تفسير سفر يونان ٣ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثالث
 يونان في نينوى

إذ قام يونان كما من القبر انطلق إلى أهل نينوى الأمميين لينعموا بعمل الله.

دعوة يونان للعمل [١-٤].

إذ تمتع يونان بالحياة بعد الموت دعاه الرب ثانية للخدمة لينعموا هم أيضًا بالحياة، والعجيب أن الله لم يعاتب يونان بكلمة ولا جرح مشاعره بسبب هروبه في الإرسالية الأولى، إذ يقول الكتاب:

ثم صار قول الرب إلى يونان، قائلاً: قم إذهب إلى نينوى المدينة العظيمة ونادِ لها المناداة التي أنا مكلمك بها، فقام يونان وذهب إلى نينوى بحسب قول الرب. أما نينوى فكانت مدينة عظيمة لله مسيرة ثلاثة أيام، فابتدأ يونان يدخل المدينة مسيرة يوم واحد ونادى. وقال: بعد أربعين يومًا تنقلب نينوى” [١–٤].

يصف نينوى هكذا: “مدينة عظيمة لله مسيرة ثلاثة أيام”؛ بالمعنى الحرفي تعني أنها مدينة ضخمة يقطعها الإنسان في ثلاثة أيام، أو يبقى يجول في شوارعها ثلاثة أيام، أما بالمفهوم الروحي فإن نينوى كعاصمة لأشور قد سلمت نفسها للشيطان تتعبد للأصنام، لكن الله يتطلع إليها، أنها مدينته العظيمة التي اغتصبها العدو بتسليم نفسها له. الله لا يحتقر خليقته خاصة الإنسان، حتى إن انحرف عنه فهو ينتظر خلاصه ورجوعه إليه كمدينة عظيمة له يسكنها الثالوث القدوس.

في دراستنا لسفر يشوع رأينا رقم ٣ يُشير للإيمان بالثالوث القدوس كما يُشير للقيامة في اليوم الثالث[23]. هذا هو سرّ عظمة الإنسان أن يصير مدينة الله أو كما يسميها الكتاب “مدينة الحق” (زك ٨: ٣)، مملكة الثالوث القدوس، الشاهدة لقيامة الرب بحياتها المقامة فيه.

استجاب يونان للدعوة ودخل المدينة مسيرة يوم واحد لينادي بالتوبة ما هو هذا الدخول إلاَّ إشارة إلى ظهور أحد الثالوث القدوس، الله الكلمة الذي تجسد وتألم، فصار كمن في مدينتنا. حلّ في وسطنا كواحد منا، خلاله تقبلنا عمل الثالوث القدوس، ونلنا الخلاص!

نادى يونان أنه بعد أربعين يومًا تنقلب مدينة نينوى، وفي الترجمة السبعينية بعد ثلاثة أيام تنقلب مدينة نينوى، إن كان رقم ٤٠ يُشير إلى حياتنا الزمنية، لذلك صام السيد المسيح أربعين يومًا لكي نصوم كل أيام حياتنا، فإن نينوى تنقلب بعد أربعين يومًا إذ تزول السماء والأرض حتى تنعم بالسماء الجديدة والأرض الجديدة. وإن كان رقم ٣ يُشير إلى القيامة مع السيد المسيح، فلابد لنينوى القديمة أن تُهدم لتقوم الجديدة فيه.

إيمان نينوى وتوبتها [٥-٩].

فآمن أهل نينوى بالله ونادوا بصوم ولبسوا مسوحًا من كبيرهم إلى صغيرهم[٥].

يقول القديس چيروم: [آمنت نينوى، أما إسرائيل فقاوم غير مصدق. آمن أهل الغرلة، أما أهل الختان فاستمروا في عدم إيمانهم].

ارتبط إيمان أهل نينوى بالعمل فقدموا توبة عملية أسلحتها الصوم والمسوح وكما يقول القديس چيروم: [الصوم والمسوح هما أسلحة التوبة، معين للخطاة. الصوم أولاً ثم المسوح، الأول يُشير إلى ما هو غير منظور ويليه ما هو منظور. واحد قائم أمام الرب على الدوام والآخر يقوم إلى حين أمام الناس]. وكأنه يليق بتوبتنا أن نبدأ بالصوم الخفي والحياة العملية السرية وعندئذ ننطلق إلى الأعمال الظاهرة.

يقول القديس چيروم: [بالتوبة ترتبط المسوح بالصوم، حتى أن البطن الفارغة وملابس الحزن تترجى الرب بقدر كبير في الصلاة].

قدم الكل التوبة العملية لله، فلبس المسوح كبيرهم كما صغيرهم، تقدم الملك والعظماء موكب التوبة، واشترك فيه كل الشعب وأيضًا البهائم… مع أن يونان لم يعط كلمة رجاء واحدة، ولاَّ حدثهم عن محبة الله وترفقه، ولا علمهم شيئًا عن التوبة… فصارت نينوى مثلاً رائعًا وحيًا عن التوبة الصادقة.

من هو الملك الذي لبس المسوح إلاَّ الإرادة الإنسانية التي تنحني أمام الله لتلعن خضوعها له وقبولها أن تفتقر من أجل ذاك الغني الذي إفتقر ليغنيها. تبدأ التوبة بتغيير داخلي في إرادة الإنسان أي ملكنا الداخلي. لقد خلع الملك رداءه الملكي ولبس المسوح وجلس على الرماد، لكي تخلع إرادتنا البشرية الثياب التي من عمل يديها وتعترف بعُريها وفقرها الذاتي، فيُلبسها الرب إرادته السماوية الملوكية ويهبها الإنسان الجديد الذي على صورته، ويُقيمها من المزبلة لتجلس مع السمائيين، ويكون للنفس موضعًا في حضن الآب. أما العظماء ففي توبتهم يشيرون إلى تقديس المواهب والقدرات التي لنا، لتعمل لحساب مملكة الله. وأما البهائم فتُشير إلى الجسد بطاقاته التي سلك قبلاً في الظلمة بطريقة حيوانية. بمعنى آخر التوبة تمس الإنسان بكليته: نفسه وجسده، إرادته وقدراته، أحاسيسه وتصرفاته!

هنا يليق بنا أن ندرك أن ما جذب قلب الله إليهم ليس صومهم في ذاته ولا المسوح في ذاتها وإنما القلب التائب الذي يسنده الصوم وتعينه المسوح. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [صام أهل نينوى واقتنوا محبة الله، أما اليهود فصاموا ولم ينتفعوا شيئًا بل بالحري نالوا لومًا (إش ٥٨: ٣، ٧؛ 1 كو ٩: ٢٦). إذن فالخطر في الصوم عظيم بالنسبة للذين لا يعرفون كيف ينبغي عليهم أن يصوموا. لنتعلم قوانين هذا التدريب حتى لا نركض باطلاً أو نصارع الهواء، أو نكون في حزننا نصارع ظلالاً. الصوم دواء، لكنه ليس نافعًا على الدوام إن استخدمه بطريقة غير سليمة بسبب عدم خبرة مُستخدميه[24]].

ما يجذب أنظارنا في توبة أهل نينوى الرجاء المفرح، فقد كانت كلمات يونان قليلة وعنيفة لكن أهل نينوى لم يفقدوا رجاءهم في الرب الرحيم، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كانت رسالة الله على فم يونان واضحة، لم يذكر فيها شيئًا عن قبولهم إن رجعوا، لكنهم أعلنوا توبتهم، قائلين: “لعل الله يعود ويندم ويرجع عن حمو غضبه فلا نهلك” [٩]. فإن كان الأمميون غير الفاهمين استطاعوا إدراك هذا، كم بالحري يليق بنا نحن الذين تدربنا على التعاليم الإلهية وشاهدنا أمثلة كثيرة من هذا النوع عبر التاريخ وفي اختباراتنا الحالية أن ندرك؟![25]].

تمتُع نينوى بالرحمة [١٠].

فلما رأى الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه لهم فلم يصنعه” [١٠].

ملاحظة في هذا النص:

أولاً: التوبة لا تحتاج إلى زمان طويل بل إلى تغيير القلب، فقد استطاع أهل نينوى اغتصاب مراحم الله ليس خلال طول الزمان وإنما خلال صدق العودة إلى الله. إن كان يليق بنا أن نقضي كل حياتنا في توبة مستمرة بلا انقطاع مشتهين البلوغ إلى قياس ملء قامة المسيح، لكن هذه النظرة لا تنزع عنا إدراكنا مراحم الله المترقبة رجوع كل إنسان لتحتضنه في الحال. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [حيث توجد مخافة الله فلا حاجة إلى (كثرة) الأيام ولا إلى تدخل الزمن، وعلى العكس إن لم توجد مخافة الله فلا نفع للأيام… إن ألقينا إناءً به صدأ في أتون مخافة الله، يتنقى في وقت قصير[26]].

ثانيًا: كلمة “الشر” تعني هنا الضيقات أو التأديبات التي يسمح الله بها للإنسان لتأديبه أو ليكون مثلاً للآخرين، فهي في عيني الإنسان شرًا، لكنها ليست كذلك في طبيعتها. وكما يقول العلامة ترتليان: [يستخدم اليونان أيضًا كلمة “الشرور” أحيانًا عن “الضيقات وما يحل من أضرار”[27]]، هذا أيضًا ما أكده الأب ثيؤدور[28].

ثالثًا: قديمًا تعثر البعض من تعبير الكتاب “ندم الرب” فهل يُغير الله رأيه؟ يستخدم الله التعبير البشري لتقريب المعنى إلينا، فالله لا يندم بمعنى تغيير رأيه، إنما الإنسان هو الذي يُغير وضعه بالنسبة لله فيصير الحكم بالنسبة له مختلفًا. فعندما يُعاند الإنسان يسقط تحت التأديب، وإذ يرتد عن شره ويرجع إلى الله يجده فاتحًا أحضانه له. هذا ما ندعوه ندمًا! الله حينما يصدر حكمه بالتأديب لا يصر على التنفيذ إنما يصدر الحكم لكي يرجع الإنسان عن شره فيعفى عنه.

في هذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [في أيام يونان لو لم يهدد الله بالدمار لم نزُع عنهم الدمار… لو لم يهددنا بجهنم لسقطنا جميعًا فيها[29]]. كما يقول: [التهديد بالخطر يُسبب خلاصًا منه… التهديد بالموت يجلب حياة. أُبطل الحكم بعد أن أُعلن وذلك على عكس ما يحدث بين القضاة الزمنيين، فإنهم إذ يصدرون حكمًا يصير نافذ المفعول… أما بالنسبة لله فبالعكس يُعلن الحكم لكي يبطله[30]].

تفسير يونان 2 يونان 3  تفسير سفر يونان
تفسير العهد القديم تفسير يونان 4
القمص تادرس يعقوب ملطي
تفاسير يونان 3  تفاسير سفر يونان تفاسير العهد القديم

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى