يو12: 25 من يحب نفسه يهلكها…
“مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ.” (يو12: 25)
+++
تفسير القمص أنطونيوس فكري
آية (25): “من يحب نفسه يهلكها ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية.”
نرى هنا التطبيق العملي. من يبغض نفسه= يموت عن شهوات العالم. هنا المسيح يرد على سؤال اليونانيين وعلى كل من يريد أن يرى يسوع. فمن يريد أن يرى يسوع فليصنع ما صنعه يسوع ويموت عن العالم. من يحب نفسه= النفس هنا تشير للحياة الطبيعية الحسية. أمّا الحياة الأبدية فهي الحياة الحقيقية، فمن يترك لذاته الحسية الخاطئة الآن يكون كمن يدفن نفسه وبذلك يرتفع ليستحق الحياة الأبدية، والحياة الأبدية هي المسيح والمعنى أن من يصلب الأنا تظهر حياة المسيح فيه. ولنبدأ بحفظ الوصية وإيثار الآخرين على أنفسنا ونقدم توبة حقيقية، فالتوبة هي دفن الجسد العتيق وإيثار الآخر هو دفن للأنا. وأمّا من لا يريد أن يكون كحبة الحنطة المدفونة ويمت فلن يأتي بثمر، من يرفض خدمة الآخرين ويرفض إعطاء الحب للآخرين ويحيا في عزلة وإنفرادية متلذذًا بحسياته الجسدية يكون كبذرة في المخازن بلا جمال ولا مجد معرضة للفساد والسوس محرومة من الحياة الأبدية. فلنحمل صليب يسوع حتى الموت. ومن يتمسك بالمادة لا يمكن أن يرتقي إلى فوق (السماويات). ومن يلتصق بشيء فانٍ يفنى معه (كملذات الدنيا). هذا هو طريق رؤية المسيح.
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي
“من يحب نفسه يهلكها،
ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية”. (25)
من يحب نفسه أكثر من حبه للسيد لمسيح، أو من يحب حياته الزمنية على حساب مجده الأبدي يهلك نفسه. أما من يهلك نفسه كحبة الحنطة، فيشارك السيد المسيح آلامه وموته، ممجدًا مخلصه، ينعم بالحياة الأبدية.
موت السيد المسيح غيَّر مفاهيم الموت ومعاييره كما غيَّر نظرتنا إلى الحياة، فأصبح الموت ضرورة لازمة للتمتع بالحياة المثمرة الكاملة. حيث لا موت فلا حياة صادقة. وحين يدفن الإنسان الأنا، يعلن المسيح “الحياة” ذاته فيه. وحينما يطلب الإنسان “ذاته” لا يجد المسيح له مكانًا فيه، فيفقد الإنسان مصدر حياته.
من يموت عن حياته القديمة ويُصلب عن العالم، تتجلى حياته الجديدة التي في المسيح يسوع ليختبر عربون الحياة العتيدة.
v إن سألت: وكيف من يحب نفسه يهلكها؟! أجبتك: من يتمم شهواتها الشنيعة، من يسمح لها خارج الواجب، ذاك هو الذي يحبها فيهلكها، ولهذا السبب توصينا الحكمة فتقول: “لا تكن تابعًا لشهواتك، بل عاصيًا أهواءك. فإنك إن أبحت لنفسك الرضى بالشهوة جعلتك شماتة لاعدائك” (يشوع بن سيراخ 18: 30، 31)، لأن الشهوات تحجز النفس عن الطريق المؤدية إلى الفضيلة.
وقوله “ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية”؛ إن قلت: وما معنى “ومن يبغض نفسه“؟ أجبتك: من لا يخضع لها، ولا يطعها متى أمرته بفعل الأفعال الضارة.
لم يقل: “من لا يخضع لها”، لكنه قال: “ومن يبغض نفسه”، لأنه كما أننا لا نحتمل أن نسمع صوت الذين نبغضهم، ولا أن نبصر وجوههم، كذلك يجب علينا أن نرجع عن أنفسنا بشدةٍ إذا أمرتنا بمخالفة وصايا الله.
v إن كنت تحب، فلتكن مستعدًا أن تُفقد. إن أردت أن تقتني الحياة في المسيح، لا تخف من الموت من أجل المسيح.
v بالتأكيد إنه إعلان عميق وغريب عن قياس حب الإنسان لحياته الذي يقوده إلى تدميرها، وبغضه لها الذي يضمن حفظها! إن كنت تحب حياتك بطريقة خاطئة بالحقيقة أنت تبغضها، أما إن كنت تحبها بطريقة صالحة فإنك فيما أنت تبغضها بالحق تحبها. يا لسعادة الذين يبغضون حياتهم فيحفظونها، فلا يسبب حبهم دمارًا لها.
تفسير القمص متى المسكين
25:12 مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ.
هنا التطبيق على المستوى الأعلى، إذ نحن لسنا بصدد موت طبيعي ولا أرض طبيعية ولا حياة طبيعية ولا ثمر طبيعي، ولكن التطبيق على الطبيعة فقط نقلنا إلى المستوى الروحي الأعلى.
وهذا هو قانون الحياة المسيحية، فكل ارتقاء إلى مستوى أعلى يحتاج أو يتم على أساس خسارة المستوى الأقل: «إن كنتم قد سمعتموه، وعُلمتم فيه، كما هو حق في يسوع (الموت الطبيعي بالجسد)، أن تخلعوا (الموت أو الإماتة للنفس)، من جهة التصرف السابق، الإنسان العتيق الفاسد (أهواء وشهوات النفس) بحسب شهوات الغرور، وتتجددوا بروح ذهنكم، وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله (الحياة الأعلى) في البر وقداسة الحق» (أف21:4-23). وهذا هو عين مثل حبة الحنطة، وانما على المسترى الأعلى. ويشرحه القديس بولس الرسول عملياً: «لكن ما كان لي ربحاً (فريسي ومعلم إسرائيل), فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة. بل إني أحسب كل شيء أيضأ خسارة، من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي, الذي من أجله خسرت كل الأشياء، وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح» (في7:3-8). وواضح هنا أن الربح الروحي هو على أساس الخسارة المادية والمعنوية، والخسارة أصابت الذات والربح هو الحصول على المسيح عوض الذات: «فأحيا، لا أنا، بل المسيح يحيا في.» (غل20:2)
وهكذا، فإن التضحية بما هو أقل، مهما كان شهيا ومرغوباً ومريحاً لعظمة الذات، يفتح الطريق إلى بلوغ ما هو أعظم بكثير بالنسبة لروح الإنسان وحياته الأبدية.
كذلك, فإن بذل الذات واخضاعها لمطالب الحياة الروحية، يعوض بالربح الذي يفوق البذل، وهو ربح المسيح؛ فالمسيح يحل محل الذات. كذلك أيضاً, فإن قبول الموت الإرادي، أي الإماتة، والإماتة تصيب كل ما هو قابل للفناء, يفتح باب الحياة الأبدية خطوة بخطوة.
وباختصار، فإن الذي يلتصق بما هو فان، يفنى معه؛ وكل من يلتصق بالحياة يمتلىء بها.
وهكذا كل طماع يأخذ ويخزن ويضيف إلى ذاته من مسرات الدنيا وأمجادها، يُحطم ويُهلك ذاته، بعنى أنه يجعلها بلا قيمة بالنسبة للوجود الروحي ومسراته. وكل جاحد لمشتهيات ومسرات وأمجاد الذات، تصبح ذاته نفسها هي السلم الذي يصعد به إلى السماء.
هنا المسيح على ضوء سؤال اليونانيين الذين يطلبون المجيء إليه لرؤيه، يجيب ويوضح كيفية المجيء إليه؛ فرؤية المسيح ليست بالسهولة التي يراها هؤلاء اليونانيون، أو يراها الحجاج الذين يذهبون إلى أورشليم أو الهيكل أو الجبل المقدس ليروا الله ويجتمعوا إليه: «قال لها يسوع: يا امرأة صدقيني، إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للأب … ولكن تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيوي يسجدون للآب بالروح والحق» (يو21:4-23)
ولكي يكون السجود لله بالروح, يتحتم أن يسبقه إخضاع واماتة عن العالم للجسد. وحبة الحنطة هي هنا النفس, والأرض هي هنا العالم، والثمر هو هنا الحياة الأبدية.
والملاحظ في هذه الآية أن المسيح يضع المحبة الخاطئة في مقابل البغضة الممدوحة بالنسبة للذات. ولو رجعنا إلى المحبة الخاطئة في الإنجيل نجدها محصورة في الخمسة الاتجاهات أو المجالات التي تؤدي إلى الهلاك:
1- محبة الظلمة 2- محبة العالم 3- محبة المجد بين الناس 4- محبة الجسد 5- محبة المال
وهذه الخمسة هي المداخل المتوازية لمملكة الشر أو الشيطان. والانحياز لأي اتجاه أو مجال من هذه المجالات يظهر عدم رغبة في محبة المسيح والله.
1- والظلمة, هي الضد لـ «نور» الكلمة: «وهذه هى الدينونة إن النور قد جاء إلى العالم, وأحب الناس الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة.» (يو19:3)
2- والعالم هو الضد للمسيح ولله: «مملكتي ليست من هذا العالم» (يو26:18)، «محبة العالم عداوة لله.» (يع4:4)
3- ومجد الناس, هو الضد لمجد الله. «كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجداً بعضكم من بعض. والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه.» (يو44:5)
4- والجسد هو ضد لله: «لأن اهتمام الجسد هو موت … هو عداوة لله.» (رو6:8-7)
5- والمال, هو ضد الإيمان بالله: «لأن محبة المال أصل لكل الشرور، الذي إذ ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان.» (1تى10:6)
فإن كان موت المسيح حتمياً، للحصول لنا عل القيامة والحياة الأبدية، فلا مفر من أن يكون الموت الإرادي حتمياً لنا (شركة الموت مع المسيح)، لنحمل ونشترك في القيامة والحياة الأبدية.