تفسير سفر العدد ٢٨ للقمص تادرس يعقوب


الأصحاح الثامن والعشرون

أعياد وتقدمات دائمة

لا يقف الاستعداد لدخول أرض الموعد والاستقرار فيها بعد فترة التجول في البريّة على عمل الإحصاء لتقسيم الأرض، ووضع قوانين الميراث، وتعيين القائد الجديد الذي يدخل بهم أرض الموعد ويقسم الأرض، وإنما أراد الله قبل دخولهم مباشرة أن يوضح مفهوم الراحة التي يتمتعون بها في الأرض الجديدة، إنها ليست راحة كسل وتراخي، بل راحة فرح مستمر خلال ذبائح المصالحة والحب المقدمة يوميًا كل صباح ومساء، وأسبوعيًا، وشهريًا، وسنويًا. أراد أن تكون حياتهم أعياد بغير انقطاع علامة الفرح الدائم.

  1. الذبائح اليوميّة                                  1-8.
  2. الذبائح الأسبوعيّة                              9-10.
  3. الذبائح الشهريّة                                 11-15.
  4. أعياد سنويّة: الفصح                           16-25.
  5. أعياد سنويّة: عيد الخمسين                     26-31.
  6. الذبائح اليوميّة:

أود أن أترك الحديث عن رمزيّة الذبائح- بتفاصيل طقوسها- للصليب لتفسيرنا لسفر اللاويّين إن سمح الرب وعشنا، حتى نتجنب التكرار والإطالة. هذا ويلاحظ أن الأصحاحين (28-29) وهما يتحدثان عن الذبائح والتقدمات المستمرة تحوي 71 عددًا، منها 13 عددًا يتحدث عن ذبيحة الخطيّة، والباقي حوالي 58 عددًا يتحدث عن رائحة سرور للرب. هذا يبرز لنا ما أراد الوحي التركيز عليه في نظرتنا إلى ذبيحة الصليب. فإن الصليب غايته غفران خطايانا: “هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة” (يو 3: 16)، فإن الجانب الآخر المكمل له وله دوره الهام في حياة الكنيسة وهو أن الصليب هو “رائحة سرور الآب”، يشتم الله فيه رائحة رضا نحونا في المسيح يسوع. هذا للأسف ما يتجاهله الكثيرون في تعلقهم بالصليب. إن كان الصليب قد غفر خطايانا، ولكن ما هو مكمل- بل إن صح التعبير ما هو أهم- أنه قد نقلنا من حالة العداوة إلى حالة فرح الآب بنا وسروره ورضاه عنا خلال ابنه. لهذا صار الصليب وليمة فرح وسرور، بل محفل مقدس فيه يضمنا الآب إلى حضنه لنجد فيه موضعًا أبديًا! هذا ما نلمسه في هذين الأصحاحين.

بدأ الرب حديثه هكذا: “أوصِ بني إسرائيل وقل لهم: قرباني طعامي مع وقائدي رائحة سروري تحرصون أن تقربوه في وقته” [2]. قدم لهم هذه الوصيّة لأن غالبية الداخلين أرض الموعد لم يسمعوا الشرائع التي قد قدمت للشعب في بدء رحلتهم، إذ مات الجيل القديم وجاء جيل جديد، لهذا أكد على تقديم القرابين والذبائح في وقته. أما تأكيده “في وقته” فكان ضروريًا لأنهم داخلين في حروب مع شعوب هذه الأمم فلا يظنوا أن هذه الحروب تعفيهم من التقدمات، وإنما بالحري تجعلهم في حاجة إلى تقديمات لأنها رائحة سرور الرب، بدونها لا يتمتعون بالغلبة والنصرة.

إنها قرابينه وطعامه ووقائده ورائحة سروره، هذه كلها تعبيرات تكشف عن شوق الله إلى الإنسان، وسروره به خلال ابنه الحبيب الذبيح. هذا من جانب، ومن جانب آخر ما يقدمه الإنسان إنما ليس من عندياته بل من عطايا الله له. إنها قربان الرب ووقائده. وقد جاءت الترجمة السبعينيّة في أكثر وضوح: “احرصوا أن تقدموا لي في أعيادي عطاياي، هداياي، محرقاتي، رائحة سرور”. ويُعلِّق البابا أثناسيوس الرسولي على ذلك هكذا: [إذ نرد إلى ربنا قدر طاقتنا، وإنما نرد إليه لا من عندياتنا بل من الأشياء التي أخذناها منه، التي هي نعمته، فهو يسألنا عطاياه التي وهبنا إياها. وقد حمل شهادة بذلك، قائلاً: “تقدموا لي عطاياي” لأن ما تقدمونه لي كأنه منكم إنما قد نلتموه مني، إذ هو عطيّة من قبل الله[266]].

بدأ بالمحرقة الدائمة، تقديم خروفين حوليين كل يوم، خروف في الصباح وآخر بين العشاءين، وكأننا في حاجة إلى محرقة بلا انقطاع لكي نكون في مصالحة مع الله ليل نهار بغير توقف. هذه هي المحرقة الدائمة أو “عيد الرب الدائم” إنه يفرح ويسر بمصالحتنا معه كل أيام حياتنا، نهارًا وليلاً. لهذا بدأ بهذه المحرقة الدائمة كمقدمة التقدمات التي يوصينا بها كوقود “رائحة سرور الرب” (ع 8).

يقول العلامة أوريجينوس: العيد الأول للرب هو “العيد الدائم”؛ حقًا إنه مطلوب تقديم قربان في الصباح والمساء باستمرار بغير انقطاع. ففي تشريع الأعياد هنا لم يبدأ الرب بعيد الفصح ولا بعيد الفطير أو عيد القربان المقدس، ولا بأي عيد آخر، إنما وضع العيد الأول هو عيد “المحرقة الدائمة”. فهو يريد للذي يصبر إلى الكمال والقداسة ألاَّ تكون له أيام أعياد وأيام بدون أعياد مقدسة لله، وإنما يحتفل بعيد دائم. الذبيحة التي يجب أن تُقدم صباحًا ومساءًا باستمرار يعني ضرورة التفكير في الناموس والأنبياء الذين يمثلون الصباح، التفكير في الإنجيل الذي أُعلن في المساء أي مجيء المسيح في آخر الأيام. هذه هي الاحتفالات التي قال عنها الرب: “ستبصرون أعيادي” (1 تس 5: 17). إذًا يوجد عيد للرب إن كنا نقدم الذبيحة على الدوام، أي “نصلي بلا انقطاع”، إن كان رفع أيدينا إليه يصعد كالبخور قدامه (مز 141: 2) في الصباح وذبيحة مسائية في المساء. إذن الاحتفال الأول هو المحرقة الدائمة التي يجب على تلاميذ الإنجيل أن يقدموها كما سبق فشرحناها. لكن تحولت أعياد الخطاة إلى نوح كما يقول النبي (عا 8: 1) وأغانيهم إلى مراثٍ. فبلا شك الخاطي الذي يحتفل بيوم الخطيّة لا يقدر أن يحتفل بعيد. الأيام التي يخطيء فيها لا يقدر أن يقدم الذبيحة الأبديّة. فإنه لا يقدر أن يقدمها إلاَّ إذا اتبع البرّ واحترس من الخطيّة، أما اليوم الذي يمارس فيه الخطيّة فلا يقدم للرب الذبيحة الأبديّة[267]“.

  1. الذبائح الأسبوعيّة:

إن كان الله يريد أن تكون كل أيامنا أعيادًا له يفرح فيها بنا خلال ذبيحة ابنه الوحيد فيتقبل صلواتنا النهاريّة والليليّة، ولا يكون في أيامنا يوم واحد غير عيد، فإنه أقام لنا أيضًا عيدًا أسبوعيًا هو “عيد السبت” أو “عيد الراحة”، لهذا يقول الرسول: “إذا بقيت راحة لشعب الله” (عب 4: 9).

قلنا أن الرب استراح في اليوم السابع لا بتوقفه عن العمل بل بفرحه بالإنسان وراحته، ونحن أيضًا إذ نتمتع بيوم الأحد، يوم قيامة السيد المسيح كيوم الراحة، إذ نجد في ذبيحته غير المتوقفة سرّ تمتعنا بالحياة المُقامة فنستريح في الله الذي أقامنا معه وأجلسنا في السمويات ويستريح الله فينا إذ يجد له فينا موضعًا.

يبقى الأحد عيدًا أسبوعيًا، سبتًا حقيقيًا لله والكنيسة، أو لله وللإنسان في المسيح يسوع المُقام من الأموات إلى أن نلتقي معه وجهًا لوجه يوم الراحة العظيم حين يتمتع جسدنا بالقيامة من الأموات ويحمل طبيعة روحيّة جديدة ويوجد الإنسان مع الله ممجدًا في أحضانه. وكأن كل أعيادنا الحالية هي عربون للعيد الأبدي، أو كما يقول العلامة أوريجينوس: [السبت الحقيقي الذي فيه يستريح الله من كل أعماله يكون في الدهر الآتي، حين تنهزم الآلام والأحزان والتنهدات ويكون الله هو الكل في الكل. في هذا السبت يهبنا الله أن نعيّده معه، ونحتفل به مع ملائكته القدِّيسين بتقديم ذبيحة التسبيح وإيفاء النذور التي نطقت بها شفاهنا هنا[268]].

في هذا العيد الأسبوعي كان الشعب يلتزم بتقديم “محرقة كل سبت فضلاً عن المحرقة الدائمة وسكيبها” [10]. إنها ذبيحة واحدة غير متكررة، لكنها ذبيحة المسيح القائمة والفعالة بغير انقطاع تجتمع حولها الكنيسة يوم الأحد احتفالاً براحة القيامة بجانب ذبائح الحب اليوميّة من صلوات وتسابيح تقدم خلال الصليب!

  1. الذبائح الشهريّة:

في رأس كل شهر نحتفل بعيد الرب فيه تقدم محرقة رائحة سرور (ع 13) مع ذبيحة خطيّة للرب (ع 15) فضلاً عن المحرقة الدائمة اليوميّة صباحًا ومساءً.

ويلاحظ هنا قوله “رؤس شهوركم” مع أنه إذ يتكلم عن السبت يلذّ له أن يقول “سبوتي” (خر 31: 13، لا 19: 13، 30، 26: 2) وكأنه يعتز بها كسرّ فرحه هو، أما في حالة صنع الشرّ فيودّ أن يدعوها “سبوتكم[269]” (لا 26: 35). حقًا ما أجمل أن يدعو الله السبت “سبوتي”، والأعياد “أعيادي” والتقدمات “تقدماتي” لأنها جميعًا تشير إلى الدخول إلى الراحة الأبديّة والعيد الدائم وتقدمة السيد المسيح الأبديّة، فيها يستريح الإنسان في الله كما الإنسان في أحضان الله، أما الشهور فيدعوها “شهوركم”، لأن الشهر يشير إلى الزمن المتغير من شهر إلى شهر، هذا الذي ينتهي بنهاية العالم. من أجلنا خُلق الزمن بوجود الكواكب، ومن أجلنا تنتهي الأزمنة ولا يعود بعد هناك شهور وسنوات بل توجد في نهار واحد بلا انقطاع يكون فيه الشمس التي لا تغيب، يوم سبت غير منقطع، يوم راحة أبديّة.

مع بدء شهورنا نحتفل بعيد ثالث للرب بجانب العيد الدائم وعيد السبت فيه نفرح بالرب الذبيح الذي وهبنا “الحياة الأبديّة” فيه. يُعلِّق العلامة أوريجينوس على هذا العيد بقوله: [الاحتفال الثالث هو عيد الهلال، اليوم الذي فيه أيضًا تقدم ذبيحة. يكون هذا الاحتفال عند ظهور القمر من جديد. نقول أن القمر صار جديدًا عندما يقترب جدًا من الشمس باتصاله به… أي منفعة للاحتفال بعيد الهلال الجديد؟ إنه يعني اقتراب القمر من الشمس جدًا ويتحد بها. المسيح هو “شمس البرّ”، والهلال يعني كنيسته الممتلئة من نوره، تتصل به وتتحد معه بقوة، كقول الرسول “وأما من التصق بالرب فهو روح واحد” (1 كو 6: 17). إنها تحتفل بعيد الهلال إذ تصير جديدة بتركها الإنسان العتيق ولبس الإنسان الجديد بحسب الله في البرّ وقداسة الحق (أف 4: 24). بهذا يستحق الاحتفال بعيد التجديد أو عيد الهلال… النفس التي اتحدت بالله وعرفت بهاؤه ونوره، التي ليس لديها فكر أرضي أي الانشغال بأمر دنيوي أو شهوة إعجاب الناس بها، هذه التي سلَّمت نفسها لنور الحكمة وحرارة الروح وأصبحت غير ماديّة بل روحيّة، لا يمكن أن يراها البشر ولا هي تتعلق بنظرات البشر بها، لا يدرك الإنسان الطبيعي الإنسان الروحي ولا يصل إليه؛ مثل هذه النفس تستحق بحق أن تحتفل بالعيد وتقدم ذبيحة الهلال للرب الذي جددها[270]].

  1. أعياد سنويّة: الفصح:

قدَّم لهم الرب مجموعتين من الأعياد السنويّة، مجموعة يحتفل بها مع بدء السنة، ومجموعة أخرى تبدأ بالنصف الثاني من السنة أي الشهر السابع. ففي النصف الأول من السنة يحتفل بعيد الفصح (اليوم الرابع عشر من الشهر الأول) وعيد الباكورة أو الخمسين (البنطقستي) أو عيد الفصح أو عيد العبور فتحدثنا عنه قبلاً في الأصحاح الثاني عشر من سفر الخروج، والأصحاح التاسع من سفر العدد.

ركَّز هنا على سبعة أيام الفطير حيث يمتنع عن أكل الخمير واستعماله لكي تبدأ سنة جديدة لا ترتبط بالخمير العتيق. يقول العلامة أوريجينوس: [تستحق أن تحتفل بهذا العيد إن نزعت من نفسك كل خمير الشرّ (1 كو 5: 8) والخطيّة، محتفظًا بفطير الإخلاص والحق. فإنه لا يليق بنا أن نتخيل أن الله القادر على كل شيء يشرع للإنسان قوانين تخص استخدام الخمير، ويقوم بقطع تلك النفس من شعبها (عد 9: 13) إن كانت قد نَسَت أن تكنس ما عندها من خمير… لكن ما يكرهه الله وبحق هو خمير الروح الشريرة المتذمرة والظالمة، هذه التي اختمرت بخميرة الشر. هذا هو ما يريده الله من النفس، فإنها إن لم تنزع هذه الخميرة من مسكنها تُقطع!… فإن الذي يترك في نفسه أقل بذرة للشرّ يزداد من يوم إلى يوم ويزداد شرًا. فإن أردت الاحتفال بعيد الفطير مع الله فلا تترك في نفسك أقل خميرة للشرّ[271]].

يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [إذًا لنُعيِّد ليس بخميرة عتيقة ولا بخميرة الشرّ والخبث بل بفطير الإخلاص والحق (1 كو 5: 8). وإذ نخلع الإنسان العتيق وأعماله، نلبس الإنسان الجديد المخلوق حسب الله (أف 4: 22، 24)، ونلهج في ناموس الله نهارًا وليلاً، بعقل متضع وضمير نقي. لنطرح عنا كل رياء وغش، مبتعدين عن كل كبرياء ومكر. ليتنا نتعهد بحب الله ومحبة القريب، لنصبح خليقة جديدة، متناولين خمرًا جديدًا إذًا لنحفظ العيد كما ينبغي[272]].

يرى القدِّيس أغسطينوس في الفطير رفض الخميرة القديمة وقبول الجديد، فيكون لنا الحياة الجديدة والتسبيح الجديد الخ… [إن كان  لنا حياة جديدة فلنُغنِ أغنية جديدة وننشد للرب تسبحة جديدة[273]].

  1. أعياد سنويّة: عيد الخمسين (الأسابيع):

لأجل تقديس الزمن، لتكون أيام الإنسان كلها مقدسة للرب، جعل الرب عند اليهود اليوم الأخير أو السابع “سبت للرب”، فبتقديس اليوم السابع يتقدس الأسبوع كله، لأن كلمة أسبوع تاتي من رقم “سبعة” خاصة في العبريّة إذ يُدعى (شبوع) أي (سبعة).

وقدس الرب الأسابيع بإقامة “عيد الأسابيع” الذي هو عيد الخمسين لأنه بعد سبعة أسابيع من بدء الحصاد يحسب سبتًا للرب. كان عيدًا مرتبطًا بالزراعة، ولما كان من الصعب تحديد بدء يوم الحصاد، لهذا استقر الأمر أن يحسب من عيد الفصح، فصار اليوم الخمسين من عيد الفصح، في هذا العيد يظهر الشعب أمام الله غير فارغين (خر 23: 15)، بل يقدمون للرب من الحصاد الجديد، لذا يقول “حين تقربون تقدمة جديدة للرب في أسابيعكم” [26]. ما هي هذه التقدمة الجديدة؟ يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [لا يليق بك أن تدخل بيت الله بدون ذبائح، فلا تذهب الاجتماع غير مصطحب إخوتك، فإن هذه الذبيحة والتقدمة أفضل من تلك، متى قدمت لله نفسًا معك في الكنيسة[274]]. في يوم الخمسين حلّ الروح القدس على التلاميذ في عُلِّية صهيون الروح الناري القادر أن يجتذب تقدمات جديدة للرب، فقد قدم بطرس الرسول في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفسًا للرب (أع 2: 41). هذه هي تقدمة المؤمنين في عيد الأسابيع، الدخول بالنفوس المتعبة لتستريح في أحضان الرب.

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى