تفسير سفر ملاخي – المقدمة للقمص تادرس يعقوب

ملاخي – مقدمة

لسفر ملاخي مركز خاص، فهو يمثل عند اليهود آخر أسفار الكتاب المقدس، وكأنه جاء ليقدم الوصية الختامية التي تحوي غاية كل الكتاب المقدس. إنها وصية الله المقدمة لشعبه حيث يعلن لهم في وضوحٍ كاملٍ النقاط التالية:

  1. الله يحبهم، وبذات الحب الذي يحبهم به يحب كل البشرية. فحبه لهم المجاني لا يعني محاباته لشعبٍ معينٍ على حساب بقية الشعوب.
  2. رفضه التام لتقدماتهم وذبائحهم، لأنهم حرفيون في فهمهم للشريعة، وفي حياتهم. يمارسون العبادة بقلبٍ يكسر الوصية، ويرفض الشركة مع الله.
  3. إذ أخطأوا على كل المستويات كقادة وكهنة وشعب، فالحل الوحيد هو الرجوع إلى الله، أي التوبة، بابها مفتوح للجميع.
  4. يختم السفر بإشراق شمس البرّ على كل الجالسين في الظلمة، لكي يتمكن من يريد، أيا كانت جنسيته، أن يتمتع بالشفاء بأجنحتها.

إنه سفر محبة الله التي لا تعرف المحاباة. سفر نعمة الله الغنية التي تفتح أبواب السماء للجميع. سفر الرجوع إلى الله، الذي يُسر بكل من يقبل الدعوة للشركة معه. هو سفر كل نفسٍ بشريةٍ جادةٍ في طلب خلاصها.

مقدمة في ملاخي

اَلأَصْحَاحُ الأَوَّلُ (التقدمة المقبولة)

اَلأصحاح الثَّانِي (الكهنة بين اللعنة والبركة)

اَلأَصْحَاحُ الثَّالِثُ (الوعد بمجيء المسيَّا)

اَلأصحاح الرَّابِعُ (إشراق شمس البرّ)

مقدمة في ملاخي

دُعي السفر “ملاخي“، بالعبرية يعني “رسولي”. ربما جاء اختصارًا لكلمة “ملاخيًا” أي “رسول يهوه”[1]، وقد ترجم في السبعينية “رسولي” أو ملاخياس كلقب للنبي وليس اسمًا له.

ظن بعض اليهود أن اسم “ملاخي” رمزي، وأن له اسمًا آخر غير معروف، بل وظن بعضهم أنه كان ملاكًا من السماء، ولم يكن إنسانًا كما ورد في قضاة (2: 1).

ظن بعضهم أنه هو عزرا الكاتب، فقد جاء في ترجوم يوناثان بن عزائيل Targum of Jonathan ben-Uzzeil “الذي يُدعى اسمه عزرا الكاتب”[2]. وظن آخرون أنه مردخاي.

في تقليد قديم قيل أنه من سبط زبولون، وأنه مات وهو صغير السن.

بحسب التلمود كان ملاخي عضوًا في المجمع الكبير.

تاريخ كتابته:

لا توجد شهادة قوية عن تحديد دقيق لتاريخ كتابته، ولكن بعض الدارسين يرون أنه كُتب بعد إعادة بناء الهيكل وتقديم ذبائح وتقدمات فيه (1: 7؛ 3: 1). وإن أورشليم كانت تحت حكم والٍ من قبل الدولة الفارسية (1: 8) بهذا يكون السفر قد كُتب بعد سفري حجي وزكريا اللذين كانا يحثان الشعب على بناء بيت الرب.

يرى البعض أن السفر سُجل في أيام عزرا ونحميا، وأن الولي هنا (1: 8) يُقصد به نحميا. وأن ملاخي تنبأ إما قبل وصول عزرا (458 ق.م) أو في الوقت الذي قام نحميا بزيارته الثانية لأورشليم (432 ق.م). وقد اختلفت الآراء في ذلك.

هذا ويلاحظ أن الخطايا التي يُندد بها ملاخي النبي هي ذاتها التي كانت في أيام عزرا ونحميا:

قارن (مل 2: 10-16)  مع  (عز 9: 2؛ 10: 3، 16-44).

    ومع  (نح 10: 30؛ 13: 23-31).

(مل 3: 7-12)  مع  (نح 10: 32-39؛ 13: 4-14).

يرى البعض أن هذا السفر سُجل في أثناء غياب نحميا في شوشن Susa القصر عام 433-432 ق.م.

الظروف المحيطة به:

 يرى بعض الدارسين أن ملاخي النبي قام بخدمته بعد عودة البعض إلى أرض الموعد، ويُقدر عدد الراجعين من السبي البابلي حوالي ستين ألفًا في أيام عزرا ونحميا. بهذا يكون الشعب قد انقسم إلى فريقين:

1- فريق رفض العودة إلى أرض الموعد بعد أن شعر بأنه قد استقر ماديًا واقتصاديًا في بابل. هذا الفريق يمثل الغالبية العظمى. وهم يمثلون من أحبوا العالم وإن عاشوا في سبيٍ كعبيدٍ للأمميين، فلم يتمتعوا بالأرض التي وهبها الله لآبائهم، ولا انشغلوا بالقيام بالعبادة كما قدمها الناموس. ومع هذا لا ننكر أنه وُجد قلة قليلة مقدسة للرب في وسط السبي مثل دانيال والثلاثة فتية القديسين ومردخاي وأستير وحزقيال النبي إلخ.

2- فريق عاد إلى أرض الموعد ليبنوا أسوار أورشليم ويعيدوا بناء الهيكل ويقيموا العبادة الطقسية حسب الشريعة. ولا يمكننا أن ننكر أن من بين هؤلاء أيضًا من انشغلوا ببناء بيوتهم عوض الاهتمام ببناء بيت الرب، قائلين إنه لم يحن الوقت للبناء (حجي 1: 4). وأيضًا وُجد بينهم من انشغل بتنفيذ الطقوس الدينية دون الشركة الحية العملية مع الله، فجاءت رسالة ملاخي النبي لهذه الفئة لكي تختبر العبادة الحية خلال الحياة المقدسة.

 فملاخي النبي لم ينادِ بإزالة المرتفعات والعبادة الوثنية كما فعل الأنبياء في عصر الملوك، ولا مناشدة الشعب للعودة إلى أرض الموعد كما فعل عزرا الكاتب، ولا ناشدهم بإعادة بناء الأسوار مثل نحميا، إنما ما كان يشغل ملاخي النبي هو الدخول إلى العمق للتمتع بالحياة المقدسة المرتبطة بالعبادة الحية. وهو بهذا يهيء الشعب لانتظار ذاك القادر أن يدخل بنا إلى العبادة بالروح والحق خلال الحياة المقدسة الحقيقية: ربنا يسوع المسيح.

سمات هذا السفر:

  1. يبدو أن الراجعين من السبي كانوا يتوقعون فيضًا من البركات الزمنية، وأن ما ورد على ألسنة الأنبياء بخصوص العصر المسياني يتحقق في أيامهم بطريقة مادية، كأن يُقيم الله خيمة داود الساقطة، وتكون لهم مملكة عظيمة وسلطان. وإذ لم يتحقق هذا كله حسب فكرهم المادي، بدأوا يتساءلون: “بِمَ أحببتنا؟” (1: 2).
  2. عالج السفر تساؤلات كثيرة، منها:

*    “بِمَ أحببتنا؟” (1: 2).

*     “بِمَ احتقرنا اسمك؟” (1: 6)

*     “بِمَ نجسناك؟” (1: 7).

*     “بِمَ أتعبناه؟” (2: 17)

*     “بماذا نرجع؟” (3: 7)

*     “بِمَ سلبناك؟” (3: 8)

*     “ماذا قلنا عليك؟” (3: 13)

*     “ما المنفعة من أننا حفظنا شعائره؟” (3: 14)

  1. قدم لنا ملاخي النبي صورة رائعة للكاهن المقدس الذي يُقدم تقدمة مقدسة للرب من أجل تقديس شعب الله القدوس، كما حذر الكهنة من السلوك في شكلية قاتلة، وتقديم ذبائح وتقدمات غير لائقة بالله القدوس.
  2. أكَّد التزام المؤمن بتقديم العشور والتقدمات بقلبٍ طاهرٍ نقيٍ (3: 7-12).
  3. جاء السفر مسيانيًا يُقدم صورة حيَّة عن عمل السيد المسيح، شمس البرّ، الذي يشرق على كل الأمم والشعوب.
  4. أُفتتح العهد القديم بتقديم صورة بهية لخلقة الإنسان ليحيا في جنة عدن، يتمتع بمحبة الله الفائقة، في سعادة لا يُعبر عنها، ويختتم في آخر عبارة بحلول اللعنة بسبب الخطية والعصيان، إذ يقول: “أضرب الأرض بلعنٍ (4: 6). وكأن العهد القديم يعلن في نهايته عن الحاجة إلى ذاك الذي يُحول الأرض سماءٍ، وينزع عنا اللعنة لننعم بالبركات الإلهية الفائقة.
  5. يرى البعض أن السفر يُقدم ستة تعاليم هامة مع مقدمة وخاتمة.

أولًا: إعلان محبة الله لأولاده (1: 2-5)، فهو يؤدب يعقوب لكنه يترفق، أما أدوم فيتدمر تمامًا.

ثانيًا: التزام الكهنة بالقيادة الروحية الصادقة (1: 6، 2: 9)، فيقدمون لله أفضل ما يمكن (لا 20: 20 الخ؛ تث 15: 21؛ 17: 1).

ثالثًا: عالج مشكلة الزواج بالوثنيات وأيضًا مشكلة الطلاق (2: 10-16)، وحسب المشكلتين تمسان الله نفسه. إن كانت الشريعة قد سمحت بالطلاق (تث 24: 1-4)، فإن الله يكره الطلاق (مل 2: 16). وكما قال السيد المسيح إن موسى سمح به لأجل قسوة قلوبهم، لكن يود الله أن يبقى الزواج مقدسًا، فقد خلق من البدء ذكرًا وأنثى.

رابعًا: مجيء الرب للمُحاكمة (2: 17- 3: 5).

خامسًا: الالتزام بتقديم العشور (3: 6-12)

سادسًا: حتمًا سيتمتع كل واحدٍ بثمر إيمانه العملي الحي أو بثمر شره وكبريائه (3: 13، 4: 3).

أقسامه:

 1. التقدمة المقبولة

 

[ص 1].

 2. الكاهن المقدس

 

[ص 2].

 3. الشركة مع الله

 

[ص 3].

 4. إشراق شمس البرّ

 

[ص 4].

إذ جاء إلى أرض الموعد أناس مخلصون يريدون العودة إلى ما كان عليه آباؤهم الأوائل. فلم يسقطوا في العبادة الوثنية، وقاموا ببناء سور أورشليم وإعادة بناء الهيكل، لكن لم يدخلوا إلى عمق الشركة مع الله، ولا سلكوا كما يليق بشعب الله. لهذا قدم لهم النبي صورة حية للتقدمة المقبولة لدى الله، والكاهن المقدس الذي يسند شعب الله، ويكشف لهم عن الحاجة إلى مجيء المسيا ليدخل بهم إلى الشركة العميقة مع الآب، ويشرق عليهم ببرِّه فيعيشون كما يليق بأبناء النور السماوي.

*    هيا بنا يا أحبائي، فالوقت يدعونا إلى حفظ العيد. وشمس البرّ (مل 4: 2)، إذ يشرق بأشعته الإلهية علينا يعلن عن موعد العيد. لذا يجب الاحتفال به مطيعين إياه، لئلا إذ فاتنا الوقت قد يفوتنا السرور أيضًا[3].

*    أما نحن يا إخوتي، فلنسمُ على الوثنيين، حافظين العيد بإخلاص روحي وطهارة جسدية. ولنسمُ على اليهود، فلا نعيد خلال حرف وظلال، بل بكوننا قد تلألأنا مستنيرين بنور الحق، ناظرين إلى شمس البرّ (مل 4: 2). ولنسمُ على المنشقين فلا نمزق ثوب المسيح، بل لنأكل في بيت واحد هو الكنيسة الجامعة فصح الرب الذي بحسب وصاياه المقدسة يقودنا إلى الفضيلة موصيًا بنقاوة هذا العيد. لأن الفصح حقًا خالٍ من الشر، للتدرب على الفضيلة والانتقال من الموت إلى الحياة[4].

*    فإنه لا تعود هذه الأمور تُصنع في أورشليم التي هي أسفل، ولا هناك فقط بالعيد، بل أينما يُريد الله. إنه يُريد الآن أن يكون العيد في كل مكان حتى أنه “في كل مكان يُقرب لاسمي (لاسمه)” (مل 1: 11).

فمع أنه في التاريخ لم يكن يحفظ الفصح إلا في أورشليم، لكن لما جاء ملء الزمان وعبرت الظلال، وانتشرت الكرازة بالإنجيل في كل مكانٍ، ونشر التلاميذ الأعياد في كل الأماكن كأنهم يسألون المخلص “أين تريد أن نعده؟!” والمخلص أيضًا إذ حول الحرف إلى روح، وعدنا أنهم لا يعودون يأكلون جسد الخروف، بل يأكلون جسده هو قائلًا: “خذوا كلوا واشربوا هذا هو جسدي ودمي” (راجع مت 26: 26-28).

فإذ ننتعش بهذه الأمور، فإننا بالحق يا أحبائي نحفظ عيد الفصح الحقيقي[5].

*    فما هو العيد إلاَّ التعبد لله، والاعتراف بالتقوى، والصلاة الدائمة من كل القلب…؟!

هكذا إذ يرغب بولس في أن نكون على هذا الحال على الدوام، يوصينا قائلًا: “افرحوا في كل حينٍ. صلوا بلا انقطاع. اشكروا في كل شيء”. لا على انفراد بل نُعيد جميعنا معًا في وحدة… إذ يوصينا النبي قائلًا: “هلم نرنم للرب، نهتف لصخرة إلهنا” (مز 95: 1).

ومن هو هذا المهمل العاصي للصوت الإلهي، فلا يترك كل شيء ويجري إلى اجتماع العيد العام؟! هذا الذي لا يُحفظ في مكان واحد، بل “في كل الأرض خرج منطقهم، وإلى أقطار المسكونة بلغت أقوالهم” (مز 19: 4). ولا تقدم الذبيحة في مكان واحد بل في كل الأمم (راجع مل 1: 11)..

هكذا تصعد التسابيح والصلوات بصورة متشابهة، مرتفعة ومن كل مكانٍ إلى الآب الصالح واهب النعم. فالكنيسة الجامعة التي هي في كل مكان تُقدم نفس العبادة لله ببهجةٍ وسرورٍ، مرسلة أغنية التسبيح، قائلة: “آمين”[6].

*    والقديسون الآخرون أيضًا الذين كان لهم ثقة مماثلة في الله، قبلوا تجارب مشابهة بسرورٍ، إذ كان أيوب يقول: “فليكن اسم الرب مباركًا” (أي 1: 21). والمرتل يقول: “جربني يا رب وامتحني (أبلنيَّ). صفِ (نقِ) كليتي وقلبي” (مز 26: 2)، لأنه إذ يتزكى الأقوياء، يصير المتهمون مذنبين. وإذ يرى الأقوياء عملية التنقية، ويدركون بركات النار الإلهية، فأنهم لا يجبنون أمام تجارب كهذه بل بالحري يبتهجون بها. ولا يصيبهم قط ضرر من مثل هذه الأمور التي حدثت، بل يصيرون إلى أمجاد أكثر تتلألأ، كالذهب في النار (مل 3: 3؛ 1 بط 1 : 7)، وكما قال ذاك الذي امتحن في مثل هذه المدرسة: “جربت قلبي. تعهدته ليلًا. فحصتني، لا تجد فيَّ ذمومًا. لا يتغذى فمي من جهة أعمال الناس” (مز 17: 3، 4)[7].

القديس أثناسيوس الرسولي

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى