تفسير سفر أيوب ٣٤ للقمص تادرس يعقوب

 

يرى البعض أن أيوب لم يجب على تساؤل أليهو استخفافًا به كشابٍ صغيرٍ، خاصة وأنه سبق فأجاب على أسئلة الأصدقاء الشيوخ علانية. ولعل أيوب لم يجبه خشية أن تنهال عليه الأسئلة من كل الحاضرين. وإذ صمت أيوب، تحول أليهو بوجهه إلى جمهور الحاضرين، من بينهم الأصدقاء الثلاثة، وربما في شيءٍ من التهكم، أو لكسبهم دعاهم رجال تمييز وحكماء وفاهمين [2-4، 34-37].

عالج أليهو مشكلة تبرير أيوب نفسه أمام الله، موضحًا له أنه لا يتكلم مع ملكٍ أو أميرٍ بل مع الله العارف بكل شيءٍ، الذي لن يخطئ الحكم. اقترح على أيوب ممارسة التوبة في تواضعٍ وندامةٍ [31-32].

أراد أليهو أن يرد على أخطائه من جهة نظرته نحو الله أنه قد سمح له بالآلام ظلمًا، بتأكيد أن عدل الله لا جدال فيه (10-12، 17، 19، 23)؛ وإنه صاحب السلطان المطلق (13-15)؛ والقدير في قوته (20، 24)؛ والعالم بكل شيء (21، 22، 25)؛ والحازم مع الخطاة العاصين لأجل توبتهم (26-28)، أما عنايته الإلهية ففائقة (29-30).

أخيرًا خُتم الأصحاح باستعراض كيف يليق بأيوب الحديث مع الله (31-32)، تاركًا الأمر لضميره (33-37).

 

1. دعوة الحاضرين للاستماع

فأجاب أَلِيهو وَقَالَ: [1]

فأجاب”، هذا لا يعني أن أحدًا ما سأل وقام أليهو بالإجابة عليه، فقد اعتاد الكتاب المقدس أن يبدأ الأحاديث بهذه الكلمة: “أجاب”، حتى وإن لم يسبقه أحد في الكلام، وذلك كما جاء في (أيوب 3: 2؛ إش 14: 10؛ زك 1: 10؛ 3: 4؛ 4: 11-12). أحيانًا تُستخدم هذه الكلمة لتعبر عن إجابة لسؤال خفي في ذهن شخصٍ آخر معارضٍ لم يفصح عنه علانية(1283).

اسْمَعُوا أَقْوَالِي أَيُّهَا الْحُكَمَاءُ،

وَأصْغُوا لِي أَيُّهَا الْعَارِفُونَ [2].

في الأصحاح السابق وجه أليهو حديثه إلى أيوب، حيث أجاب على أسئلته بخصوص الأحزان والضيقات، موضحًا أنها بسماح الله لأجل نفع المؤمنين، حيث تُعطى الفرصة للمؤمن أن ينسحب إلى داخله، ويكتشف أخطاءه، ويطلب الوسيط الواحد الإلهي. لم يجبه أيوب، ولا علق على كلماته. الآن يوجه حديثه بصفة خاصة إلى أصدقائه الثلاثة، وقد دعاهم حكماء، وُهبت لهم المعرفة. وهو في هذا أراد أن يهيئهم للاستماع إليه باهتمام دون تحفزٍ. ولعله تطلع إليهم أنهم بالفعل هم حكماء، قادرون على تتبع أقواله وشرحه لبعض الأمور الصعبة.

لأَنَّ الأُذُنَ تَمْتحِنُ الأَقْوَالَ،

كَمَا أَنَّ الْحَنَكَ يَذُوقُ طَعَامًا [3].

يدعونا أليهو أن يكون لنا روح الإفراز، فكما يقوم الفم بتذوق الطعام، وتمييز ما هو صالح وما هو فاسد، هكذا يليق بآذاننا أن تفرز الكلمات الصالحة من الشريرة. هنا يتحدث مع الحاضرين خاصة الأصدقاء الثلاثة، وهو لا يتحدث عن الآذان الداخلية فحسب، بل والآذان الجسمية أيضًا، فلا يترك المؤمنون أبواب آذانهم تستقبل كل الكلمات بلا تمييز.

كما نُدان عن كلمة بطالة تفسد وقتنا، يلزمنا أن نحتاط من كل كلمة نسمعها، فنهرب ما استطعنا من الاستماع ليس فقط لما هو شرير، بل وما هو باطل وبلا نفع.

يرى كثير من الآباء أن التهاون بالاستماع إلى المنحلين أو الهراطقة قد يفسد نقاوة النفس واستقامة الإيمان، لذا يليق بالمؤمن أن يمتحن ما يُقال فلا يسمح لأذنيه أن تنصتا بلا تمييز.

“جربوا أنفسكم هل أنتم في الإيمان. امتحنوا أنفسكم، أم لستم تعرفون أنفسكم أن يسوع المسيح هو فيكم إن لم تكونوا مرفوضين” (2 كو 13: 5).

امتحنوا كل شيءٍ، تمسكوا بالحسن” (1 تس 5: 21).

“أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله، لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم” (1 يو 4: 1).

“لا تصنع شيئًا بغير تمييز” (سيراخ 33: 30).

“ولآخر عمل قوات، ولآخر نبوة، ولآخر تمييز الأرواح، ولآخر أنواع السنة، ولآخر ترجمة ألسنة” (1 كو 12: 10).

“وأما الطعام القوي فللبالغين، الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر” (عب 5: 14).

*     “لا تُساقوا بتعاليم متنوعة وغريبة” (عب 13: 9). هذا هو معنى التمييز بين الصلاح والشر. “الفم يذوق طعامًا, لكن النفس تمتحن الكلمات” (راجع أي 34: 3)(1284).

 القديس يوحنا الذهبي الفم

*     الإفراز هو أفضل من كل الفضائل(1285).

القديس الشيخ الروحاني

*     “يا رب برضاك ثبت لجمالي قوة” (30: 8)… يتساءل البعض عن نتائج الفضيلة… يقول البعض: إن لكل فضيلة علة (سبب)، بينما يرفض البعض الآخر هذا التفسير… فمثلًا هدف الحكمة أو علتها هو التمييز بين الخير والشر… وبالتمييز نستطيع أن نختار وأن نرفض، وبالعدل ندرك ما يجب أن نعطيه وما لا يجب أن نعطيه… بالشجاعة ندرك ما يجب أن نخشاه وما لا يجب أن نخشاه… أما فضيلتي الجمال والقوة فليس لهما سبب… بل تأتي قيمتهما من فضائل أخرى لها علة… فالحكماء يدركون ماهية الجمال من خلال التوافق والتناسق الموجود في داخل نفوسهم… ويدركون القوة من خلال التنفيذ العملي للفضيلة النظرية(1286).

القديس باسيليوس الكبير

*     يا بُنىَّ، لا تتكلم بغضب، بل ليكن كلامك بحكمةٍ ومعرفةٍ، وكذلك سكوتك أيضًا، لأن آباءنا الحكماء كان كلامهم مملوءًا من الحكمة والتمييز، وكذلك سكوتهم.

القديس أنبا أنطونيوس الكبير

لِنَمْتَحِنْ لأَنْفُسِنَا الْحَقّ،

وَنَعْرِفْ بَيْنَ أَنْفُسِنَا مَا هُوَ طَيِّبٌ [4].

لنمتحن الأمور بأنفسنا، فلا نهتم بمديح الآخرين؛ إنما ما يشغلنا هو أن نبلغ إلى الحق، ونتعرف على الحقائق، ونسعى لكي نجد ما هو صالح.

يليق بالمؤمن أن يسعى لكي يكتشف ما هو حق وما هو عادل وما هو للبنين وسط الآراء والمفاهيم المتضاربة، ممتحنًا كل شيء في جديةٍ وإخلاصٍ، دون تحيز لآرائه أو آراء محبيه.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أنه يليق بنا أن نمتحن أنفسنا، فننصت إلى صوت السيد المسيح الذي فينا، كما لصوته في الكنيسة المقدسة خلال معلمينا الكنسيين.

*     انظروا إلى داخلكم، فتجدون المسيح فيكم. ولكن إن كان المسيح فيكم، كم بالأكثر يكون في معلمكم(1287).

 القديس يوحنا الذهبي الفم

*     إن كنا لا نعرف كيف يمتحن الواحد الآخر، فإننا لا نعرف إن كان المسيح فينا أم لا. الفشل في ممارسة الامتحان هو عدم معرفة الإيمان الموروث في إعلان إيماننا. من له حاسة الإيمان في قلبه يعرف أن يسوع المسيح فيه(1288).

 الأب أمبروسياستر

*     كما في إسرائيل القديم وُجد بعض أنبياء نطقوا بكلمة الله، وآخرون لم يفعلوا هكذا، فإنه ما أن ظهر الرسل ينطقون في المسيح ولهم الروح القدس الذي أرسله إليهم الرب، حتى أرسل الشيطان رسلًا كثيرين كذبة يزيفون تعليم الإنجيل. إنه لأمر حيوي أن يكون لكم عطية الروح القدس التي تُدعى تمييز الأرواح حتى يمكنكم امتحان الأرواح، وتروا ما يلزم أن تؤمنوا به وما يلزم أن تنبذوه(1289).

القديس ديديموس الضرير

*     يلزمنا أن نراعي بكل حرص هذا الأمر المثلث الجوانب، فلنختبر الأفكار التي تهاجمنا ببصيرة وحكمة، لندرك ما هو مصدر الفكر وأسبابه منذ بدايته. وبهذا يمكننا أن نأخذ في اعتبارنا هل نخضع له وذلك حسب نوع من يقترحه، فنكون كالصيارفة الحكماء كما يعلمنا بذلك الرب. إذ هم بمهارتهم وخبرتهم يميزون الذهب النقي الخالص الذي تنقى بالنار كما ينبغي، وبمهارتهم لا ينخدعون بقِطع النحاس المغشاة بطبقةٍ خفيفةٍ من الذهب والتي تبدو ذات قيمة عظيمة… إنهم بذكائهم ومهارتهم يدركون تمامًا العملات المزيفة التي يصكها كبار المخادعين…

هكذا يلزمنا أولًا أن نختبر بكل حرص كل فكر يدخل إلى قلوبنا وكل تعليم نتلقنه، لنرى ما إذا كان قد تنقى بنار الروح القدس الإلهي السماوي، أو ينتمي إلى ضلال الهراطقة، أو هو ثمرة كبرياء الفلسفة البشرية التي ليس لها إلا سطحيات التديّن.

نستطيع أن نعمل هذا إن سلكنا بنصيحة الرسول القائل: “أيها الأحباءُ لا تصدّقوا كلَّ روحٍ، بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله…” (1 يو1:4). ينخدع البعض بهذا النوع، فيغويهم حُسن التنسيق، والتعاليم الفلسفية التي تخدع لأول وهلة بما فيها من بعض المعاني الورعة التي تتفق مع الدين، وذلك كما يخدع بريق الذهب ناظريه. هؤلاء تجذبهم المظاهر، لكن سرعان ما يشعرون أنهم في الواقع قد خرجوا فارغي اليد، ويسقطون في اليأس، ويكونون كمن قد انخدعوا بالنقود النحاسية المغشوشة(1290).

الأب موسى

2. الرد على تبرير أيوب نفسه

لأَنَّ أَيُّوبَ قَالَ:

تَبَرَّرْتُ، وَاللهُ نَزَعَ حَقِّي [5].

جاءت هذه الكلمات في أيوب (13: 18؛ 27: 2) لكنه قالها ليبرئ نفسه، لأن أصدقاءه طعنوه في شخصه، فأراد تأكيد براءته من الاتهامات الباطلة، دون أن يقصد أنه يتبرر أمام الله، وأنه معصوم من الخطأ. لم يلمح قط أنه دومًا طاهر القلب، وأنه لم يخطئ قط ضد ناموس خالقه. حقًا قال إن الله نزع عنه حُكمه، لكنه لم يكن يعني قط أنه يود أن يقاضي الله متهمًا إياه بالظلم، وإنما ما عناه أن الله يتعامل معه بطريقة سرية غامضة، وليس كما اعتاد أن يلمسه في علاقته به من قبل، من جهة عنايته الإلهية الفائقة. ما كان غامضًا بالنسبة له ليس ما حلّ به من تجارب، إنما كيف سمح لأصدقائه أن يتعثروا فيه.

لقد اعترف أيوب بخطاياه، لكنه يحمل برّا نسبيًا إن قورن بإخوته في البشرية، لا إن قورن بالله. فقد قيل: “لأنه لا إنسان صديق في الأرض يعمل صلاحًا ولا يخطئ” (جا 7: 20).

*     لا أعرف إنسانًا كاملًا في شيء… وهو بعد إنسان، إلا ذاك الذي وحده من أجلنا لبس ناسوتيتنا(1291).

القديس إكليمنضس السكندري

*     الله صالح، كامل الصلاح وحده، وإذ أنت صورته يليق بك أن تكون صالحًا. إنه سخي مع الجميع، فينبغي عليك أن تكون كريمًا، تتجنب الجشع، ولا تبخل على قريبك بأي شيء مادي زائل، فإن هذا أخطر كارثة وجهالة.

الأب يوحنا من كرونستادت

*     أولًا عُد إلى نفسك مما هو خارج عنك، عندئذ قدم نفسك ثانية لذاك الذي خلقك. فهو مصدر كل سعادتنا وصلاحنا الكامل(1292).

القديس أغسطينوس

عِنْدَ مُحَاكَمَتِي أُكَذَّبُ.

جُرْحِي عَدِيمُ الشِّفَاءِ مِنْ دُونِ ذَنْبٍ [6].

لعل أيوب يتساءل: هل يكذب ويتهم نفسه بالشر حسبما جاء في فكر أصدقائه، فيكون قد صار كاذبًا ضد إعلان براءته مما نسبوه إليه.

إنه يصرخ، فقد صار جرحه عديم الشفاء بدون إثم ارتكبه. لقد اتهموه بأنه أشر مجرمٍ، وتعاملوا معه بأبشع صورة، مع أن الله نفسه شهد بكماله، وأن الشيطان هيَّجه عليه بلا سبب (أي 1: 1؛ 2: 3).

يقصد بجرحه هنا النكبات التي حلت به، وقد بدت عديمة الشفاء، ليس من علاجٍ لها، ولا من إمكانيةٍ لإصلاح الموقف.

جاء التصوير هنا أن أيوب يشبه حيوانًا ضُرب بسهمٍ قاتلٍ دون ذنب ارتكبه. ما يشتكي منه أيوب ليس أنه بلا خطية، ولكن ما حلّ به من نكبات، شوهت صورته تمامًا، خاصة في أذهان أصدقائه.

فَأَيُّ إِنْسَانٍ كَأَيُّوب،َ يَشْرَبُ الْهُزْءَ كَالْمَاءِ [7].

يرى البعض أن هذا المثل يناسب البيئة الصحراوية قديمًا، إذ يشبّه الإنسان بالجمل الذي يشرب كمية ضخمة من الماء تمكنه من عدم الشعور بالعطش لمدة طويلة أثناء رحلته في البرية الجافة. هكذا شرب أيوب كميات ضخمة من التجارب، يستمر أثرها أثناء كل رحلته هنا في برية هذا العالم(1293).

أورد أليفاز عبارة مشابهة عند اتهامه لأيوب (أي 15: 16).

وَيَسِيرُ مُتَّحِدًا مَعَ فَاعِلِي الإِثْم،ِ

وَذَاهِبًا مَعَ أَهْلِ الشَّرِّ؟ [8]

حسب أليهو أيوب أنه مرافق للأشرار، لأنه حمل أفكارًا مثلهم في عتابه مع الله (أي 9: 22-23؛ 30؛ 21: 7-15)، على الأقل بقوله إن الذين يفعلون الشر لا يُعاقبون. يبدو كأنه أنكر عدل الله بسبب عدم معرفته لما وراء الضيقات التي حلت به، بينما لم تحل بالأشرار، فحسبه أليهو كمن صادق بأفكاره الأشرار.

لأَنَّهُ قَالَ: لاَ يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ بِكَوْنِهِ مَرْضِيًّا عِنْدَ اللهِ [9].

إذ تبنى أيوب هذا الفكر وسط مرارة نفسه، فقال بأنه لا منفعة من خدمة الله، وأن سلوك الإنسان بالبرّ لا ينفعه شيئًا، لأن الله لا يدافع عن الأبرار ضد مقاوميه، بهذا حسب أليهو أن أيوب في صداقة مع الأشرار.

لأَجْلِ ذَلِكَ اسْمَعُوا لِي يَا ذَوِي الأَلْبَابِ.

حَاشَا للهِ مِنَ الشَّرِّ،

وَلِلْقَدِيرِ مِنَ الظُّلْمِ [10].

يدعو أليهو الحاضرين للاستماع إلى إجابته على ما ظنه مفاهيم خاطئة لدى أيوب، مظهرًا أن أيوب استخدم تعبيرات غير لائقة في عتابه مع الله بخصوص أحكامه.

يا ذوي الألباب (الفهم)”؛ الكلمة العبرية تعني “القلوب”، إذ كان اليهود يحسبون القلب هو مركز كل العمليات العقلية وعرشها. لا يتحدثون عن العقل أو الرأس كعرشٍ للعمليات العقلية. هكذا يحسب أليهو الحاضرين حكماء، وأنهم قادرون على إدراك الفكر الذي يعرضه بخصوص برّ الله وعدله في أحكامه.

يود أن يؤكد أليهو أنه حاشا لله أن يخطئ أو يصنع شرًا.

يقول أليهو: يلزمنا ألاَّ نضع تصرفات الله في موازين بشرية، فنتهمه أحيانًا بالظلم. إنما يليق بنا أن نثق بأن كل طرق الله حق هي وعادلة، لأنها طرقه وهو قدوس، وليس لأننا نراها هكذا.

“فماذا نقول: ألعل عند الله ظلمًا؟ حاشا” (رو 9: 14).

“حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر! أن تميت البار مع الأثيم، فيكون البار كالأثيم. حاشا لك! أديان كل الأرض لا يصنع عدلًا؟” (تك 18: 25).

“هو الصخر الكامل صنيعه. إن جميع سبله عدل، إله أمانة، لا جور فيه، صديق وعادل هو” (تث 32: 4).

“عادل أنت أيها الرب، وجميع أحكامك مستقيمة وطرقك كلها رحمة وحق وحكم” (طوبيا 3: 2).

الله قاض عادل، وإله يسخط في كل يومٍ” (مز 7: 11).

“لأن الرب عادل ويحب العدل، المستقيم يبصر وجهه” (مز 11: 7).

“خوف الرب نقي، ثابت إلى الأبد، أحكام الرب حق عادلة كلها” (مز 19: 9).

“عادلة شهاداتك إلى الدهر، فهمني فأحيا” (مز 119: 144).

“وإذ أنت عادل تدبر الجميع بالعدل، وتحسب القضاء على من لا يستوجب العقاب منافيًا لقدرتك” (الحكمة 12: 15).

“فسهر الرب على الشر وجلبه الرب علينا، لأن الرب عادل في جميع أعماله التي أوصانا بها” (با 2: 9).

“لأنك عادل في جميع ما صنعت، وأعمالك كلها صدق، وطرقك استقامة، وجميع أحكامك حق” (دا 3: 27).

“الرب عادل في وسطها لا يفعل ظلمًا. غداةً غداةً يبرز حكمه إلى النور لا يتعذر، أما الظالم فلا يعرف الخزي” (صف 3: 5).

“وهذا ما صلى به نحميا: أيها الرب، الرب الإله خالق الكل المرهوب، القوي العادل الرحيم، يا من هو وحده الملك والبار” (2مكابين 1: 24).

“يا من هو وحده المتفضل العادل القدير الأزلي، مخلص إسرائيل من كل شرٍ، الذي اصطفى آباءنا وقدسهم” (2مكابين 1: 25).

“وسمعت ملاك المياه يقول: عادل أنت أيها الكائن والذي كان والذي يكون، لأنك حكمت هكذا” (رؤ 16: 5).

“وسمعت آخر من المذبح قائلًا: نعم أيها الرب الإله القادر على كل شيء، حق وعادلة هي أحكامك” (رؤ 16: 7).

“لان أحكامه حق وعادلة، إذ قد دان الزانية العظيمة التي أفسدت الأرض بزناها، وانتقم لدم عبيده من يدها” (رؤ 19: 2).

*     إن كان ذاك الذي تدعوه الآب هو دياننا، وإن كان لا يحابي الوجوه، فلنسرع إذن ونبذل كل الجهد خلال رحلتنا هنا على الأرض بكل مخافةٍ وسلوكٍ مقدسٍ… بهذا نعرف أن هذا الآب بعينه هو الذي يهبنا الوعود، وهو الذي يحفظنا دون أية عقوبة(1294).

