يو٣: ١٣ وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء…
“9أَجَابَ نِيقُودِيمُوسُ وَقَالَ لَهُ:«كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هذَا؟» 10أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ:«أَنْتَ مُعَلِّمُ إِسْرَائِيلَ وَلَسْتَ تَعْلَمُ هذَا! 11اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّنَا إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ بِمَا نَعْلَمُ وَنَشْهَدُ بِمَا رَأَيْنَا، وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَ شَهَادَتَنَا. 12إِنْ كُنْتُ قُلْتُ لَكُمُ الأَرْضِيَّاتِ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ، فَكَيْفَ تُؤْمِنُونَ إِنْ قُلْتُ لَكُمُ السَّمَاوِيَّاتِ؟ 13وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ.” (يو3: 9-13)
+++
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي
“وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء،
ابن الإنسان الذي هو في السماء“. (13)
ربما يشير هنا إلى مفهوم خاطئ لدى بعض اليهود وهو أن موسى صعد إلى السماء حيث استلم الناموس ونزل به إلى إسرائيل. يصحح السيد مفهومهم مؤكدًا أنه ليس أحد يصعد إلى السماء إلاَّ ابن الإنسان الذي نزل من السماء، وبقي بلاهوته يملأ السماء. هو وحده يقدر أن يكشف عن الأسرار السماوية، ويحمل المؤمنين إلى السماء، ويقدم لهم إرادة الآب.
لقد تحدث نيقوديموس مع السيد بكونه نبيًا من عند الله، فكان يليق به أن يدرك أن السيد أعظم من نبي، بتجسده نزل من السماء، وبلاهوته قائم في السماء. إنه الرب من السماء (١ كو ١٥: ٤٧).
v إن قلت وأية صلة بين هذا الكلام وما قبله؟! أجبتك: إنه متصل بالأقوال التي قبلها اتصالاً وثيقًا جدًا، لأنه إذ قال نيقوديموس للمسيح: “يا معلم نعلم أنك قد أتيت من الله معلمًا“، تلافى ربنا هذا القول بعينه، فقارب أن يقول له: لا تظن إننى أوجد على هذا المثال معلمًا مثل الكثيرين من الأنبياء الموجودين من الأرض، لكنني قد أتيت من السماء وأنا مقيم هناك أيضًا.
أعرفت كيف أن المسيح ليس هو في السماءفقط، لكنه حاضر في كل مكان مالئ خلائقه كلها؟
v نزل من أجلنا، لنصعد نحن من أجله. هو وحده نزل وصعد، ذاك الذي يقول: “ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء“. ألا يصعد هؤلاء الذين جعلهم أبناء اللَّه إلى السماء؟ بالتأكيد يصعدون، هذا هو الوعد المقدم لنا: “سيكونون كملائكة اللَّه”. إذن كيف لا يصعد أحد إلا الذي نزل؟ لأنه واحد فقط هو الذي نزل، وواحد هو الذي يصعد. وماذا عن البقية؟… رجاء البقية هو هذا، إنه نزل لكي ما فيه وبه يصيرون واحدًا، هؤلاء الذين يلزم صعودهم به… هذا يظهر وحدة الكنيسة. ويل للذين يبغضون الوحدة، ويجعلون من أنفسهم أحزابًا من البشر!
v يليق بنا أن نرحل، لكن هذه الرحلة لا تحتاج إلى دهن الأقدام (للسير بها)، ولا إلى طلب حيوان (نركبه) ولا إلى سفينة.
ليتك تجري بعاطفة القلب، لتسير في الرحلة في رفقة الحب، لتصعد بالمحبة.
لماذا تبحث عن الطريق؟ التصق بالمسيح الذي بنزوله جعل من نفسه “الطريق”.
أتريد أن تصعد؟ تمسك بذاك الذي يصعد. بذاتك لن تقدر أن ترتفع… إن كان لا يصعد أحد إلاَّ الذي نزل، أي ابن الإنسان، ربنا يسوع المسيح، فهل تريد أن تصعد أنت أيضًا؟
كن عضوًا في ذاك الذي وحده يصعد. لا يصعد إلاَّ الذي يكون عضوًا في جسده، فيتحقق القول: “لا يقدر أحد أن يصعد إلاَّ الذي نزل“…
لقد ترك أباه وأمه والتصق بزوجته لكي يصير الاثنين واحدًا (أف ٥: ٣١). لقد ترك أباه لا لكي يظهر نفسه مساويًا للآب، وإنما لكي يخلي نفسه آخذًا شكل العبد (في ٢: ٧).
لقد ترك أمه أيضًا، المجمع الذي منه وُلد حسب الجسد. لقد التصق بزوجته التي هي كنيسته.
الآن في الموضع الذي في المسيح نفسه هذه الشهادة، لقد أظهر أن رباط الزواج لا ينحل (مت ١٩: ٤)… “ليسوا بعد اثنين بل جسد واحد”، هكذا “لا يصعد أحد إلاَّ الذي نزل“.
لكي تعرفوا أن العريس والعروس هما واحد حسب جسد المسيح، وليس حسب لاهوته… لكي تعرفوا أن هذا الكامل هو مسيح واحد، قال بإشعياء: “وضع عمامة عليّ كعريسٍ، وكساني بالزينة كعروس” (إش ٦١: ١٠ LXX).
تفسير الأب متى المسكين
13:3- وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ.
يقول بعض من الشراح إن الكلام مع نيقوديموس قد انتهى عند الآية السابقة (12)، ولكن معظم الشراح قالوا بانتهاء الحديث مع نيقويموس عند الأية (15). وربما يكون بعض الآباء قد أخذوا بهذا الفكر, ولكن لا يوجد قط ما يبرر هذا وذاك. فكلام المسيح واضح ومسترسل، بل ومتحمس لكي يعطي نيقوديموس أقصى ما يمكن من عناصر التجديد والحياة الآبدية التي جاء من أجلها.
ويلزم هنا أن ننبه ذهن القارىء لبداية حديث نيقوديموس بقوله: «يا معلم نعلم أنك أتيت من الله مُعلماً..». هنا في الواح يقسم نيقوديموس نظرته للمسيح إلى جزئين: الاول: شخص المسيح, والجزء الثاني: رسالته .
وعلى هذا القياس، كان رد المسيح المسترسل الطويل. فبدء كل زي بدء هو أن المسيح لم يجىء معلما يعلم بعلم أفضل, بل جاء ليعطي حياة أفضل, من فوق حيث أتى, فهو لا يعلم علم الملكوت بل يلد من روحه، من السماء، أبناء جدد للملكوت. أما من جهة شخصه أنه أتى من الله معلما فقد رد المسيح أنه نزل من السماء, بعمل سيشرحه حالاً, (الإرتقاع على الصليب والبذل والحياة الآبدية)، وسيصعد إلى السماء, ليبقى هناك. لأنه هو من هناك! وهكذا يستمر المسيح.
كذلك ينبغي أيضاً أن ننتبه، لأن الميلاد الذي جاء المسيح ليعطيه «من فوق», هذا الذي صعب على نيقوديموس فهمه وتفسيره، سيبدأ المسيح ليوضح له سهولة الميلاد من فوق كونه هو«من فوق» وكون ارتفاعه (على الصليب) سيعطي الحياة الأبدية التي هي عنصر الحياة في الميلاد من فوق. لهذا ينبغي الإلتفات إلى الترابط بين عناصر الحديث، لأنها غاية في العمق.
تبتدىء الآية هنا بحرف «و» وهي تصل الكلام بالسابق مع إعطاء فكر جديد يفوق في قوته. ما ذُكر سابقاً. فالمعنى في جملته يكون هكذا: ولو أنه يوجد من لا يصدق أمور السماء، ولكن الذي يتكلم هنا عن أموو السماء هو من نزل من السماء، ابن الإنسان (بالتجسد) وهو اصلاً في السماء! إلا أنه لن يمكث على الأرض كثيراً فهو سيصعد إلى السماء كما كان. والكلام يحوي معاني أخرى داخل مضمون هذا النزول والصعود وهي أسرار السماء، ويلزم أن ننفتح لقبولها كما أنه يلزم أن نفتح أعين قلوبنا لإدراك من هو هذا: «ابن الإنسان» الذي نزل من السماء لنتعرف عليه شخصياً لأنه سيوضح نفسه بأعماله.
«ليس أحد صعد إلى السماء»: «دصعد» هنا الفعل في المضارع التام الذي يفيد الحدوث المكتمل والمستمر إلى الآن. ولذلك أضاف «ابن الإنسان الذى في السماء (الآن)»، ويلزم هنا أن نذكر ما سبق أن قاله القديس يوحنا: «الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر».
والمعنى أنه ليس إنسان قط استطاع أن يرتفع إلى مناطق الحق العليا ليتحقق منها، ولا أحد أيضأ أُعطيت له أسرار السموات إلا «ابن الإنسان» الذي يحمل في كيانه البشرية كلها ويمثلها تمثيلاً. فهو وحده عنده معرفة الحق المطلق بجملتها، ليس كمن يستقبلها أويتعلمها، بل هي تنبع فيه كمن يمتلكها. وهو لما صعد إلى السماء، لا يكون كمن يرتفع، أو يُرفع، فهو يحمل مجد الصعود في ذاته, لأنه هو على الأرض ليس كمن يقيم أو يستوطن بل كزائر نزل من السماء لمهمة ورسالة, بالتجسد، فالسماء هي وطنه. لذلك فأمور السماء كلها هي معرفته الخاصة، وليس كأنه يتعرف عليها كشيء ليس له، فهي صورة من حياته جاء ليورثها لنا. وهنا فعل «الصعود» تم مرة واحدة مكتملة الفعل.
«نزل من السماء»: «نزل» وهو فعل في زمن الماضي البسيط. ويلزم أن ننتبه أن قوله «نزل من السماء» هو التعبير الذي يتجسم لنا في قوله: «والكلمة صار جسداً» حيث جاء الفعل «صار» وهو أيضأ في زمن الماضى البسيط, كتعبير عن صحة حدوث التجسد في صميم الزمن. غير أن زمن الماضى البسيط لا ينفي استمرارية النزول، ولذلك جاء نفس الفعل في أية أخرى في زمن المضارع المستمر الذي يفيد دوام النزول، لأن التجسد أو النزول فعل حدث ولا يزال حادثاً وقائماً إلى الأبد.
«لأن خبز الله هو النازل من السماء، الواهب حياة للعالم» (يو33:6), يلاحظ ها أن النزول في حالة الدوام, وموطن صاحب هذا الجسد هو السماء أصلاً: «ليس موسى أعطاكم الخبز من السماء بل أبي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء».
وكأنما الرسالة الأصلية للمسيح التي نزل إليها من السماء هي ليعطينا جسده, على الدوام, خبزاً حقيقياً لنحيا به, على الدوام. أما الذين يعرضون عن هذا الخبز الحقيقي المحيي ويرفضونه، فحجتهم هي هذه: «أليس هذا هو يسوع بن يوسف الذي نحن عارفون بأبيه وأمه فكيق يقول هذا إني نزلت من السماء» (يو42:6)، «كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكله؟» (يو52:6). هذه هي عثرة «إتضاع المسيح»!! «وطوبى لمن لا يعثر فيّ.» (يو42:6)
وليلاحظ القارىء أن «النزول من السماء» هو اصطلاح خاص بالله في العهد القديم: «… ويكونوا مستعدين لليوم الثالث، لأنه في اليوم الثالث ينزل الرب أمام عيون جميع الشعب على جبل سيناء» (خر11:19)، «فأنزل أنا وأتكلم معك هناك وآخذ من الروح الذي عليك وأضع عليهم فيحملون معك ثقل الشعب.» (عد17:11)
وتعتبر الآية التي نحن بصددها: «… إلا الذي نزل من السماء, ابن الإنسان, الذي هو في السماء» شرحاً مبسطاً غاية التبسيط للتجسد على أساس آيات العهد القديم التي ذكر فيها «نزول الله» ولكن استبدل فيها «ابن الإنسان» بدل كلمة «الله»» بسبب «ظهور الله في الجسد» (اتي16:3). فإذا علمنا أن الذي «نزل من السماء» هو ابن الله حنئذ تتضح الآية: «لأني نزلت مز الساء، ليس لأعمل مشيئتي، بل مشيئة الذي أرسلني.» (يو38:6)
والأن إذا انتبهنا إلى مفهوم «النزول من السماء» بصورته العامة، نرى أن نزول ابن الإنسان في هذه الآية التي نحن بصددها (13) لا يختص فقط باستعلان أسرار السماء بل توصيل رسالة الخلاص والحياة الأبدية، أو باللغة التي تناسب نيقوديموس إعطاء الدخول إلى ملكوت الله.
كما يلاحظ أن هذه الأية (13) لو دققنا في مشتملاتها من حيث رسالة النزول ورسالة الصعود, نجد أنها تجمع كل أعمال المسيح: التجسد, أعمال الفداء والخلاص حتى الصعود. لذلك لا نستغرب أن الآية التي تأتي بعدها مباشرة (14) تتكلم عن أول فعل من أفعال الخلاص وهو الصليب, ولكن في صورة «ارتفاع». تعبيرا عن المجد الذي سيليه حتماً وذلك باستخدام رمز الحية.
تفسير القمص أنطونيوس فكري
آية (13): “وليس أحد صعد إلى السماءإلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء.”
سبق في آية (2) أن قال نيقوديموس “أنك أتيت من الله معلماً” والمسيح هنا يقول لا بل أنا أتيت من السماء، ولست معلماً كمعلمي اليهود. هنا المسيح بدأ يشرح السمويات لنيقوديموس بحسب ما يمكنه فهمه. وهو جاء ليعطي حياة أفضل للإنسان فيها يولد من فوق. ومع أن المسيح نزل من فوق إلا أنه سيصعد إلى فوق ومع هذا فهو بلاهوته لم يغادر السماء. هو السماوي نزل ليحملنا فيه للسماء، ولذلك قال “إثبتوا فيَّ” وهذه الآية تثبت لاهوته. صعد إلى السماء= أي يرى أسرار السماء وحده فلا أحد من البشر صعد للسماء ليعرف أسرارها. ولأنه من السماء فهو وحده الذي يعلم السمائيات وهو نزل من السماءليعلن الأسرار لنا. ولذلك ينبغي أن تقبل شهادته. نزل من السماء= هذه تساوي “الكلمة صار جسداً” والآية تبدأ بحرف الواو. إذاً هي راجعة لما سبقها، أي لا أحد يعلم السماويات إلا من نزل من السماء، أنا السماوي. وأيضاً موضوع الولادة من فوق لم يتم إلاّ بنزولي من السماء.