عقيدة التثليث والتوحيد في المسيحية
الثالوث القدوس
معرفة الثالوث وصلت إالينا نحن البشر من خلال إعلان المسيح لنا عن الآب أبيه الصالح كما ورد في الإنجيل، وعن الروح القدس من خلال وعده لتلاميذه بأنه سيُرسل لهم الروح القدس بعد صعوده إلي السماء.
فالثالوث هو إعلان إلهي قبل كل شئ، وما علينا إلا أن نؤمن بالمسيح له المجد وبإعلاناته لنا عن الآب وبعطيته الثمينة وهي الروح القدس، فندخل في شركة الثالوث، وبهذا تكون لنا الحياة الأبدية، لأن كل ما أعلنه المسيح لنا ليس للمجادلة ولا لتقديم البراهين، بل من أجل الشركة في الحياة الأبدية، حسب قول القديس يوحنا “وَأَمَّا هذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ.” (يو 20: 31).
عدم قدرة البشر على التعبير عن الثالوث:
جوهر الله بما أنه غير مُدرك، فإنه غير ممكن التعبير عنه، كما لا يمكن إدراكه لدى الإنسان الطبيعي ( أي غير الممسوح بمسحة الروح القدس من خلال سري المعمودية والميرون) كما يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي:
[ الطبيعة الالهية هي لا نهائية ومن الصعب فهمها، وكل ما يمكن أن نفهمه عن الله هو لانهائيته…. فهو – والحال هكذا – لا يمكن إدراكه ولا يمكن فهمه بالتمام.] – مقال 45: 3
ويقول أيضاً : [ الله في طبيعته وجوهره لا أحد اكتشفه بعد ولن يتسنى لأحد ذلك]
معرفتنا عن الله هي معرفة صفاته فقط:
لذلك فما تنسبه الصلوات أو الألفاظ اللاهوتية لله من صفات النفي، أي التى تصف الله بأنه “غير المحدود” ، ” غير المحوّى”، ” غير المحسوس” ، “غير الزمني”، “غير المفحوص” ، كما وردت في القداس الغريغوري. وكذلك الصفات الإيجابية التى يصفه بها الكتاب المقدس مثل البر والصلاح والحكمة …. فبالرغم من أصالة هذه التعبيرات ولكن لأنها حقائق موضوعية وليست ذاتية منسوبة لله، لذلك فهي لا تعبر بالتمام عن حقيقة الله ولا تكشفها، إنها تكشف ليس عن طبيعته، وإنما عن صفات هذه الطبيعة.
[الله نور, الأسمى وغير المقترب منه، غير المفحوص، غير الممكن إدراكه في العقل، ولا النُطق به على الشفاه]
القديس غريغوريوس اللاهوتي
ما هو نص إيماننا؟
وهكذا فإن ما نؤمن به هو : الله الواحد في ذاته، الثالوث في أقانيمه، الآب والابن والروح القدس، المتساوي في جوهره. ويشرح هذا أباء الكنيسة بقولهم إن الاقانيم هم ثلاثة استعلانات شخصية للاهوت الواحد الذي بلا بداية. لكن هؤلاء الثلاثة مرتبطون كل أقنوم بالأقنوم الآخر، مشتركاً في الجوهر الإلهي الواحد.
وهكذا ففي الجوهر الإلهي الواحد، الله موجود في هيئة الأقانيم الثلاثة المتساوية وغير المنقسمة، ولكن هذا الجوهر اللاهوتي ليس قاصراً على أقنوم دون الآخر بأي حال.
لكن لا يجب أن نفهم الأقانيم على أنها أجزاء من كُلّ، أي كأن اللاهوت منقسم الى ثلاثة، ولا هي مجرد صفات أو أوجه أو تعبيرات، بل كل أقنوم قائم بذاته في الجوهر الإلهي الواحد المشترك لكل الأقانيم.