    القديس ديديموس الضرير

*     الله قاضٍ عادل وقوي وطويل الأناة. هل لا تفهمون لماذا لا يعاقب مع أنه قادر ومستعد؟ يقول: تعلموا أنه طويل الأناة، ولا يعطي منفذًا لغضبه كل يوم.  ها أنتم  ترون أنه لكي لا يظن غبي ما أن الله لا يأخذ موقفًا عن ضعف، لذا يظهر أن سبب تأجيله هو طول أناته المتسع جدًا. أعني أنه طويل الأناة بهدف اقتيادكم إلى التوبة، فإن لم تنتفعوا من هذا العلاج فسيأخذ موقفًا أيضًا. تأكدوا أننا مستحقين العقوبة كل يومٍ… هل يعبر يوم دون أن نصلي بعدم مبالاة وتشتيت فكر خطير؟(1295)

 القديس يوحنا الذهبي الفم

*     الذين يتركون الله، ويحتقرون وصاياه، ويجلبون الخزي لخالقهم بسبب أفعالهم، وبأفكارهم التي تجدف على من يعولهم، يجمعون قضاءً عادلًا ضدهم(1296).

 القديس إيريناؤس

لأَنَّهُ يُجَازِي الإِنْسَانَ عَلَى فِعْلِهِ،

وَيُنِيلُ الرَّجُلَ كَطَرِيقِهِ [11].

يعمل الله دائمًا بعدلٍ، فهو لن ينسى الأبرار، ولا يسمح للأشرار أن يزدهروا في النهاية. إنه سيتعامل مع كل إنسانٍ حسب استحقاقه.

لم يكن يعني بهذا أنه يحكم على أيوب بأنه شرير بسبب ما حلّ به، وذلك كما اتهمه أصدقاؤه الثلاثة، وإنما يظن أنه يصحح مفهومًا غامضًا أو خاطئًا لأيوب عبّر عنه في مرارة نفسه.

لننتظر، فإن الله سيكافئ الأبرار وأيضًا يجازي الأشرار إن أصروا على شرورهم، وذلك في الوقت المناسب. لقد قال الرب عن الملك الشرير يهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا: “لا يندبونه قائلين: آه يا أخي أو آه يا أخت. لا يندبونه قائلين: آه يا سيد أو آه يا جلاله. يدفن دفن حمار، مسحوبًا ومطروحًا بعيدًا عن أبواب أورشليم (إر 32: 18-19). كما قيل: “لكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب، واستعلان دينونة الله العادلة. الذي سيجازي كل واحدٍ حسب أعماله (رو 2: 5-6). “وإن كنتم تدعون أبًا الذي يحكم بغير محاباة حسب عمل كل واحدٍ، فسيروا زمان غربتكم بخوف” (1 بط 1: 17). “وها أنا آتي سريعًا وأجرتي معي لأجازي كل واحدٍ كما يكون عمله” (رؤ 22: 12).

*     لماذا لا يعاقب الله كل البشر بالرحمة بطريقة بها لا يسمح لأحد أن يتقسى ضده؟ (هذا التساؤل يصدر) بسبب الشر الذي تأهل إليه من صاروا قساة، أو بسبب أحكام الله الغامضة التي كثيرًا ما تكون خفية لكنها لن تكون ظالمة(1297).

 الأب قيصريوس أسقف آرل

فَحَقًّا إنَّ اللهَ لاَ يَفْعَلُ سُوءًا،

وَالْقَدِيرَ لاَ يُعَوِّجُ الْقَضَاءَ [12].

يكرر أليهو هذا المبدأ مؤكدًا أن الله لا يفعل شرًا، ومسهبًا في الحديث عنه. تحت كل الظروف لا يمكن خرق هذا المبدأ ولا إلى لحظةٍ واحدةٍ. لقد عاب على أيوب أنه وإن كان يعتنق نفس المبدأ، لكنه تحت ضغط الآلام الشديدة، ظن أن الله يمكن أن يخطئ في حكمه، فيحل الظلم عوض العدالة (أي 34: 5؛ 8: 3).

قال الرب للشيطان: “قد هيجتني عليه لابتلعه بلا سبب” (أي 2: 3). وكما يقول البابا غريغوريوس (الكبير) قد يسمح الله بالأحزان بلا سبب (يستحقه الإنسان)، ولكن لن يدينه بلا سبب.

يسمح الله لصديقيه بالأحزان لأجل تنقيتهم أو تزكيتهم، لكنه لا يسمح لهم بالأحزان في يوم الدينونة.

*     تحصل علي عالم النور عوض ألمٍ مريرٍ تتحمله لأجله ليومٍ واحدٍ.

إن صبرت علي الجوع قليلًا من أجل حبه، عندئذٍ تلتهب رغبتك لرؤية وجهه.

إن ظهرت الظلمة علي وجهك من الأعمال لأجله، يجمّلك بمجده إلي الأبد بلا نهاية.

إن تعريت مما هو لك، يُلبسك نوره، ويخفي عنك ما هو لك.

إن تركت ما تملكه، تقتنيه في نفسك أبديًا(1298).

الشيخ الروحاني (يوحنا الدّلياتي)

*     الشرور التي تحل عليكم ستعبر، وذاك الذي تنتظرونه بصبرٍ سيأتي.

إنه سيمسح عَرَقْ التعب. إنه سيجفف كل دمعة، ولا يكون بكاء بعد.

هنا أسفل يلزمنا أن نئن وسط التجارب، إذ يتساءل أيوب: “ما هي حياة الإنسان على الأرض سوى محنة؟” (أي 7: 1)(1299).

القديس أغسطينوس

3. قدرة الله وأحكامه

مَنْ وَكَّلَهُ بِالأَرْض،

وَمَنْ صَنَعَ الْمَسْكُونَةَ كُلَّهَا؟ [13]

هو خالق السماوات والأرض ومدبر المسكونة كلها؛ لم يتسلم سلطانه من آخر، ولا يخضع لأحدٍ؛ السماء والأرض هما موضع رعايته ومسرته.

لو أن الأرض ليست من صنع يديه، إنما عُهدت إليه من آخر أعظم منه لكان يُمكن أن يفعل سوءً، ويحكم بالظلم، كمن لا يصيبه ضررٌ، لكن إذ هي ملكه، وهو خالقها والمعتني بها، يدبر كل ما يدور على الأرض بعدله الإلهي ورعايته الفائقة للعقل البشري. “هوذا الله يتعالى بقدرته، من مثله معلمًا؟ من فرض عليه طريقه؟ أو من يقول له: قد فعلت شرًا؟” (أي 36: 22-23).

*     لاحظوا كيف أن أليهو يبرهن على عدالة الله: “صنع الأرض” والسماء وكل المخلوقات الأخرى. هل أعماله غريبة عنه حتى يكون ظالمًا لنا…؟ إنه عادل، ليس فقط لأن هذه هي أعماله، وإنما لأنه هو سيدها. في الواقع هذا يحدث حتى مع الأشرار، فإنهم لا يقبلون أذية (من آخر) تحل بالخاضعين لهم. عادة يهتم كل شخص بمن هم له وما هو له. أما بالنسبة لذاك الذي هو الخالق والسيد، كيف لا يمارس عدلًا في كل تدبيره، إن كان قد سكب عليه بهاءً كهذا؟ لا يمكنكم القول إنه لا يمارس ظلمًا عن ضعفٍ، فإنه يستطيع بسهولة أن يدمر كل البشر.

 القديس يوحنا الذهبي الفم

*     إنه بالحق يدير العالم بنفسه، هذا الذي خلقه بنفسه. لا يحتاج إلى معونة من الغير في إدارته، هذا الذي لم يحتج إلى معونة في خلقته… إن كان الله القدير لم يستنكف من إدارة العالم الذي خلقه بنفسه، بالأكثر يدير حسنًا ما قد خلقه حسنًا. إنه لا يكون قاسيًا على ما أوجده برحمته. والذي اهتم بهم قبل خلقتهم لا يتركهم بعد خلقتهم.

البابا غريغوريوس (الكبير)

إنْ جَعَلَ عَلَيْهِ قَلْبَهُ،

 إِنْ جَمَعَ إِلَى نَفْسِهِ رُوحَهُ وَنَسَمَتَهُ [14].

يرى البعض أن هذه العبارة والتي تليها تعنيان أنه إن وضع الله قلبه على إنسانٍ، فإنه يضم روحه إليه، لأنه كائن عزيز لديه جدًا. يسمح للجسد أن يعود إلى التراب، لكنه يعتز بالنسمة التي وهبه إياها، ويضمها إليه. إن ما يشفع لنا جميعًا هو حب الله الذي خلقنا ووهبنا نسمة من فيّه. وكما يقول الحكيم: “فيرجع التراب إلى الأرض كما كان، وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها” (جا 12: 7).

الله في حبه للإنسان يضع قلبه إليه، ويركز خطته الإلهية على خلاصه. حقًا في سلطان الله أن يهلك كل جنس البشر، لأن “الجميع زاغوا وفسدوا معًا، ليس من يعمل صلاحًا ولا واحد” (رو 3: 12). لم يعد من حق الإنسان أن يحيا، وليس له وجه أن يطلب شيئًا صالحًا من الله لأنه عصاه. فمهما حلّ بالإنسان حتى الموت، لا يقدر أن يشتكي ويتهم الله بالظلم، لأنه من يتبرر قدامه. وكما يقول المرتل: “لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر قدامك حيّ” (مز 143: 2). مع هذا فقد سمح الله في محبته أن يموت الجسد ويرجع إلى التراب ويضم بحبه روح الإنسان، واهبًا إياها القيامة الأولى معه، حتى في القيامة الثانية يقوم الجسد أيضًا مع الروح، ويرجع الإنسان إلى الأحضان الإلهية.

بهذا يرد أليهو على أيوب فيقول له: لماذا تطلب المحاكمة أمام الله، فإنه إن فحص الله حياة إنسانٍ ما يجده مجرمًا ويستحق القطع من الحياة تمامًا. وكأن أليهو يقول لأيوب: أنا أعلم أنك إن قورنت بالبشر تُحسب بارًا وكاملًا، لكنك كيف تتجاسر وتطلب أن تُحاكم أمام الله، فإنك كسائر البشر مستحق الموت.

*     “إن وَّجه قلبه إليه، فسيجمع لنفسه روحه ونسمته” [14]. عندما يطلب القلب الأمور السفلية يصير ملتويًا. ويصير مستقيمًا عندما يرتفع إلى العلويات. فإنه وَّجه إنسان قلبه إلى الرب، يجتذب الرب روحه ونسمته إليه. يستخدم هنا تعبير “الروح” عن الأفكار الداخلية، والنسمة الخارجة من الجسد عن الأعمال الخارجية. بهذا فإن الله يجتذب الروح، ونسمته إليه، لكي يغير ما بالداخل وما بالخارج، فيجعلنا نتجه نحوه في اشتياقاتنا… يكون للإنسان بكليته رغبات داخلية ملتهبة نحو ذاك الذي أوجده.

 البابا غريغوريوس (الكبير)

يُسَلِّمُ الرُّوحَ كُلُّ بَشَرٍ جَمِيعًا،

وَيَعُودُ الإِنْسَانُ إِلَى التُّرَابِ [15].

إن أراد الله، فمن حقه أن يزيل كل البشرية؛ فلماذا يشكو الناس من فقدان الصحة أو الخيرات الزمنية أو الأقرباء، ويظنون أن الله غير عادل؟(1300)

*     “كل جسد يسقط جميعًا، ويعود الإنسان إلى التراب” [15]. لأن كل جسد يسقط تمامًا عندما لا يعود بعد يكون عبدًا لعواطفه… فكلما بدأ الإنسان أن يحيا للعلويات، يموت عن السفليات… جسد بولس هلك تمامًا عندما قال: “أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيٌ” (غل 2: 20).

بحق أضاف أليهو في هذا الموضوع: “يعود الإنسان إلى التراب“. لأن كل من ينشغل بالخطية ينسى حاله المائت، وبينما ينتفخ بالكبرياء، لا يذكر أنه تراب. ولكن بعدما تلمسه نعمة الاهتداء بروح التواضع عندئذ يستدعي في ذهنه أنه تراب.

عاد داود إلى التراب عندما قال: “أذكر يا رب أننا تراب” (مز103: 14). وعاد إبراهيم إلى التراب، قائلًا: “قد شرعت أكلم ربي وأنا تراب ورماد” (تك 18: 27). مع أن الموت لم يكن بعد قد حلل الجسد الحي إلى تراب، لكن في رأيهما أنهما كانا هكذا حسبما سبقا فنظراه دون تشكك فيما سيحدث.

البابا غريغوريوس (الكبير)

فَإِنْ كَانَ لَكَ فَهْم،

 فَاسْمَعْ هَذَا وَأصْغ إِلَى صَوْتِ كَلِمَاتِي [16].

في بدء الأصحاح وجه أليهو حديثه إلى رجال الحكمة والفهم، الآن يوجه حديثه بالأكثر إلى أيوب، إن كان لديه فهم. فقد أراد أن يوبخه على ما صدر منه من عبارات غير لائقة بالنسبة لله وأحكامه.

أَلَعَلَّ مَنْ يُبْغِضُ الْحَقَّ يَتَسَلَّطُ،

أَمِ الْبَارَّ الْكَبِيرَ تَسْتَذْنِبُ؟ [17]

يعجب أليهو من موقف الإنسان نحو الله، فيجسر ذاك الذي يخضع للقانون أنه يُدين الله الكلي العدل والبرّ وواضع الناموس للبشر.

يا للعجب! الذي يحتاج إلى قانون يحكمه، يضع نفسه في مركز القاضي ليدين واضع القانون. أو ذاك الذي يبغض القانون ويحاول التخلص منه يود أن يحكم على مؤسس القانون.

*     إنه يبغض الشر ويحب البشرية. إنه ليس مثلنا نحن الذين نترك الشر ليس من أجل كراهيتنا للرذيلة، وإنما خوفًا من العقاب القادم.

 القديس يوحنا الذهبي الفم

أَيُقَالُ لِلْمَلِكِ: يَا لَئِيمُ،

وَلِلشُّرَفَاءِ: يَا أَشْرَارُ؟! [18]

إن كان الله قد أقام الرئاسات، إنما لكي يُكرموا في الرب ومن أجل الرب، وليس لكي يحتلوا مركز الرب (سي 32: 1). فإن الحاكم أو صاحب السلطان الذي يتكبر قلبه يسقط في الارتداد كما حدث مع الشيطان. كان الرسول بولس كقائدٍ يخشى لئلا يسقط في الكبرياء، يقول: “ولا طلبنا مجدًا من الناس، لا منكم ولا من غيركم، مع أننا قادرون أن نكون في وقارٍ كرسل المسيح، بل كنا مترفقين في وسطكم كما تربي المرضعة أولادها” (1تس 2: 6-7). مجد القائد أن يحمل روح الرب الذي يحتضن كل الخاضعين له بالحب، ويتعامل معهم كأبناءٍ له.

إن كان الإنسان لا يجسر أن يتهم الملك الزمني باللؤم والشر، فكيف ينسب لملك الملوك ورب الأرباب ظلمًا وشرًا.

يليق بالإنسان أن يعطي الكرامة لمن له الكرامة، فيصعب على الإنسان أن يحكم على رؤسائه، لأنه لا يدرك ما وراء تصرفاتهم من علل خفية وأسباب سرية، فكيف يدين خطة الله غير المحدودة وخططه الفائقة للعقل.

*     الآن بالنسبة للعبارات الواردة في الإنجيل التي تبدو أنها تحمل شيئًا من التناقض، من الأفضل لكل أحدِ أن يوبخ نفسه بأنه لم يبلغ بعد فهم غنى الحكمة (رو 11: 33)، وأن يتذكر بالحقيقة أنه يصعب أن ندرك أحكام الله الغامضة، عن أن نتهمها بوقاحةٍ وتهورٍ، فنسمع الكلمات: “عاق هو ذاك الذي يقول: أنت تعصى الناموس” (أي 34: 18 LXX)(1301).

القديس باسيليوس الكبير

الَّذِي لاَ يُحَابِي بِوُجُوهِ الرُّؤَسَاءِ،

وَلاَ يُعتَبِرُ غَنِيًّا دُونَ فَقِيرٍ (مسكين).

لأَنَّهُمْ جَمِيعَهُمْ عَمَلُ يَدَيْهِ [19].

إن كان لا يليق بنا أن ندين الملوك والرؤساء، الذين كبشرٍ، كثيرًا ما يحابون الوجوه، فكيف ندين الله الذي يتعامل مع الأغنياء والفقراء على نفس المستوى، دون محاباة للوجوه (راجع غل 2: 6؛ أع 10: 34؛ 2 أي 19: 7؛ أم 22: 2؛ رو 2: 11؛ أف 6: 9؛ كو 3: 25). لأن الكل خليقته، والكل يحتاج إلى عنايته الإلهية ومراحمه حتى يتمتعوا بالخلاص. فإن إمكانيات الإنسان أو مركزه لا دخل لها في معاملات الله معه.

*     يفهم بالرئيس أو الطاغية هنا كل شخصٍ متعجرف، بينما يشير إلى المتواضعين بالمساكين (فقراء). لهذا فإن الله لا يحابي الطاغية عندما يقاوم المسكين، إذ يعلن أنه لا يعرف في الدينونة المتكبرين الذين يضايقون حياة المساكين، كما هو مكتوب: “لا أعرفكم، من أين أنتم” (لو 13: 25). لو أراد، يستطيع أن يهلكه بقوته، إذ خلقه بقوته عندما أراد. لذلك لاق أن يضيف: لأنهم جميعهم عمل يديه“.

البابا غريغوريوس (الكبير)

بَغْتَةً يَمُوتُون،

 وَفِي نِصْفِ اللَّيْلِ يَرْتَجُّ الشَّعْبُ وَيَزُولُونَ،

وَيُنْزَعُ الأَعِزَّاء (أصحاب القدرة) لاَ بِيَدٍ [20].

يتحدث هنا عن ثلاثة فئات ليبرز أليهو عدم محاباة الله.

الفئة الأولى: الملوك والأغنياء الذين يعتمدون على السلطان والمال، فيحسبون أكثر أمانًا من غيرهم. هؤلاء ليس فقط لا يحابيهم الله، وإنما يسمح أحيانًا أن يأخذ نفوسهم فجأة الأمر الذي لا يتعرض له الشعب بذات الصورة.

الفئة الثانية: الشعب الأشرار، فإذ يعتمدون على كثرة عددهم، وحصانة الأسوار، إذا بهم يعانون من المتاعب ويُسحبون من بلادهم، إذ يُسبون في نصف الليل. في نصف الليل ضرب الله أبكار المصريين وهم في طمأنينة يسخّرون بشعب الله.

الفئة الثالثة: أصحاب القدرة كرجال الحرب المعتزين بإمكانياتهم العسكرية، فإنهم أحيانًا يُنزعون أو يسقطون أسرى من حيث لا يدرون، كما بدون يدٍ. ينهزمون ليس بالذراع البشري، كما ليس به ينجو الأقوياء الأبرار. وكما قيل: “هذه كلمة الرب إلى زربابل، قائلًا: لا بالقدرة، ولا بالقوة، بل بروحي، قال رب الجنود” (زك 4: 6). كما قيل: “لن يخلص الملك بكثرة الجيش، الجبار لا ينقذ بعظم القوة. باطل هو الفرس لأجل الخلاص، وبشدة قوته لا ينجي” (مز 33: 16-17).

*     ليكن الله هو رجاءكم، قدرتكم على الاحتمال، قوتكم. ليكن كفارتكم، تسبيحكم، غايتكم وموضع راحتكم، وعونكم في جهادكم…

الجبار هو الإنسان المتغطرس الذي يرفع نفسه (متشامخًا) على الله، كما لو كان شيئًا في ذاته وما يخصه. مثل هذا الإنسان لا ينجو بقوته الذاتية. الآن، لديه فرس رشيق وقوي، سليم وسريع الخطى، إذا ما حدث هجوم أما يستطيع أن ينجي راكبه من الخطر الملحق به؟ ليسمع: “خلاص الفرس كاذب”… يلزم ألا يعدك الفرس بالنجاة…

يمكننا أن نأخذ الفرس رمزًا لأية ممتلكات في هذا العالم، أو لأي نوع من الكرامة نتكل عليها في كبرياء، حاسبين خطًأ أنكم كلما ارتفعتم يزداد أمانكم وعلوكم. ألا تدركون بأي عنف سوف تُلقَون، كلما ارتقيتم إلى أعلى يكون سقوطكم بأكثر ثقلٍ… فكيف إذن يتحقق الأمان؟ إنه لا يتحقق بالقوة ولا بالسلطة ولا بالكرامة ولا بالمجد ولا بالفرس.

القديس أغسطينوس

لأَنَّ عَيْنَيْهِ عَلَى طُرُقِ الإِنْسَان،ِ

وَهُوَ يَرَى كُلَّ خَطَوَاتِهِ [21].

لا يحتاج الله إلى من يقدم له تقريرًا عن شخصٍ ما كما ظن أيوب حين قال: “أبحر أنا أم تنين، حتى جعلت عليّ حارسًا” (أي 7: 12). إنما يقول عنه إرميا النبي: “الذي عيناك مفتوحتان على كل طرق بني آدم” (إر 32: 19)، وأيضًا قيل عنه: “لأن عيني الرب تجولان في كل الأرض” (2 أي 16: 9).

كل الأمور مكشوفة أمامه، إذ هو حاضر في كل مكان، يعتني بالكل، يمارس البرّ والعدل الإلهي. لا يهرب أحد منه (مز 139: 2-3).

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن أليهو يؤكد عدل الله دون أن يهدف نحو أذية أيوب باتهامات باطلة كما فعل الأصدقاء الثلاثة الآخرون، إذ لم يقل عنه إنه حطم الأرامل واليتامى (22: 9). يعرف أليهو كيف يلوم أيوب، دون تقديم اتهامات ضده.

“من السماوات نظر الرب، رأى جميع بني البشر. من مكان سكناه تطلع إلى جميع سكان الأرض. المصور قلوبهم جميعًا المنتبه إلى كل أعمالهم” (مز 33: 13-15).

 “إذا اختبأ إنسان في أماكن مستترة أفما أراه أنا يقول الرب، أما املأ أنا السماوات والأرض يقول الرب” (إر 23: 24).

*     يُحسب الله كمن لا يعرف أعمال الأشرار، لأنه يؤجل دينونتهم بعدلٍ، فيظهر عظم طول أناته من نحوهم كما بنوعٍ من تجاهله لهم. والشرير أيضًا في كل مرة يخطئ فيها دون أن يُعاقب يظن أن الله لا يراه، نتيجة عدم معاقبته في الحال حسبما يستحق. يحسب أن سلوكه ليس مكروهًا لدى الله… لكن هناك ستسقط عليه العقوبات فجأة، بضربةٍ أبدية. عندئذ سيعرف أن الله يراقب كل شيءٍ، إذ يجد نفسه معاقبًا بموتٍ غير متوقعٍ كعقابٍ أخروي عن كل إثمه…

*     يدعو ” كل خطوات الناس” إما الأعمال المنفصلة التي ننشغل بها، أو الدوافع المتتالية لأفكارنا العميقة، إذ هي أشبه بخطوات بها ننفصل عن الرب، أو نقترب إليه بالقداسة. فإن العقل يقترب كما بخطوات (درجات) كثيرة من الله متى تقدم في عواطف كثيرة مقدسة. مرة أخرى تنفصل عنه خلال أفكار شريرة كثيرة.

البابا غريغوريوس (الكبير)

لاَ ظَلاَمَ وَلاَ ظِلَّ مَوْتٍ،

حَيْثُ تَخْتَفِي عُمَّالُ الإِثْمِ [22].

عادة يود المجرم أن يختفي عن الأنظار. يقول أليهو إنه لا يوجد هنا كهف مظلم يختفي فيه الأشرار من عيني الله، وليس في العالم الآخر ظلمة عميقة يهربون إليها من وجهه. يمكن للإنسان أن يختفي من وجهه الإنسان أخيه حتى لا ينفضح أمره، أما بالنسبة لله، فكل شيءٍ مكشوف سواء في هذا العالم أو في يوم الرب العظيم. توجد عين خفية ترى الأشرار، ويد قوية تسحبهم للجزاء.

ظل الموت” يشير إلى الظلمة الكثيفة (عا 9: 2-3؛ مز 139: 12).

*     ماذا يعني بالظلام إلا الجهل، وبظل الموت إلا النسيان. فيُقال عن جهل أشخاص معينين: “إذ هم مظلمو الفكر” (أف 4: 18). مرة أخرى عن النسيان الذي يحل بنا عند الموت قيل: “في ذلك اليوم تهلك كل أفكاره” (مز 146: 4). فكل ما يفكر فيه أثناء حياته يُسلم إلى النسيان بالموت، النسيان هو نوع من ظل الموت، فكما أن حلول الموت يضع نهاية لأعمال الحياة، هكذا حلول النسيان يحطم ما في الذاكرة…

لا يختفي أحد من دينونة (الله)، لهذا يستحيل بالنسبة له ألا يرى ما نحن نفعله، أو ينسى ما يراه… إنها سمة الطبيعة الإلهية وحدها ألا تعاني من ظلال الجهل أو التغيير… إذ لا يتغير النور الأبدي في إشراقه الذي هو الله نفسه، يرى بنظرةٍ ثاقبةٍ، ولا يجهل ما هو مخفي، إذ يخترق كل الأشياء، ولا ينسى ما يخترقه إذ هو غير متغير…

عندما نظن أننا لا نُرى، نحفظ أعيننا مغلقة أمام نور الشمس، بمعنى نحجبه عنا، ولا نحجب أنفسنا عنه.

البابا غريغوريوس (الكبير)

لأَنَّهُ لاَ يُلاَحِظُ الإِنْسَانَ زَمَانًا،

لِلدُّخُولِ فِي الْمُحَاكَمَةِ مَعَ اللهِ [23].

يرى البعض أن المعنى هنا: الله لا يدعو الإنسان مرة أخرى للمحاكمة، لا ينظر في قضية مرتين، فإن أحكامه عادلة لا تحتاج إلى استئناف؛ يصدر الحكم وليس من يستأنف للمرافعة من جديد.

ويترجمها البعض: “هوذا، لا يودع إنسان لمجيئه للمحاكمة مع الله”. زمن الإنسان ليس في يده، ولا نصيبه يتحقق بحكمته وقوته. عندما يرى الله أن الوقت مناسب يُحاكم الإنسان.

يُحَطِّمُ الأَعِزَّاءَ مِنْ دُونِ فَحْصٍ،

وَيُقِيمُ آخَرِينَ مَكَانَهُمْ [24].

إنه يسحق من يظنون أنهم عظماء ويحطمهم، فهو لا يبالي بثرواتهم الضخمة، ومكانتهم في المجتمع، وكثرة عددهم.

من دون فحص”، أي لا يحتاج الله إلى إجراءات طويلة لفحص الأمور والتأكد منها. إنه يقضي للحال، وبطريقة مباشرة، وينزع الأشرار، ويقيم من يحتل أماكنهم.

في حالات كثيرة يضغط الله على المتكبرين المعتدين بأنفسهم، ويرفع المتواضعين والودعاء.

*     “سيحطم الكثيرين بلا عدد، ويقيم آخرين مكانهم” [24]. هذا حدث يومي، لكن لأن نهاية الفريقين (الأبرار والأشرار) لم تُنظر بعد، لذلك فإن الرهبة أقل. فإن الأشرار لن يعرفوا أخطاءهم إلا عندما يسقطون تحت العقوبة… بفحص قلوب البشر فرادى أو وضعها تحت العدالة والرحمة، يطرد البعض إلى الخارج، ويقود آخرين إلى الداخل. هؤلاء الآخرون يوحى إليهم بطلب المباهج الداخلية، ويترك الأولين يرثون الملذات الخارجية.

يرفع عقول البعض نحو السماويات ويهوي بكبرياء الآخرين إلى أسافل الملذات…

إنه يطرد الواحد بحزمٍ، ويجذب الآخر برحمته…

حسنًا قيل بالنبي: “يضع الأشرار إلى الأرض” (مز 147: 6). فإنهم إذ يفقدون السماويات، كل ما يعطشون إليه هو أرضي، وكل ما يسعون إليه ويبدو لهم أعظم، إذ بهم يطلبون ما هو أقل في القيمة.

حسنًا قيل عنهم بإرميا: “الحائدون عنك في التراب يُكتبون” (راجع إر 17: 13). بينما من الجانب الآخر قيل عن المختارين: “افرحوا بالحري أن أسماءكم كُتبت في السماوات” (لو 1: 2)

البابا غريغوريوس (الكبير)

لَكِنَّهُ يَعْرِفُ أَعْمَالَهُمْ،

وَيُقَلِّبُهُمْ لَيْلًا، فَيَنْسَحِقُونَ [25].

يعرف الله أعمالهم، وما يخططونه دون حاجة إلى فحصٍ؛ فيهبهم الكثير من الفرص لعلهم يرجعون على الشر، وفي ليلةٍ واحدةٍ يحطمهم. من الأمثلة الواضحة في العهد القديم ما حدث مع كل شعبه حيث مات كل الأبكار في ليلة واحدة، وأيضًا بلشاصر ملك بابل (دا 5: 30).

يقلبهم ليلًا“: الترجمة الحرفية “يقلب الليل“. أي يقلبه عليهم، فتحل كارثة خطيرة بهم لا يتوقعونها. كثيرًا ما تُشير كلمة “ليل” إلى كارثة غير متوقعة، ويصعب مواجهتها.

*     يُفهم على وجه الخصوص أن كل شرير يُسحق بالليل بطريقين: إما عندما يُضرب بعذاب العقوبة من الخارج، أو عندما يُصاب بحُكم عندما يفقد إلى الأبد نور الحياة بالدينونة النهائية. كما هو مكتوب: “اربطوا رجليه ويديه وخذوه واطرحوه في الظلمة الخارجية” (مت 22: 13). عندئذ يُرسل بالقوة إلى الظلمة الخارجية، إذ بإرادته صار أعمى بالظلمة الداخلية…

كل خطية لا تُمحى بالندامة سريعًا، إما أنها خطية وعلة لخطية، أو خطية وعقوبة عن خطية.

الخطية التي لا تغسلها الندامة فورًا تقود إلى خطية أخرى بثقلها. فهي ليست فقط خطية، وإنما بالإضافة إلى ذلك هي علة خطية.

هذه الخطية يتبعها إثارة أخطاء، حيث ينقاد العقل الأعمى إلى المعاناة من العبودية من خطية إلى خطية أخرى، أما الخطية التي تقوم من خطية لا تعود بعد خطية فقط، وإنما تصير خطية مُضاف إليها عقوبة خطية.

البابا غريغوريوس (الكبير)

لِكَوْنِهِمْ أَشْرَارًا،

يَصْفَعُهُمْ فِي مَرْأَى النَّاظِرِينَ [26].

غالبًا ما يُريد الأشرار أن يختفوا عن الأنظار كما في الظلمة، لأن أعمالهم ظلمة لا تطيق النور، لهذا يؤدبهم الرب علانية لكي يرتعدوا ويدركوا عجزهم عن الهروب من العدالة الإلهية، ولكي يصيروا درسًا عمليًا للغير فلا يتشبهون بهم.

لعل أليهو كان يركز أنظاره على ما حلّ بأيوب من نكبات علانية.

يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن الناظرين هم الأتقياء الذين يقفون كشهودٍ على الأشرار في يوم الدينونة.

*     “لكونهم أشرارً يصفقهم في مرأى الناظرين” (34: 26)…

يدعو الكتاب المقدس غير المؤمنين علي وجه الخصوص أشرارًا. لأن الخطاة يُميزون عن الأشرار بهذا الفارق: كل شرير هو خاطي، ولكن ليس كل خاطي هو شرير. فإنه حتى الإنسان التقي في الإيمان يمكن أن يكون خاطئًا. يقول يوحنا: “إن قلنا إنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا” (1 يو 1: 8). لكن بحق يُقال عن الإنسان إنه شرير إن كان متغربًا عن قداسة الدين… هدوء سلام الكنيسة نفسه يحجب الكثيرين تحت الاسم المسيحي ويكتنفهم وباء شرهم. ولكن متى ضُربوا بنسمة خفيفة من الاضطهاد، يكتسحهم للحال كالقش من الجرن.

يرغب بعض الأشخاص في حمل علامة الدعوة المسيحية، لأن اسم المسيح قد ارتفع عاليًا، فيتطلع الكل تقريبًا في أن يظهروا كمؤمنين. إذ يرون الآخرين يُدعون هكذا يخجلون من أن يظهروا غير مؤمنين، لكنهم يهملون أن يصيروا إلى ما يفتخرون بدعوته…

يحتفظ البعض بالإيمان في داخل قلوبهم، لكنهم لا يبالون بالسلوك في الحياة بأمانة… إذ يتجاهلون الحياة الدقيقة يسقطون في عدم الإيمان دون أن يضطهدهم أحد… هؤلاء مخفيون عن أعين البشر لكنهم مكشوفون في بصيرة الله.

كثيرون يموتون غير مؤمنين وهم مقيمون في الإيمان نفسه. بحق قيل: “لكونهم أشرارًا يصفقهم في مرأى الناظرين” (34: 26). إذ يُظهرون أنفسهم أمام الناس في الكنيسة كأشخاصٍ أتقياء، لكن إذ لا يقدرون أن يهربوا من الأحكام الإلهية، يُضربون كأشرارٍ.

البابا غريغوريوس (الكبير)

لأَنَّهُمُ انْصَرَفُوا مِنْ وَرَائِه،ِ

وَكُلُّ طُرُقِهِ لَمْ يَتَأَمَّلُوهَا [27].

يقدم تفسيرًا لتأديبهم علانية، ألاَّ وهو تركهم لله القدوس خفية، في داخل قلوبهم وأفكارهم كما في سلوكهم السري، ولم يقبلوا طريق الرب، أي لم يحفظوا وصاياه ولا وضعوا اعتبارًا لله نفسه في حياتهم.

*     “لأنهم انصرفوا من ورائه، وكل طرقه لم يتأملوها” [27]. ما سيحل بالأشرار في يوم الدينونة سرّه هو رجوعهم عن الله، أو انصرافهم من ورائه، وعدم مبالاتهم بطرقه الإلهية.

*     “الذين انصرفوا عنه، كما عن عمدٍ“. يليق بنا أن نفهم أن الخطية تُرتكب بثلاث طرق: إما بسبب الجهل أو الضعف أو عن عمدٍ.

تصير خطيتنا أخطر إن كانت عن ضعفٍ وليس عن جهلٍ، لكن الخطر يكون أعظم إن كانت عن عمدٍ وليس عن ضعفٍ.

أخطأ بولس عن جهل حين قال: “أنا الذي كنت قبلًا مجدفًا ومُضطهدًا ومفتريًا، ولكنني رُحمت لأني فعلت بجهلٍ في عدم إيمانٍ” (1 تي 1: 13).

أخطأ بطرس عن ضعفٍ عندما هزت كلمة الجارية قوة الإيمان الذي تحدث عنه مع الرب، وعندما أنكر بصوته الرب الذي تمسك به في قلبه (مت 26: 69).

لكنهم أخطأوا عن عمد هؤلاء الذين قال عنهم السيد نفسه: “لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية، وأما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم” (يو 15: 22). أن تخطيء عمدًا يعني أنك لا تحب الصلاح ولا تفعله. لذلك أحيانًا يكون الجرم أثقل أن تحب الخطية عن أن تمارسها. وبالمثل فإن الخطية أعظم أن تكره البرّ عن ألا تفعله. لذلك يوجد البعض في الكنيسة من هم بعيدون عن الصلاح بل ويضطهدونه، وأيضًا من يكرهون في الآخرين ما يمارسونه هم في إهمالٍ.

*     “ولا يريدون أن يفهموا أي طريق من طرقه“. لا يقول إنهم لا يفهمون عن ضعفٍ، وإنما لا يريدون أن يفهموا، لأن الناس غالبًا ما يحتقرون معرفة الأمور التي يفتخرون جدًا أنهم يفعلونها… إذ يحسبون جهلهم لها يهبهم حصانة من جهة خطاياهم…

أن تفهم طرق الرب هو أن تحتمل بتواضعٍ الأمور الزائلة (من ضيقات) وتنتظر بثباتٍ الأمور الباقية (الأبديات).

البابا غريغوريوس (الكبير)

حَتَّى بَلَّغُوا إِلَيْهِ صُرَاخَ الْمِسْكِين،ِ

فَسَمِعَ زَعْقَةَ الْبَائِسِينَ [28].

بتركهم طريق الرب ورفضهم وصاياه، فتحوا الطريق لصرخات المساكين الذين ظلموهم أن تصعد إلى الرب، وصرخات البائسين (الحزانى) أن تبلغ إليه. بمعنى آخر، إذ يرفض الشرير طريق الرب ويسد أذنيه عن سماع الوصية الإلهية في حياته العملية، يسبب خسارة ومرارة لإخوته، فتصعد صرخاتهم إلى السماء وتبلغ أذني الله.

ليس من أمر مرعب في المحكمة السماوية من قسوة قلب الإنسان على أخيه بسبب رفضه وصية الحب الإلهي. فإنه وإن صلى إلى الله يسد أذنيه حتى يفتح الإنسان أذنيه لمن أحزنهم وضايقهم. فإن دموع المتألمين وتنهداتهم تسبق وتشتكي الأشرار الظالمين.

*     “حتى يبلغ إليه صراخ المحتاجين، ويسمع صوت الفقراء” [28]. إذ يفتخر هؤلاء (الأشرار)، يصرخ الذين يضغطون عليهم إلى الله، أو بالتأكيد تعني أنهم يسببون أن يبلغ صراخ المساكين إلى الله… هذا أيضًا يشير إلى قادة الكنيسة، الذين يتوقفون على عمل الكرازة، وينشغلون بالاهتمامات العالمية. يتركون الالتزامات الخاصة بالكرازة. إنهم بهذا يلزمون القطيع الذي تحتهم أن يندفعوا إلى الشكوى متذمرين. كل من الذين تحثهم يشتكى، كما بعدلٍ، من سلوك الراعي المزيف، متسائلًا: لماذا يحتل مكان المعلم من لا يمارس العمل؟

البابا غريغوريوس (الكبير)

إِذَا هُوَ سَكَّنَ فَمَنْ يَشْغَبُ؟

وَإِذَا حَجَبَ وَجْهَهُ فَمَنْ يَرَاهُ،

سَوَاءٌ كَانَ عَلَى أُمَّةٍ أَوْ عَلَى إِنْسَانٍ؟ [29]

يقول أليهو: “إذ يسمع الله أنات الشعب وتنهدات الإنسان المتألم، يقدم راحة أو تعزية أو رخاء للمساكين المتألمين المظلومين، عندئذ من يجسر ليسبب لهم شغبًا أو متاعب؟” يريد أليهو أن يؤكد أن كل الأمور تحت سلطانه، يسمع لصوت المتألمين ويعمل، ولا يقدر الأشرار بكل إمكانياتهم وسلطانهم أن يلمسوهم!

وإذا حجب وجهه” تعبير كتابي يشير إلى حلول كارثة، كأنها تعلن عن حجب الله وجهه عن الإنسان، فليس من يقدر أن يراه، أي يهتم به ويرفع عنه الكارثة التي حلت به، ويهبه سلامًا ومسرة.

كأن أليهو يدعو أيوب أن يرجع إلى الله، فهو وحده متى وهبه تعزية إلهية وسلامًا داخليًا لا تقدر التجارب ولا مضايقات الناس أن تؤذيه. أما إذا لم يرجع إلى الله، فسيحجب وجهه عنه، ولا تقدر كل وجوه الناس أن تتطلع إليه وتهبه راحة.

هذا المبدأ، أن سرّ راحة الإنسان في يد الله لا الناس، ينطبق على الشعب ككلٍ، كما على الشخص بمفرده.

إن بررنا الله بحبه لا يقدر أحد أن يديننا، وإن غضب علينا لا يقدر أحد أن يهبنا سلامًا! إذن فلننعم بالسلام الكامل بأن تتركز أعماقنا على الله مصدر السلام ومفرح القلوب (أم 16: 7؛ إش 26: 3).

*     “عندما يعطي سلامًا، فمن يدين؟ وإذا حجب وجهه فمن يراه؟” [29]… هذا أيضًا يقوله عندما يعطي العاملين في الكرم أجرتهم… “أما اتفقت معي على دينار…؟ فإني أريد أن أعطي هذا الأخير مثلك، أو ما يحلّ لي أن أفعل ما أريد بمالي؟” (راجع مت 20: 13-15)…

سواء كان على أمةٍ أو على إنسانٍ“… تُعرض الأحكام الإلهية بنفس الكيفية بخصوص نفسٍ واحدةٍ أو مدينةٍ واحدةٍ، وأيضًا بخصوص مدينةٍ واحدةٍ أو أمةٍ واحدةٍ، وأيضًا بنفس الكيفية سواء بخصوص الجنس البشري. يهتم الرب بأشخاصٍ معينين بنفس الكيفية كما يهتم بالعالم كله.

مرة أخرى، يوجه اهتمامه نحو الكل في نفس الوقت كما لو كان غير مهتمٍ بالأفراد. فإن ذاك الذي يملأ كل الأشياء بتدبيره يملأ الكل. وعندما يهتم بشيءٍ واحدٍ وحده، فهو في نفس الوقت حاضر في الكل. مرة أخرى وهو يدبر العالم كله، هو حاضر مع كل فردٍ. في الواقع إنه بعمل كل شيءٍ بقوة طبيعته دون أن يتحرك. ما هو عجيب أنه وهو منكب على شيءٍ ما، لا يُحد به، الذي يعمل حتى وهو في الراحة.

البابا غريغوريوس (الكبير)

حَتَّى لاَ يَمْلِكَ الْفَاجِرُ (المرائي

وَلاَ يَكُونَ شَرَكًا لِلشَّعْبِ [30].

كل أمور البشرية في يد الله، تحت رعايته الفائقة، حتى لا يملك الشرير المرائي فيتسلط على إخوته، ويظن أنه صاحب سلطان لا يُقاوم، ليس من يقدر أن يردعه أو يصده عن ظلمه لهم. ولئلا يصير هذا الشرير فخًا يسقط فيه الشعب، حيث يشعرون كأن الله لا يبالي بالظلم الحال بهم.

هكذا يليق بالقادة -على كل المستويات- أن يدركوا أنهم وإن نالوا سلطانًا، فالله فوق الكل، ضابط الجميع. يقول المرتل: “لأنه لا تستقر عصا الأشرار على نصيب الصديقين، لكيلا يمد الصديقون أيديهم إلى الإثم” (مز 125: 3).

*     “الذي يجعل المرائي يملك من أجل خطايا الشعب” [30]. لم ترد اليهودية أن يملك عليها الملك الحقيقي، لذلك جاءت بمراءٍ يملك عليها كما يليق باستحقاقها. كما يقول الحق نفسه في الإنجيل: “أنا قد أتيت باسم أبي ولستم تقبلونني. إن أتى آخر باسم نفسه تقبلونه” (يو 5: 43). يقول بولس: “لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا، ولأجل هذا سيرسل إليهم الله عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب” (2 تس 2: 10، 11).

بقوله: “الذي يجعل المرائي يملك من أجل خطايا الشعب” ربما يعني ضد المسيح، رئيس كل المرائين. فإن المخادع يتظاهر بالقداسة لكي يجذب البشر إلى الشر…

يملك ضد المسيح هذا على الأشرار، لا بسبب ظلم الديان، وإنما بسبب خطية من يُلزمون على تحمل العقوبة. بالرغم من أن أغلبهم لا يرون قوته المتسلطة، إلا أنهم يُستعبدون له، بسبب الحال الذي بلغوه بخطاياهم. إنهم بلا شك يكرمونه بحياتهم الشريرة، هؤلاء الذين لا يرون استبداده لهم. أليس هؤلاء هم أعضاءه الذين يطلبون بإظهارهم القداسة ما هم ليسوا عليه…؟ إذ مكتوب: “إن كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية” (يو 8: 34). فإنهم بقدر ما يرتكبون الخطايا بإرادتهم هذه التي يشتهونها، ينحنون لخدمة (ضد المسيح) مُستعبدين له.

ليت من يعاني من حاكمٍ كهذا لا يلوم الحاكم الشرير… إنما يلوم أخطاء أفعاله الشريرة لا ظلم حاكمه. مكتوب: “أنا أعطيتك ملكًا بغضبي” (هو 13: 11).

إذن لماذا نسخر بمن يُقام حاكمًا علينا، هذا الذي تسلم سلطانه من غضب الله؟ إن قبلنا حكامًا حسب استحقاقاتنا من سخط الله، نستدل من سلوكهم على ما عليه حالنا حقيقة…! سمات الحكام تُعيَّن حسب استحقاقات الخاضعين لهم. حتى أولئك الذين يظهرون كأنهم صالحون يتغيرون بالقوة التي يقبلونها. لاحظ الكتاب المقدس! شاول نفسه تغيَّر قلبه مع كرامته مكتوب: “إذ كنت صغيرًا في عينيك صرت رأس أسباط إسرائيل” (1 صم 15: 17).

يتشكل سلوك الحكام حسب سمات الخاضعين لهم، فإن سلوك حتى الراعي الصالح يصير شريرًا بسبب شر قطيعه.

البابا غريغوريوس (الكبير)

*     يُذرى الأشرار بمرارة كزوانٍ خفيفٍ، أما الأبرار فيخلصون كحنطةٍ ثقيلةٍ. لذلك لاحظوا ما يقوله الرب لبطرس: “هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة، ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك” (لو 22: 31). الذين يُذرون مثل زوانٍ يهلكون، أما الذي لا يهلك فهو مثل البذرة التي تسقط وتنمو وتزيد وتأتي بثمرٍ كثيرٍ (لو 8: 8)… يُشبه الشر بالعُصافة التي تحترق سريعًا وتصير ترابًا(1302).

القديس أمبروسيوس

*     هنا دواء مرضكم: “لا تَغِر من الرجل الذي يزدهر في طريقه”. نعم إنه مزدهر، لكن في طريقه هو. أما أنت فتتعب، ولكن في طريق الله.

 إنه في رحلته يسافر باستهتار، لكن إلى أين يذهب؟

لو أن المسيح وعدك بخيرات هذا العالم، لكان لك أن تغضب، لأن غير المؤمن في فيض في طرقه.

بماذا وعدك؟ بالسعادة الأبدية عندما يقوم الأموات، وأما في هذه الحياة فوعدك بنصيبه. أكرر، نصيبه هو الطريق الذي سلكه. هل تحتقر ما سلكه سيِّدك، وأنت عبد وتلميذ؟ لقد سمعت أنه ليس عبد أفضل من سيِّده، فإنه تألم! الأمر الذي لا يستحقه ذلك البار، فماذا تستحق يا أيها الخاطي؟(1303)

*     لأنه لا تستقر عصا الأشرار علي نصيب الصديقين لكيلا يمد الصديقون أيديهم إلى الإثم” (مز 125: 3). في الوقت الحاضر يتألم الأبرار إلى حدٍ ما، وفي الحاضر يطغى الأشرار أحيانا على الأبرار، بأية طرق؟ أحيانًا يبلغ الأشرار إلى الكرامات الزمنية، وإذ يبلغون إليها، ويصيرون قضاة أو ملوكًا، يسمح الله بذلك لتأديب قطيعه، لتأديب شعبه، هنا يلزم إظهار الكرامة التي تليق بهم… وأحيانًا يوجد أصحاب سلطان صالحون ويخشون الله، وبعضهم ليس فيهم مخافة الله.

كان يوليانوس إمبراطورًا كافرًا، مرتدًا وشريرًا وعابد أوثان. وكان الجنود المسيحيون يخدمون إمبراطورًا كافرًا…. متى دعاهم لعبادة الأصنام وتقديم البخور لها كانوا يشيرون إلى الله، ولكن عندما كان يأمرهم أن ينتشروا في خطوط الجنود، ويتحركون ضد هذه الأمة أو تلك كانوا في الحال يطيعون. كانوا يميزون بين سيدهم الأبدي، وسيدهم الزمني، ومن أجل سيدهم الأبدي كانوا يخضعون للزمني. لكن هل يحمل الأشرار على الدوام سلطانًا على الأبرار؟ إن عصا الأشرار تبقى إلى حين على نصيب الأبرار، لكن لن تدم إلى الأبد. سيأتي وقت حين يظهر المسيح في مجده ويجمع كل الأمم أمامه(1304).

القديس أغسطينوس

4. كيف نتحدث مع الله

وَلَكِنْ هَلْ لله قَالَ:

احْتَمَلْتُ، لاَ أَعُودُ أُفْسِدُ [31].

يطالبه أليهو أن يرجع إلى الله، وبروح التوبة يقول: احتملت التأديب، لا أعود أخطئ بعد!

جاءت الخاتمة تحمل عنفًا أكثر من كل أحاديث الأصدقاء الثلاثة، لكن يبدو أن نية أليهو وغيرته الصادقة هي التي ميَّزته عنهم، إذ لم يحمل معهم حسدهم.

يترجمها البعض: “بالتأكيد يليق أن يُقال لله: لقد تأدبت، لا أعود أعصى“. هكذا يطالبه أليهو أن يسلك بروح التواضع أمام الله.

يليق بالإنسان المتألم أن يتعدى حدود الألم ليلتقي بالله بروح التواضع والفهم، في غير تذمرٍ أو شكوىٍ، مدركًا أن وراء الألم خطة إلهية لبنيانه. قدم له حقيقة عامة، أنه يليق بالمتألم أن يتعرف على خطة الله من نحوه.

احتملت”: يرى البعض أن الكلمة العبرية هنا تعني “تبت” أو “تأديب“، فلا أعود أصنع فسادًا. بهذا تكون الآلام طريقًا لمراجعة النفس وطلب الإصلاح بالعودة إلى الله.

بالفعل قال أيوب هكذا لله (أي 40: 3-5؛ مي 7: 9؛ لا 26: 41).

مَا لَمْ أُبْصِرْهُ فَأَرِنِيهِ أَنْتَ.

إِنْ كُنْتُ قَدْ فَعَلْتُ إِثْمًا،

فَلاَ أَعُودُ أَفْعَلُهُ؟ [32]

يقدم لنا أليهو صورة رائعة للتوبة، وفي نفس الوقت يبرز ما في داخله من جهة أيوب.

لم يكن أيوب كما سبق فقال له أصدقاؤه إنه مرائي يغطي على خطاياه بالشكليات الخادعة، ويخفي شروره الدفينة بمظاهر العطاء والخدمة وإنما يقول له: “توجد في حياتك – كما في حياة كل مؤمنٍ – خطايا خفية عن عينيك، تمارسها لا إراديًا، لا تقدر أن تراها أو تدركها أطلب من الله فيكشفها لك”.

الله يعلم شعبه (أي 10: 2)، مقدمًا لهم معرفة داخلية حتى لأخطائهم التي لم يدركوها أن جاءوا إليه نادمين (مز 32: 8؛ 19: 12؛ 139: 23-24).

يليق بالمؤمن أن يضع في قلبه أنه إن كشف الرب له عن خطاياه لا يعود بعد إليها (أم 28: 13؛ أف 4: 22).

هَلْ كَرَأْيِكَ يُجَازِيهِ قَائِلًا:

لأَنَّكَ رَفَضْت،َ فَأَنْتَ تَخْتَارُ لاَ أَنَا.

وَبِمَا تَعْرِفُهُ تَكَلَّمْ؟ [33]

جاء هذا النص غامضًا، لذا تباينت التفاسير. يرى البعض أن الله سيجازي على العمل سواء قَبِلَ الشخص ذلك أو رفض، وأن الله لا يتصرف حسب وجهة نظر الإنسان، إنما حسبما يرى هو أنه حق ونافع، فلا يتوقع الإنسان أن الله يستشير البشر ويتصرف حسب آرائهم أو مشاعرهم.

كأن الإنسان يقول لله: لتعمل أنت يا الله حسبما ترى؛ أنت الذي تختار وتأخذ وليس أنا، تعمل وتتكلم حسبما تعرف أنت. أما أنا فمن جانبي أثق في قراراتك وأخضع لخطتك.

ذَوُو الأَلْبَابِ يَقُولُونَ لِي،

بَلِ الرَّجُلُ الْحَكِيمُ الَّذِي يَسْمَعُنِي يَقُولُ: [34]

يود أليهو أن يدخل في حوارٍ مع أناسٍ ذي فهمٍ وحكمةٍ، لأنه يود أن يجد من يسمع له ويزن أقواله، ويُقيِّمها.

إِنَّ أَيُّوبَ يَتَكَلَّمُ بِلاَ مَعْرِفَةٍ،

وَكَلاَمُهُ لَيْسَ بِتَعَقُّلٍ [35].

يرى أليهو في أيوب أنه قد التزم الصمت، فحسبه جامد في فكره، يتمسك بإرادته وبذاته، فلا نفع مع الحديث معه. حسبه كمن هو بلا معرفة ولا حكمة.

فَلَيْتَ أَيُّوبَ كَانَ يُمْتَحَنُ إِلَى الْغَايَةِ،

مِنْ أَجْلِ أَجْوِبَتِهِ كَأَهْلِ الإِثْمِ [36].

يود أليهو أن يُقدم أيوب لمحاكمة عادلة، فتُمتحن أقواله ومفاهيمه، فقد قدم إجاباته على أهل الإثم (أصدقائه)، ويلزمه تصحيح ما قاله.

لَكِنَّهُ أَضَافَ إِلَى خَطِيَّتِهِ مَعْصِيَةً.

يُصَفِّقُ بَيْنَنَا،

وَيُكْثِرُ كَلاَمَهُ عَلَى اللهِ [37].

بجانب خطاياه السابقة، أضاف خطية أخطر أثناء حواره، ألاَّ وهي خطية الشكوى مع التذمر على الله. فإن كان الله سمح له بالتأديب عن خطاياه، كان يلزمه ألا يتذمر حتى وإن أثاره أصدقاؤه باتهامات ظالمة وعنيفة.

التصفيق”، إما علامة على الاستحسان والنصرة أو على السخط والضيق (عد 24: 10) أو للسخرية (أي 27: 23). يبدو أنه يتحدث هنا عن التصفيق كرمزٍ للاستخفاف والسخرية على مفاهيم أصدقائه. كأن أيوب – عوض دراسة الأمور بطريقة موضوعية – بروح هادئة ورغبة في التعرف على الحق والانتفاع منه، كان كل ما يشغله هو الاستخفاف بأصدقائه الذين يتهمونه ظلمًا.

ويكثر كلامه على الله“: عوض الالتجاء إلى الله لمساندته نسب لله الظلم، واسترسل في ذلك.

من وحي أيوب 34

هب لي روح التمييز!

 

*     هب لي من عندك روح التمييز، يا حكمة الله.

فأمتحن بروحك كل فكرٍ وكل كلمةٍ وكل تصرفٍ.

أمتحن كلماتي، فلا تخرج كلمة بطالة.

أمتحن ما أنصت إليه، فلا أفسد وقتي بكلمات بطالة.

أسمع صوتك في كل شيءٍ، في إنجيلك المقدس، وفي الطبيعة الجميلة،

وفي الأحداث الماضية والحاضرة.

*     بك أختبر الفضيلة وأتلذذ بها. بك لا أطيق الشر، ولا أحاوره.

لا تخدعني حكمة العالم الغاشة،ولا تحركني رياح الفلسفة الباطلة.

لأتذوق حكمتك وحبك ورعايتك طول النهار،

فتتهلل نفسي حتى وسط لهيب التجارب.

*     هب لي روح التمييز، فلا يخدعني مديح الناس،

ولا يحطمني نقدهم اللاذع.

إنما أتعرف بك على الحق الإلهي وأعيشه!

أسمع صوتك في أعماقي، كما في كنيستك!

أتمتع بك وسط أبنائك!

*     هب لي روح التمييز، فأرحب بكلمتك النقية وأتمسك بها،

أنصت إليك خلال خدامك، وأرفض صوت المخادعين.

أصير بك صرافًا ماهرًا، أميز العملات الحقيقية من المزيفة!

*     هب لي روح التمييز، فأدرك أنه ليس أحد كاملًا غيرك،

بك أكون كاملًا ومقدسًا!

بك أشتهي أن يلتصق العالم كله ببرِّك.

فتصير البشرية كاملة وصالحة فيك!

*     هب لي روح التمييز، ففي وسط الضيق، وفي مرارة نفسي،

لا أظن أن البرّ لا ينفع صاحبه،

ولا أن الشر لا يضر مرتكبه.

لا أتساءل: أين هي عنايتك بمؤمنيك؟

ولا أزن الأمور بموازين بشرية زمنية.

إنما أثق في حبك ورعايتك وعدلك.

لأنتظر، فغدًا تنكشف أسرار حكمتك!

*     بحلولك في قلبي، يتسع ليضم بالحب كل إنسانٍ.

يتسع، فلا يضيق أمام أية محنة. وتتحول كل المحن لخيري.

أدرك سٌر حبك وراء كل ضيقة!

وسط الآلام تتهلل نفسي بك، وتتغنى دومًا ببًرك!

لن تضطرب نفسي لقسوة الأشرار عليّ،

ولا أخشى عصا الخطاة، فإنها لن تستقر عليّ.

أشهد لبرِّك، يا من لا تحابي الوجوه!

*     أراك أبًا تترفق بي كابنٍ لك.

لا تنسى كأس ماء بارد، أقدمه باسمك.

أرى الشرور تعبر سريعًا،

وتتهلل نفسي بيديك، وهما تمسحان دموعي.

*     هب لي روح التمييز،

فأدرك رعايتك لي، أنا خليقتك.

إن كان الإنسان لا يحتمل إهانة تصيب الخاضعين له،

أفلا تهتم بي أنا خليقتك وصنع يديك؟

برحمتك أوجدتني أيها القدير، الأب العجيب،

فكيف لا ترعاني بحبك؟!

وهبتني الحياة بنسمة فيك،

فكم أنا عزيز لديك جدًا؟!

أما تفتح أحضانك الأبوية لي؟

*     خلقتني من العدم، فأنا صنعة يديك.

أحببتني فخلقتني، وفديتني بدمك الثمين مجانًا،

فهل تترك الظلم يحل بي، يا أيها المحب للبشر؟

*     ليعد جسدي إلى التراب الذي خُلق منه،

لكن ألا تعود روحي إليك، إذ هي نسمة من فمك؟!

حملت جسدي بتجسدك،

فعاد إليّ الرجاء أنني لا أهلك.

أترقب يوم قيامتي، فيتمجد جسدي مع روحي!

*     روحك يحملني من مجدٍ إلى مجدٍ،

يرفعني من المزبلة والتراب، وينطلق بي إلى السماء!

فماذا يمكن لأحداث العالم أن تفعل بي؟!

*     هب لي روح التمييز،

فأدرك أنه ليس عندك محاباة!

لن تحابي غنيًا بسبب غناه أو سلطانه.

ولن تحابي شعبًا بسبب كثرة عدده.

ولن تحابي جيشًا بسبب إمكانياته العسكرية.

إنما تهتم بكل إنسانٍ، كأنه ليس أحد سواه على الأرض.

وتهتم بالكل دون تمييز أو تحيزٍ!

*     عيناك تراقبان كل إنسانٍ، لا لتهلكه بل لتخلصه.

عيناك تنظران ما في الفكر والقلب.

لست في حاجة إلى شهادة أحدٍ،

فكل شيءٍ مكشوف أمامك!

*     في حبك لا تريد هلاك أحدٍ،

لكن في عمدٍ أصرّ الأشرار أن ينصرفوا عنك.

تركوك واستهانوا بوصيتك.

فملك الشر على قلوبهم.

صار العنف دستورهم،

وأصيبت آذانهم بالصمم،

فلا تسمع لصرخات المساكين المظلومين.

لكنك تبقى تسمع أنات القلوب الداخلية.

ترفعهم وتسندهم وتمجدهم!

*     ليس من إنسان يقدر أن يهين رئيسًا أو ملكًا؟

فمن يجسر أن يدين خططك الإلهية؟

أنت ملك الملوك! أنت رب الأرباب!

عيناك على طرق كل البشرية. تتطلعان حتى إلى ما في قلوبنا وأفكارنا.

كأن لا عمل لك سوى الاهتمام ببني البشر.

تريد أن الكل يخلصون، وإلى معرفتك يقبلون!

*     ليقم العالم ضدي، فإن خالقه يضمني.

ليهج الأشرار بكل طاقتهم. تخرج روحهم ويعودون إلى ترابهم.

يسخرون بي، فيصيرون منظًرًا ومثلًا وهزءًا!

انصرفوا عنك بقلوبهم القاسية، ففقدوا حياتهم ومجدهم!

*     سخروا بصرخات البائسين،

ولم يدركوا أنك تستمع لأنين قلوبهم.

حجبوا وجوههم عن المظلومين،

ولم يدركوا أنك تتطلع بنفسك إليهم.

ظنوا في المساكين زوانًا يحترق،

ولم يدركوا أنك تجعلهم ذهبًا مصفى بالنار.

*     هب لي روح التمييز، فأدرك أسرار خططك،

وأتعلم كيف أحاورك، وأميز بين السماويات والأرضيات.

وأنطلق إليك، وأتمتع بك في داخلي.

*     أخيرًا علمني ودربني،

فأتعلم بروح التمييز كيف أتحدث معك!

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى