تفسير سفر صموئيل الاول ٢١ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الحادي والعشرون
داود الطريد

صورة مؤلمة لداود إذ صار طريدًا، ترك كل شيء فجأة وخرج وحده ولم يكن معه سيف ولا خبز، ولا وضع خطة أمامه، ولم يستشر الرب في شيء فصار يتخبط، دخل نوب مدينة الكهنة وبسببه قُتل الكهنة وهلكت المدينة، انطلق إلى جت فحسبوه جاسوسًا طائشًا واضطر إلى التظاهر بالجنون لينقذ حياته. إنها لحظات ضعف عاشها رجل الإيمان الجبار داود.

داود في نوب   [1-9].

عجبًا إن الذي ارتعب أمامه الوثنيون، وغنت له النساء “ضرب شاول ألوفه وداود ربواته” (18: 7)، والذي حاز حب وإعجاب الملك وابنه وابنته والقواد وجميع الشعب… يهرب أمام الملك المرفوض. لقد جاءت ساعة التجربة المُرّة التي لابد لكل مؤمن أن يجتازها، حين يشعر أنه وحيد ليس من يسنده ولا من يشاركه مشاعره.

جاء داود النبي إلى نوب، شمال أورشليم (إش 10: 32) بالقرب منها، حُسبت كمدينة للكهنة مع أنها لم تدرج مع مدن الكهنة في (يش 21)، إنما حسبت كذلك لأن الخيمة انتقلت إليها بعد خراب شيلوه. هناك التقى بأخيمالك الكاهن، ربما هو أخيَّا بن أخيطوب (14: 3) أو أخوة وخلفه في الكهنوت. كان رجلاً صالحًا وهو ابن حفيد عالي الكاهن الذي صدر الحكم اإلهي بخراب بيته (3: 13-14).

عندما ذكر السيد المسيح هذه الحادثه في (مر 2: 26) قال إنها حدثت في إيام أبيأثار رئيس الكهنة، وهو ابن أخيمالك (22: 2)، مارس الرئاسة الكهنوتية مع أبيه.

إذ رأى أخيمالك داود وحده، لأن أتباعه وقفوا خارجًا في البداية ثم تقدموا؛ وربما حسب أخيمالك داود وحده لأنه كان يتوقع موكبًا من الأشراف يرافقونه بحكم مركزه في البلاط الملكي، وحسب من معه أنهم لا يُحسبون. هذا المنظر أربك أخيمالك ربما لأنه سمع أن شاول يريد قتل داود، وأن داود جاء هاربًا من وجه الملك فيحل على أخيمالك غضب الملك إن استضافه.

لقد خارت قوى داود فاستخدم الخداع والمواربة ونوعًا من الكذب ليبرر موقفه أمام أخيمالك إذ قال له: “إن الملك أمرني بشيءٍ، وقال لي: “لا يعلم أحد شيئًا من الأمر الذي أرسلتك فيه وأمرتك به، وأما الغلمان فقد عينت لهم الموضع الفلاني والفلاني” [2]. كان داود رجلاً حسب قلب الله، لكنه في ضعفه كان يخطئ؛ وقد أدى ضعفه هذا وكذبه إلى عواقب وخيمة؟ [18-19].

طلب داود من خبز الوجوه، الخبز المقدس (لا 24: 5-9)، الذي كان الكهنة يضعونه جديدًا كل سبت ويأكلون القديم، ولا يحل تقديمه لغير الكهنة. ومع ذلك فقد قبل أخيمالك أن يقدمه لداود ورجاله إن كانوا طاهرين حتى من العلاقات الزوجية، ذلك لأنهم جاعوا ولم يكن يوجد خبز آخر.

استخدم السيد المسيح الحادثة ليوضع لليهود كيف أنه يحل للتلاميذ أن يقطفوا السنابل ويفركوها بأيديهم ويأكلوا منها يوم السبت (مر 2: 25؛ مت 12: 3-4؛ لو 6: 3-5).

