تفسير المزمور ٣٢ للقمص تادرس يعقوب

المزمور الثاني والثلاثون

الفرح بالغفران

مزمور الصراحة والاعتراف بالخطية:

هو مزمور التوبة الثاني، يدعوه بعض الدارسين مع المزامير (51، 130، 145) مزامير بولسية (تحمل فكرًا يشابه فكر الرسول بولس)، إذ تتحدث بقوة عن عمل الله الخلاصي في حياة الخاطي التائب.

إنه جوهرة الجمال الروحي وتدبير الله الخلاصي. بينما تحتشد الدموع والعبرات والأسى في المزمور السادس، أول مزامير التوبة، نشعر هنا بمدى الراحة التي يتمتع بها الخاطي الذي لا يكتم خطيته، بل يقول: “أعترف للرب بإثمي” [5]. فالخطية الرئيسية هنا ليست العصيان وإنما بالحري الرياء. فمفتاح المزمور هو كلمة “أكتم” أو “لا أكتم” [5]. فعندما رفض المرتل أن يكشف عن إثمه يقول: “أنا سكت فبُليت عظامي، من صراخي طول النهار” [3]. وإذ كشف له الله عن الخطية غُفرت، وطلب المرتل إلا يكون “في فمه غش” [2]، سائلاً أن تحيط به رحمة الله [12] أو حب الله الذي يقيم عهدًا مع شعبه ويود خلاصهم.

صلى داود النبي المزمور الحادي والخمسين بعدما أشار إليه ناثان بأصبعه، قائلاً: “أنت هو الرجل” (2 صم 12: 7)، فكان المزمور اعترافا من داود بخطيته؛ ثم ترنم بهذا المزمور إذ اختبر بركات غفران خطيته الموجهة ضد الله نفسه وضد بتشبع وأوريا الحثي. وكأن هذا المزمور يأتي بعد المزمور 51 بحسب الترتيب التاريخي.

أُستخدم بعد ذلك في العبادة الجماعية كما يظهر من الأية [11]: “كثيرة هي ضربات الخطاة، والذي يتكل على الرب الرحمة تحيط به”.

حسب طقس بعض الكنائس البيزنطية يتلو الكاهن هذا المزمور ثلاث مرات كنوع من التطهير الشخصي والأستعداد لخدمة سرّ المعمودية.

أما اليهود الـ Ashkenazi الذين من أصل شرق أوربا، فيتلون المزمور كصلاة مسائية في ثاني أيام الأسبوع (الأثنين).

يعتقد Grotius أن المزمور قد وُضع ليُرنم به في يوم الكفارة.

قيل إن هذا المزمور هو المزمور المفضل جدًا لدى القديس أغسطينوس؛ اعتاد أن يُصليه بقلب حزين وعينين باكيتين. عندما اقترب القديس من الرحيل من هذا العالم طلب أن يُكتب هذا المزمور – مع بقية مزامير التوبة – بحروف كبيرة على لافتة ضخمة، وتوضع مقابل سريره، وكان يردد كلمات هذه المزامير بقلب منسحق مع أنفاسه الأخيرة.

هيكل المزمور:

يرى بعض الدارسين أن بُنية هذا المزمور هكذا:

« بركة ينطق بها الكاهن على الشخص المتمتع بغفران خطاياه [1-2].

« سيرة شخصية تكشف عن مدى متاعب كتمان الإنسان لخطيته، والسلام الذي يحل به بالاعتراف بها [3-5].

« نصيحة وعظية يقدمها الكاهن من واقع خبرة الخاطي، أو ربما تكون قرارًا يردده جوقة المرتلين في الهيكل [6-7].

« أقوال تعليمية يرددها الكاهن باسم الله مع التشديد على الجانب التعليمي [8-10].

« أغنية تسبيح ختامية وشكر، تنشدها الجماعة كلها.

العنوان:

جاء العنوان في الأصل العبري “Mashil“؛ يعتقد البعض أنها اسم النغمة التي تُستخدم في التسبيح بالمزمور. ويعتقد البعض أنها اسم آلة العزف المستخدمة، وآخرون يرون أنها لفظ مشتق من فعل موجود في الأية [8] يعني: “يعلِّم، يكون حكيمًا، يضع في الأعتبار، يفهم”. وقد جاء العنوان في النسخة السبعينية هكذا: “فهم لداود”.

تكررت هذه اللفظة في عناين 13 مزمورًا (32، 42، 44، 45، 52، 53، 54، 55، 74، 78، 88، 89، 142)، ستة منها على الأقل نظمها داود.

أقسامه:

  1. الغفران الإلهي           [1-6].
  2. الحماية الإلهية           [7].
  3. الأرشاد الإلهي           [8-10].
  4. الفرح الإلهي             [11].
  5. الغفران الإلهي:

“طوباهم الذين تركت لهم آثامهم

والذين سترت خطاياهم

طوبى للرجل الذي لم يحسب له الرب خطيئة (معصية)

ولا في فمه غش” [1-2].

أ.  بخصوص كلمة “طوبى” التي تكررت في الأيتين [1، 2] راجع تعليقنا عليها في المزمور الأول، حيث رأينا أن التطويب نناله في السيد المسيح كلمة الله.

هذا المزمور يُعرف في العبرية “مزمور أشير”، وأشير هو اسم أحد الأسباط ومعناه “السعيد” أو “المطوّب”.

المزمور الأول يكشف عن تطويب الإنسان الذي يرتبط بكلمة الله في أفكاره وفي قلبه وفي سلوكه العملي، أما هنا في مزمور أشير فنقرأ عن التطويب الممنوح لمن ينال بالتوبة غفران خطاياه، وتستر نعمة الله آثامه. إنه مزمور كل إنسان انحرف في ضعفه وضل الطريق، ثم سحبته نعمة الله، ليكون صادقًا مع نفسه ومع الله، يعترف بخطاياه.

المزمور الأول يعلن عن تطويب الحياة التأملية السامية غير المنعزلة عن السلوك اليومي، أما مزمور أشير فيعلن عن تطويب النفس المنسحقة بالتوبة، التي تعرف كيف تعبر بروح الله إلى عرش الله تغتصب الغفران.

المزمور الأول مزمور حافظ الناموس بالروح والحق، ومزمور أشير مزمور كاسر الناموس الذي تفاضلت عليه نعمة الله لينال برّ المسيح الكامل.

المزمور الأول يتحدث عن السيد المسيح الذي بلا خطية واهب التطويب، ومزمور أشير هو مزمور المسيحي الذي ينعم بالتطويب خلال اتحاده بمسيحه.

ب. أُشير في هذين العددين إلى أربعة ألفاظ عن الشرور:

أولاً: الأثم، في العبرية pesha، وتعني “تجاوز حد معين”، أو “فعل أمر ممنوع”. تشير ضمنًا إلى التمرد ضد رئيس شرعي أو ضد ضمير الإنسان.

ثانيًا: الخطية أو hataah، تعني الخطأ في إصابة هدف ما أو علامة معينة، أو الابتعاد عن سبل الله كسهم طائش يخطئ الهدف.

ثالثًا: المعصية أو awon، تعني الانحراف عن مسار محدد أو عن وضع معين. تشير إلى اعوجاجٍ كما يحدث لشجرة معوجة بسبب ريح عاصف أو نتوء حدث في الأرض بسبب زلزال؛ من ثم فهي تعني حدوث شيء ضد النمو الطبيعي. هذا اللفظ يشمل كل هذه المعاني معًا.

رابعًا: الغش؛ تدل الكلمة على الزيف والخداع والمكر… الخ.

علاج هذه الشرور الأربعة يحتاج إلى ثلاثة أمور:

أولاً: المغفرة: الكلمة العبرية الأصلية تعني “رفع”، مثلما يُرفع الحِمْل الثقيل عن كاهل إنسان ينوء تحته. إن كانت الخطية هي تعدي على الناموس وعصيان للوصية الإلهية، فقد جاء السيد المسيح لا ليحمل مصراعي باب المدينة على كتفيه كما فعل شمشون، وإنما ليدفع حياته على الصليب ثمنًا ليحمل ثقل خطايانا، محررًا إيانا منها. جاء ليدعونا نحن المتعبين والثقيلي الأحمال إلى التمتع براحته (مت 11: 28).

جاءت الترجمة السبعينية هكذا: “طوباهم الذين تُركت لهم آثامهم” [1]. فإننا إذ عجزنا عن حمل خطايانا التي أُجرتها موت أبدي، تركناها لذاك القادر وحده أن يدفع الثمن عنا بإرادته ومحبته الإلهية.

ثانيًا: الستر: “والذي سُترت خطاياهم” [1]. لا يعني الستر هنا تجاهل الخطية، وإنما تعني أننا إذا لبسنا برّ المسيح بالصليب، صار بره عوض خزي خطايانا.

كما يتغطى تابوت العهد بكرسي الرحمة، حيث منه يتحدث الله مع شعبه، هكذا بالصليب يتغطى قلبنا كمسكن إلهي، لندخل مع الله في حوار الحب الدائم، واثقين أنه قد تغطى كل ضعف فينا لنحمل فينا حياة المسيح وقداسته ويحق لنا بروحه القدوس أن ننعم بالشركة مع الأب والدخول إلى عربون أمجاده.

ثالثًا: البراءة أو التبرئة من الأتهام: “لم يحسب له الرب خطيئة، ولا في فمه غش” [2].

لم يقل أنه بلا خطية، فإنه لم يوجد إنسان هكذا بعد السقوط إلا كلمة الله المتجسد، الذي من أجلنا صار إنسانا وهو العليّ. في الضعف نخطئ، لكن بالإيمان العامل بالمحبة لا تُحسب علينا الخطية، إذ يسدد هو الثمن. وكما يقول الرسول: “إذ نحن نحسب هذا، إنه إن كان واحد قد مات لأجل الجميع فالجميع إذًا ماتوا. وهو مات لأجل الجميع… ولكن الكل من الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح وأعطانا خدمة المصالحة، أي أن الله كان في المسيح مصالحًا العالم لنفسه، وغير حاسب لهم خطاياهم، وواضعًا فينا كلمة المصالحة”، (2 كو 5: 14-19).

الخاطي الذي يتمتع بغفران خطاياه والستر عليها بدم المخلص ويُحسب كبريء لا يحمل في قلبه ولا في فكره ولا في فمه غشًا. يقبل الشركة مع المسيح “الحق”، فيكون صادقًا مع نفسه في توبته واعترافاته كما في إيمانه وثقته بالله وفي عبادته وتسابيحه وتشكراته، أمينًا في علاقته مع الله يصارحه بكل ما يجتاز حياته من ضعفات أو من خبرة القوة الروحية، من حب لله أو مخافة له، من رغبة في خدمته وحنين عميق نحو الانطلاق ليكون معه؛ مخلصًا مع الغير، لا يعرف الرياء، ولا الغش، يحب إخوته لكن ليس على حساب الحق؛ يترفق بهم لكن في حزم!

في الكتاب المقدس تشير كلمة “غش” دائمًا إلى الخطية، لأنها مخادعة، وباطلة وكاذبة، فلا أمانة في الخطأ. إن كان المتعدي نزيهًا في نظر الناس، لكنه يخدع نفسه، ويسلب الله، ويكذب على القدير، ويحتال على خالقه، بمحاولته الوثب لاعتلاء طريق آخر غير المسيح فيكون لصًا وسارقًا[616].

اقتبس القديس بولس الآيتين [1، 2] في (رو 4: 6-8)، ليختم تأكيده أنه لا نفع لأعمال الناموس الحرفية في ذاتها كختان الجسد لنوال الغفران، إنما الحاجة إلى عمل الله الداخلي ليصلح ما قد صار منحرفًا عن مساره الطبيعي.

إذ سمع داود النبي من ناثان النبي: “الرب أيضًا قد نقل عنك خطيتك؛ لا تموت!” (2 صم 12: 13). أدرك أن غفران الخطايا هبة مجانية يقدمها الله لمؤمنيه خلال محبته العملية الباذلة، “لأن المحبة تستر كثرة من الخطايا” (1 بط 4: 8). ونحن أيضًا قد تمتعنا بهذه العطية خلال مياه المعمودية، حيث نُدفن مع مسيحنا ونقوم معه في جدة الحياة نحمل حياته المُقامة، كأعضاء مقدسة في جسد المسيح. لذا يرى كثير من آباء الكنيسة أن المرتل هنا يتحدث عن نعمة المعمودية.

v   يليق بي أن أرشد الذين هم على وشك التأهل لنوال الهبة الملوكية (المعمودية) في هذا الأمر، لتقدروا أن تعرفوا ما من خطية مهما تعاظمت يمكنها أن تصمد أمام صلاح السيد. حتى إن كان إنسان زانيًا أو مستبيحًا أو متخنثًا أو شاذًا في شهواته أو ملتصقًا بداعرات أو لصًا أو مخادعًا للغير أو سكيرًا أو عابد وثن، فإن قوة هذه الهبة وحب السيد هما عظيمان بالقدر الكافي الذي يجعل كل هذه الآثام تختفي، وتجعل الخاطي أكثر بهاءً من أشعة الشمس، فقط إن أظهر شهادة على حياة صالحة.

v   إنه الإيمان بالثالوث القدوس هو الذي يهب غفران الخطايا؛ إنه هذا الاعتراف الذي يهبنا نعمة البنوة[617].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   بهذا تعرفون مدى فقركم أنتم الذين قبلكم السيد؛ كيف يستر عريكم بنعمته؛ وكيف يسربلكم بالمسحة برائحة الأعمال الصالحة؛ كيف يجعلكم بالزيت تشرقون بنور ساطع؛ وكيف تتخلون عن فسادكم في جرن الغسل؛ وكيف يرفعكم الروح القدس إلى حياة جديدة. كيف يكسو جسدكم بالثياب البهية، وكيف تشير المصابيح التي تمسكونها بأيديكم إلى استنارة النفس؛ وكيف يرفع داود صوته إليكم مترنمًا بأغنية النصرة: “طوباهم الذين غفرت لهم آثامهم، الذين سترت خطاياهم”[618].

