشفاهي» عن استمراره حتى بعد كتابة جميع أسفار العهد الجديد التي بدىء في كتابتها بعد بدء الكرازة بالتقليد الشفاهي بنحو عشرين سنة، وكمل معظمها في نحو عشرين سنة كذلك ، وآخر سفر كُتب بعد ذلك أيضاً بحوالي عشرين سنة أخرى، وهو إنجيل يوحنا.

وهكذا ظلت الكنيسة محتفظة بالوحي المقدس معلناً في صورتيه التقليديتين الكتابية والشفاهية » ، وكلٌّ منهما تكمل عمل الأخرى وتثبتها .

ومن الأمور المحققة والثابتة أن كلاً من التقليد الشفاهي والأسفار المقدسة. المكتوبة كان يحمل نفس القوة الإيمانية والإلهام والحياة والكرامة ، وكان يطلق على كل منهما نفس الإصطلاح الإيماني بدون تفريق . إذ أن كلاً من التقليد الشفاهي والأناجيل كان يُدعى بنفس الأوصاف والإصطلاحات الواحدة الآتية : παράδοσις   أي تقليد
κανών          أي قانون (الإيمان)
σύστημα     المجموع ( الإيماني)

مع إضافات كثيرة مشتركة أيضاً بين التقليد الشفاهي والكتابي ؛ فكانا يوصفـان بـالـتـقـلـيـد الرسولي أو تقليد الرسل، قانون الإيمان أو قانون الحق القانوني الكنسي.

وقد ظل التقليد الشفاهي يتمتع بسلطان قوي في الكنيسة جنباً إلى جنب مع الأسفار المقدسة حتى تشربته الكنيسة ، فصار شيئاً حياً فيها من جهة تعليم قانون الإيمان وتفسيره، وحفظ نصوص العقيدة كما أقرتها المجامع ، مع الممارسات اليومية في العبادة والصلاة والتسبيح والإفخارستيا ، وفي الطقوس العامة وشروطها، مثل انتخاب الرعاة ووضع اليد : [ وإذا فرضنا أن الرسل لم يتركوا لنا كتاباتهم ، ألم نكن مضطرين أن نعتمد على التعاليم التي في التقليد كما سلموها للذين وضعت الكنائس في عنايتهم ؟ ]

القديس إيرينيئوس

مقدمة عامة كتب القمص متى المسكين

المضمون العام للتقليد الكنسي

كتاب التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي
المكتبة المسيحية

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى