تفسير سفر العدد ٥ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الخامس

تقديس المَحَلَّة

الآن إذ أُقيمت خيمة الاجتماع وسط المَحَلَّة وحدَّد موقع كل سبط وعمل اللاويّين، يعلن الله وجوب تطهير المَحَلَّة كلها على المستوى العام، والمستوى الشخصي أي كل عضو فيها، والمستوى العائلي.

 

تنقية المَحَلَّة ككل 1-4 :

أمر الله موسى هكذا: “أوصِ بني إسرائيل أن ينفوا من المَحَلَّة كل أبرص وكل ذي سيل وكل متنجس لميت، الذكر والأنثى، إلى خارج المَحَلَّة تنفوهم لكيلا ينجسوا محلاتهم، حيث أنا ساكن في وسطهم” [2-3].

بإقامة الخيمة في وسطهم يحلّ الله وسط شعبه، لكنه كقدوس لا يحلّ حيث الدنس والخطيئة. وجود الله يعني اعتزال كل فساد ونجاسة “لأنه أية خلطة للبر والإثم، وأية شركة للنور مع الظلمة؟” (2 كو 6: 14).

إن كانت الكنيسة مترفقة جدًا مع الخطاة لكنها غير متهادنة للخطيئة. إنها لا تحتمل وجود شر في حياة أولادها، إذ يقول الرسول: “ألستم تعلمون أن خميرة صغيرة تخمِّر العجين كله! إذًا نقوا فيكم الخميرة العتيقة لكي تكونوا عجينًا جديدًا كما أنتم فطير… كتبت إليكم في الرسالة أن لا تخالطوا الزناة. وليس مطلقًا زناة هذا العالم أو الطمّاعين أو الخاطفين أو عبدة الأوثان، وإلاَّ فيلزمكم أن تخرجوا من العالم… لأنه ماذا لي أن أدين الذين من خارج؟ ألستم أنتم تدينون الذين من داخل؟ أما الذين من خارج فالله يدينهم فاعزلوا الخبيث من بينكم” (1 كو: 5).

إننا لا ندين الذين هم من خارج لكن بكل قوة يلزم تنقية الكنيسة من داخل لكي لا يحمل أحد أعضائها خميرة فساد. يقول القدِّيس أنبا شنودة رئيس المتوحدين: [توجد أعمال نظنها صالحة وهي رديئة عند الله، ذلك أننا نتغاضى عن بعضنا بعضًا فنخطيء في المواضع المقدَّسة، لأن الرب لم يغرس في الفردوس أشجارًا صالحة وأشجارًا غير صالحة، بل غرسه من الأشجار الصالحة فقط، ولم يغرس فيه أشجارًا غير مثمرة أو رديئة الثمر… من هذا اعلموا أيها الإخوة الأحباء أنه لا يجب أن نملأ مساكن الله المقدَّسة من الناس الأشرار والصالحين كما في العالم المملوء من الخطاة والظالمين والقدِّيسين والأنجاس، ولكن الذين يخطئون لا يتركهم فيها بل يخرجهم. أنا أعرف أن الأرض كلها هي للرب، فإن كان بيته كباقي الأرض، فما هي ميزته إذن على غيره؟ فإن كنت وأنا الكاهن أعمل الشر كما يعمله الأشرار على الأرض فلا يحق لي أن أُدعى كاهنًا، لأنه مرارًا كثيرة نخطيء ولا نعرف كيف ندين أنفسنا بما نقول[31]].

لقد طلب الرب تنقية المَحَلَّة من كل أبرص وكل ذي سيل وكل متنجس لميت. فالبرص والسيل ولمس جثمان الميت تُعتبر هذه الأشياء نجاسة في الشريعة الموسويّة بكونه أمورًا تشير إلى ثمر الخطيئة في حياة الإنسان. لكن إذ جاء السيد المسيح القدوس وحلّ في وسطنا طهَّر المرضى بالبرص ولمس نازفة الدم فشفاها ولمس النعش ليقيم الميت. جاء ذاك القدوس الذي يسكب قداسته فينا، فيبدد برص الخطيئة ويوقف نزف الدم المهلك للنفس ويقيمنا من الموت الأبدي.

تنقية كل مؤمن 5-10:

طهارة كل المَحَلَّة تقوم على طهارة كل عضو فيها بتقديم توبة صادقة وعمليّة، إذ أوصى كل من يخطيء:

أ. يقر بخطيئته التي ارتكبها (ع 7).

ب. يرد ما أذنب به أو اغتصبه، فلا تكون التوبة مجرد اعتراف بالخطأ لكن رد ما سلبه من حق الآخرين مضافًا إليه الخمس.

ج. تقديم ذبيحة للكفارة. إن كنا نرد لإخوتنا ما سلبناه منهم مضافًا إليه الخمس لمصالحتهم، كيف نرد لله حقه إلاَّ من خلال ذبيحة الصليب الكفاريّة؟

تنقية كل عائلة 11-29 :

يمتد التقديس إلى كل عضو كما إلى عائلة بكونها كنيسة البيت المقدَّسة. لقد اهتم بتقديس البيت وتطهيره خاصة من الخيانة الزوجية، إذ يتطلع الله إلى الزنا كأبشع خطيئة خلالها ينحَلّ البيت ويفقد الرجل والمرأة وحدتهما في الرب.

إن اعترفت المرأة الزانية تطلق ولا تأخذ مهرها، أما إن لم تعترف تشرب من الماء المقدَّس الذي يضعه الكاهن في إناء خزفي ويزرّي عليها غبار من مسكنها فيصير ماءً مُرًا، تشربه وهي عارية الرأس، فإن كانت مخطئة تتورم بطنها ويسقط فخذها أي يصيبها نوع من الشلل وتصير عارًا أمام الجميع. أما إن كانت طاهرة فتلد وتنال مجدًا. هذه هي شريعة الغيرة على الزوجة.

لقد أراد الرب قداسة البيت بكونه صورة مُصغّرة للجماعة كلها لا تقوم على الخطيّة بل على القداسة الحقيقيّة، إما أن يعترف الإنسان بزناه فينحل البيت ويقدم المخطيء توبة لله، وإما أن يتستر فيفضحه الله ويصير في آلام وجسديّة ونفسيّة ويتحطم اجتماعيًا بجانب هلاكه الأبدي. والعجيب أن الله تسلم هذا الأمر بنفسه ليعطي طمأنينة للطرف المضرور أو البريء. إنما على الرجل أن يتقدم لله في كنيسته مقدمًا مع امرأته قربانها من “الإيفة من طحين شعير لا يصب عليه زيتًا ولا يجعل عليه لبانًا، لأنه تقدمة غيرة، تقدمة تذكار تذكر ذنبًا” [15]. لا يصب عليه زيت لأنه تقدمة مرّ إذ تمررت نفس رجلها، وبسبب عدم اعترافها- إن كانت خاطئة- فإنها تنفضح وليس من زيت يُطيِّب جرحها ولا من لبان (صلاة) يشفع فيها! هذا نصيب الإنسان الذي يكتم خطاياه، فإنه لا ينجح.

حقًا ما أحوجنا في مشاكلنا العائليّة أن نتقدم بمرارة قلبنا لله في كنيسته ويعترف كلٍ منا بخطئه ونقدم نفوسنا المُرّة قربانًا له… وإذ نلقي بأتعابنا على الله لا نعود نتشكك في بعضنا البعض!

في هذه الشريعة الغبار يشير إلى الموت، يحوِّل المياه إلى مرارة، بينما الماء يشير إلى الكلمة- وكأن كلمة الله يصير سرّ حياة لحياة وموت لموت. إنه يفضح النفس إن كانت متعجرفة ودنسة تدخل تحت الموت واللعنة والمرّ، وإن كانت طاهرة كعروس للمسيح مقدَّسة فيه فتحمل مجدًا وتلد ثمار الروح ويكون لها فضائل كثيرة. لهذا يقول المرتل: “اختبرني يا الله واعرف قلبي، امتحني واعرف أفكاري، وانظر إن كان فيَّ طريق باطل واهدني طريقًا أبديًا” (مز 139: 23-24).

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى