البابا مرقس الخامس

البطريرك رقم 98

 

بعد نياحة البابا غبريال الثامن ظل الكرسي المرقسى شاغر فترة من الزمن . إذ كيف يستطيع الأساقفة والأراخنة أن يجتمعوا و يتشاوروا وسط الفتن والقلاقل؟ إلا أن العناية الإلهية دائمة الفعالية حركت المسئولين إلى وجوب العمل بالضرورة الموضوعة عليهم ، و بهذه الدفعة الإلهية اجتمعوا وتشاوروا فيمن يريدون أنتخابه للرياسية العليا .

وكان في بلدة البياضية رجل يعمل قياساً في أعمال المساحة ، وبعد أن اشتغل بهذه المهنة عدة سنوات إشتاقت نفسه إلى الحياة الرهبانية فترك وظيفته واهله، وانضم إلى رهبان دير الأنبا مكاری ببرية شيهيت و اتخذ اسم الكاروز الحبيب ” مرقس”. وقد اشتهر بين إخوته بالصبر والورع وحب الخير والدأب على الخدمة . فلما اجتمع الأساقفة والأراخنة للتشاور اتفقوا برأی واحد على مرقس المكاري، وبتدارسهم مزاياه أجمعوا على انه الرجل الذي يبتغونه .
فذهبوا لفورهم إلى الدير واقتادوه إلى القاهرة . وتمت مراسيم رسامته في يوم الأحد الموافق ۲۹ بؤونه سنة ۱۳۲۷ ش في كنيسة الشهيد العظيم مرقوريوس( ابن السيفين ) . ورأس الصلوات الاحتفالية أنبا خريستوذولو النقادي محتفظ له باسمه الكريم فأصبح الأنبا مرقس الخامس البابا الإسكندرى الثامن و التسعين.
 ولقد اشتهر هذا البابا بسعة العلم والتضلع في الشرائع . ودأب على تفقد شعبه فطاف بينهم من الدلتا إلى الصعيد ليقوی عزائمهم ويثبت ايمانهم . بل لقد امتد اهتمامه بأبنائه إلى السفر للقدس لزيارة شعبه هناك . فتبرك بالمزارات المقدسة ، وعاین املاك البابوية ، ثم عين القمص يعقوب رئيسا لكنيسة القيامة واهاب بالشعب ان يتعاون معه في صيانة الممتلكات والحرص عليها بكل دقة .
 وكأن متاعب تلك الفترة لم تكن كافية، إذ قد زاد بعض أولاد الأنبا مرقس الخامس في وجعه . ذلك أن قبط الدلتا زعموا أنه في الإمكان أن يتزوج المسيحي بأكثر من امراة . فوبخهم وافهمهم ان من يتزوج بأكثر من إمراة يتعدى الشريعة المسيحية . فغضبوا لتوبيخه إياهم و تمادوا في غيهم بأن طلبوا إلى الوالى أن يسجنه . فلبى طلبهم وأمر بحبسه في برج الاسكندرية . والموجع أن مطران دمياط انحاز لهؤلاء الخاطئين المتمردين زعماً منه أنه بهذا الانحياز يحل محل البابا المرقسي وعلى اثر ذلك قام أراخنة القاهرة بواجب البنوة المكرمة للأبوة فبذلوا كل جهودهم في سبيل الافراج عن باباهم . ومن نعمة الله أن نجحت مساعيهم . فخرج الأنبا مرقس مرفوع الراس ، وجمع مجمعه وتناقشوا معاً في الزواج المسيحي وهل هو بين رجل واحد وامرأة واحدة ام يحتمل تعدد الزوجات . وانتهوا إلى أن السيد المسيح له المجد علم المؤمنين بان الزوجية سر مقدس وانها واحدة لكل من الطر فين . ثم أصدروا بعد ذلك الحكم بحرم المطران الذي نسی کرامة الأسقفية و جری مع من زاغوا. 

ورغم عودة البابا إلى كرسيه : فقد ضيق الولاة عليهم ثم أمروا بابعادهم عن بلادهم ، وبعد ذلك صادروا أموالهم و بددوا ارزاقهم.
على أن التصالح كان قاصراً على المحيط الکنسى وحده لان الشعب المصرى إذ ذاك انتفض انتفاضة صريحة ضد التعسف التركي فقامت ثورة بدأت في طنطا وامتدت نحو القاهرة . ولكن جنود الوالى استطاعوا أن يخمدوها بقسوة في الخانكة.
أما الحبشة فقد ظل السلام مستتبا فيها إلى سنة 1607م حين آل العرش إلى سوسينيوس ، ومرت شهور بعد ذلك استمر فيها السلام ناشراً ألويته. على أن بدر و بايز اليسوعي الذي ظل في الحبشة استمر يرتب أمورها بعين الصقر منتظر فرصة مواتية . ثم أخذ يعمل على استمالة قلب الملك حتي فاز به إلى حد جعله يعلن انضمامه إلى الكنيسة الكاثوليكية . وسكت الشعب في باديء الأمر زعما منه أن هذه نزوة ملكية عابرة وارتكانا إلى أن التجارب الماضية قد محصت الملك. على أنهم لم يلبثوا أن فوجئوا بأن الموضوع خطير لان الملك أعلن انضمامه إلى كنيسة رومية . وزاد على ذلك بأن رحب بمنديز البطريرك الموفد له منها .
فأخذ منديز يعامل الأحباش المحافظين على أنهم و ثنیون بان أغلق كنائسهم . أما من قبلوا الانضواء تحت رعایته فقد حتم عليهم إعادة معموديتهم، كما حتم إعاده رسامة الكهنة منهم وإعادة تكريس الكنائس التي استولى عليها . فلم يؤد هذا کله إلا إلى قيام ثورة عارمة ، وساند المطران القبطى الشعب في ثورته معلنا الحرم على كل من يخرج على العقيدة الأرثوذكسية . وعندما قامت حرب أهلية مرة أخرى أستمرت ست سنوات راح ضحيتها العدد العديد من الشعب، فتكررت المأساة : مأساة الحرب بين الإخوة التي أشعلتها المطامع الرومانية.
 و بالطبع دعم البابا المرقسى ابناءه المتمسكين بعقيدتهم فازدادوا ثباتا۔ فكان صمود الثابتين على أرثوذكسيتهم في تلك الفترة صمودا على جبهتين : الجبهة الأولى في مصر في وجه البطش الترکی ، والجبهة الثانية في الحبشة في مواجهة المناورات الكاثوايكية . وفي تلك الفترة بالذات تم النصر لابناء الكنيسة القبطية على الجبهتين.
وبعد أن نجح الأنبا مرقس الخامس في قيادة دفة الكنيسة بحكمة مدى إحدى عشرة سنة انتقل إلى بيعة الابكار . وبعد الصلاة عليه في كنيسة السيدة العذراء بحارة زوية – مقر ریاسته – نقلوا جثمانه الطاهر إلى دير الأنبا مكاري الكبير برية شيهيت. 

من كتاب قصة الكنيسة القبطية ج4 أ إيريس حبيب المصري

فاصل

البابا غبريال الثامنالقرن السابع عشرالعصور الوسطىالبابا يوحنا الخامس عشر
تاريخ البطاركة
تاريخ الكنيسة القبطية

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى