القديس جيروم
نشأته وحياته الأولى
يعتبر القديس إيرونيموس (جيروم) من أعظم آباء الغرب في تفسيره للكتاب المقدس، وله تراث عظيم في هذا المجال مع مقالات نسكية وجدلية ضد الهراطقة ورسائل عديدة.
وُلد حوالي عام 342 م.، في مدينة ستريدون Stridon على حدود دلماطية وبانونيا وإيطاليا، من أسرة رومانية غنية وتقية. وكان له أخ أصغر يُدعى بولينيان وأخت صغري، وكلاهما اختارا الحياة الرهبانية طريقاً لهما.
ولما بلغ إيرونيموس الثانية عشرة من عمره أرسله والده إلى روما للدراسة، فبرع في الفصاحة والبلاغة، وقد شغف بكبار شعراء اليونان والرومان. وفي شبابه المبكر قام بنسخ الكثير من الكتب كنواة لإنشاء مكتبة خاصة به وكان تلميذاً لدوناتوس.
مع هذه الحياة وهذا التيار انجرف إيرونيموس عن الحياة المسيحية التقوية، لكنه عاد فتاب وندم ثم نال سرّ العماد وإن كان قد بقي زمانًا يصارع فكريًا ضد الشهوات.
حبه للعبادة:
بعد ثلاثة سنوات قرر جيروم وصديقه بونوسيوس سترايدون أن يرحلا إلى تريفا للتفرغ للعبادة. هناك بدأ يدرس اللاهوت والكتاب المقدس،وكان يقضى وقت فراغه في نسخ أعمال القديس هيلاري أسقف بواتييه (أثناسيوس الغرب) . ثم عاد إلى وطنه وأقام في أكويلا بإيطاليا سبع سنوات، حيث توثقت علاقته بصديقه الحميم روفينيوس الذي سبق فصادفه في روما.
في إنطاكية:
إذ كان يحث أخته على حياة البتولية والنسك هاج أقرباؤه عليه فاضطر إلى الرحيل إلى الشرق، ماراً على اليونان فآسيا، ليستقر في إنطاكية عام 374م.، حيث استضافه القديس أوغريس. أحب جيروم أوغريس، وكان للأخير أثره القوي عليه إذ سحب قلبه نحو الشرق والحياة النسكية.
تعرف أيضًا على أبوليناريوس أسقف اللاذيقية وكان يستمع إلى عظاته، الذي وقف القديس ضده بعد ذلك، حينما انحرف عن الإيمان.
تفرغ قديسنا لدراسة الكتاب المقدس مع ممارسة الحياة النسكية، فانفرد في برية خليكس جنوب شرقي إنطاكية لحوالي أربع سنوات، تعرف فيها على أحد اليهود الذين قبلوا الإيمان حديثاً وتعلم منه اللغة العبرية، مما ساعده فيما بعد على ترجمة العهد القديم من العبرية إلى اللاتينية.
وقد تعرض في هذه البرية لمتاعب جسدية كثيرة، كما يظهر مما كتبه إلى القديسة أوستخيوم يصف حاله بصراحة كاملة، فيقول: “كانت حرارة الشمس الحارقة شديدة ترعب حتى الرهبان الساكنين فيها، لكنني كنت أُحسب كمن في وسط مباهج روما وازدحامها… في هذا النفي أي السجن الذي اخترته لنفسي، حتى أرهب الجحيم. كنت في صحبة العقارب والوحوش وحدها فكنت أحسب كمن هو بين الراقصات الرومانيات. كان وجهي شاحبًا من الصوم الإرادي فكانت نفسي قوية في الجهاد ضد الشهوة. جسدي البارد الذي جف تمامًا، فصار يبدو ميتًا قبل أن يموت، يحمل فيه الشهوة حيّة، لذا ارتميت بالروح عند قدمي يسوع أغسلهما بدموعي، مدربًا جسدي بالصوم الأسبوع كله، ولم أكن أخجل من كشف التجارب التي تحل بي… ولا أكف عن قرع صدري ليلًا ونهارًا حتى يعود إلىّ السلام”.
عاد من البرية إلى إنطاكية عام 377 م.، فظهرت مواهبه، لذا ضغط عليه البطريرك بولينوس ليقبل الكهنوت، وإن كان قد اشترط إيرونيموس عليه ألا يرتبط بكنيسة معينة، ليتفرغ لكلمة الله أينما شاء الله أن يدعوه.
تركه إنطاكية:
سمع إيرونيموس عن القديس غريغوريوس النزينزي، فذهب إليه والتصق به لمدة عامين، وفي مجمع القسطنطينية المسكوني عام 381 م لمع نجمه. وفي سنة 382 م. رافق بولينس بطريرك إنطاكية وأبيفانيوس أسقف سلاميس بقبرص إلى روما، فاتخذه داماسيوس أسقف روما كاتبًا له، وأوكل إليه ترجمة الكتاب المقدس إلى اللاتينية، وتسمى بالفولجاتا La Vulgate. امتزج عمله بحياة النسك مع الفكر الروحي المتقد، فألتف حوله كثيرون، من بينهم شريفات قديسات مثل باولا وبنتاها بلوزلا وأوستخيوم، ومرسيليا وأمها ألبينا، وأسيلا البتول الشهيرة.
متاعبه بروما:
بعد نياحة أسقف روما هاجمه منافسوه إذ كانت الأنظار تتجه إلى سيامته، فأثاروا ضده افتراءات كثيرة، بسبب علاقته بهؤلاء الشريفات، واضطر أن يعود إلى الشرق مع أخيه بولينيان وبعض الرهبان، يحمل معه مكتبته الضخمة ومؤلفاته، وقد كتب رسالة إلى بناته الشريفات مؤثرة للغاية، جاء فيها: “أشكر الله الذي وجدني مستحقًا أن يبغضني الناس… نسبوا إلىّ أعمالًا شائنة لكن أبواب السماء لا تُغلق وتُفتح بأقاويل الناس وأحكامهم”.
عودته إلى الشرق:
لحقت باولا وأستوخيوم قافلته في إنطاكية، وانطلق إلى يافا ثم بيت لحم، ثم جاءوا إلى مصر حيث الحياة الرهبانية في أوج عظمتها. في مصر التقي بالقديس ديديموس الضرير الذي كان يحبه، وقيل أنه سبق فتتلمذ على يديه لمدة شهور، وسأله عن بعض معضلات في الكتاب المقدس فوجد إجابات شافية، ومن شدة إعجابه به حينما سبق فطلب منه داماسوس أسقف روما أن يكتب له بحثًا في الروح القدس، لم يجد جيروم أفضل من أن يترجم له ما كتبه القديس ديديموس إلى اللاتينية.
زار كثير من الأديرة والتقى بعدد كبير من نساك منطقة الأشمونين بمصر الوسطى (التابعة لطيبة) ومنطقة وادي النطرون، وسجل لنا كتابه “تاريخ الرهبان” عن آباء رآهم والتقي بهم شخصيًا أو سمع عنهم من معاصرين لهم يعتبر من أروع ما سُجل عن الحياة الرهبانية في ذلك الزمن.
في فلسطين:
عاد إلى فلسطين وهو حامل خبرة آباء نساك كثيرين، وهناك بنت له باولا ديرين في بيت لحم عام 386 م. أحدهما للنساء تسلمت هي إدارته، والآخر للرجال يرأسه القديس إيرونيموس قرابة 35 عامًا، قضى معظم وقته فيه للدراسة والكتابة والترجمة حتى قال عنه المؤرخ سالبسيوس ساويرس: “تراه على الدوام غائصًا في كتبه”.
أُعجب بالعلامة أوريجينوس الإسكندري الذي حسبه هبة الله للكنيسة، فعكف على ترجمة الكثير من كتابته ومقالاته إلى اللاتينية، وكان يلقيها على الرهبان والراهبات، حتى جاء القديس أبيفانيوس أسقف سلاميس إلى فلسطين وألقى عظته على الجماهير وهاجم أوريجينوس بعنف… فأصطاد القديس إيرونيموس ليحوّله من العشق الشديد لأوريجينوس إلى العداوة المرة، فيحسبه كأبيفانيوس أنه علّة كل هرطقة. وبسبب هذا التحوّل خسر القديس جيروم صديق صباه روفينوس، ودخل معه في صراعات مرة وقاسية. وقد حاول القديس أغسطينوس التدخل بأسلوب رقيق للغاية، لكن القديس جيروم دخل معه في صراع شديد وبلهجة قاسية.
وقد واجه القديس جيروم العديد من البدع والهرطقات مثل الأريوسية والبيلاجية التي اشترك مع القديس أغسطينوس في مواجهة تعاليمها.
أيامه الأخيرة:
في أواخر أيامه هاجم البيلاجيون ديره وأحرقوا جزءًا كبيرًا منه وقتلوا ونهبوا.
تنيح القديس في بيت لحم عام 420 م. في مغارة المهد، وقد نُقل جسده إلى روما.
يُعيِّد له الغرب في 30 من سبتمبر.
يصوره الغرب وأمامه أسد رابض، إذ قيل أنه شفى أسدًا وقد لازمه في الدير. وربما لأنه كان يمثل الأسد في البرية، يزأر بشدة من أجل استقامة الإيمان، لا يستريح ولا يهدأ بسبب الهرطقات.
ترجماته:
قام بترجمة الكتاب المقدس “الفولجاتا”، كما قام بترجمة 78 عظة لأوريجينوس، كتب أوريجينوس الأربعة “عن المبادئ“، والرسائل الفصحية للبابا ثاؤفيلس الإسكندري، ورسالة فصحية للقديس أبيفانيوس، ومقال القديس ديديموس السكندري “عن الروح القدس”… إلخ.
كتاباته:
1. اهتم بتفاسير الكتاب المقدس، فُقد بعضها. فسّر سفر الجامعة، وبعض رسائل القديس بولس، وإنجيل متى، والرؤيا، واهتم بأسفار الأنبياء، أروعها تفسيره لسفر أشعياء? الخ. في تفاسيره حمل المنهج الإسكندري، مستخدمًا أسلوب العلامة أوريجينوس وطريقته الرمزية حتى بعد مقاومته له.
بعض تفاسيره كتبها بسرعة شديدة، فسجل تفسيره لإنجيل القديس متى في 14 يومًا.
2. كتب في التاريخ: “مشاهير الرجال” ويعتبر الكتاب التاريخي الثاني بعد كتاب أوسابيوس القيصري، ضم 135 فصلًا، مقدمًا في كل فصل عرض لسيرة كاتب مسيحي وأعماله الأدبية.
كتب أيضًا في سير الرهبان، كما سجّل حياة القديس بولا الطيبي وغيره…
3. كتابات جدلية ضد يوحنا أسقف أورشليم، واحتجاجه ضد روفينوس، وآخر ضد هلفيديوس Helvidius (بخصوص دوام بتوليه العذراء مريم)، وضد جوفينيان، وضد البيلاجيين… الخ.
4. رسائله.
الكنيسة الجامعة | |||
الآباء الغربيون قبل وبعد نيقية |
|||
تاريخ الكنيسة |