معنى شبه موته الشبه في المعنى اللاهوتي للمعمودية
من كتاب المعمودية: الأصول الأولى للمسيحية
للأب متى المسكين
الفصل الأول
الجزء النظري
7 – معنى “شبه موته”
الشبه في المعنى اللاهوتي للمعمودية
+ » إن كنَّا قد صرنا متحدين معه بشبه موته، نصير أيضاً بقيامته. «(رو 5:6)
+ » فإن كنَّا قد متنا مع المسيح نؤمن أننا سنحيا أيضاً معه. «(رو 8:6)
لكي نفهم كيف يكون هذا، نسير خطوة خطوة مبتدئين:
1 – ما هو الموت الذي ماته المسيح، وما هو الموت الذي نموته؟
يلزم أن نعرف قبل كل شيء أن موت المسيح كان عملاً إرادياً، أي أنه أراد واشتهى أن يموت كما يظهر من الآية التالية:
+ » لهذا يحبني الآب لأني أضع نفسي لآخذها أيضاً، ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً. هذه الوصية قبلتها من أبي. «(يو 10: 17و18)
2 – وتقول الكنيسة إن المسيح بطبيعته القدوسة كان غير مستهدف للموت: بمعنى أنه كان خالياً من الموت ومسبِّباته ونتائجه أي الفناء، لأنه كان “هو الحياة”، فلمَّا مات المسيح كان هذا لأنه أراد أن يموت، أي أن موته كان إرادياً. بمعنى أنه موت الذي لا يموت أو الذي هو غير قابل للموت، وهذا هو الذي جعل موته من أجل الآخرين، فكان موتاً خلاصياً.
3 – ما معنى أن المسيح كان يريد أن يموت؟
هذا يتمحور حول المعنى الروحي للموت وفحواه، على أن الموت في مفهومه وحقيقته الأصلية هو حقيقة روحية وليست عضوية، مع أن المعنى السائد عند الجميع هو أن الموت هو الموت العضوي الطبيعي كنهاية إجبارية للحياة على الأرض – ولكن الإيمان يتخطَّى هذه النهاية ويؤكِّد وجود حياة أخرى لا نهائية وهي حياة النفس غير المائتة. بهذا المعنى يكون الموت هو العبور من حياة ميتة إلى حياة لا تموت.
علماً بأن الموت يخص الجسد وعدم الموت يخص النفس.
والنظرة المسيحية الضعيفة للموت هي أنه موت للجسد، مع أن الإنسان المسيحي يمارس الموت وهو حيّ، بل ويمكن للإنسان وهو ميت في القبر أن يكون خالياً من الموت. إذن الموت الحقيقي هو الموت الروحي وليس العضوي الجسدي.
4 – كان الموت بالنسبة لآدم هو انفصاله عن الله مصدر الحياة وهو وحده معطي الحياة وهو الحياة.
5 – هذه الحياة أي حياة الله أو الله الحياة هي كما يقول القديس يوحنا إنها » نور الناس «(يو 4:1). هذه إذا رفضها الإنسان بأن أساء إليها ولم يخضع ويطيع، يموت ويكون موته أبدياً لأن الحياة التي رفضها أبدية. وهكذا كانت الخطية الأصلية موتاً روحياً أبدياً مظهره على الأرض موت جسدي بالضرورة.
6 – فالموت ليس حالة عضوية ولكن حقيقة روحية، والمتسبِّب لها هي الخطية، ودُعيت عند ق. بولس بالشوكة تمثيلاً لشوكة العقرب المميتة (1كو 56:15).
7 – وبرفض الإنسان الأول للحياة الحقيقية، والحقيقية وحدها، التي أعطاها له الله كهبة، دخلت الخطية إلى العالم، وكان الموت بالخطية (رو 12:5). علماً بأنه ليس حياة أخرى غير حياة الله، فالذي يرفضها حتماً يموت حتى ولو عاش، لأن الحياة بدون الله هي الموت. وهذا هو الموت الروحي الذي لو عاش الإنسان بعد رفض الحياة الحقيقية من يد الله فإن عيشته أو حياته الأرضية يملأها الموت، لأنه يعيش حالة انفصال مستمر عن الله، وبهذا يعزل نفسه ويداهمه الخوف وتملأه العداوة، ويرضخ لعبودية الخطية وبالتالي للمادة بكل صورها. وتصبح حياته بلا معنى، تحيط به الشهوة والفراغ وأخيراً الموت المحتَّم.
هذا هو الموت الروحي الأبدي الذي تسبَّب للإنسان في موته العضوي الزمني.
8 – وطالما لم نستطع أن نبلغ هذه الرؤية المسيحية والإحساس الحقيقي بالموت ومفهومه كقانون رعب وخطية تملأ الحياة بالموت الذي يسود على العالم (رو 14:5) فلن نكون قادرين أن ندرك القيمة الثمينة لموت المسيح من أجلنا ومن أجل كل العالم.
9 – لأن الموت الطبيعي الجسدي هو في حقيقته ثمرة زمنية مرَّة للموت الروحي الذي جاء المسيح ليخلِّصنا منه.
10 – وهنا المعنى الحرج لقول المسيح إنه يموت بإرادته وبمنتهى مشيئته الحرَّة. فموت المسيح
أراد المسيح أن ينفِّذه بنفسه في نفسه، وذلك لأنه أحبَّ الله أكثر من نفسه. بينما الإنسان في المقابل مات لأنه أراد الحياة لنفسه في نفسه لأنه أحب نفسه أكثر من الله!
11 – فبقدر ما كان حب الإنسان لنفسه وحياته هو السبب الرئيسي لخطيته التي هي الجذر المرّ لموته والشوكة المميتة، بقدر ما كان المسيح باذلاً حياته ونفسه، فكان السبب الرئيسي للخلاص من الخطية وتحرير الإنسان من الموت الروحي.
12 – فاعتبرت إرادة المسيح للموت بحريته هي أول وأقوى عمل لمحبته الكاملة لله وللإنسان في طاعة كاملة لإرادة الله. بمعنى أن موته لم يكن له أي دافع في نفسه غير المحبة، فكان موته هو قمة استعلان المحبة للحياة في الله، ولكي ينزع شوكة الموت التي هي الخطية ويحرِّر الإنسان من سطوة العدو والموت.
13 – فالمسيح لم يُبطل أو يبيد الموت الجسدي، لأنه إن كان قد صنع هذا فمعناه أنه يبيد العالم أو يبطله لأن الموت فيه ويسوده. الموت ليس جزءاً من العالم بل هو أساس حياة العالم ونموِّه، لأن كل مَنْ يحيا فيه يحيا للموت والذي ينمو فيه ينمو للموت – ولكن الذي عمله المسيح أعظم من ذلك جدًّا، إذ أنه أبطل شوكة الموت أي الخطية فأبطل الموت كحقيقة روحية ولاشاها روحياً، لأنه لبس الموت وتواجد فيه وملأه بنفسه وبمحبته وحياته، فجعل الموت بعد أن كان هو الانفصال عن الله والمتسبِّب في فساد حياة الإنسان والعالم، جعله طريقاً للعبور مُفرحاً ومضيئاً بملء المحبة والحياة الأبدية: » لأن لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح «(في 21:1). وبولس الرسول لا يتكلَّم هنا عن موت الجسد ولكن عن الموت بمعناه الجديد: الموت مع المسيح رمز القوة والنصرة، لأن الذين يؤمنون بالمسيح ويحيون فيه لا يعود لهم موت، لأن الموت يُبتلع بإيمانهم إلى نصرة (1كو 54:15)، فصار كل قبر لكل قديس مملوءاً حياة بدل الموت.
14 – والآن ما معنى القول إن كنَّا متحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته؟
ما معنى الشبه؟ إذ يتحتَّم أن نفهمه قبل أن نكمِّل الطقس.
معناه أننا نترسَّم خطوات المسيح ونشترك فيها بإيماننا وحبنا له، فتكون إرادتنا هي إرادته وأن يكون إيماننا به لا مجرَّد اعتراف أو مجرد نوال ما له، بل وفوق كل هذا أن نعطيه حياتنا وأنفسنا. هذا هو معنى وصيته أن » اتبعني أنت «(يو 22:21)، وليس أمامنا أي طريق للإيمان به سوى أن نقبل إيمانه ليكون إيماناً لنا أو إيماننا، ونقبل محبته لتكون هي محبتنا ومشيئته لتكون مشيئتنا. لأن الإيمان
بالمسيح يعني كل المسيح وخارجاً عنه لا يوجد إيمان. وكل المسيح يعني طاعته ومحبته ومشيئته التي بها نتعرَّف عليه ويستعلن هو نفسه لنا.
فإذا آمنا بالذي لا يؤمن به هو، أو أحببنا الذي لا يحبه هو، أو نشاء ما لا يشاؤه هو، ونطيع ما لا يطيعه هو، فهذا يعني أننا لا نؤمن به إذ فصلناه عن حياته، عمَّا له! وندَّعي بعد ذلك أننا نحيا على رجاء المعجزات، ونصرخ من أجل المعونة دون أن نعمل ما يعمله هو، بل نطيع إرادة غير إرادته، وبعد ذلك ندعوه “يا رب” ونعبده دون أن نكمِّل مشيئته التي هي مشيئة أبيه. هذا ليس إيماناً به. فنحن خَلُصنا ليس لأننا نؤمن بالمعجزات والقوى الفائقة، هذا إيمان لا يريده لأنه إيمان وهمي كاذب.
ولكن إن جعلنا مشيئتنا هي نفس مشيئته التي تملأ حياته والتي ساقته إلى الموت لينزل إليه ليبيده، فهذه المشيئة تُدعى حقـًّا الإيمان به وتكون هي الموت والقيامة كثمرة عمل الإيمان، وهذا هو الشبه للمسيح وأعماله. فإذا تشبَّهنا بموته حتماً سنتشبَّه بقيامته لأن موته ينشئ قيامة، وبالتالي تشبُّهنا بحياته في الله » لأنكم قد مُتُّم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله. «(كو 3:3)
وعليه يستحيل أن نؤمن بالمسيح دون أن نشاء الكأس الذي شربه، وأن نعتمد بالمعمودية التي اعتمد بها، أي ندخل حرباً سافرة ضد الخطية، ونضع أنفسنا كما وضع هو. هذا هو الشبه لموت المسيح، هذا هو الإيمان الحقيقي “إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه من أجلي” (غل 20:2)، وأحب الكنيسة وأسلم نفسه من أجلها.
أمَّا الإيمان الذي نحياه بعيداً عن التشبُّه به والالتزام بحياته فهو ليس إيماناً وإنما نظرية تلقيناها وحفظناها لنردِّدها بعيداً عن قلبنا ووعينا وإيماننا.
من هنا تصبح المعمودية التي نتكلَّم عنها هي معمودية موته وقيامته، نشتهيها شهوة ونقدِّسها تقديساً، لأنه هو اشتهى الموت وقدَّسه تقديساً فحوَّله إلى حياة جديدة أبدية.
لاهوت المعمودية | كتب الأب متى المسكين | قيام المعمودية على أساس موت المسيح وقيامته |
كتاب المعمودية الأصول الأولى للمسيحية | ||
المكتبة المسيحية |