تكونون لي شهوداً
معنى كلمة “شھود”
نسمع هذه الطلبة باستمرار فى ساحات المحاكم: “شاهد إثبات” و”شاهد نفى”.. ومعناها أن الأول شاهد بعينيه الحدث، وهو يثبت ذلك، ويقر به أمام المحكمة.. أما الأخر فهو “شاهد نفى”، ينفى حدوث الأمر، ويؤكد ذلك بأنه كان حاضراً فى المشهد، ولم يحدث ما أدعى به البعض!
الشهادة – إذن – معناها “المشاهدة” بأم العينين، ولا يصح أن يكون الشاهد لم ير بعينيه ما يحدث، بل سمع بأذنيه من بعض الناس.
نوعان من المشاھدة
1- المشاهدة بالعين المجردة: مثل الآباء الرسل، الذين شاهدوا الرب يسوع، شهدوا عنه، كما يقول معلمنا يوحنا: “الَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ، لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ أَيْضًا شَرِكَةٌ مَعَنَا. ” (1يو 3:1).
لقد عاصر الآباء الرسل أيام التجسد الإلهى، وعاشوا مع الرب يسوع
الخدمة الجهارية، حينما بلغ سن الثلاثين، وحتى آلامه، وموته، وقيامته، وظهوراته، ووعده لهم بالروح القدس، وحدوث هذا الوعد ، فعلاً والملء به، ثم الخروج للكرازة فى كل أنحاء العالم. لقد قيل عنهم: أنهم “فتنوا المسكونة”! قالها الحاكم بقصد الفتنة الضارة، ونقولها نحن بقصد الأفتنان بجمال المسيحية، ودورها الفريد فى خلاص الإنسان، فى كل أنحاء العالم، وطول الزمان وإلى الأبد.
2- المشاهدة بالإيمان: ومعناها أن نؤمن بما قاله الآباء الرسل فى شهادتهم وكرازتهم، واثقين فى صدقهم، ويدعم ذلك “العقل” أيضاً، حيث يشهد التاريخ، وتشهد الأثار، والمخطوطات، والحفريات، وأقوال الآباء، وأحاديث المؤرخين المعاصرين، عن صدق كرازة الرسل، وسرعة إنتشار المسيحية، لأنها كانت شوق اليهود والأمم على حد سواء، فاليهود كانوا يصرخون مع إشعياء النبى:
” ليتك تشق السماوات وتنزل” (إش 1:64)، والأمم كانت تصرخ مع الفلاسفة، منتظرين المخلص الذى تنتظره البشرية، ليخلصها من فسادها، وموتها، ويبعثها إلى خلود أبدى!
معنى الشھادة للمسيح
الشهادة معناها أن يقول الإنسان بتصرفاته، أنه “شاهد” للمسيح، فى قلبه بالإيمان، وأصبح الرب رقيباً على كل حياته، وبدأ الناس يرون السيد المسيح فيه: فى فكره، ومشاعره، وحواسه، وسلوكياته. والرسول بولس يوصينا قائلا
“ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم ” (أف 17:3).. ويقول أيضاً: ” المسيح فيكم رجاء المجد” (كو 27:1). ومن هاتين الآيتين، يصير السيد المسيح الساكن فينا سبباً للخلاص، وواعداً بالمجد الأبدى!
مجالات الشھادة للمسيح
1- أشهد للمسيح فى المجال الشخصى: أى فى حياتى الخاصة ” لكي يروا أعمالكم الحسنة” (مت 5: 16)، “لكي يكون تقدمك ظاهراً في كل شئ”(1تي 4: 15).
قف يا أخى الشاب أمام حروب الخطية المتعددة موقف الشهداء، فحين تحرم نفسك من لذة الخطية بفرح! وحين تمنع عن جسدك لذة الطعام بفرح! وحين تقمعه بفرح فيسهر ويصلى! وحين تستعبده بفرح فيسجد إلى الأرض مرات كثيرة، ويرفع اليدين إلى السماء مرات كثيرة ويقرع الصدر بندم كالخطاة الراجعين إلى بيت الآب! حين تحيا هذا كله فأنت فى طريق الشهداء. لهذا يوصينا الرسول قائلاً “فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اللهِ أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ، عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ. ” (رو 1:12)، “لأَنَّكُمْ قَدِ اشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ. فَمَجِّدُوا اللهَ فِي أَجْسَادِكُمْ وَفِي أَرْوَاحِكُمُ الَّتِي هِيَِ للهِ.“(20:6 كو1).
الشاب الذى يضع نصب عينيه شعار الرسول بولس: “ وَلكِنَّ الْجَسَدَ لَيْسَ لِلزِّنَا بَلْ لِلرَّبِّ، وَالرَّبُّ لِلْجَسَدِ. ” (1كو 13:6)، ويحيا فى روح التوبة الصادقة، والطلب المستمر للنعمة كل يوم، يتحول إلى هيكل للروح القدس، ويتقدس جسده وحواسه بنقـاوة مباركة. ولكـن هـذه الحالة ممكنة مـن خلال الأمانة والاجتهاد والتدقيق، كما أنهـا رهـن مواقـف معينة نشهد فيهـا ضد
الجسـد وشهواته، فى حياتنا كلها.
2- أشهد للمسيح فى المجال الأسرى:
“وأما أنا وبيتي فنعبد الرب” (يش 15:24). المسيحى الحقيقى يكون بيته للمسيح بالحق! فى السلوك، والمحبة، والخدمة، والنموذج الطيب فى كل شئ.
كانت الأسرة المسيحية فى الماضى نموذجاً شاهداً للمسيح المحبة، الذى كان يربط أفرادها، ويوحدهم فى كيان واحد. وكان الكل حينما يتحدثون عن زواج دائم وثابت ومستمر، يقولون “زواج مسيحيين” والمطلوب الآن فى البيوت المسيحية أن تشهد لمسيحها الساكن فيها حباً وتماسكاً، لا مشاكل، ولا خلافات ولا أنانية بغيضة.
وإن غاب المسيح تتمزق الأسرة، ويتوه الأولاد ويعبون نفسياً وروحياً، ويتصور الطرف المخطئ (وعادة تكون المسئولية على الطرفين) إنه لم يفعل شيئاً خطيراً. وتمر الأيام ويقول الرب كلمته: “كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا! ” (مت 37:23). ُ
– يا ليت االله يتكلم فى القلوب!
– ويجمع شمل الأسر الممزقة!
– ويحرك الضمائر النائمة!
من أجل شهادة أمينة للمسيح، الذى مزقت السياط ظهره من أجلنا! ليتنا ننتبه إلى الدمار الناتج من نزوة طارئة أو شهوة دنيئة!
ياليت الرب يحل بالسلام وسط الأسر الممزقة، ويعطى توبة ونمواً للنفوس الشاردة، فما أكبر الذنب الذى نقترفه فى حق أولادنا حين يروا أسرهم ممزقة.
3- أشهد للمسيح فى المجال الكنسى:
أى أن أكون عضواً حياً وفاعلاً ومثمراً فى المجال الكنسى، كالغصن فى الكرمة، يجب أن يكون مورقاً ومزهراً ومثمراً (رو 12).
وهذا مجال أخر للشهادة! فحين نتأمل حياة الرب يسوع وخدمته، ثم حياة تلاميذه الرسل وأباء الكنيسة، نعرف أن منهم من باع نفسه عبداً ليتمكن من دخول مدينة ما، ومنهم من غير معالم شخصيته ليدخل مدينة أخرى. الرسول بولس جال بين القارات المختلفة يؤسس عدداً ضخماً من الكنائس، ويسعى وراء النفوس فى حب ودموع، وفى أتعاب وأسهار وضربات وسجون وميتات
وجلدات ورجم، فى أخطار فى البحر والبرية وجوع وعطش وبرد وعرى.
حين نقرأ هذه القائمة الجبارة من آلام الخدمة نعرف أننا لم نصر بعد خداماً، فالخادم الحقيقى قد جهز قلبه للألم وأعد نفسه لدفع ضريبة الخدمة، وقد امتلأ فرحاً بهذه الآلام بسبب المجد الذى صاحبها ويعقبها.
فهل نبذل دماءنا لأجل الخدمة؟ وهل نعطى الرب من أوقاتنا ما نحن فى حاجة إليه؟ ومن أموالنا ما لا نستطيع الاستغناء عنه؟ ومن جهدنا رغم قلته وضعفه؟ هنا الشهادة..
فالخادم الذى يكتفى برفاهية الخدمة ومظهريتها وأمجادها، يجب أن يقف أمام نفسه، ليقدمها ذبيحة أمام االله.
4- أشهد للمسيح فى المجال الاجتماعى:
أى أن أكون سفيراً للسيد المسيح فى المجتمع المحيط بى، والسفير:
– خير تعبير عن مملكته أو بلاده!
– متفاعل مع المجتمع المحيط به!
– مختلف فى سلوكياته ليعبر عمن ارسله!
فى الطريق نتقابل كل يوم مع أناس ذوى مبادئ مختلفة. بل أن المبادئ نفسها اهتزت أحياناً بعنف، فاختلط كل شئ، وذابت القيم الأخلاقية والدينية أمام طوفان الاعتداء الإنسانى والتحرر المنحرف نحو المادية والإباحية والإلحاد. “فلا تكونوا شركاءهم… اسلكوا كأولاد نور ” (أف 5: 7-8). إذن فليس جديد تحت السماء! وكل انحرافات هذا العالم ومبادئهم الخاطئة معروفة من قبل فى علم االله! “حيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جداً ” (رو20:5)، أما الانسان الذى يتعلل بعلل الخطايا مع الناس فاعلى الإثم (مز 4:140)، يحتاج إلى وقفة صدق أمام ضميره، وأمام االله، وأمام تعليمات الكلمة.
فلنقف مواقف الشهادة أمام الانحرافات التى تسود العالم، ولا نشترك فى أعمال الظلمة غير المثمرة، بل بالحرى نوبخها، فلا نختلس مع المختلسين، ولا نهمل مع المهملين، ولا نهادن الخطأ فى أى موقع، بل ننبه اخوتنا فى حب، لا فى تزمت أو كبرياء، ولا فى سلبية وانطواء. وما أكثر مواقف الشهادة فى التعامل مع الناس ذوى الاتجاهات المنحرفة! فلا نندمج إذن فى مسالك شريرة، وزملاء منحرفين، ولا نهادنهم على أخطائهم، بل نشهد للحق
مهما كانت الخسارة.
اشــهد – إذن- للمســيح أمــام أخوتــك بحياتــك المقدســة، ووداعتــك، ومحبتــك وخــدمتك الباذلــة، وكلماتك المشحونة وداعـة وهـدوءاً. لا تجـادل فـى مناقشـات عقيمـة تسـبب الخصـومات، بـل أجـب علـى الأســئلة التـى تقــدم إليــك فـى وداعــة وحـب، لا تتقوقــع مــع أخوتـك المســيحين، بـل انســجم فــى محبة وروح جماعية مع اخوتك فى الوطن.. “َفليضئ نوركم هكذا قدام الناس” (مت 16:5).
5- أشــهد للمســيح فــى المجــال الــوطنى:
بمعنــى أن أضــع كــل همــوم الــوطن فــى داخلــى! فالمسيحى الحقيقى يحمل ملامح وطنه، وقضاياه، وهمومه، وشئونه، بكل حب، ويعمل مـن أجـل
بناء الوطن ورفعته!
وقـد علمتنـا دروس التـاريخ أن علاقـات المحبـة الأصـيلة، بـين المسـيحيين والمسـلمين، هــى صمام الأمان الوحيد أمام كل مشكلة تواجهنا فى هذا الوطن الحبيب. وتعتبر الكنيسة القبطية المصــرية بوطنيتهــا عبــر التــاريخ، وفــى مواجهــة المحتــل. هــذا مــا حــدث فــى حــروب الفرنجــة المدعوة خطأ بالصليبية، حتى أن صلاح الدين أهـدى كنيسـتنا بالقـدس “ديـر السـلطان” مكافـأة علــى إســهامات الأقبــاط فــى تطهيــر بلادنــا مــن المســتعمر. كــذلك دورنــا كأقبــاط فــى مكافحـــة الاحتلال الفرنسى، أو الإنجليزى، أو الإسرائيلى..