يو 4:1 فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس
فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ،
+++
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي
“فيه كانت الحياة،
والحياة كانت نور الناس” (4)
يميز الإنجيلي بين “الحياة” الخالقة “والحياة” الزمنية المخلوقة. فيتحدث عن أقنوم الكلمة ليس بكونه حيًا فحسب لكنه “الحياة“. وكما يقول السيد المسيح عن نفسه أنه بمولده الأزلي “له الحياة في ذاته” ( يو5: 26). فهو جوهر الحياة التي لا تُدرك، لذلك يقول الإنجيلي: “الحياة أظهرت” (1 يو 1: 2)، وذلك خلال التجسد.
هذه الحياة الخالقة تهب حياة للغير، “لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويحيي، كذلك الابن أيضا يحي من يشاء” (يو 5:21). فهو ليس فيه حياة، لكنه هو الحياة في ذاتها، لهذا “به كان كل شيء“. قيل: “تحب الرب إلهك وتسمع لصوته، وتلتصق به، لأنه هو حياتك” (تث 30: 20). ويرنم المرتل: “لأن عندك ينبوع الحياة، وبنورك نعاين النور” (مز 36:9).
“والحياة كانت نور الناس” (4)، فإذ نقتنيه بكونه حياتنا نستنير، فندرك أن حياتنا الزمنية على الأرض هبة إلهية تدفعنا للانجذاب نحو “الحياة الأبدية“، حيث بهاء المجد الأبدي. نتمتع في السماء بمعرفة كاملة للسيد المسيح ورؤيته وكمال الاتحاد معه والثبوت فيه، فتكون له “الحياة الأبدية“. “وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته” (يو 17: 3).
كما أن الكلمة هو الحياة الخالقة واهبة الحياة المخلوقة، هكذا هو النور الجوهري الخاص بالطبيعة الإلهية والذي لا يُدني منه، يشرق علينا بنعمته فنصير نورُا يعكس بهاء نوره أينما حللنا. عندما أعلن السيد نفسه لشاول الطرسوسي، قال شاول: “أبرق حولي من السماء نور عظيم، فسقطت على الأرض” (أع22: 7).
v يدعوه كلاً من “النور” و”الحياة“. فإنه يهبنا النور مجانًا، هذا الذي يصدر عن المعرفة، والحياة التي تتبعه. في اختصار لا يكفي اسم واحد ولا اثنان أو ثلاثة أو أكثر أن يعلمنا ما يخص اللَّه. يلزمنا أن نكون مستعدين أن ندرك سماته الغامضة بوسائل كثيرة.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن السيد المسيح بكونه الحياة، أو مصدر الحياة، لا يمكن إلا أن يكون أزليًا، وإلا فمن وهب الحياة إن كان هو نفسه غير موجود في وقتٍ ما؟
v هو الحياة… التي بلا بداية ولا نهاية، فإنها بهذا تكون بالحقيقة الحياة كما يلزم. فإنه إن كان يوجد وقت ما لم تكن فيه الحياة، فكيف يمكنها أن تكون حياة للآخرين إن كانت هي نفسها غير موجودة؟!.
v يقول يوحنا عن المسيح: “فيه كانت الحياة“، فكما أن الآب يمتلك الحياة في ذاته، هكذا أعطى الابن أن يمتلك الحياة في ذاته.
لم يقل يوحنا: “والحياة كانت نور اليهود”، لكنه قال بطريقة جامعة: “والحياة كانت نور الناس“، لأن النور لم يكن لليهود وحدهم وإنما مقدم للجميع عامة، فقد جاءوا إلى هذه المعرفة بعينها، إذ أن هذا النور وُضع مشاعًا للكل.
وإن سألت: ولأي سبب لم يضف “الملائكة” للناس لكنه قال: “والحياة كانت نور الناس“؟ نقول: لأن مقاله في الوقت الحاضر مُقدم لطبيعة البشر، لهم قد جاء يحمل الأخبار السارة للعطايا الصالحة.
v ليس شيء مخلوق صُنع بدونه، لأنه هو الحياة التي جعلت الخليقة ممكنة.
القديس هيلاري أسقف بواتييه
v “فيه كانت الحياة“: إنه يمنح الخليقة نعمة الوجود، يعطي أيضًا نعمة البقاء، ويمنح من عنده الأبدية للكائنات التي بطبيعتها ليست أبدية. فيصبح بذلك هو الحياة لكل من جاء إلى الوجود، لكي يبقى في الحياة حسب حدود طبيعته.
v لو كان الابن ليس من جوهر الآب بل هو من خارجه لصار خاضعًا للآب كالمخلوقات، فكيف إذن يحيي كل الأشياء، وهو من بين الأشياء المخلوقة؟… كيف نفهم كلمات الرسول بولس الخاصة بطبيعة اللَّه: “الذي يُحي الكل” (1 تي 13:6) لو كان الابن مخلوقًا، وهو قادر على أن يحي الكل، لأصبحت الخليقة قادرة على أن تحيي نفسها، وليست محتاجة بالمرة للَّه، ولم يعد في الطبيعة الإلهية ما يميزها عن المخلوقات، ولأصبحت مثل اللَّه قادرة على أن تفعل ما يفعله اللَّه.
v إذا لم يكن الابن من جوهر اللَّه الآب… فكيف يمكن للمرتل وهو يرى أنه لأمر عجيب يستحق الإعجاب في ذلك الذي هو بالطبيعة اللَّه: “بنورك نعاين النور” (مز9:36)، وإذا كان الابن كمخلوقٍ ينير كل الأشياء المخلوقة؟ إذن الخليقة تنير نفسها ولا تحتاج لنور اللَّه خالقها.
v من يريد أن يقتني هذا الكلمة، من يريد أن يكون له الكلمة، لا يبحث عن شيء خارج عنه ليقدمه، بل يقدم نفسه. وإذ يفعل ذلك لا يفقد ذاته كمن يفقد الثمن عندما يشتري شيئًا.
v من يقتني الكلمة فليقدم نفسه؛ هذا هو ثمن الكلمة. وكما قيل أن الذي يعطي لا يخسر نفسه، بل يقتني الكلمة الذي يهب ذاته له، كما يربح نفسه أيضًا في الكلمة واهب ذاته.
v نقرأ في الكتاب المقدس عن الحكمة: “إنها بهاء النور السرمدي”. مرة أخرى نقرأ: “مرآة عظمة الله التي بلا عيب” (حك ٧: ٢٦)… من هذا لنأخذ تماثلاً فنجد مشاركة بين أمرين معاصرين منها ندرك المشاركة في السرمدية. النار تبعث النور، والنور يبعث النار. فإن سألنا أيهما من الآخر. كل يوم ونحن نشعل شمعة نتذكر أمرًا غير منظور ولا موصوف، أن الشمعة كما لو كانت في فهمنا يجب أن تُنار في ليل هذا العالم… قدم لي نارًا بلا بهاء، فأصدق أن الآب كان بدون الابن.
يرى العلامة أوريجينوس أن المسيح جاء روحيًا قبل مجيئه جسديًا. جاء في العهد القديم إلى الكاملين الذين صاروا ناضجين وليسوا أطفالاً في عهدة معلمين ومربين، إذ بلغوا إلى ملء زمانهم الروحي (غلا٤:٤)، مثل الآباء البطاركة والأنبياء الذين تأملوا مجد المسيح. وكما افتقد المسيح الكاملين قبل رحلته المنظورة حسب الجسد هكذا لا يفتقد الذين بقوا أطفالاً بعد مجيئه ولا يريدون النضوج.
v إن فهمنا أن “فيه كانت الحياة” ذاك القائل: “أنا هو الحياة” (يو ١١: ٢٥)، نقول ليس أحد خارج الإيمان بالمسيح هو حي، لكن كل الذين لا يعيشون لله هم أموات. حياتهم هي حياة للخطية وليس للعقل (اللوغوس)، أو أقول إنها حياة الموت.
v لنتطلع أولاً إلى العبارة: “إنه ليس إله أموات بل إله أحياء” (مر ١٢: ٢٧)، التي تعادل القول: “ليس إله خطاة بل إله قديسين”… إنه إله الآباء وكل القديسين. لا يجد أحد تسجيلاً في أي موضع أن الله إله أي أحد شرير. لذلك إن كان هو إله القديسين وقد قيل أنه إله الأحياء، فالقديسون هم أحياء، والأحياء هم قديسون. ليس قديس خارجًا عن الأحياء، ولا يُدعى أحد حيًا إن لم يكن له مع حياته حقيقة أنه قديس.
v إن كانت الحياة تعادل “نور الناس“، فإنه ليس أحد في الظلمة هو حي، وليس أحد حي هو في الظلمة، بل كل من هو حي هو أيضًا في النور، وكل من في النور هو حي. لهذا فإن من هو حي وحده هو ابن النور، وابن النور هو ذاك الذي تشرق أعماله أمام الناس (مت ٥: ١٦).
v يقول بولس أنه كان قبلاً “ظلمة والآن نور في الرب” (١ كو ٢: ١٤ – ١٥). هكذا يمكن للظلمة أن تتحول إلى نور. إنه ليس من الصعوبة لمن يدرك إمكانية كل إنسان أن يتغير إلى ما هو أسوأ أو ما هو أفضل.
v إنه يمكن لمن يملك نور الناس ويشترك في أشعته أن يحقق أعمال النور ويعرف نور المعرفة (هو ١٠: ١٢ LXX) لأنه مستنير. لكن يلزمنا أيضًا أن نأخذ بعين الاعتبار الحالة التي للضد، أي أن كل من الأعمال الشريرة والمدعوة معرفة ليست حسب الحق، هذه تملك أسس الظلمة.
v هذا النوع من النور لا يخص الحواس بل العقل، ينير النفس ذاتها. وإذ يقول المسيح نفسه فيما بعد: “لا يقدر أحد أن يقبل إليّ إن لم يجتذبه الآب” (يو 5: 44)، فإنه يسبق الرسول في هذا الموضع ويقدم اعتراضًا معلنًا أنه هو (الابن) الذي “ينير” [9]، فإنكم وإن سمعتم قولاً كهذا عن الآب فلا تظنوا أن هذا يخص الآب وحده، وإنما يخص الابن أيضًا. إنه يقول: “كل ما هو للآب فهو لي” (يـو 15: 16).
v “والنور يضيء في الظلمة” (5). يدعو الموت والخطأ ظلمة. فإن النور موضوع الحواس لا يشرق في الظلمة بل خارجًا عنها؛ أما كرازة المسيح فتشرق في وسط الخطأ المسيطر فتبدده. باحتماله الموت غلب الموت، وشفى الذين أُمسكوا فعلاً فيه. هكذا لا يقدر الموت أن يغلبها ولا الخطأ، لأنها بهية في كل موضع، ومشرقة بقوته اللائقة به.
v نور الأذهان أسمى من الأذهان ويتعدى كل الأذهان. هذه هي الحياة التي بها كان كل شيء.
v لا تكونوا أيها البشر في الظلمة، في عدم الإيمان، في الظلم، في الشر، في السلب، في الطمع محبين للعالم، فإن هذه في الظلمة. النور ليس غائبًا، بل أنتم الغائبون عن النور.
تفسير القمص أنطونيوس فكري
أية (4): “فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس.”
فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ = الكلمة فيه الحياة كإحدى خصائص الجوهر الإلهي الأزلي (يو26:5). وهي حياة أزلية أبدية، وهي قادرة أن تحيي أي لها القدرة أن تخلق حياة (يو21:5) فالمسيح الكلمة هو أساس الحياة لكل كائن حي ولكل ما في الوجود. هو فيه الحياة كينبوع فهو ليس فقط حي بل هو الحياة، وهو حياة أبدية لا تنتهي ولا تموت (وإن كان هو الحياة فلا يمكن أن يوجد وقت لم يكن موجوداً فيه، أي لا يمكن أن يكون مخلوقاً) وهذا هو سر ارتباط الخليقة به فهو مصدر حياتها. ولكننا لا نفهم حتى الآن سوى الحياة بالمفهوم الزمني فالإنسان لا يرى سوى ما يلمسه ويراه بعينيه المادية. أما الحياة الأبدية سنفهمها فيما بعد، وهي التي بلا حزن ولا كآبة. والحياة التي يقصدها بقوله فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ ، هي الحياة الأبدية بصورة أساسية، هذه التي قال عنها الرسول”الحياة أظهرت” (1يو2:1) . ولكنه هو أيضاً يحفظ الحياة الآن. لقد فقد الإنسان الحياة بسبب خطيته فجاء المسيح وهو الحياة ليعيدها له. ولذلك قال بولس الرسول “مع المسيح صلبت لأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ” (غل20:2 + في21:1).
وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ = الإنسان العادي الحي له أعين ليرى بها العالم. أما هنا فهو يتكلم عن الإنسان الذي أعاد له المسيح حياته الروحية فصار له بصيرة روحية. الله الكلمة أعطى حياة لكل الخليقة ولكن تميز الإنسان عن باقي الخليقة بأنه صار له نوراً به يعرف الله ويدركه ويتكلم معه. ويوحنا هنا يرى أن أهم ما في الحياة للإنسان أن يدرك الله ويتصل به ويعرفه، هذه رسالة الكلمة (يو3:17) فمن له حياة المسيح فبنوره ندرك الله نفسه ومجده، بل سأدرك هدف ومعنى حياتي فنحن لا يمكننا أن ندرك الله سوى عن طريق المسيح:-
نحن يمكننا أن نرى الله في الطبيعة التي خلقها ولكن نكون كمن يرى الشمس في صورة. ويمكننا أن نرى الله من خلال العهد القديم والناموس ونكون كمن يرى الشمس من خلف غيمة. ولكننا في المسيح نراه في كامل محبته.. أليس هو “بهاء مجد الله ورسم جوهره”. فالمسيح الذي هو الحياة الحقيقية وهو مصدرها وهي حياة قدسية كاملة أبدية الوجود، هو صار نوراً للإنسان يعرف به الله ويرى به الله. إتحادنا بالمسيح وثباتنا فيه هو الوحيد الذي به ندرك الله ونراه وندرك الأمجاد المعدة لنا، وذلك بالروح القدس الذي يملأنا عند ثباتنا في المسيح. والله خلق آدم في جنة ليحيا للأبد، ويرى الله ويفرح به للأبد، لكنه حرم نفسه بنفسه من هذه الحياة فحُرِم من أن يرى الله وصار في ظلمة. والظلمة في إنجيل يوحنا تشير للخطية، فيهوذا حين خرج قيل “وكان ليلاً” (يو30:13) ، وقيل عن نيقوديموس أنه “جاء ليلاً” إظهاراً لعدم المعرفة عند نيقوديموس قبل إيمانه.
ولكن على الرغم من أن الناس قد سقطوا في ظلمة الخطية إذ خالفوا وصايا الله، فإن السيد المسيح وهو خالقهم وهو الحياة الذي أعطاهم الحياة، وهو أيضاً النور جاء بتجسده ليبدد ما يكتنفهم من ظلمات، ويعطي الحكمة لمن يريد.
الله في ملء الزمان أرسل ابنه ليرد الحياة إلى آدم وبنيه ليكون لهم نور يرون به نتيجة خطيتهم فيشمئزوا منها ويرون الله فيحبونه ويحبون وصاياه فيختارونه. كل هذا لأن المسيح صار لهم حياة ومن هو حي يكون له نعمة النظر. والمقصود هنا هو النظر الروحي وليس الجسدي، هذا الذي يقود الإنسان للإنقياد لشهواته أي للظلمة وبالتالي للموت الروحي. والله الآب أرسله كخبز الحياة ليأكل منه الإنسان فترتد إليه روحه ويعيش للأبد وتنفتح عيناه ويعاين نور الحياة وتكون له حكمة يختار بها أن ينفذ وصايا الله ولا يتعثر في ظلمة الشهوات والخطية. وهذه هي العلاقة بين الحياة والنور “وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك” (يو3:17). فمعرفة الله هي الحياة الأبدية وهي الثبات في الله. ولأن المسيح هو النور الذي عَرَّفنا الآب قال “أنا هو الطريق والحق والحياة” وقال “أنا نور العالم”. ورؤية النور الإلهي لا تكون بالعين الجسدية بل خلال الروح حينما تنشط من الداخل فتدخل لها القوة الإلهية المنيرة. كما ظهر نور لبولس الرسول في الطريق لدمشق فعرف الله وصارت له حياة (يو12:8). وغياب النور عن الإنسان يكون باختياره حين يرفض الحياة في النور أي في الحق والمحبة والقداسة، وغياب النور معناه غياب الله.
إذاً الله نور:
1) يكشف خطاياي.
2) فأقدم عنها توبة.
3) أقترب إلى الله وأعرفه.
4) أشتهي السمويات.
5) أثبت في المسيح.
6) أتحول إلى نور.
7) تكون لي الحياة الأبدية.