الأب بروكلس من القسطنطينية

v   ليس من إنسان لم يكن خاطئًا، كما نترنم كثيرًا، قائلين: “طوبى للذين غفرت لهم آثامهم”. لا نقول: “طوبى للذين لم يقترفوا خطية” بل “للذين غفرت لهم آثامهم”. إن بحثت عن إنسان لم يرتكب إثم لن تجده؛ فكيف إذن يمكن أن يطوَّب؟ إنه يُطوَّب إن غُفرت آثامه، وسُتر ما قد اقترفه[619].

الأب قيصريوس أسقف آرل

بالمعمودية ننال غفران الخطايا ونتأهل لبدء حياة جديدة مقدسة، لكن في الطريق إذ نتعرض لضعفاتٍ، تبقى مراحم الله تنتظر توبتناالمعمودية الثانية – لتقدم لنا الغفران.

v   كل الراغبين فيها (أي في نوال المغفرة) يمكنهم نوال رحمة من الله، وقد سبق فأخبرنا الكتاب المقدس إنهم يطوّبون، قائلاً: “طوبى للرجل الذي لم يحسب له الرب خطية، أي تاب عن خطيته ليتقبل مغفرتها من الله[620].

القديس يوستين الشهيد

هذا التطويب الذي ننعم به خلال المعمودية والتوبة المستمرة، يُقدم لنا كأولاد لله محبوبين لديه، نعلن عن صدق بنوتنا له بالطاعة للوصية والتجاوب مع حبه.

v   طوبانا أيها الأحباء إن حفظنا وصايا الله في تناغم مع الحب. فخلال الحب تُغفر لنا خطايانا، إذ كُتب: “طوباهم الذين تُركت لهم آثامهم، والذين سُترت خطاياهم. طوبى للرجل الذي لم يحسب له الرب خطيئة، ولا في فمه غش”. هذا التطويب يحلّ بالذين اختارهم الله خلال يسوع المسيح ربنا[621].

القديس أكليمندس الروماني

يرى العلامة ترتليان أن التطويب المقدم للمتمتعين بالمعمودية التي تُحسب شهادة بدون سفك دم، حيث يقبل المؤمن الدفن مع السيد المسيح، مؤمنًا بعمله الخلاصي، مقدمِّ أيضًا للشهداء الذي سُفك دمهم من أجل الإيمان دون أن تكون لهم فرصة نوال المعمودية [يدعو البعض الاستشهاد معمودية الدم].

v   من ثم قد عيّن كمصدر ثانٍ للتعزية، ووسيلة أخيرة للعون هي معركة الاستشهاد والعماد… إذ يتحدث عن سعادة الإنسان الذي يشارك في هذه الأمور، إذ يقول داود: “طوباهم الذين تركت لهم آثامهم، والذين سُترت خطاياهم؛ طوبى للرجل الذي لم يحسب له الرب خطيئة”. فإنه لا يُحسب شيء ضد الشهداء الذين بذلوا حياتهم بمعمودية الدم[622].

العلامة ترتليان

هكذا ننال غفران الخطايا خلال المعمودية كما في التوبة الصادقة والطاعة بالحب للوصية وإحتمال الشهادة؛ يقوم هذا الغفران على أساس دم السيد المسيح واهب المغفرة.

v   يقول داود: “طوباهم الذين تركت لهم آثامهم، والذين سترت خطاياهم؛ طوبى للرجل الذي لم يحسب له الرب خطيئة”، مشيرًا إلى أن غفران الخطايا الذي أعقب مجيئه، هذا الذي “مزق صك خطايانا”، وسمَّره بالصليب (كو 2: 14) كما بشجرة، صرنا مدينين لله، هكذا بشجرة (بالصليب) ننال غفران الخطايا ومحو الأثام[623].

القديس إيريناؤس

على طريق التوبة والاعتراف.

“أنا سكت فبُليت عظامي

من صراخي طول النهار…

أظهرت خطيئتي، ولم أكتم إثمي.

قلت أعترف للرب باثمي.

أنت صفحت لي عن نفاقات قلبي” [3-6].

يروي لنا داود النبي عن خبرته، كيف حاول أن يخفي خطيته، وكيف صمت عدة شهور، ربما حوالي السنتين بعد سقوطه مع بتشبع زوجة أوريا الحثي. فقد وُلد الطفل الذي كان ثمرة الخطية قبل زيارة ناثان له (2 صم 11: 27؛ 12: 14). كان مدركًا لخطيته، لكنه لم ينهض طالبًا المغفرة؛ ولم يكن له سلام أو راحة، فقد بدأت عظامه تشيخ وتُبلى، واكتشف أنه يلزمه أن يتوب طالبًا الصفح عن خطاياه والاعتراف في حضرة ذاك الذي يرى كل شيء ولا يخفى عليه شيئًا ما.

أ.  صمت قاتل: “أنا سكت فبُليت عظامي” [3].

ربما ظن داود النبي أن الزمن كفيل بعلاج الخطأ، فقد أخطأ في حق الله وحق نفسه كما في حق بتشبع وزوجها وفي حق شعبه وجيشه، ولم يكن – في نظره – علاج للموقف سوى الصمت والكتمان. كان صامتًا من الخارج، ويبدو أن كل شيء يسير في وضعه الطبيعي، لكن عظامه في الداخل بدأت تشيخ وتُبلى، إهتز كيانه الداخلي وهيكله العظمي….

كثيرًا ما يخطر بفكر الإنسان أن يؤجل اعترافه حتى يتحسن حاله، لكن التأجيل في الواقع هو سكوت خارجي عن الخطأ، وتخدير للنفس لترك الخطية تملك في الأعماق مدة أطول في الظلمة حتى تتمكن بالأكثر على استلام مركز قيادة الحياة الداخلية؛ أما ثمر ذلك فهو اهتزاز هيكل الإنسان الداخلي.

v   “أنا سكت فبليت عظامي” [3]. إذ لم تقدم شفتاي اعترافا لخلاصي، خارت قواي، وتحولت إلى الشيخوخة الواهية. “من صراخي طول النهار” [3]، فقد نطقت بشكاوي ضد الله مملوءة تجديفًا، وذلك للدفاع وتبرير خطاياي.

v   يبدو الأمر متناقضًا، فمن جهة التزم بالصمت، ومن جهة أخرى لم يصمت. لقد صمت عما يجلب له الضرر. صمت عن الاقرار بخطيته والاعتراف بها، ولم يصمت متحدثًا جهارًا بتهور (تبرير خطاياه).

القديس أغسطينوس

v   تذكروا ذاك الذي قال بلسان إشعياء: “حدّث بخطاياك أولاً لكي تتبرر” (راجع إش 43: 26).

إذكروا أيضًا أنه سيوبِّخ من لا يفعل ذلك (أي من لا يقر بخطاياه)، إذ يقول: “هأنذا أُحاكمك، لأنك قلت لم أخطئ” (أر 2: 25).

افحصوا كلمات القديسين، إذ يقول أحدهم: “الصديق يتهم نفسه في بداية كلامه”، ويقول آخر: “اعترف متهمًا نفسي بخطاياي أمام الرب، وهو يغفر إثم قلبي”[624].

القديس كيرلس الكبير

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم، إن الله يفتح أمامنا العديد من السبل ليمحو آثامنا، من بينها التزامنا بالاعتراف بخطايانا والاقرار بها وتذكرها على الدوام ومحاسبتنا لانفسنا[625]. فالإنسان بحق يقف أمام الله ويخضع له إن كان مخلصًا بالتمام مع نفسه معترفًا بطبيعته الخاطئة. في نفس الوقت يكتشف ويختبر الله كغافر للخطايا وواهب الطبيعة الجديدة.

ليس من طريق آخر أمام الله سوى أن يبدأ الإنسان بالاعتراف بخطاياه، قائلاً مع إشعياء النبي: “ويل لي إني هلكت، لأني إنسان نجس الشفتين” (إش 6: 5).

قبل الاعتراف تهددت صحة داود بالسقم الشديد والانهيار، وشاخت عظامه، وبليت بالأنين، وصارت نفسه كأسد جائع يزأر في البرية: “من صراخي طول النهار” [3].

كثيرًا ما يحدثنا الآباء عن خبراتهم بخصوص الاعتراف:

v   الفكر الخاطئ يضعف بمجرد كشفه كالأفعوان الدنس الذي ينسحب من كهفه المظلم المخفي، ويهرب مفتضحًا.

فالأفكار الشيطانية يكون لها سلطان علينا بمقدار ما تختبئ في قلوبنا[626].

الأب موسى

v   الشيء الذي يستحي الإنسان من كشفه وإظهاره هو دليل على أنه رديء، وأنه تجربة شيطانية.

القديس يوحنا كاسيان

v   لا شيء يكرهه الشيطان مثل أن تنكشف حيله.

الأب دوروثيؤس

ب. الخطية وأشواك البرية: إذ صمت ولم يعترف مقدمًا تبريرات لنفسه تحولت حياته إلى برية قاحلة لا تتمتع بمياه النعمة الإلهية، فأنبتت شوكًا وحسكًا كثمر طبيعي للخطية.

