تفسير إنجيل لوقا أصحاح 4 – أ. بولين تودري

البداية.. والخلوة.. والنصرة (4: 1-13).

أن الرب يسوع في بداية خدمته ترك لنا مثالًا لنتبع خطواته، كمسيحيين في هذا العالم. فذهب في خلوة مع الله. مع أنه واحد فيه. وبدأ قابلًا للروح القدس. مع أنه متحد به. وظهر كمجرًب من إبليس، مع أنه هو سيده. كل هذا لنتعلم أن حياتنا في غربة هذا العالم لا تستقيم إلا بالرجوع إلى الله والصوم والجهاد.

لقد جاهد المسيح، وجُرب من إبليس، وأنتصر، حتى ننال نحن الغلبة علي كل قوي الشرير من خلاله. حقًا “أن محاربتنا ليست مع لحم ودم بل مع السلاطين والرؤساء مع أجناد الشر الروحية” (أف 6: 12). “ولكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا” (رو 8: 37). “فشكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين ويظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان” (2 كو 2: 14).

ولعل يسوع تعرض للتجربة أيضًا بهذه الصورة العلنية، بسبب شك إبليس في ألوهيته. إذ رأي الروح في المعمودية وهو مستقر عليه كحمامة، ورأي السموات مفتوحة فرحة به. ولهذا كان يبدأ تجربته له بقوله “إن كنت ابن الله”.

لقد غلب المسيح (آدم الثاني) بالصوم، ما قد أفسده آدم (الأول) بشهوة الأكل. “إذ رأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل” (تك 3: 6). فليتنا نتمثل به ونرفض كل شهوة يقدمها لنا إبليس. كما رفض الرب يسوع ملكًا ارضيًا، ابتغاه آدم الأول “تكونان كالله” (تك 3:5) لأن مملكته من هذا العالم. فليتنا نتعلم أن نجد حلاوة التنازل عن بعض ضرورياتنا واحتياجاتنا من مال وجهد ووقت وصداقات من أجل الأمانة للرب. فلا يوجد ملك روحي بدون تعب الصليب. وأظهر الرب يسوع فهمًا صحيحًا لوصايا الله، قد سبق آدم وفهمها خطأ من الحية، “إذ قالت الحية.. لن تموتا” (تك 3: 4). فليتنا ندرك أن الحرب ليست بعيده عن هيكل الرب، ولا عن الحافظين وصاياه، ونجتهد في الابتعاد عن الشكليات في العبادة، وعن كل رياء. ويبدو أن هذه التجربة لم تكن الوحيدة التي جرب فيها إبليس الرب يسوع. بل لا بد أن يكون حاربه في طفولته وشبابه كسائر الناس. وها هو يُصرح أنه “فارقه إلى حين”. لذلك نادي الرب يسوع معلمًا إيانا ضرورة الاستمرار في الجهاد قائلًا “من أراد أن يكون لي تلميذًا فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني” (لو 9: 23).

الإصحاح الرابع

2- خدمة المعلم في الجليل (4: 14 – 9: 50)

 

مقدمة (4: 14، 15)

نلاحظ أن القديس لوقا جمع أحداث وتعاليم رب المجد في الجليل، وذكرها مع بعضها. مع أنه في الحقيقة كانت خدمته هناك علي فترتين. ولم يبين هذا الفصل بين الخدمتين في الجليل، إلا القديس يوحنا في إنجيله حيث أشار أن يسوع صعد إلي أورشليم مرة خلال خدمته في الجليل (يو 2: 13).

وبدأت خدمة يسوع الأولي في الجليل بعد معموديته وتجربته مباشرة (يو 1: 44)، والتي ذكر القديس لوقا أحداثها في الأصحاحات من (4: 14 – 5: 32). وبدأت الخدمة الثانية بعد عدة شهور تقريبًا (يو 4: 1)، وذكر أحداثها القديس لوقا في إصحاحاته من (5: 33 – 9: 50).

وتشمل الجليل عدة بلاد منها: كفر ناحوم – قانا – نايين – كورزين – بيت صيدا – الناصرة. ولم تُثير خدمة رب المجد في البداية هياج وحسد رؤساء الكهنة. بل لاقت نجاحًا، إذ كان ممجدًا من الجميع، لجمال تعليمه.

والآن تعالي يا أخي الحبيب نتابع معًا أعمال وتعاليم الرب يسوع في الجليل:

1- في المسيح تتحقق النبوات (4: 16-30)

لقد اعتاد رب المجد أن يتعبد في المجمع، فلنتعلم منه. ولنقل مع داود “إن نسيتك يا أورشليم تنسي يميني. ليلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك. إن لم أفضل أورشليم علي أعظم فرحى” (مز 117: 5، 6). وقد اعتاد اليهود أن يقرأوا في المجمع علي التوالي، أيام السنة، أسفار موسي الخمسة المعروفة بالتوراة، وبعض نبوءات الأنبياء. وكان يوجد خادمًا بالمجمع يحمل السفر. وكانت العادة أن من يريد القراءة، يعبر عن رغبته بالوقوف. ويتقدم ليأخذ السفر من الخادم. ثم يسلمه له في نهاية القراءة، ويجلس ليعلم.

فتح الرب يسوع السفر وقرأ من (أش 61: 1، 2). وهذا الاختيار ليس صدفة. بل أراد الرب أن يبدأ خدمته، بأن يُعلن عن نفسه بأنه هو المسيا المنتظر الذي تكلمت عنه النبوات. وأراد أن يلخص لهم خطة عمله. فقد جاء مخبرًا ببشري الفرح للمساكين بالروح، الذين ينتظرونه باشتياق. جاء مانحًا الحرية للمأسورين والمثقلين بالخطية، ولا يستطيعون مقاومتها. جاء معطيًا البصيرة وتغيير الذهن للذين أظلمت قلوبهم وأفكارهم بخبرات الإثم. جاء يُعلن بداية سنة الرب المقبولة التي يحررنا فيها من كل ضعف عندما يبذل ذاته علي الصليب لأجلنا، كما كان يتحرر كل يهودي من كل دين في سنة اليوبيل التي تتكرر كل خمسين عام (لا 25: 8-16، 23-55).

ولكن اليهود تعثروا في المسيح، لأنهم رأوه ابنًا ليوسف فقط، وطلبوا منه أن يريهم آيات تثبت صحة كلامه بأنه المسيا المنتظر، كما فعل في كفر ناحوم، ولكن الرب رفض طلبهم. انجذبوا نحوه في بداية حديثه، وكانت عيونهم شاخصة إليه. ولكن سرعان ما تبدلت مشاعرهم نحوه حينما أعلن لهم حقيقة أنفسهم، وأراهم في تاريخ الأمم شخصيات أظهرت إيمانًا أفضل منهم، مثل نعمان السرياني الذي ذكرت قصته في (2 مل 5: 1-14)، وأرملة صرفة صيدا الذي جاء الحديث عنها في (1 مل 17: 8-24) فرفضوه وأرادوا أن يقتلوه ملقين إياه من فوق الجبل (وهي طريقة قتل أعتادها الرومان). ولكن المسيح جاز في وسطهم ومضي ليس خوفًا منهم، وإنما لأن ساعة تسليمه لنفسه لم تكن قد أتت بعد. أعطني يا رب قلبًا يُخبئ كلامك ويفرح به، حتى لو كان هذا الكلام يكشف حقيقة نفسي، ويظهر جهلي وتوانيً وضعفي.

2- يطرد الشياطين ويشفي الأمراض (4: 31-41)

ترك يسوع الناصرة التي رفضته، بعد أن برهنوا انه “ليس نبيًا مقبولًا في وطنه”. وانحدر إلى كفر ناحوم (أي مدينة النياح أو الراحة). وهي مدينة منخفضة عن الناصرة المبنية علي جبل. وهناك أراح كل من له تعب بكل نوع. وحتى الشياطين كانت تخضع له. ومن محبة ربنا لنا وهبنا أيضًا هذا السلطان. إذ قبل صعوده ظهر لتلاميذه وقال لهم “هذه الآيات تتبع المؤمنين يُخرجون الشياطين باسمي.. ويضعون أيديهم علي المرضي فيبرأون” (مر 16: 17، 18).

3- لا يكف عن التعليم في كل جيل (4: 42-44)

أن الرب يسوع قضي الليل كله مع الناس وآلامهم، ليريحهم ويعلمهم. ولما ظهر فجر النهار، أراد أن يختلي ليصلي من أجل العمل في اليوم الجديد. ولكن الجموع المتعطشة لعمل الرحمة. والنفوس الجائعة لكلمات النعمة. صارت تبحث عنه. وحينما وجدته، أمسكته لئلا يذهب عنهم. أنهم فعلوا مثل عروس النشيد التي قالت “وجدت من تحبه نفسي فأمسكته ولم أرخه” (نش 3: 4).

يا ربي القدوس. ها هي تعاليمك ليست ببعيدة عنا. أنها في الكنيسة في كل يوم. وفي كتابك المقدس بين أيدينا. فليت النفس تتعلم كيف تتعب في التفتيش عنك. وحينما تجدك، تمسكك لتجعلها قادرة علي أن تعيش وصاياك، وتدوم معها.

زر الذهاب إلى الأعلى