وكل أقنوم يعمل بطريقة متميزة ولكن في الله الواحد. فنحن نمجد الله الواحد في ثالوث والثالوث في الله الواحد ” الكائن في وحدة جوهر وتعدد أقانيم في نفس الوقت” كما يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي ” وحينما ندعوا الله الثالوث نقول باسم الآب والابن والروح القدس ولا نقول بأسماء الآب والابن والروح القدس”
إننا نفهم الوحدانية أساساً من خلال الاتحاد والمساواة بين الاقانيم الكائنة في الجوهر الإلهي الواحد. بينما نعترف بوحدة الثالوث وبمساواة الأقانيم في الصفات والعمل والمشيئة ، فإننا نعترف بأن:
” الآب هو الوالد والمصدر أو الفائض : الوالد للابن والمصدر أو الفائض للروح القدس”
وكما يقول القديس غريغوريوس النيصي:
[ فيما يختص بالثالوث الأقدس فإن الآب هو والد الابن ومصدر الروح القدس، فنقول إن الله واحد بينما هذان الأقنومان يشتركان في الوجود فيه. والأقانيم الثلاثة لا يمكن فصل أي منهم عن الآخر لا بالزمان ولا بالمكان ولا بالمشيئة ولا بالإرسال أو الفعل ولا بأي نوع من المشاعر التي نلاحظها في الكائنات البشرية.]
بعض الصفات الإلهية
1- الله روح :
الله هو روح طاهر قدوس .. منزه عن الهيولية أي أن طبيعته مجردة من كل شئ مادي .. لا أول له ولا آخر.
” الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا …” (يو4: 24)
ولان الله روح فلا يحصره مكان .. حاضر في كل مكان .. لا يحصره شئ مما كان ..
ولأن الله روح فإنه لا تغيير فيه ولا ظل دوران.
2- الله روح سرمدي: أزلي أبدي
– سرمدي : أي الذي لا أول له ولا آخر
لا بداية له ولا نهاية
لا بداية لأزليته ولا نهاية لأبديته
– أزلي : أي منذ الأزل .. فلم يكن أحد قبله
أي ليس له بداية
– أبدي: أي لا نهاية له
3- غير قابل للتغيير
لا يتغير ولا يتحول لأنه يعلم منذ الأزل كل ما يحدث في الكون لذا فلا حاجة له لتغيير رأيه أو تعديل رسومه وأحكامه الإلهية….
وهنا يكون السؤال:
ما معنى أن الله ندم على الشر … فلم يصنعه؟ (يون 3: 10)
معناه أن الله لم يتغير إنما الشعب هو الذي تغير وهنا يعلن لهم الله بلغة البشرية صفحه عنهم .. فندم الله عن الشر الذي قال أن يفعله بشعبه ( خر 32: 14)
4- هو كائن بذاته
– لم يستمد وجوده من أحد غيره بل من ذاته …
5- موجود في كل مكان
حاضر في كل مكان دون أن يحصره أو يحده أو يحتويه مكان. هو كائن في الكل وخارج عن الكل ويشمل الكل.
التثليث والتوحيد في الكتاب المقدس
إن تعليم وحدانية الله، وامتياز الأقانيم أحدها عن الآخر، ومساواتها في الجوهر، ونسبة أحدها إلى الآخر، لم يرد في الكتاب المقدس جملة واحدة بالتصريح، بل في آيات متفرقة، غير أن جوهر هذه الأمور منصوص عليه من أول الكتاب إلى آخره.
ومن الأمور التي تثبت صحة هذا الاعتقاد:
1- وجوده في الإعلانات المتتابعة وانجلاؤه بالتدريج:
ففي سفر التكوين تلميحات إلى تعليم التثليث، لا تفهم جليًا إلا بنور إعلانات بعدها، كورود اسم الله (ألوهيم) والضمائر التي تعود إليه في هذا السفر بصيغة الجمع كقوله تعالى “لنصنع الإنسان على صورتنا” وأقوال أخرى تشابهه) أنظر: تكوين 26:1 و22:3 و7:11 و أشعياء 8:6). وهذا وحده لا يثبت تعليم التثليث، ولكن إذا قابلناه بآيات أُخر معلنة في أزمنة متتابعة تبين لنا أن في اللاهوت ثلاثة أقانيم، وهو ما تكشفه هذه الآيات وما يتوافق مع التعليم الجوهري في الثالوث الأقدس.
كما نرى في أسفار الكتاب المقدس الأولى تمييزًا بين “يهوه” و”ملاك يهوه” وأن لهذا الملاك ألقابًا وعبادة إلهية، ومن أسمائه أيضًا الكلمة والحكمة، وابن الله، وأقنوميته ولاهوته موضحان، وبشكل واضح، لأنه منذ القديم ومنذ الأزل، والإله القدير، ورب داود، والرب برنا، الموعود به قبلًا أنه سيولد من عذراء ويحمل خطايا كثيرين (مزمور 7،6:45 و1:110 وأشعياء 7،6:44، 24 وتكوين 11:31 و13 و15:48 و16).
وجاء في الأسفار المقدسة أن روح الله هو مصدر الحكمة والنظام، وحياة الكون، وأنه يلهم الأنبياء ويعطي القوة والحكمة للرؤساء والقضاة ولشعب الله، وأنه يعلم ويختار، ويحزن ويغتاظ. ومن كلام يوحنا المعمدان يظهر أنه إله مستحق العبادة ومصدر بركات ثمينة. والسيد المسيح له كل المجد، تكلم عنه على أنه أقنوم معروف متميز، إذ وعد تلاميذه أنه يرسله إليهم كمعزيًا لينوب عنه، ويعلمهم ويقويهم، وبين لهم أنه يجب عليهم أن يقبلوه ويطيعوه (تكوين 2:1 و3:6 و مزمور 30:104 و7:139 و أيوب 13:26 وأشعياء 16:48). فعلى هذا المنوال نرى أن إعلانات هذا السر التي كانت أولًا مبهمة أخذت تنجلي رويدًا رويدًا، حتى اتضح أكمل إيضاح في الإنجيل، وصار إيمان جميع المؤمنين.
2- ألفاظ الصورة الموضوعة للمعمودية:
لقد أمر السيد المسيح أن يعمد المؤمنون باسم الآب والابن والروح القدس، ولذلك كل مسيحي يعتمد باسم الثالوث الأقدس، وهذا يدل على أقنومية كل منهم، ومساواتهم، ويستلزم إقرارنا بأننا مكلفون بالعبادة لهم، والاعتراف بهم علانية.
3- البركة الرسولية:
البركة الرسولية هي طلبة نعمة المسيح من المسيح، ومحبة الآب من الآب، وشركة الروح القدس من الروح القدس. فألفاظ صورة هذه البركة تتضمن الإقرار بأقنومية كل من الآب والابن والروح القدس، وألوهيتهم.
4- ظروف معمودية المسيح:
حين تعمد المسيح خاطبه الآب وحل عليه الروح القدس مثل حمامة. وهذا يستلزم ما بينته ألفاظ صورة المعمودية والبركة الرسولية.
والسيد المسيح في خطابه لتلاميذه في الليلة التي أسلم فيها (يوحنا 16،15،14) تكلم عن الآب وخاطبه ووعد التلاميذ بإرسال الروح القدس إليهم. فأوضح به أقنومية وألوهية كل من الآب والابن والروح القدس، كل الإيضاح.
فمن كل ما تقدم من الأدلة، ليس هو الأساس الوحيد لإيمان الكنيسة بالتثليث، بل هو مؤسس على الخصوص على ما يعلمه الكتاب أولًا في وحدانية الله، وثانيًا في أقنومية الآب والابن والروح القدس، وألوهية كل منهم. وخلاصة ما حصلته الكنيسة من تعليم الكتاب المقدس هو وجود إله واحد في ثلاثة أقانيم متساوين في الجوهر والمجد، أي كلًا منهم هو صاحب اللاهوت.
المراجع
1- سر التثليث والتوحيد – القمص فليمون الانبا بيشوي
2- ايماننا المسيحي – الراهب باسيليوس المقاري
3- مدخل الي حقيقة الثالوث – القس ابراهيم القمص عازر