يقول القديس كيرلس الكبير: [مع أن داود سلك مسلكًا مغايرًا للناموس ولكن له في نفوسنا كل إكبار وإجلال، فهو قديس ونبي… يجب أن نلاحظ أن خبز التقدمة الوارد ذكره في رواية داود يشير إلى الخبز النازل من السماء الذي تراه على موائد الكنائس المقدسة وأن جميع أمتعة المائدة التي نستعملها في خدمة المائدة السرية لهي رمز للكنوز الإلهية الفائقة[158]].

لم يفعل داود النبي ذلك عن تهاون بالوصية أو تراخ، لكن لم يكن أمامه طريق آخر، لذا لم يُحسب أكله هو ومن معه من هذا الخبز كسرًا للوصية[159]. وقد حمل تصرفه هذا رمزًا إذ تمتعت الأمم لا بخبز التقدمة وإنما بجسد السيد المسيح، الخبز النازل من السماء، كمصدر شبع حقيقي للنفس.

سأل داود عن وجود أي سلاح لدي الكاهن في الخيمة، فأعطاه سيف جليات الذي قتله داود في وادي البطم (السنط) ملفوفًا ربما في ثوب جليات وكان موضعًا خلف أفود الكهنة ليكون في مأمن. قال داود للكاهن: “لا يوجد مثله أعطني” [9]. كان يكفيه أن ينظر إلى السيف فتهدأ نفسه ويطمئن. كان يلزمه أن يذكر كيف وقف أمام جليات الجبار بكل سلاحه كشاب لا يملك سوى عصا ومقلاع وخمسة أحجار ملسى من الوادي، وباسم الرب غلب وانتصر.

كان في نوب أحد عبيد شاول، ربما ذات الغلام الذي كان يرافقه حين ذهب يبحث عن أتن أبيه الضالة (9: 3)، يدعى دواغ الأدومي، رئيس رعاة شاول، رجل دخيل، كان محصورًا أمام الرب [7] إما لوفاء نذر أو للتطهير. وقد أدرك داود أن في وجود دواغ خطرًا، لذا أسرع بترك المكان في ذات اليوم. لكن دواغ أبلغ شاول بما حدث وأثاره لقتل لا اخيمالك وحده بل وجميع الكهنة مع نسائهم وأولادهم مع ماشيتهم.

يرى القديس اغسطينوس[160] أن “دواغ” تعني “تحركًا” وآدوم تعني “ترابًا” أو “أرضًا”… وكأنه يمثل من يحمل “تحركًا أرضيًا” لا سماويًا، أي سلوكًا أرضيًا يفسد خدمة الرب.

داود في جت   [10-15].

هرب داود إلى جت مدينة جليات الجبار الذي قتله، وها هو قادم يحمل سيف بطلهم، فثاروا ليقتلوه. لقد وجد أرامل وأيتامًا ترملن وتيتموا بسبب داود ولم يكن ممكنًا أن يستضيفوا داود كطريد شاول، إنما حسبوه جاسوسًا خبيثًا ومتهورًا. قُدم لأخيش (أحد ألقاب الملوك الفلسطينيين) فلم يجد وسيلة للخلاص إلا بالتظاهر بالجنون، فقد تمتع المجانين ببعض الامتيازات، منها عدم معاقبتهم على تصرفاتهم، كما حسب البعض أن بهم روحًا يخافونه ويرهبونه.

يا له من منظر يمثل منتهى البؤس! إذ نرى داود الجبار، رجل الله التقي، المتكل على الله، يخور في إيمانه ليتظاهر بالجنون. فيخربش أي يكتب كتابة غير واضحة على الباب، وبحسب الترجمة السبعينية  كان يطبل على الباب، وكان يريقه يسيل على لحيته [13]، وهذه كانت تعتبر بعض علامات الجنون في الشرق، لاسيما ما للحية من إكرام. لقد استخدم رجل الإيمان وسيلة بشرية لخلاصه!!

حسب داود نفسه في جت كحمامة بكماء بين الغراء، ضاقت نفسه جدًا، لم يجد ما يتكلم به لينقذه، ولا قوة للخلاص، لا حول له ولا قوة… لقد اضطر إلى استخدام الوسيلة البشرية المُرّة، غير أن قلبه ارتفع نحو الله كما أعلن في مزموره السادس والخمسين. جاء في مقدمة المزمور [عنوان لداود عندما أخذه الفلسطينيون (Allophyli معناها “الغرباء”) في جت (معناها “معصرة”)].

يعلق القديس أغسطينوس على هذه المقدمة، قائلاً بإن ما حدث كان رمزًا لما تحقق مع شخص ربنا يسوع المسيح بن داود الذي أخذه غير المؤمنين الغرباء – ليجتاز معصرة الصليب.

[كيف أُخذ هنا إلى جت؟

أُخذ جسده، الذي هو الكنيسة، إلى المعصرة.

ماذا في المعصرة؟…

إثمار! العنب الذي يُترك على الكرمة بلا عصر يبدو سليمًا لكنه لا يفيض (عصيرًا)، متى أُلقى، في المعصرة وديس وعصر يبدو كأن ضررًا أصابه، لكن هذا الضرر لا يؤذي (إذ يقدم عصيرًا)…

ليت القديسين الذين يعانون من العصير بواسطة غرباء يدركون هذا المزمور…

 وينطقون بكلماته.

“ارحمني يا الله لأن الإنسان يطأني” (مز 56: 1). لا تخف لأن الإنسان  يطأك، فسيكون لك خمر. فيك عنب لكي تُداس (فتنتج عصيرًا).

“اليوم كله محاربًا يضايقي” (مز 56: 1)، كل شخص غريب عن القديسين يضايقك..

“اليوم كله” أي في كل الأزمنة… لا يقل أحد في نفسه: وُجدت مضايقات في أيام آبائنا، أما في أيامنا فلا توجد. إن ظننت أنك لا تعاني من مضايقات، فأنت لم تبدأ بعد أن تكون مسيحًا. هنا يظهر صوت الرسول: “جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يضطهدون” (2 تي 3: 12). إن كنت لا تعاني اضطهاد من أجل المسيح احذر لئلا تكون لم تبدأ أن تعيش بالتقوى في المسيح. متى بدأت بالتقوى في المسيح تدخل المعصرة؛ استعد للعصر. لا تكن جافًا لئلا تعجز عن أن تفيض بشيء خلال العصير[161]].

إذ أنقذ الله داود من أبيمالك – بعدما تظاهر بالجنون – انطلق مسبحًا ذاك الذي أنقذه قائلاً:

“أبارك الرب في كل حين…

بالرب تفتخر نفسي، يسمع الودعاء فيفرحون…

طلبت إلى الرب فاستجاب لي ومن كل مخاوفي أنقذني…

ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم،

ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب…

قريب هو الرب من المنكسري القلوب ويخلص المنسحقي الروح.

كثيرة هي بلايا الصديق ومن جميعها ينجيه الرب.

يحفظ جميع عظامه. واحد منها لا ينكسر…

الرب فادي نفوس عبيده وكل من اتكل عليه لا يُعاقب” (مز 34).

يعلق القديس أغسطينوس على تصرفات داود النبي أمام ملك جت كما جاء في الترجمة السبعينية “وأخذ يطبل على أبواب المدينة” [13] قائلاً: [“وأخذ يطبل”، لأن الطبلة لا تُعمل إلا بشد الجلد على خشب؛ داود طبل ليعني أن المسيح ينبغي أن يصلب. لكنه “أخذ يطبل على أبواب المدينة”. ما هي “أبواب المدينة” إلا قلوبنا التي أُغلقت أمام المسيح، هذا الذي بطبله صليبه يفتح قلوب الساقطين تحت الموت؟[162]].

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى