تفسير سفر صموئيل الأول ٢٥ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الخامس والعشرون
داود وأبيجايل
في الأصحاح السابق سقط شاول العنيف بين يدي داود الوديع المتضع فأبت نفسه أن تصنع به سوءًا، والآن إذ رفض نابال في حماقة أن يقدم عطية لغلمان داود الذين حرسوا غنمه، سابًا إياهم، صمم داود أن ينتقم منه (ضعف بشري!)، فأرسل الله له إمرأة حكيمة ترده عن الانتقام لنفسه، وقد استجاب النبي لمشورتها (وداعة!).
موت صموئيل النبي [1].
بعد فترة جهاد طويلة – إذ دُعي صموئيل وهو في الثانية عشرة من عمره، وبقى يخدم الرب وشعبه بكل أمانة حتى بلغ التسعين من عمره – مات فاجتمع جميع إسرائيل وندبوه كما ندبوا موسى النبي (تث 34: 8) ودفنوه في الرامة على مرتفعات بنيامين، غالبًا في فناء بيته أو البستان الملحق به، إذ لم يكن ممكنًا دفنه داخل مبنى البيت لأن ذلك يُحسب نجاسة (19: 16).
تُرى هل التقى داود بشاول ويوناثان؛ لأنه غالبًا ما يُنادى بعفو شامل في مثل هذه المناسبات، وقد جاء داود ليشترك في توديع معلمه وأبيه الروحي وصديقه الحق والسند الوداع الأخير. غالبًا لم يقدر أن يقترب من شاول إلا في حدود مراسيم وواجبات الجنازة.
حماقة نابال [2-13].
إذ انتهت مراسيم الجنازة نزل داود إلى برية فاران [1]، وهي برية متسعة تكاد تكون مقفرة من السكان، جنوب اليهودية، يحدها شرقًا أرض أدوم وجنوبًا برية سيناء وغربًا برية شور.
جاء في الترجمة السبعينية أنه ذهب إلى “معون”، وهي تبعد نحو ميل واحد عن الكرمل وثمانية أميال جنوب حبرون.
وجود داود ورجاله في المنطقة كان باعثًا للسلام والطمأنينة خاصة بالنسبة للرعاة إذ كانوا يتعرضون لهجمات العمالقة والفلسطينيين، بجانب هجمات الحيوانات المفترسة. كان داود ورجاله أشبه بسور يحمي المراعي هناك خاصة مراعي نابال الذي كان غنيًا جدًا، له ثلاثة آلاف من الغنم وألف من الماعز. وقد عبر رعاته عن دينهم لداود ورجاله بحمايتهم لهم، إذ قال أحدهم: “الرجال محسنون إلينا جدًا فلم نؤذ ولا فُقد منا شيء. كل أيام ترددنا معهم ونحن في الحقل، كانوا سورًا لنا ليلاً ونهارًا كل الأيام التي كنا معهم نرعى الغنم” [15-16].
أما اسمه “نابال” فعبري معناه “جاهل” (مز 14: 1). وكما قالت زوجته أبيجايل عنه لداود كي تصرف عنه غضبه: “لأن كاسمه هذا هو، نابال اسمه والحماقة عنده” (1 صم 25).
مسكينة هذه الزوجة التي اقترنت برجل اتسم بالحماقة والجهالة. اضطرت أن تعترف بحماقته في مرارة نفس، لتنقذه وتنقذ حياتها وأيضًا تخلص داود من غضبه ورغبته للانتقام لنفسه. ليتنا نحن أيضًا إذ قبلنا الجهالة قرينًا لنا نعترف بذلك أمام ابن داود مخلص نفوسنا “الحكمة” ذاته ليحل في قلوبنا نازعًا ظلمة الجهل من أعماقنا.
يحذرنا سليمان الحكيم في سفر الأمثال من الجهل قائلاً:
“الابن الحكيم يسر أباه والابن الجاهل حُزن أمه…
الحكماء يذخرون معرفة، أما فم الغبي فهلاك قريب…
فعل الرذيلة عند الجاهل ضحك” (أم 23: 10-11).
للأسف كان هذا الرجل الأحمق من نسل كالب الذي سكن حبرون وما جاورها (يش 15: 13)، أي جاء من أصل شريف، لكن الأصل لا يشفع فيه، إذ قيل عنه: “وأما الرجل فكان قاسيًا وردئ الأعمال” [3].
سمع داود أن نابال يجز غنمه [4] وكان هذا الوقت يُحسب وقت فرح وأكل وشرب وعطاء بسخاء، لذا أرسل إليه داود يقول له: “حييت وأنت سالم وبيتك سالم وكل مالك سالم، والآن قد سمعت أن عندك جزّازين. حين كان رعاتك معنا لم نؤذهم ولم يُفقد لهم شيء كل الأيام التي كانوا فيها في الكرمل. اسأل غلمانك فيخبرونك – فليجد الغلمان نعمة في عينيك لأننا قد جئنا في يوم طيب. فأعطِ ما وجدته يدك لعبيدك ولابنك داود”.
لقد خدموا نابال إذ حفظوا ماله من الوحوش اللصوص دون مقابل، ولم يرد داود أن يأخذ شيئًا بغير رضاه. لذا أرسل في هذه المناسبة يطلب ما تجود به يده، وقد طلب بأدب ووداعة كابن يتحدث مع أبيه. وقد طلب من رسله ألا يزيدوا شيئًا عن كلامه [9] حتى لا يخطئ واحد منهم بكلمة فظَّة فتنسب لداود.
قابل نابال هذا اللطف بغلاظة قلب وإساءة إذ تجاهل السبب الذي لأجله يعيش داود طريدًا، معللاً ذلك بأقسى الألفاظ، حاسبًا إياه إنسانًا متمردًا على سيده الملك، فلا يستحق خيرًا لأنه خارج عن القانون [10-11].
كشف أسلوب إجابته عن طمعه، إذ يقول: “أآخذ خبزي ومائي وذبيحي الذي ذبحت لجازيّ وأعطيه لقوم لا أعلم من أين هم” [11].
إذ سمع داود من غلمانه ما قال نابال أدرك كيف تحدث باستخفاف محتقرًا إياه، كما شعر أنه طماع ظلم غلمان داود الذين قاموا بحراسته بأمانة وشجاعة. ثار داود وغضب، فطلب من رجاله أن يتقلد كل واحد سيفه وتقلد هو أيضًا سيفه وخرج معه حوالي 400 رجل وترك مائتين مع الأمتعة.
داود الذي اتسم بضبط النفس والتواضع، الآن في لحظات ضعفه كاد أن يقترف جريمة لو تمت لأحزنت قلبه كل بقية أيام حياته، ولصارت عثرة لشعبه عندما يتولى الحكم.
حكمة أبيجايل [14-31].
إن كانت حماقة نابال كادت تؤدي إلى هلاكه، فإن حكمة أبيجايل هدأت قلب داود كي لا ينتقم لنفسه، وأزالت الهلاك المدبر لها ولرجلها بواسطة رجال داود، وأهلتها لتصير زوجة داود الملك والنبي.
قيل عنها: “وكانت المرأة جيدة الفهم وجميلة الصورة” [3]. كانت جيدة الفهم، أي مملوءة حكمة، وقد طبعت هذه الحكمة انعكاسًا على ملامح وجهها فكانت جميلة الصورة. حقًا توجد نساء جميلات الصورة لكنهن بغير الحكمة يفقدن قيمة هذا الجمال، بل يتحول الجمال إلى تحطيم لشخصياتهن وحياتهن.
ما أحوجنا أن تكون الحكمة طبيعتنا في كياننا الداخلي مقترنة بجمالنا في الخارج، أي نحمل قدسية الإنسان الداخلي وقدسية الجسد أيضًا بأحاسيسه ومشاعره ومواهبه وكل طاقاته. هذه الحكمة (أو المعرفة أو الفهم) هي هبة إلهية.
v الروح القدس الذي فيه كل أنواع المواهب، يهب البعض كلمة حكمة[182].
v خلال قيادة الروح يأتي الإنسان إلى معرفة طبيعة كل الأشياء[183].
v أرسل نورك (مز 43: 3)؛ هذا النور المرسل من الآب إلى ذهن المدعوين للخلاص هو الفهم خلال الروح، الذي يقود الذين استناروا بالله[184].
العلامة أوريجانوس
v ليست معرفة بدون إيمان ولا إيمان بدون معرفة… الابن هو المعلم الحقيقي.
القديس أكليمندس الإسكندري[185]
“أبيجايل” كلمة عبرية مشتقة من كلمتين تعنيات “أب” (أو “مصدر”)، “الفرح”… وكأن الحكمة هي مصدر الفرح الحقيقي لا للإنسان الحكم وحده وإنما أيضًا لعائلته ولمن حوله. يقول سليمان الحكيم: “الابن الحكيم يسر أباه والابن الجاهل حزن أمه” (أم 10: 1).
“الحكمة خير من القوة والحكيم أفضل من الجبار” (حك 6: 1).
يحدثنا الكتاب المقدس عن الحكمة ليس فقط كعطية إلهية وإنما بالأحرى هي أقنوم إلهي يتعامل معنا ونحن معه في علاقات شخصية متبادلة:
أ. الحكمة كخالق: “أي شيء أثمن من الحكمة صانعة الجميع؟!” (حك 8: 5).
ب. الحكمة تنادي وتحب: “ألعل الحكمة لا تنادي والفهم ألا يعطي صوته. عند رؤوس الشواهق عند الطريق بين المسالك تقف… أنا أحب الذين يحبونني والذين يبكرون إليّ يجدونني… كنت عنده صانعًا وكنت كل يوم لذته فرحة دائمًا قدامه” (أم 8: 1، 2، 17، 30).
“الحكمة بنت بيتها، نحتت أعمدتها السبعة، ذبحت ذبحها، مزجت خمرها، أيضًا رتبت مائدتها… قالت له: “هلموا كلوا من طعامي واشربوا من الخمر التي مزجتها” (أم 9: 1-5).
نتحد بها وهي تجعلنا أصدقاء الله: “لقد أحببتها والتمستها منذ صباي وابتغيت أن أتخذها لي عروسًا، وصرت لجمالها عاشقًا… عزمت أن أتخذها قرينة لحياتي…” (حك 8: 2، 9).
“وفي كل جيل تحل في النفوس القديسة فتنشئ أحباء الله وأنبياء، لأن الله لا يحب أحدًا إلا من يُساكن الحكمة” (حك 7: 27-28).
لقد عرف الغلمان أن أبيجايل اتسمت بالحكمة على خلاف رجلها نابال الأحمق، لذا جاء أحدهم إليها يخبرها بما حدث قائلاً:
“هوذا داود أرسل رسلاً من البرية ليباركوا سيدنا فثار عليهم.
والرجال محسنون إلينا جدًا فلم نؤذَ ولا فُقد منا شيء كل أيام ترددنا معهم ونحن في الحقل.
كانوا سورًا لنا ليلاً ونهارًا…
والآن اعلمي وانظري ماذا تعملين لأن الشر قد أُعد على سيدنا وعلى أهل بيته وهو ابن لئيم لا يمكن الكلام معه” [17-24].
هذا الحديث الصريح الذي فيه يتحدث الغلام بأدب واحتشام لكن في صراحة يصف رجلها كابن لئيم يكشف عن جانبين في حياة أبيجايل وهي ثقة الكل فيها وفي حسن تدبيرها من جهة وتقديرها لكل إنسان، لذا لم يخف الغلام من دعوة رجلها كابن لئيم، إذ يعرف أنها تجيد الاستماع وتسمع بحكمة لكل كلمة في غير غطرسة أو عجرفة، الأمر الذي ينقص الكثيرين في تعاملاتهم ليس فقط مع مرءوسيهم وإنما حتى مع أولادهم.
يكشف الحديث أيضًا عن دور داود ورجاله في المنطقة إذ حسبهم الغلمان سورًا لهم. فإن حماية ثلاثة آلاف من الغنم من الماعز في منطقة واسعة من البرية يهاجمها عنفاء كالعمالقة والجشوريين والجرزيين (27: 8) ليس بالأمر السهل.
لقد أدرك داود النبي أن الله سوره وملجأ له، لذا لا يكف عن أن يكون هو سورًا للآخرين، يرد حب الله بحبه لخليقته المحبوبة لديه أي بني البشر.
الله سور لنا، يحمينا من ضربات العدو ويستر على ضعفاتنا، هكذا يليق بنا أن نكون سورًا للآخرين، نسند ضعفاء النفوس (2 كو 11: 29؛ رو 15: 1؛ 1 تس 5: 14)، نستر أيضًا ضعفاتهم بالحب ولا ندينهم. يقول الأب دوروثيؤس: [في كلمة – كما سبق أن قلت – يليق بكل أحد أن يعين الغير قدر استطاعته لأنه كلما اتحد الإنسان مع قريبه يتحد بالأكثر مع الله[186]].
إذ سمعت أبيجايل كلام الغلام لم تحتد عليه لأنه تدخل فيما لا يعنيه ولأنه دعا رجلها كابن لئيم، ولا ناقشت الأمر، إذ كان الوقت مقصرًا والحاجة ماسة للعمل السريع بحكمة. لقد أخذت من الخيرات مائتي رغيف خبز وزقي خمر وخمسة خرفان مهيأة وخمس كيلات من الفريك ومائة عنقود من الزبيب. ومائتي قرص من التين ووضعتها على الحمير وطلبت من غلمانها أن يعبروا قدامها، ولم تخبر نابال رجلها بما فعلت.
كان داود في ثورته يتحدث مع رجاله، وقد أقسم: “هكذا يصنع الله لأعداء داود وهكذا يزيد إن أبقيت من كل ماله إلى ضوء الصباح بائلاً بحائط” (26: 22)، أما هي فبحكمتها قدمت أمامها هدية مادية من الخيرات (أم 17: 8؛ 18: 6)، وقدمت تواضعًا، إذ نزلت عن الحمار، وسقطت أمامه على وجهها، وسجدت إلى الأرض عند رجليه، كما قدمت جوابًا لينًا يصرف الغضب (أم 15: 1)، إذ قالت له:
“عليّ أنا يا سيدي هذا الذنب ودع أمتك تتكلم في أذنيك واسمع كلام أمتك.
لا يضعن سيدي قلبه على اللئيم هذا نابال لأن كاسمه هذا هو…
وأنا أمتك لم أرَ غلمان سيدي الذين أرسلتهم…
والآن يا سيدي حيّ هو الرب وحية هي نفسك إن الرب قد منعك عن إتيان الدماء وانتقام يدك لنفسك…
وأصفح عن ذنب أمتك لأن الرب يصنع لسيدي بيتًا أمينًا، لأن سيدي يحارب حروب الرب ولم يوجد فيك شر كل أيامك.
وقد قام رجل ليطاردك ويطلب نفسك، ولكن نفس سيدي لتكن محزومة في حزمة الحياة مع الرب إلهك وأما نفس أعدائك فليرم بها كما من وسط كفة المقلاع.
ويكون عندما يصنع الرب لسيدي حسب كل ما تكلم به من الخير من أجلك ويقيمك رئيسًا على إسرائيل، أنه لا تكون لك هذه مصدمة ومعثرة قلب لسيدي، أنك قد سفكت دمًا عفوًا أو أن سيدي قد أنتقم لنفسه.
وإذا أحسن الرب إلى سيدي فاذكر أمتك” [24-31].
ما أحكم هذه السيدة وما أعذب كلامها، فقد كشفت عن روحها الداخلية التي اتسمت بالتواضع إذ بدأت تعترف بخطئها أو ذنبها الذي لم ترتكبه بإرادتها إنما بكونها شريكة حياة رجل أحمق يخطئ فيسيء إلى البيت كله. اعتذرت في رقة أنها لم تر غلمان داود لتعطيهم من خيرات الله لها. كما اتسمت بالإيمان فحسبت شاول مرفوضًا إذ دعته “رجلاً” وليس “ملكًا” بينما نظرت إلى داود كرئيس وملك في طريقه لاستلام العرش. اتسمت أيضًا بالحكمة ففي لطف ذكّرت داود بالآتي:
أ. أنه لا يليق به مقاومة رجل لئيم كنابال… فإن داود أسمى وأعظم من أن يمد يده إلى مثل نابال.
ب. أن الله هو الذي أرسلها كي لا ينتقم لنفسه، فهو رجل عام ذو نفس كبيرة يعمل لحساب الجماعة لا لحساب نفسه.
ج. أن شاول قام وحاربه لكن الله حفظ نفسه كما في حزمة (صرة)، أما أعداؤه فيلقون كحجارة من وسط المقلاع… فلماذا الآن يدافع عن نفسه؟
د. أنه مهتم أن يحارب حروب الرب، فلا يليق به أن يهتم بهذه الصغائر.
هـ. أنه سيستلم المُلك على كل الشعب، فليعمل كملك يهتم بشعبه ولا يعثرهم بالانتقام لنفسه.
و. أنه يملك، لذا تطلب ألا ينساها عندما ينال هذه الكرامة… وكأنها تقول له إن عيون الكل إليك كملك تنتظر منك إحسانًا فلا تنشغل بغير هذا.
يمكننا القول إن الله سمح لأبيجايل أن تتدخل كي لا يخطئ داود لسببين:
أ. أن داود نقي القلب احتمل شاول في اضطهاده له مرات كثيرة، لهذا إذ يضعف داود يسرع الرب فيحدثه بطريق أو آخر. لم تأتِ أبيجايل إليه مصادفة، إن صح التعبير، وإنما مجيئها بتدبير إلهي؛ نظر الرب إلى قلبه وطول أناته فلم يرد له السقوط.
ب. اتسم داود بالاتضاع فلم يستكف من قبول مشورة من الآخرين مادامت بفكر روحي سليم. هنا تبرز حكمة داود الملتحمة بحكمة أبيجايل، إذ قبل المشورة ومدحها وقام بتنفيذها، بالرغم من قسمه الذي حلف به أمام رجاله. وكما يقول الأب يوسف: [لقد فضل (داود) أن يكون كاسرًا لكلمته عن أن يحفظ وعده المرتبط بالقسوة[187]].
داود يمتدح أبيجايل [32-35].
شعر داود النبي أن ما قامت به أبيجايل هو رسالة إلهية مملوءة حكمة، فقال لها: “مبارك الرب إله إسرائيل الذي أرسلك هذا اليوم لاستقبالي… لقد سمعت لصوتك ورفعت وجهك” [32-35].
لا أعرف هل أمتدح أبيجايل التي ردّت رجلاً عظيمًا كداود عن ارتكاب جريمة أم أمدح داود الذي قبل المشورة وامتدحها؟! إن كان قد تتلمذ على يدي صموئيل النبي التقي فقد قيل إن أبيجايل أيضًا تتلمذت على يديه، فحمل الاثنان روح الحكمة الممتزجة بالتواضع والورع.
ليتنا نتمثل بداود إذ لم يعتمد على رأيه الذاتي بل قبل مشورة الغير:
v يستحيل على إنسان يتمسك بحكمة الخاص وفكره الذاتي أن ينكر نفسه…
v الذي لا يتشبث بإرادته الذاتية ينال دائمًا ما يريده. فمن الخارج لا يسلك طريقه الذاتي لكن ما يحدث – أيا كان الأمر – أنه ينال شبعًا كافيًا ويكتشف أمام نفسه أن ما حدث يحقق إرادته.
v إنني أعرف أنه لا يحدث سقوط لراهب سوى من اعتدً بآرائه.
ليس شيء يدعو إلى الأسى – ولا ما هو أكثر خطورة – من أن يكون الإنسان مرشدًا لنفسه.
الأب دوروثيؤس[188]
v استعد المحاربون للانتقام من نابال، لكن أبيجايل صدتهم بتوسلاتها, من هنا ندرك أنه يلزمنا ليس فقط أن نخضع لتوسلاتهم (الصالحة) في الوقت المناسب، بل ونسر بها. هكذا كان داود إذ سُرّ بمن توسطت لديه وباركها، لأنه مُنع من الرغبة في الانتقام لنفسه.
القديس أمبروسيوس[189]
هكذا كانت أبيجايل حكيمة في توبيخها وكان لداود الأذن الصاغية وكما يقول سليمان الحكيم: “قرط من ذهب وحليّ من إبريز الموبخ الحكيم لأذن سامعه” (أم 25: 12)، وكما يقول داود نفسه: “ليضربني الصديق فرحمة، وليوبخني فزيت للرأس” (مز 141: 5).
داود يتزوج أبيجايل [36-44].
انتهت القصة بموت نابال بعد حوالي عشرة أيام بسكتة قليية، ربما بسبب الضيق الداخلي والكآبة ثم تزوج داود أبيجايل.
عادت أبيجايل لتجد نابال رجلها قد أقام وليمة كوليمة الملوك [36]، يسرف بلا حساب من أجل الترف بينما رفض تقديم القليل لمن يستحقون. ظن أن الوليمة تسعده، لكنه إذ سكر جدًا زاد حماقة، ولم يسعد بشيء.
إذ عرف داود بموت نابال أدرك أن يد الله قد امتدت لتعمل وتضرب من أساء إليه دون أن يخطئ هو إليه. طلب أبيجايل زوجة، فقبلت في الحال بغير حوار وفي اتضاع، إذ قامت وسجدت على وجهها إلى الأرض أمام رسل داود. وقالت: “هوذا أمتك جارية لغسل أرجل عبيد سيدي”. قبلته وهو وسط الضيق لترافقه أيام مجده.
جاء زواج داود بأبيجايل بعد موت صموئيل النبي وأيضًا رجلها الأحمق نابال، يمثل اتحاد السيد المسيح بكنيسته أبيجايل الحقيقية، صارت فيه مصدر الفرح الداخلي. فإنه ما كان يمكن لأبيجايل أن تتحد بعريسها السماوي إلا بعد موت صموئيل النبي، أي بعد إكمال الناموس ونبوات العهد القديم لتحيا لا تحت الناموس بل في حرية النعمة. اتحدت بعريسها الجديد بعد أن مات رجلها القديم الأحمق أي العبادة الوثنية، إذ جاءت الكنيسة من بين الأمم الوثنية.
لِنَمُت عن حرفية الناموس، ولنرفض نابال من حياتنا، فنقبل ابن داود عريسًا حقيقيًا يفيض بنعمته فينا فنمتلئ فرحًا بروحه القدوس لنفيض به بلا توقف، إذ يقول: “إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب يجري من بطنه أنهار ماء حيّ” (يو 7: 37-38).