“لأن يدك ثقلت عليّ بالنهار والليل.

رجعت إلى الشقاء عندما انغرست الأشواك فيّ” [4].

في النص العبري جاء الجزء الأخير: “تحولت رطوبتي إلى يبوسة القيظ”.

إن كان بأصبع الله – يشير إلى الروح القدس – واضع الناموس، فإن يده تسندنا لنحيا حسب شريعته ووصيته. لكن إذ نكتم عصياننا ونخفي خطايانا تصير يده المعينة ثقيلة جدًا على ضمائرنا، لا نستريح نهارًا ولا ليلاً. اليّد الإلهية التي تتقدم لتحملنا إلى سمواته وترفعنا إلى حضنه تقف ضدنا، فكيف نقدر أن نحتملها؟

اليد الإلهية سندت إيليا فشدَّ حقويه وركض أمام آخاب حتى جاء إلى يزرعيل (1 مل 18: 46)، هي بعينها ثقلت على الأشدودين جدًا فصعد صراخهم إلى السماء (1 صم 5: 11-12).

ثقلت يدّ الله على داود لتأديبه بروح الأبّوة، فقد مات سريعًا الطفل الذي وُلد من امرأة أوريا الحثّي، وجاءت فضيحة ابنته ثامار مع أخيها أمنون عارًا لبيته الملوكي، وقُتل ابنه أمنون المحبوب لديه جدًا بواسطة أخيه أبشالوم، كما تمرد أبشالوم عليه وأخيرًا قُتل أبشالوم في الحرب.

لقد ثقلت يدّ الله على داود لتتمرر الخطية في فمه، واحتضنته اليد الأخرى كي تسنده وسط مرارته. وكما جاء في النشيد: “شماله تحت رأسي ويمينه تُعانقني” (نش 2: 6). قد يحرمنا من بعض البركات الزمنية لكي يؤهلنا للتمتع بالمجد الأبدي؛ يدخل بنا إلى الضيقة لكي نجد فيه وحده عوننا.

كان داود النبي قبل السقوط دائم النمو، متهللاً حتى في لحظات الضيق، لأن يدّ الرب كانت تسنده؛ أما وقد انخدع بالخطية، وكتمها داخله فقد رجع إلى الشقاء. تحوّلت رطوبته إلى يبوسه، أو جنته الداخلية التي يجري فيها نهر ماء حيّ إلى برية قاحلة، أو إلى مصباح بلا زيت كالعذارى الجاهلات (مت 25: 3). صار قلبه صحراء تنبت أشواكًا، إذ يقول: “انغرست الأشواك فيّ” [4].

v   ترون في كل موضع في الكتاب المقدس أن الخطايا تُدعى (أشواكًا). يقول داود: “لأن يدك ثقلت عليّ بالنهار والليل. رجعت إلى الشقاء عندما انغرست الأشواك فيّ” [4]. لأن الشوكة لا تحل بنا فقط من خارج، وإنما تنغرس فينا، فإن لم نخرجها بالكامل منا. فالقليل الذي يبقى منها يؤلمنا كما لو كانت الشوكة كلها مغروسة فينا. ولماذا أقول: “القليل الذي يبقى منها”، فأنه حتى وإن خرجت الشوكة فأنها تترك ألمًا في الجرح لمدة طويلة، تحتاج إلى تكثيف العلاج والعناية بالجرح حتى نشفى تمامًا. فإنه لا يكفي مجرد نزع الخطية، إنما توجد حاجة إلى شفاء أثر الجرح[627].

القديس يوحنا الذهبي الفم

ج. كشفه عن خطيته: لم يكن ممكنًا لبريّة قلبه أن تتقبل نعمة الله الغنية، لتفيض عليه ينابيع مياه حب الله وتحوّلها إلى جنة ما لم يكشف عن خطيته ويعترف بها.

أظهرتُ خطيتي، ولم أكتم إثمي” [5].

كان لابد أن تمتد يدّ الجراح بالمشرط لتفتح القروح فيظهر ما في داخلها، ويخرج كل فساد فيها. إن كان الكبرياء يعوقنا عن الاعتراف بخطايانا فالاتضاع هو طريق الاعتراف الحق، خلاله ننال غفران الخطايا. وكما أن الاتضاع يحثنا على الاعتراف، فالاعتراف بدوره يصلب الإرادة الذاتية، ويعلّم النفس الاتضاع، وينزع عنها كبرياءها الخفي. وإذ تتعلم النفس الاتضاع الحقيقي تكون قد التقت بالمحبة، والمحبة تستر كثرة من الخطايا. وبقدر ما تهرب من الاعتراف تقترب من الكبرياء وتبتعد عن المحبة فتفقد سلامها.

v   “المحبة تسترة كثرة من الخطايا” (1 بط 4: 8). المحبة وحدها هي التي تمحو الخطايا، ولكن إن كان الكبرياء يزيل المحبة، فالاتضاع يقويها، وهي تمحو الخطايا.

يسير الاتضاع جنبًا إلى جنب مع الاعتراف، وهو الذي يدفعنا إلى الاعتراف بأننا خطاة، ليس مجرد اعتراف باللسان هروبًا من الكبرياء أو خوفًا من غضب الناس عندما يروننا ندّعي البرّ…

أُتريد أن يغفر لك الله؟ اعترف، فتستطيع القول: “استر وجهك عن خطاياي” (مز 50). قل له أيضًا: “لأني عارف بمعاصيَّ”؛ “إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل أن يغفر لنا خطايانا، ويطهرنا من إثم. إن قلنا إننا لم نخطئ نجعله كاذبًا وكلمته ليست فينا” (1 يو 1: 9-10)[628].

القديس أغسطينوس

v   إن كنا نفعل ذلك ونكشف خطايانا، لا لله وحده فقط، بل وللقادرين على علاج جراحاتنا وآثامنا، فسَتُمحى خطايانا بواسطة ذاك الذي يقول: “قد محوتُ كغيم ذنوبِك، وكسحابة خطاياكِ” (إش 44: 22) [629].

العلامة أوريجانوس

v   دِنْ نفسك على خطاياك. هذا يكفي بالنسبة لسيدك كدفاع عن نفسك. لأن من يُدين خطاياه، بصعوبة يسقط فيها ثانية.

ايقظ ضميرك، مُتهمك الداخلي، فلا يوجد من يتهمك في يوم الرب للدينونة[630].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   الناموس معين لي. فقد بدأت اعترف بما كنت انكره قبلاً (أنني خاطي)، بدأت أعرف خطيتي ولا أتستر على ظلمي. بدأت أعلن ظلمي للرب ضد نفسي، وأنت غفرت آثامي قلبي[631].

القديس أمبروسيوس

يقول داود إنه لم يكتم خطيته [5]، إذ يعرف أن من يكتم خطيته لا يخدع الله بل يخدع نفسه، فيُحطمها. إنه لم يرد أن يسلك بحماقة مثل هؤلاء الأطفال الذين يتوهمون أنه لا يراهم أحد إذا ما وضعوا أيديهم على أعينهم وغطوها، لا يرون هم أحدًا.

د. تمسكه بحياة الصلاة: لم يكن ممكنًا للخاطي أن يتمتع بالاعتراف بخطيته ما لم يمارس الصلاة، فقد أدرك المرتل أن جميع القديسين هم رجال صلاة، وأن الصلاة هي أنفاس خائفي الله ، لذا يقول:

“من أجل هذا تبتهل (يُصلي) إليك كل الأبرار في أوانٍ مستقيم” [6].

وحسب النص العبري: “لهذا يُصلي لك كل تقيَّ في وقت يجدك فيه”. فإن الله يود أن يُجد، واهبًا اتقياءه الخلاص من الضيقات كما في وسط طوفان مياه كثيرة. يقول المرتل: “بل في طوفان مياه كثيرة لا يقتربون إليك” [6]. مادمنا نطلب الله نجده، فلا تقدر ميازيب الغمر العظيم أن تقترب إلينا.

الخلاص متوقف على وجود الله أو حضرته فينا، الأمر المتوقف على إخلاصنا في الصلاة، فننعم بلذة حلوله ونتمتع بعمله الخلاصي.

  1. الحماية الإلهية:

أنت هو ملجأي من الضيق المحيط بي.

يا بهجتي انقذني من المحيطين بي” [7].

الله الذي يغفر خطايانا خلال اعترافنا، ويبررنا، هو ستر لنا؛ هو موضع اختبائنا، فلْك النجاة؛ فيه لا تقدر مياه طوفان الدينونة أن تقترب إلينا [6]. ذاك الذي غفر خطايانا لا يتركنا لأنفسنا، بل يمنحنا حمايته. واجبنا أن ننطلق إليه بروحه القدوس لننعم بنعمته.

v   “أنت هو ملجأي من الضيق المحيط بي”. أنت هو ملجأي من ضغط الخطية التي أدمت قلبي. “يا بهجتي انقذني من المحيطين بي”. بهجتي بالكامل هي فيك، خلصني من الأحزان التي جلبتها خطاياي عليّ.

v   “يا بهجتي خلصني”. إن كنت مبتهجًا بالفعل، فلماذا تطلب الخلاص؟… هل تبتهج وتئن في وقت واحد؟ أجل، أنني ابتهج وأئن. ابتهج في الرجاء، وأئن من أجل الحال الذي أنا فيه حاليًا.

القديس أغسطينوس

  1. الإرشاد الإلهي:

الله الغافر للخطايا والملجأ الأمين للنفس هو مرشدنا المستعد أن يقود أولاده في

طريقه الملوكي، طريق البر الداخلي؛ متطلعًا إلينا، لا تفارقنا نظرات عينيه مادمنا نحن نتطلع إليه.

“سأفهّمك وأعلِّمك الطريق التي تسلك فيها

وأنصب عليك عينيّ” [8].

v   المزمور نفسه يُدعى “مزمور للفهم”…

سأعطيك فهمًا لكي تعرف ذاتك دائمًا، وتتهلل على الدوام في فرح الرجاء أمام الله حتى تبلغ موطنك، حيث لا يوجد رجاء بل تكون في الحقيقة الواقعة.

وانصب عليك عينيّ” [8]. لن أحول عيني عنك، لأنك أنت أيضًا من جانبك لا تحوّل عينيك عني.

القديس أغسطينوس

“لا تصيروا كالفرس والبغل اللذين لا فهم لهما.

بلجام وحكمة تكبح فكوك الذين لا يدنون إليك” [9].

إذ يسلم الإنسان حياته لله يقوده الرب في طريقه، واهبًا إياه روح الحكمة والفهم، وإذ يثبت المؤمن عينيه على الرب يثبت الرب عينيه عليه. أما من يرفض مشورة الله فيصير بلا فهم، ويحسبه المرتل كحيوان، لأن الفهم لأو التعقل هو الذي يميزنا عن الحيوانات غير العاقلة. بالمسيح يسوع – حكمة الآب – نرقى لنكون كملائكة الله، وباعتزالنا الله نفقد حتى بشريتنا!

يكفي الإنسان أن يتطلع إلى ابنه الفهم بنظرةٍ ما، فيتدارك الابن خطأه، أما الفرس وبالغل فلا تكفيهما نظرات عين سيدهما بل يحتاج إلى لجام وزمام لاقتيادهما. النفس المتضعة تكتفي بنظرات مخلصها فتبكي مع سمعان بطرس الذي لم يحتمل نظرات سيده اثناء محاكمته؛ أما المتكبر فيستخدم الله معها لجام الضيقات القاسية لعلها ترجع وتدنو منه بالتوبة، وتعرف طريق خلاصها. لذا يكمل المرتل، قائلاً:

“كثير هي ضربات الخطاة،

والذي يتكل على الرب الرحمة تحيط به” [10].

v   بلجام وزمام يكبح فكوك الذين لا يدنون منك، لأنه تحت ضغط الظروف كما قلت يحنون

بالضرورة رقابهم لله ولو بغير إرادتهم[632].

القديس كيرلس الكبير

v   حقًا، كان الإنسان في مركز مكرَّم، لكنه سقط في الرذيلة، كما حدث مع شمشون الذي تركته الفضيلة، وتخلت عنه الحكمة والنعمة، فعوقب بالعمى والمهانة. إن حرم الإنسان نفسه من نور العقل يتأهل لعمل الحيوانات[633].

الأب قيصريوس أسقف آرل

  1. الفرح الإلهي:

“افرحوا أيها الصديقون بالرب

وابتهجوا وافتخروا يا جميع مستقيمي القلوب” [11].

إن كان الغم هو نصيب الأشرار، فإن الفرح المضاعف هو نصيب الصديقين، مستقيمي القلب أما سرّ الفرح فهو “الرب”. إنهم يفرحون بالرب كغافر للخطايا، كملجأ لهم، كقائد حياتهم، وكمصدر مجدهم. فرحهم هو بالرب لا بالغنى الزمني والأمور الأرضية.

بدأ المزمور بتطويب من غفرت آثامهم وانتهى بالبهجة بالرب وليس بالغنى أو بالخلاص من الألم. بغفران خطايانا تصير قلوبنا مخلصة وأمينة لله ويعلن الرب ملكوته المفرح فيه.


 

اغفر لي خطاياي

v   لينر روحك القدوس قلبي،

فلا اكتم خطاياي بل اعترف بها!

v   هب لي دموعًا نقية، فأسكبها أمامك.

امسك بيميني فأتمم وصيتك.

اهدني في طريقك فامتلئ بحكمتك وفهمك!

استر عليّ بدمك الثمين، ولا تحسب عليّ خطاياي.

v   بك أتمتع بالحكمة، وبدونك أهلك بالغباوة!

بك امتلئ فرحًا، وبدونك يأسرني الغم!

بك تستريح نفسي أبديًا، وبدونك لا أجد راحة

v   تكفيني نظرات عينيك فأعرف إرادتك وأرجع إليك!

اجتذبني بحبك وفرّح قلبي بنعمتك!

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى