تفسير رسالة رومية اصحاح 3 للقديس يوحنا ذهبي الفم
تفسير رومية – الإصحاح الثالث
العظة السابعة ج2 – رو3: 1-8
” إذا ما هو فضل اليهودى أو ما هو نفع الختان؟” (رو۱:۳)
قال هذا لأن اليهودي تنصل من كل شيء، من السمع، والتعليم، وتبعيته للجنس اليهودي، ومن الختان، ومن كل الأمور الأخرى، وذلك لأنه كان يسلك حسب الظاهر. ويتضح هذا من خلال قول الرسول بولس بإن “اليهودي في الظاهر ليس يهوديا .. بل اليهودي في الخفاء هو اليهودي” ويرى فيما بعد أن هناك تعارض ما ينشأ، ويتوقف عنده. لكن ما هو هذا التعارض؟ يتمثل في أن هذه الأمور لا تفيد مطلقا، فلماذا دعيوا الأمم، ولأي سبب أعطى الختان؟ إذا فماذا يفعل وكيف يجد حلاً لهذا التعارض؟ إن الحل يكمن في الأمور التي سبق الاشارة إليها. فهو لم يمدحهم أو يثني عليهم، لكنه تكلم عن احسانات الله، وليس عن مفاخرهم أو مآثرهم، لأنه أن يدعى أحد يهوديا ويعرف إرادة الله ويميز الأمور المتخالفة، فإن هذا لا يرجع لإمكانيات خاصة به، بل إلى نعمة الله، الأمر الذي أشار إليه النبي متهما هؤلاء اليهود بقوله: ” لم يصنع هكذا باحدى الأمم. وأحكامه لم يعرفوها “. ويقول موسى أيضا “لأنه من هو من جميع البشر الذي سمع صوت الله الحي يتكلم من وسط النار مثلنا وعاش . هذا فعله ( القديس بولس) هنا أيضا.
وبالمثل عندما تكلم عن الختان، فهو لم يقل إن الختان لا يصبح مفيداً على نحو مطلق بدون حياة مستقيمة، بل يقول إن فائدة الختان تظهر عندما يقترن بأسلوب حياة نقية، مظهرا نفس الشيء ولكن بصورة هادئة ونغمة أكثر رقة، وأيضا يقول “إن كنت متعديا الناموس ” هنا لم يقل أيها المختتن إن الختان لا ينفعك بشيء، ولكنه قال ” فقد صار ختانك غرلة”. وبعد هذا أيضا يقول “ستدينك الغرلة” وليس الختان، ولكنها تدينك أنت ” المتعدى الناموس”. إذن فهو ينظر لوصايا الناموس نظرة تقدير ويوجه هذا الكلام لليهود، هكذا فعل هنا أيضا. فقد وضع اليهودي في مواجهة ، نفسه قائلا مع “إذا ما هو فضل اليهودى أو ما هو نفع الختان؟ ” يقول:
” إن الفضل كثير على كل وجه أما أولأ فلأنهم استأمنوا على أقوال الله ” (رو۲:۳).
هل اتضح لك ما تكلمت عنه سابقا، وكيف أنه لا يعدد أبدا المفاخر والمآثر الخاصة بهم، لكنه يذكر احسانات الله؟ بالإضافة إلى هذا ماذا يقصد بكلمة “أستأمنوا”؟ يقصد أن هؤلاء أخذوا الناموس، وأن الله | اعتبرهم مستحقين كي يستأمنهم على الوصايا السمائية . إننى أعرف بالطبع أن عبارة “الأمانة” يرجعها البعض إلى أمانة اليهود أنفسهم لا إلى الناموس عينه، وهذا يعني أن أقوال الله غير أمينة. إلا أن الكلام اللاحق لا يجعلنا نعتقد في ذلك. أولاً لأنه قال هذه الأمور بهدف إدانتهم، ولكي يبرهن على أنهم تمتعوا بإحسانات جزيلة من قبل الله، وعلى الرغم من ذلك فقد أظهروا جحودا كبيرا، وقد أظهروا هذا الجحود فيما بعد، ويتضح هذا من الكلام اللاحق، حيث أضاف “فماذا إن كان قوما لم يكونوا أمناء “.
ولكن إذا كانوا قد أظهروا عدم إيمان، فكيف يدعى البعض، أنهم استأمنوا على أقوال الله؟ ماذا يقصد إذا؟ يقصد أن الله استأمن هؤلاء على هذه الأقوال، وليس أن هؤلاء قد آمنوا بهذه الأقوال. لأنه كيف يمكن تبرير الكلام اللاحق؟ لأنه أضاف:
” فماذا إن كان قوم لم يكونوا أمناء أفلعل عدم أمانتهم يبطل أمانة الله. حاشا ” (رو۳:۳).
إذن ما قد استأمنوا عليه هو الذي يعلن عن إحسانات الله، أرجو أن ثلاحظ رؤية الرسول بولس هنا، حيث إن إدانتهم لا تأتى منه هو، بل من المخالفة (أي مخالفة الناموس). إنه يتحدث كما لو كان يسألك: ” هل ستقول وما هو نفع الختان، إن كانوا لم يستخدموه (الختان) كما ينبغي، وإن كانوا استأمنوا على الناموس وأظهروا عدم إيمان “؟ ومع أنه في البداية لم يوجه لهم إدانة قاسية، إلا أنه بعد ذلك وجه كل الإدانات لهؤلاء اليهود ، فقد أراد أن ينأى بالله عن هذه الإدانات.
ثم لماذا تدينهم بأنهم أظهروا عدم إيمان؟ وأي علاقة تربط بين هذا الموقف وبين الله؟ وهل جحود أولئك الذين نالوا إحسانات من الله، يبطل إحسان الله ويجعل الكرامة تفقد؟ هذا ما يعنيه بقوله “أفلعل عدم أمانتهم يبطل أمانة الله؟”. مثل هذا الفكر يعد أمرا مستبعدا. مثلما لو أن أحد قال أنا أكرمت فلانا، ولكنه إذا لم يقبل الكرامة، فهذا لا يشكل إدانة بالنسبة لي، ولا يلاشي محبتي للناس، بل الشيء الوحيد الذي يبرهن عليه هو عدم تقديره للمحبة وعدم إحساسه بها. لكن الرسول بولس لم يقل هذا فقط، بل قال ما هو أكثر، بمعنى أن عدم أمانتهم هذه ليست فقط لا تُنسب إلى الله، لكنها تظهر عظم كرامته ومحبته للبشر، عندما يؤكد على أنه يكرم ذاك الذي يرغب في أن يزدرى به.
5 ـ أرأيت كيف جعلهم مسئولين عن تلك المخالفات التي كانوا يفتخرون بها؟ وعلى الرغم من أن الله تعامل مع هؤلاء بقدر كبير من الكرامة، إلا أنهم إزدروا بالذي أكرمهم من خلال نفس الأشياء التي كرموا بها، ثم أصبح من الواضح بعد ذلك أن الجميع أظهروا عدم أمانة لأنه قال ” فماذا إن كان قوما لم يكونوا أمناء”. ولكي لا يبدو أيضا أنه يوجه لهم إدانة شديدة ويظهر كعدو لهم، يشير إلى الحقيقة الواضحة كرؤية ونتيجة قائلاً:
” ليكن الله صادقاً وكل إنسان كاذبا ” (رو4:3).
بيد أن الرسول بولس بقوله هذا كان يعني الآتي: أنه لا يقصد أن البعض أظهروا عدم إيمان، بل أن الجميع قد أظهروا في الواقع عدم أمانة. يبرز العمل الحقيقى كنتيجة، لكي يبدو مرنا وحتى لا يكون كلامه وهو هنا موضع شك.
لأنه هكذا يتبرر الله بالحقيقة. ماذا تعني كلمة يتبرر؟ تعنى أننا لو نظرنا بحكمة وفحص إلى الأعمال التي صنعها الله مع اليهود في مقابل أعمالهم أمامه، فلابد أن يتضح عندئذ أن الله صادق وبار تماما وبشكل مطلق . وبعدما أوضح هذا بجلاء ـ من خلال كل ما أورده سابقا – استعرض كلمات النبي التي تتفق مع ما قاله، لأن النبي يقول “لكي تتبرر في أقوالك وتغلب متى حوكمت”[مز51: 4]. أي أن الله قدم كل ما لديه، ومع ذلك فإن هؤلاء لم يتغيروا إلى الأفضل. ثم بعد ذلك يعرض أيضا مخالفة أخرى تتضح مما سبق عرضه إذ يقول:
” ولكن إن كان إثمنا يبين بر الله فماذا نقول؟ ألعل الله الذي يجلب الغضب ظالم. أتكلم بحسب الإنسان. حاشا فكيف يدين الله العالم إذ ذاك ” (رو3: 5و6).
بعد ذلك يجد سبب حلاً للأمور التي تبدو متناقضة. ولأن هذا غير واضح، أرى أن هناك احتياج أن أعرض ما قاله الرسول بولس بصورة أكثر وضوحا كالآتي: ما معنى الكلمات التي قالها؟ معناها أن الله كرم اليهود ، أما هم فقد ازدروا به. وهذا يكشف عن محبته الكبيرة للبشر، وهذا قد ظهر بمنتهى الوضوح، لأنه كرمهم على الرغم من أنهم ازدروا به . وبناء عليه يقول (أي اليهودي) لقد غلب الله وظهر بره مشرقا، لأننا ازدرینا به وظلمناه فلأى أدان إذا طالما أنا الذي أظهرت صدق الله من خلال الأمور التي احتقرتها؟ كيف يشرح الرسول بولس هذا؟ يشرحه بطريقة أخرى، أي بطريقة غير معتادة . فلو إنك صرت سببا لاستعلان صدق الله، ثم أدنت فهذا يعد ظلما. ولكن لو أن الله ليس بظالم، وأنت في موضع دينونة، فأنت لا تصير أبدا سببا لغلبته. وعليك أن تلحظ ورع الرسول بولس، لأنه بعدما قال ” العل الله الذي يجلب الغضب ظالم ” أضاف “أتكلم بحسب الإنسان”، لأن دينونة الله العادلة تفوق بكثير تلك الأمور التي تبدوا لنا أنها عادلة. ثم كرر نفس الكلام أيضا للمرة الثانية لأنه لم يكن واضحا، وذلك بقوله:
” فإنه إن كان صدق الله قد ازداد بكذبى لمجده فلماذا أدان أنا بعد كخاطئ ” (رو3: 7).
إذن فلو كان الله (كما يقول القديس بولس) هو محبا للبشر وبارا وصالحا ، ا، وهذا واضح من خلال إعلان تلك الأمور التي لم توقرها أنت، فلا ينبغى فقط ألا تُدان، بل يجب أيضا أن تتمتع بالإحسان . ولكن لو أن صدق الله قد ازداد بكذبي، لكان هناك تناقض، لأن هذا يعني أن الأمور الحسنة تأتي من الأمور السيئة. وأن الأمور السيئة هي السبب في ظهور الأمور الحسنة، وهذا ما قاله الكثيرون، فالمهم في رأيهم أن يحدث أحد هذين الأمرين: إما أن يبدو الله ظالم عندما يدين، أو أن يغلب بسبب شرورنا ، وذلك عندما لا يعاقب، وكلا الأمرين غير معقول . لقد أظهر الرسول بولس نفسه هذا الأمر، مشيرا إلى المعلمين اليونانيين المبتدعين، معتبرا كيف أنه يكفي لإدانة هؤلاء، إظهار نوعية أو صفات أولئك الأشخاص الذين يقولون هذا الكلام. أيتهكمون علينا ويقولون لنفعل السيئات لكى تأتى الخيرات؟ من أجل ذلك فقد ذكر هذا الأمر بوضوح قائلاً الآتى:
” أما كما يفترى علينا وكما يزعم قوم أننا نقول لنفعل السيئات لكي تأتى الخيرات. الذين دينونتهم عادلة ” (8:3).
ولأن الرسول بولس قال: “حيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جدا” يتهكمون عليه، وبنية خبيثة، يحولون كلمته عن مسارها الصحيح، ويقولون إنه ينبغي أن نسعى نحو السيئات، لكي نتمتع بالخيرات. لكن القديس بولس لم يقل هذا. ولذلك فإنه وضح في موضع آخر ما يقصده، بقوله: “فماذا نقول أنبقى في الخطية لكي تكثر النعمة. حاشا “”””. وتحدث عن هذا السلوك المشين الذي كان يحدث في الأزمنة السابقة، وهو يذكره لا لكي يجعله عادة، فهذا الفكر يعتبر أمرا مستبعدا تماما، لأنه أكد فيما بعد بأننا “نحن الذين متنا عن الخطية كيف نعيش بعد فيها “[رو6: 2]
6 . يتضح مما سبق أنه كان سهلاً عليه أن يدين اليونانيين لأن حياتهم بالفعل كانت قد فسدت جدا. أما بالنسبة لليهود، فعلى الرغم من أن حياتهم كانت تتسم باللامبالاه كما اتضح، لكن كانت لديهم عدة دعائم يستندون إليها وهي: الناموس، والختان، وأن الله كلّمهم، وأنهم معلّمون للجميع، ولذلك فقد جردهم من كل هذه الأمور، وقد أفصح بأنهم سيدانون من جهة هذه الأمور التي ختم بها كلمته هنا. فلو كانوا لا يدانون، عندما يصنعون كل هذه الأمور المشينة، لكان من الممكن أن يقال هذا القول المجدف، أي “لنفعل السيئات لكى تأتي الخيرات “. ولأن هذا يعد جحودا ، وأن كل من يقول به سيدان كما سبق وأوضحه قائلاً: ” الذين دينونتهم عادلة ” فمن الواضح جدا أنهم سيدانون، فإذا كان من يقول: “لنفعل السيئات لكى تأتي الخيرات “، يكون مستحقا للدينونة، فبالأولى كثيرا، كل من يصنع هذا. وهم قد استحقوا الدينونة لأنهم قد أخطئوا بالفعل. إن الذي يدين ليس هو مجرد إنسان، حتى يوضع حكمه موضع الشك، ولكنه هو الله الذي يحكم على كل شيء بعدل. فلو أنهم بعدل يدانون فإنه من العبث أن ينسبوا إلينا هذا القول: “لنفعل السيئات لكى تأتي الخيرات “، تلك العبارة التي قالها أولئك الذين يتهكمون علينا. لأن الله خلق كل شيء بعناية كاملة ومازال يخلق لكى ينير طريقنا ويصححه من جميع الجوانب. إذن ينبغي ألا نبالي بهذا الكلام، لأننا بهذا سنتمكن من أن تبعد اليونانيين عن الخداع. ولكن إن كنا أتقياء بالكلام فقط، بينما بالعمل أشرار، فكيف سيكون موقفنا أمامهم؟ وبأي لغة سنحدثهم عن المبادئ المستقيمة؟ لأنهم سيقولون لكل واحد مئا، إذا كنت لم تتمكن من أن تتمم الأمور الصغيرة، فكيف تكون مستحقا لأن تعلم الأمور الكبيرة؟ أفأنت يا من لم تتعلم بعد أن الجشع يعد شرا كيف تعلم بالأمور السمائية؟ لكن هل تعرف أن الجشع شر؟ فإن كنت تعرف، فإن الجرم يكون أكبر لأنك مازلت تصر على الجشع على الرغم من معرفتك بأنه يعد شرا . ولماذا أتكلم عن اليوناني؟ السبب هو أن نواميسنا لا تسمح لنا أن نتمتع بهذه الجرأة، عندما تكون حياتنا فاسدة . إذ يقول الله للخاطئ “وأنت .. ألقيت كلامي خلفك”[مز50: 16]
ذات مرة أقتيد اليهود إلى السبي، وعندما اضطهدهم الفرس وأعطوا الفرصة أن يرنموا الترانيم الإلهية قالوا : ” كيف نرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة”[مز137: 4]
إذن فلو أنهم قد فقدوا الرغبة في أن يترنموا بكلام الله في بلد كان يتسم بالسلوك البربري، فبالأولى جدا ألا يسمح للنفس البربرية أن تترنم بكلام الله. لأن البربرية هي وصف للنفس المتقسية. فلو أن الناموس جعل الذين كانوا أسرى صامتين (لا يترنموا)، وقد صاروا عبيدا في بلد بربري ، فبالأولى كثيرا وهذا عدل، أن يستد أفواه أولئك الذين هم عبيدا للخطية ، الذين يحيون بطريقة شاذة.
وعلى الرغم من أنهم كانوا يملكون آلات موسيقية آنذاك، لأنه يقول: “علقنا أعوادنا” وذلك على الصفصاف الذي كان يوجد في هذا البلد (فارس)، لكنهم لكنهم لم يستطيعوا الترنم بالرغم من وجود هذه الآلات الموسيقية. وبناء عليه فنحن أيضا حتى ولو كان لدينا فماً ولساناً ـ وهي أعضاء للكلام ـ لا نستطيع أن نتكلم بجرأة إذا ما بقينا عبيدا للخطية، التي تعتبر أكثر قسوة من كل البربر. أخبرني ماذا ستقول لليوناني عندما تكون سارقا وطماعا؟ هل ستقول له ابتعد بعيدا عن عبادة الأوثان، واعرف الله جيدا ، ولا تقترب من الفضة ومن الذهب؟ فهو إن سمع منك هذا سيبتسم ساخراً ويقول، قل لنفسك هذه الأمور أولا؟ لأنه ليس هو نفس الأمر، أن يعبد اليوناني الأوثان، وأن يرتكب المسيحي نفس الخطية.
كيف سنتمكن أن تبعد الآخرين عن عبادة الأوثان، دون أن تبعد أنفسنا نحن عن هذه العبادة؟ لأننا نحن أقرب لنفوسنا منها للقريب. فعندما لا نستطيع أن تقنع أنفسنا، كيف سنتمكن من إقناع الآخرين؟ لأن ذاك الذي لا يدبر بيته حسنا، لن يستطيع أن يعتني بالكنيسة. وكيف يمكن لذاك الذي لا يستطيع أن يعتني بنفسه، أن يصحح مسيرة الآخرين؟ إذن لا تقل لي أنك لا تسجد لتمثال من ذهب، لكن برهن لي على أنك لا تصنع تلك الأمور التي تحركها شهوة الثروة. لأنه بالحقيقة توجد طرق مختلفة لعبادة الأوثان، فهناك واحد يعتبر الثروة ربا، وأخر يعتبر البطن إلها، بينما ثالث يدعو شهوة أخرى – أكثر رعبا من باقي الشهوات ـ إلها له. مع أنه لا يقدم ذبائح أبقار لهذه الآلهة كما يصنع اليونانيون . لكنك بهذا السلوك أنت تذبح نفسك، وهو الأمر الذي يعد مفزعا أكثر من أي شيء آخر. وإن كنت لا تركع ولا تسجد، إلا أنك تصنع كل شيء تأمرك به بطنك، وتحركك إليه شهوة الغنى، وتشتعل فيك نار الشهوة، وأنت تفعل كل هذا في خضوع وطاعة. لقد سلك اليونانيون طريق الإنحراف، لأنهم جعلوا الشهوات آلهة لهم، فدعوا الشهوة “أفروذيتي”، والغضب “آرى”، والثمالة “ديونيسيوس”[1]. ومع أنك لم تصنع لنفسك أوثانا، كما يصنع اليونانيون، لكنك تخضع برغبة جارفة لنفس الشهوات، جاعلاً أعضاء المسيح أعضاء زنا وأغرقت نفسك في تعديات أخرى. لذلك فإني أترجاكم، طالما أنكم قد فهمتم حجم الخطية وخطورتها، أن تتجنبوا عبادة الأوثان، لأن القديس بولس يطلق على الطمع عبادة الأوثان. ولكن ليس فقط الطمع في المال هو ما ينبغي تجنبه، بل أيضا الطمع في شهوة الزنا، وفي اقتناء الملابس، والمأكولات وكل الأمور الأخرى. لأننا سندان دينونة عظيمة، إن لم نخضع لناموس الرب. لأن “العبد الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته فيضرب كثيرا ” إذا لكي نتجنب هذا العقاب ولكي نصير نافعين للآخرين، ولأنفسنا ليتنا نقتلع كل شر من نفوسنا، ولنسلك بالفضيلة. لأننا بذلك سنتمتع بخيرات الدهر الآتي التي نترجاها جميعا، بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.
العظة الثامنة رو3: 9-31
” فماذا إذا أنحن أفضل (كيهود)؟ كلا البتة. لأننا قد شكونا أن اليهود واليونانيين أجمعين تحت الخطية. كما هو مكتوب أنه ليس بار ولا واحد. ليس من يفهم. ليس من يطلب الله. الجميع زاغوا وفسدوا معا. ليس من يعمل صلاحا ليس ولا واحد. حنجرتهم قبر مفتوح بألسنتهم قد مكروا. سم الأصلال تحت شفاهم. وفمهم مملوء لعنة ومرارة. أرجلهم سريعة إلى سفك الدم. في طرقهم اغتصاب وسحق وطريق السلام لم يعرفوه. ليس خوف الله قدام عيونهم” (رو3: 9-18).
1 ـ لقد اشتكى الرسول بولس على كل من اليونانيين، واليهود، فكان متوقعا أن يتكلم فيما بعد عن البر الذي يأتي من الإيمان. مادام الناموس الطبيعي لم ينفع، ولا الناموس المكتوب صنع شيئا أكثر، لكن كلاهما أضرا بأولئك الذين لم يستخدمونهما كما ينبغي، وأظهروا أنهم مستحقين لدينونة أكبر، إذن كان هناك احتياجا للخلاص الذي نناله نتيجة النعمة. ولكنه لا يخاطر بالحديث عن النعمة، لأنه ارتاب في شجاعة اليهود، ووجه كلمته مرة أخرى إليهم ليدينهم. فاستشهد أولاً بداود الذي قال هذا الكلام بإسهاب وأفاض فيه، الأمر الذي صنعه إشعياء أيضا ولكن في إيجاز . وهو بهذا قد وضع لجاما على أفواه هؤلاء اليهود، وذلك حتى لا يضل أحد من المستمعين أو يهجر الفضيلة أو يتشدق بالحديث عنها، مع أنه لا يمارسها ، لأنه سيكون قد أهين بالقدر الكافي من خلال الإدانات التي وجهها الأنبياء. لأن هناك ثلاث إدانات قد أوردها النبي في الحقيقة وهي:
1. أن الجميع قد فعلوا الشر،
2. وأنهم لم يمزجوا الصلاح بالشرور، لكنهم انشغلوا فقط بالشرور،
3. وقد صنعوا هذا بكل مغالاة. ثم بعد ذلك، ولكي لا يقولوا إن هذه الأمور لا تُقال لآخرين غير اليهود ، أضاف الرسول بولس:
” ونحن نعلم أن كل ما يقوله الناموس فهو يُكلم به الذين في الناموس” (رو19:3).
ولهذا فبعد إشعياء تحديدا ـ والذي بشهادة الجميع كان يتوجه (بكلامه) لهؤلاء اليهود ـ أضاف كلام داود النبي لكي يدلل على أنهما متفقان في ذات الأمر. لأنه يقول ما هي الحاجة لأن يدين النبي آخرين وقد أرسل من أجل إصلاحنا وتقويمنا؟ لأن الناموس لم يعط لآخرين، بل أعطي لكم . ولكن لماذا لم يقل الرسول بولس “ونحن نعلم” أن كل ما يقوله النبي، بل قال ” كل ما يقوله الناموس”؟ ذلك لأنه قد اعتاد أن يطلق كلمة الناموس على العهد كله. فهو في موضع آخر يقول: ” ألستم تسمعون الناموس فإنه مكتوب أنه كان لإبراهيم ابنان ‘. وهنا يسمي المزامير ناموسا، قائلاً:
“ونحن نعلم أن كل ما يقوله الناموس فهو يكلم به الذين في الناموس “
بعد ذلك يبين كيف أن هذه الأمور لم ثقل من أجل الإدانة فقط، بل قيلت لكي يمهد الناموس الطريق إلى الإيمان أيضا. إن توافق العهد القديم مع العهد الجديد هو أمر مهم، فقد وجهت الإدانات والإنتقادات، لكي يفتح باب الإيمان ببهاء أمام أولئك الذين يسمعون . أما اليهود فقد ظلوا وفسدوا ، بسبب إفتخارهم الأمر الذي أوضحه فيما بعد قائلاً: “لأنهم إذ كانوا يجهلون بر الله ويطلبون أن يثبتوا بر أنفسهم لم يخضعوا لبر الله”[رو10: 3].
لقد حجم الناموس والنبي ـ منذ البداية – أفكار اليهود، ووضعا ضوابط لتعاليمهم، حتى أنهم عندما يفهمون خطاياهم، ويهجروا حماقاتهم، ويدركون بأنهم معرضين للخطر، عندئذ سيركضون بشوق جارف نحو ذاك الذي يهبهم غفران الخطايا ، ويقبلون النعمة من خلال إيمانهم. هذا ما يقصده الرسول بولس هنا بقوله:
“ونحن نعلم أن كل ما يقوله الناموس فهو يكلم به الذين في الناموس لكى يستد كل فم ويصير كل العالم تحت قصاص من الله “. هنا يظهر كيف أنهم مجردين من الأعمال الصالحة الظاهرة، وأنهم يفتخرون بالكلام فقط، وبأسلوب عديم الحياء، ولهذا فقد استخدم الكلمة على سبيل الحصر قائلاً: ” لكي يستد كل فم ” مظهرا عدم حياء أولئك الذين يفاخرون ويتباهون بهذه الطريقة، وبذلك يستد كل فم بالحقيقة، لقد انطلق لسانهم، تماما مثل نهر جارف، ولكن النبي قد سده ، إلا أنه عندما يقول الرسول بولس “لكي يستد كل فم ” فهو يعني أنهم أخطأوا لكي يستد فمهم، ولكنهم بكتوا ـ لأنهم أرادوا أن يثبتوا بر أنفسهم ـ حتى لا يتجاهلوا هذا الأمر عندما يصنعون هذه الخطية تحديدا.
يقول: “يصير كل العالم تحت قصاص من الله ” وهو هنا لم يشر إلى اليهودي فقط، بل إلى كل العالم. لكنه عندما يقول ” لكي يستد كل فم ” فهو يقصد اليهود فقط، وإن لم يقل هذا بوضوح، حتى لا يكون قاسيا في كلامه، بينما ” أن يصير كل العالم تحت قصاص من الله” فهذا يشمل اليهود واليونانيين معاً.
وهذا ليس أمرا هينا لكبح افتخارهم، وذلك عندما لا يكون لديهم ما يميزهم عن اليونانيين في هذه الحالة، أما في موضوع الخلاص فليس لأحد فضل، إذ قدم مجانا، والذي يدافع عن نفسه ـ هو بصفة خاصة – الذي لا يستطيع أن يعتمد على قدراته من أجل الدفاع (عن نفسه)، لكنه يحتاج لمساعدة آخر، مثلما يحدث في كل ما يعنينا، طالما أننا فاقدين لتلك الأمور التي تساهم في خلاصنا.
” لأنه بأعمال الناموس كل ذي جسد لا يتبرر أمامه لأن بالناموس معرفة الخطية”(رو3: 20)
ومرة أخرى يحذر من الناموس، لكن في حدود، لأن الكلام الذي سبق الإشارة إليه لم يكن لإدانة الناموس، بل كان القصد منه، التركيز على لا مبالاة اليهود . لأنه حاول هنا أن يظهر كيف أنه (أي الناموس) ضعيفا جدا ، لأن حديثه كان متجها إلى الكلام عن الإيمان. إذن لو أنك تفتخر بالناموس، فإن هذا يخجلك بالأكثر. فالناموس يكشف خطاياك الدنيئة يقول: ” .. لم أعرف الخطية إلا بالناموس… لأن بدون الناموس الخطية ميتة”، لم يتكلم هنا بقسوة شديدة، لكنه يعود مرة أخرى ليتكلم بلهجة هادئة “لأن بالناموس معرفة الخطية”، وعليه فإن العقاب سيكون أكبر، ولكن لليهود. لأن الناموس قد عرفك بالخطية، بيد أنه يمكنك بعد ذلك أن تتجنبها، وطالما أنك لا تتجنبها، فإنك تجلب على نفسك الدينونة، فالناموس أصبح بالنسبة لك سببا لدينونة أكبر.
٢ ـ وعندما زاد من الترهيب والتخويف، أضاف تلك الأمور المتعلقة بالنعمة بعد أن جعل غفران الخطايا أمرا مرغوبا فيه جدا، بقوله:
” وأما الآن فقد ظهر بر الله بدون الناموس ” (رو۲۱:۳).
ما يقوله هنا يعتبر كلاما عظيما ، ولكنه يحتاج لدليل قوى. فلو أن أولئك الذين عاشوا تحت وصايا الناموس، ليس فقط لم يتجنبوا الدينونة، بل بالأكثر قد عاشوا في معاناه، فكيف يكون ممكنا – بدون الناموس – ليس فقط أن يتجنب المرء الدينونة بل أن يتبرر أيضا؟ إن الرسول بولس هنا يتحدث عن كل من التبرير، وتحقيق الخيرات بدون ناموس . ولهذا لم يتكلم عن البر فقط، لكنه تكلم عن “بر الله” مظهرا، من حيث إستحقاق الشخص، أن العطية أكبر، والوعد أقوى، لأن كل شيء هو ممكن لدى الله . ولم يقل أعطي، بل “ظهر” لكي ينزع عن هذا “البر” وصفه بأنه جديد ، لأن هذا الذي ظهر، أخذ يظهر باعتبار أن له وجود من قبل، ولكنه لم يكن معلنًا.
ليس هذا فقط، بل أن الكلام اللاحق يظهر أن هذا البر ليس جديدا. لأنه، بعدما قال: ” ظهر” أضاف ” مشهودا له من الناموس والأنبياء” إذن لا تضطرب، لأنه أعطي الآن، ولا تقلق، كما لو كان هذا البر جديدا أو غريبا، لأن الناموس والأنبياء تنبأوا عن أنه يأتي من الله. وقد أوضح كل شيء من خلال هذا الدليل، فعندما تحدث الرسول بولس سابقا عن إنجيل المسيح، باعتبار أن فيه ” معلن بر الله”، فقد أشار إلى إبراهيم بقوله: “البار بالإيمان يحيا ” . أما عن الأمور اللاحقة فإن إبراهيم، وداود، قد سبقا وتكلما عنها. لأنه بالحقيقة كان كلامهما تجاه اليهود بإسهاب، الأول كان بطريركا ونبيا، بينما الآخر كان ملكا ونبيا، وقد أعطيت الوعود لهذين الشخصين.
ولهذا فإن القديس متى البشير يبدأ إنجيله بهذين الشخصين أولاً، ثم بعد ذلك يذكر الأجداد. لأنه عندما قال: ” كتاب ميلاد يسوع المسيح ” لم يذكر بعد ذلك مباشرة إبراهيم واسحق ويعقوب معا، ولكنه ذكر داود مع إبراهيم . والأهم أنه وضع داود قبل إبراهيم، قائلاً: “أين داود ابن إبراهيم ” ثم بعد ذلك بدأ يذكر اسحق ويعقوب ومن جاءوا بعدهما. لذلك فإن الرسول بولس هنا يذكر هؤلاء ويقول إن: “بر الله .. مشهودا له من الناموس والأنبياء ” لكى لا يقول أحد، وكيف نخلص بدون (الناموس والأنبياء) باعتبار أنهما يساعدان على نوال الخلاص؟ ومع هذا فنحن الذين نساهم كثيرا في هذا ، ولكن بالإيمان. ثم أضاف:
” بر الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون ” (رو۲۲:۳).
وهنا أيضا ينزعج اليهودي، إذ أنه لا يتميز بشيء عن الآخرين، فهو مثله مثل سائر البشر الذين في العالم. ولأن الرسول لا يشعر بهذا التميز فهو يحاصره بالتخويف مرة أخرى، مضيفا:
” لأنه لا فرق إذ الجميع أخطأوا ” (رو23:3).
لا تقل لي إذا، إن هذا يوناني، وآخر سكيثي، وغيره من أهل ثراكي، لأن الجميع يرتكبون نفس الخطايا. أما أنت فعلى الرغم من أنك قد أخذت الناموس فإن شيئا واحدا تعلمته من الناموس، هو معرفة الخطية وليس تجنبها، ولكي لا يقولوا بعد ذلك رغم أننا أخطأنا، فلسنا مثل هؤلاء (الأمم)، فقد أضاف ” وأعوزهم مجد الله”. وعليه فلو أنك لم تخطئ مثل الآخرين، فإنه يعوزك “مجد الله” بنفس القدر، لأنك واحد من هؤلاء الذين عاندوا الله . إلا أن ذاك الذي عاند، ليس من بين أولئك الذين نالوا “المجد”، بل ينتمي لأولئك الجاحدين. وكأن بولس يقول إني قد قلت لكم هذه الأمور، لا لكي أقودكم لليأس، بل لكي أظهر محبة الله الفائقة للبشر. ولهذا أضاف:
” متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السابقة بإمهال الله ” (رو3: 24-25).
لاحظ كيف أنه يدلل على ما سبق وأشار إليه.
أولاً: من خلال استحقاق الشخص. لأن الذي يهب البر ليس إنسانا لكنه الله الذي يستطيع كل شيء، فالرسول بولس يصف هذا البر بأنه “برالله “،
ثانيا: من خلال شهادة الناموس والأنبياء. إذن لا تخاف عندما تسمع قوله “بدون الناموس”، لأن هذا ما يعلنه الناموس نفسه.
ثالثا: من خلال الذبائح التي صارت في العهد القديم. ولهذا قال: “بدمه”، مذكرا هؤلاء بالخراف والأبقار (الذبائح).
إذن فلو أن الذبائح الحيوانية تمنح غفرانا للخطايا كما يقول الرسول بولس، فبالأولى كثيرا جدا فإن دم المسيح يهب هذا الغفران، وهو لم يقل بالعتق، لكن “بالفداء”، كما لو كان الأمر يتعلق بعدم العودة مرة أخرى لذات العبودية. ولذلك فقد دعي المسيح “كفارة”، لكى يبين أنه إذا كان المثال يحمل هذا القدر من القوة، فبالأولى كثيرا ستُظهر الحقيقة نفس الشيء وأكثر، موضحا مرة أخرى أن هذا ليس بالأمر الجديد ، ولا أنه يسمع لأول مرة، وهذا يتضح من قوله: ” قدمه الله” مظهرا أن هذا الإنجاز يتعلق “بالآب”، ونفس الأمر يذكره على أنه يتعلق “بالابن”. بالتأكيد الآب قدمه (أي قدم الابن)، لكن المسيح تمم كل شيء بدمه.
” لإظهار بره” ماذا يعني ” إظهار البر”؟ إظهار البرمثل إظهار الغنى، وهذا يعني ألا يكون الله وحده هو الغني، بل أن هذا الغنى هو لآخرين أيضا، لكي يجعلهم أغنياء، ومثل إظهار الحياة، والذي يعني أنه ليس فقط هو الحياة، لكنه أيضا يقيم الأموات، ومثل إظهار القوة في الا يكون ذاك هو القوى وحده، لكنه يجعل الضعفاء أقوياءا. هكذا فإن إظهار البرهو، الا يكون ذاك هو البار فقط، لكنه يجعل أولئك الذين فسدوا بالخطية أبرارا ، على الفور، ولتفسير ذلك أضاف شارحا معنى الإظهار:
” لأظهار بره في الزمان الحاضر ليكون بار ويبرر من هو من الإيمان بيسوع ” (رو26:3).
3 ـ لا تشك إذا في أن البريأتي من الإيمان وليس من الأعمال (أي أعمال الناموس)، ولا تخشى الإقتراب من “بر الله”، فإن صلاحه مضاعف، ولأنه ميسورا، فإن الجميع يستطيعوا الوصول إليه. ولا تشعر بالعار ولا تخجل، فإذا كان المسيح قد ظهر ليهبك بره، فيمكنك أن تعلن هذا وأن تفتخر وتتباهى، فكيف تتوارى وتخفي وجهك من هذا الذي به تمجد سيدك؟ وإذا كان قد سما بالمستمع، بقوله إن هذه الأمور التي حدثت هي لإظهار بر الله، فإنه يحث – مرة أخرى من خلال التخويف ذاك الذي يتردد ويتجنب الاقتراب، قائلاً: “من أجل الصفح عن الخطايا السالفة” أرأيت كيف أنه يذكرهم دائما بالخطايا؟ لأنه قال سابقا “لأن بالناموس معرفة الخطية ” ثم بعد هذا يقول ” الجميع أخطأوا”، بينما هنا يوضح الأمر أكثر، لكنه لم يقل من أجل الخطايا ، بل “من أجل الصفح ” بمعنى “الصفح” عنالخطايا التي تقود إلى الموت، لأن رجاء شفاء النفس هو في الله، تماما مثل الجسد المقعد الذي احتاج إلى عون من الله، هكذا أيضا النفس التي ماتت، والسبب الذي يذكره دائما يثير شعورا بالخوف، هو أن الإدانة ستكون أعظم. وما هي هذه الإدانة؟ هي تلك المرتبطة بالصفح الذي صار بإمهال الله. لأنه يقول لا يمكنكم أن تزعموا أنكم لم تتمتعوا بإمهال الله وصلاحه ” في الزمان الحاضر “، ومرة أخرى يظهر الإمهال الكثير ومحبه الله الفائقة للبشر ، لأنه يقول عندما يئسينا، وكان زمن الدينونة، وازدادت الشرور وتفاقمت، تجلت قدرة الله عندئذ، لكي تعلم مقدار فيض البر الإلهى، وهذا الأمر لم يكن له أن يثير الدهشة والإعجاب، إن كان قد حدث من البداية، مقارنة بظهوره الآن حيث تأكد الشفاء الكامل (بالنعمة).
” فأين الافتخار. قد انتفى. بأى ناموس. أبناموس الأعمال كلا بل بناموس الإيمان ” (رو27:3).
عظيم هو جهاد الرسول بولس، فقد أراد أن يبرهن على أن الإيمان قد حقق الكثير، وهو ما لم يستطيع الناموس أن يتخيله أبدا. إذن بعدما قال إن الله يبرر الإنسان من جهة إيمانه، ينشغل مرة أخرى بالناموس، ولم يقل أين هي إنجازات اليهود ، أين هي أعمالهم البارة، بل قال ” أين الافتخار”، مبيناً في كل موضع أنهم يفتخرون بالكلام فقط، كما لو كانوا يمتلكون شيئا أكثر من الآخرين، على الرغم من أنهم لم يقدموا أي عمل . وبعدما قال ” أين الافتخار”؟ لم يقل اختفى وانتهى، بل قال “انتفى”، الأمر الذي يبين عدم موافقة أو ملائمة الوقت، لأنه لا يوجد زمن بعد. تماما مثلما يأتي وقت الدينونة، فإن أولئك الذين يرغبون في التوبة، لن يكون لديهم وقتا . هكذا أيضا عندما يصدر الحكم فيما بعد وعندما يتعلق الأمر بفنائهم جميعا، ثم يأتي ذاك الذي يزيل كل هذه الأمور المخيفة بنعمته، فإن أولئك لن يكون لديهم وقتا للتوبة أو تقديم مبررات وأعذار.
إذن لو كان يحق لهم أن يدعوا هذا، لكان ينبغي عليهم أن يفعلوا ذلك قبل مجيء المسيح . لكن عندما أتى ذاك الذي يخلص بالإيمان، اختفى فيما بعد زمن الإفتخار بالأعمال (أي أعمال الناموس). ولأن الجميع مدانون (لأنهم زاغوا وفسدوا)، لهذا فقد خلصهم بالنعمة. ولذلك فقد أتى الآن حتى لا يقولوا إنه كان ممكنا أن يخلصوا بالناموس وبأتعابهم وإمكانياتهم لو أنه أتى من البداية. ملجما سفاهاتهم أو عدم حيائهم هذا. وقد انتظر زمنا طويلاً، حتى بعدما اتضح جليا من خلال كل الشواهد، أنهم لا يستطيعون أن يساعدوا أنفسهم، أتى في ذلك الزمان لكي يخلصهم بنعمته. ولهذا بعدما قال سابقاً “لإظهار بره” أضاف ” في الزمان الحاضر”. لكن لو أن البعض يجادلون، فإنهم يشبهون تماما شخصا سقط في زلات كثيرة ولم يستطع أن يقدم تبرير عما فعل أمام المحكمة، ثم بعدما أدين وكان ينتظر تنفيذ العقوبة، تُرك حرا بواسطة عفو ملكي. فإذا تفاخر بعد هذا العفو وقال إنه لم يصنع أي خطأ أو زلة، فسيكون عديم الحياء.
إذن كان من الممكن أن يستعلن الله الكلمة قبل زمن النعمة، ولكن بعدما أتي، فلا يحق لأحد أن يفتخر . هذا بالضبط ما حدث بالنسبة لليهود. لأن إعتمادهم كان على أنفسهم، ولذلك كانوا مدانين، وقد أتى كلمة الله لكي يقضي على افتخارهم بحضوره . لأن ذاك الذي يقول إنه معلم الأطفال ويفتخر بالناموس، ويدعو نفسه مهذب الأغبياء، مثل هذا يكون في احتياج لمعلم ومخلص، وبذلك لا يكون لديه مبرر للافتخار. ومادام الرسول بولس قد بين أن الختان قد صار غرلة قبل مجيء المسيح، فبالأولى كثيرا الآن، لأنه قد أستبعد من العهدين . وبعدما قال “انتفى” أوضح الوسيلة، وكيف انتفى، يقول “بأى ناموس. أبناموس الأعمال، كلا بل بناموس الإيمان”.
4. وها هو يدعو الإيمان ناموسا، حرصا منه على إختيار الكلمات المعبرة، حتى يفرحهم بهذا التجديد الواضح . ولكن ما هو ناموس الإيمان؟ هو أن يخلص الإنسان بالنعمة، لاحظ أن القديس بولس يظهر هنا قوة الله، لأنه ليس فقط قد خلص، لكنه أيضا قد برر، وقاد إلى الإفتخار الحقيقي دون الحاجة إلى أعمال الناموس، بل إلى الإيمان فقط. وهو يقول هذه الأمور، لكي يعد اليهودي الذي آمن ليكون متواضعا، ولكي يقوم ذاك الذي لم يؤمن، بهدف أن يدعوه (للإيمان). وسيكتشف ذاك الذي خلص ـ إذا كان يفتخر بالناموس – إن الناموس قد أغلق فمه، وأدانه وحرمه من الخلاص، ومنع افتخاره ، أما الذي لم يؤمن، فطالما أنه اتضع عن طريق تلك الأمور، فيمكن أن يقاد إلى الإيمان، أرأيت مقدار الغني الذي للإيمان وكيف أن القديس بولس إجتاز بهم الأمور السابقة (الخاصة بالناموس)، ولم يسمح لهم أن يفتخروا بها.
” إذا نحسب أن الإنسان يتبرر بالإيمان بدون أعمال الناموس” (رو۲۸:۳).
وعندما أوضح أن الذين هم من الإيمان هم أسمى من اليهود، تكلم عن الإيمان بعد ذلك بكل جرأة، مقدما الشفاء مرة أخرى لذاك الذي يثير صخبا ، لأن اليهود كانوا قد انزعجوا من أمرين:
الأول، أنه كان ممكنا أن يخلص البعض بدون أعمال الناموس، لأن الذين تمموا أعمال الناموس لم يخلصوا.
والثاني، أنه ليس من العدل أن يتمتع غير المختتنين بنفس المزايا مع أولئك الذين عاشوا كل هذا الزمان تحت الناموس، وهذا قد أزعجهم أكثر من الأمر الأول.
وبعدما أوضح هذا، تحدث بعد ذلك عن ما أثار حنق اليهود، لدرجة أنهم أدانوا القديس بطرس، بسبب كرنيليوس وما حدث معه[2]. فماذا يقول؟ “إذا نحسب أن الإنسان يتبرر بالإيمان بدون أعمال الناموس ” لم يقل اليهودي أو ذاك الذي يحيا بوصايا الناموس، لكنه جعل كلمته أكثر اتساعا، وفتح أمام العالم كله أبواب الخلاص، عندما استخدم تعبير ” الإنسان” أي ما يخص الطبيعة الإنسانية كلها. ثم إتخذ من ذلك دافعا ليقضي على الاعتراض الذي لم يذكر. بمعنى أنه كان طبيعيا لليهود الذين سمعوا أن الإيمان يبرر كل إنسان، أن يحزنوا ويتعثروا، ولذلك أضاف ” أم الله لليهود فقط” كما لو أنه يقول، لماذا يبدو لك أن خلاص كل إنسان يعد أمرا غير معقول أو غير ملائم؟ هل الله لبعض الناس دون البعض الآخر؟ مبينا بهذا أنهم يريدون الإساءة إلى الأمم، ويحجبون بالأكثر مجد الله، عندما لا يقبلون أن يكون إلها للجميع . وإذ أن الله هو إله الجميع، فهو يعتني بالجميع. وعندما يهتم بالجميع بطريقة واحدة فإنه يخلصهم من قبل إيمانهم. ولهذا قال:
” أم الله لليهود فقط أليس للأمم أيضا بلى للأمم أيضا ” (رو29:3).
إن الله ليس لبعض الناس فقط، مثل الذي تصوره أساطير اليونانيين، بل إنه واحد للجميع . ولهذا أضاف: ” لأن الله واحد” أي أن الله بذاته هو لهؤلاء ولأولئك، لكن إن كنت تحدثني عما حدث في الماضي، فإن عناية الله كانت واحدة (تجاه الجميع)، على الرغم من انها إتخذت أسلوبا متنوعا. لأن الناموس المكتوب قد أعطي، والناموس الطبيعي قد أعطي لأولئك، ولم يكن هؤلاء في وضع أقل (من اليهود) ولو أنهم أرادوا لاستطاعوا أن يصبحوا ي وضع أسمى. ولهذا فقد أضاف قاصدا هذا المعنى تماما قائلاً.
” لأن الله واحد الذي سيبرر الختان بالإيمان والغرلة بالإيمان”(رو۳۰:۳).
مذكرا هؤلاء بالأمور التي قالها سابقا عن الغرلة والختان، كيف أنه لا يوجد أي اختلاف بينهما، فإذا لم يكن هناك إختلاف آنذاك، فبالأولى كثيرا الآن، الأمر الذي أظهره بكل وضوح، مبينا أن كل واحد لديه نفس الاحتياج للإيمان قائلاً:
” أفنبطل الناموس بالإيمان. حاشا بل تثبت الناموس ” (رو۳۱:۳).
أرأيت مثل هذه الرؤية في تعدد جوانبها وصعوبة وضعها؟ لأن بقوله “تثبت”، هو هنا يوضح كيف أن الناموس لم يعد ساريا، الآن بل ألغى. ولاحظ مقدار القوة التي للرسول بولس، وكيف أنه يبرهن على ما يريد قوله، بهذا القدر من السهولة. لأنه أظهر هنا أن الإيمان ليس فقط لا يبطل الناموس، بل يساعده بنفس الطريقة التي بها يمهد الناموس الطريق إلى الإيمان ، لأنه كما قال سابقا إن الناموس يشهد للإيمان، فهو يقول: “مشهودا له من الناموس والأنبياء”، هكذا فإن الإيمان يثبت الناموس. وكيف يثبته؟ وما هو عمل الناموس؟ ولأي سبب سعى الناموس ليتمم كل شيء؟ كانت غاية الناموس تبرير الإنسان، ولكنه لم يستطع أن يحقق هذا. لأنه يقول “الجميع أخطأوا”، لكن عندما أتى الإيمان، حقق (البر)، لأن الإنسان آمن وتبرر في آن واحد وثبت فيه روح الناموس، وحقق الإيمان كل ما كان يسعى إليه الناموس بكافة الطرق . وعليه، فهو لم يبطله، لكن كمله . لقد أظهر هنا ثلاثة أمور:
1. إنه من الممكن أن يتبرر المرء بدون الناموس .
2. إن الناموس لم يستطع أن يحقق ذلك البر.
3. الإيمان لا يحارب الناموس .
ونظرا لأن اليهود قد أثاروا – بصفة خاصة – أي أن الإيمان هو ضد الناموس، فقد أظهر أكثر مما أراد اليهود أن يسمعوه، بقوله إن الإيمان ليس ضد الناموس، بل إنه مساعد ومعين له، الأمر الذي اشتهوا أن يسمعوه .
5ـ لأنه بعد هذه النعمة، التي تبررنا بها، فإن الأمر يحتاج لأسلوب حياة مناسب، فلنظهر محاولة تليق بهذه العطية، لتطبيق مثل هذا الأسلوب، ولنعتنى أن نحفظ المحبة التي هي تاج كل الخيرات، وأن تظهرها ولو بمحاولات كثيرة . لأن المحبة لا تعني الكلام فقط، ولا المحاضرات الكثيرة، ولكنها تكمن في مساعدة الآخر، إذ أنها تظهر في الأعمال، وعلى سبيل المثال يتجلى عمل المحبة عندما يقلل أحد من حالات الفقر، أو يعين المرضى، أو يبعد الأخطار، أو يقف إلى جوار الذين يواجهون مواقف صعبة، أو يبكي مع الباكين، ويفرح مع الفرحين. وعلى الرغم من أن الفرح مع الفرحين يبدو أمرا بسيطا، إلا أنه يعد عملاً عظيما للغاية، ويحتاج إلى فكر حكيم. فمن الممكن أن نرى كثيرين قد حققوا أمورا صعبة المنال، ولكنهم لا يستطيعون أن يعيشوا المحبة التي تفرح بفرح الآخرين، لأن الكثيرين يبكون مع الباكين، لكنهم لا يفرحون مع الفرحين، إذ نجدهم يذرفون الدموع عندما يفرح الآخرين، وهذا هو الحسد والحقد.
إذن كون الإنسان يشارك أخاه في فرحه، فهذا ما يعد إنجازا عظيما ، وهو أكبر ليس فقط من أن يبكى مع الباكين، بل أيضا من أن يقف إلى جوار أولئك الذين يتعرضون للمخاطر . لقد خاطر كثيرون مع أولئك الذين تعرضوا للخطر، وعندما ابتهج هؤلاء، تضايقوا هم، هذا هو مرض الحسد ، فعلى الرغم من أن الأول (البكاء) ينتج عنه تعب وحزن، بينما الثاني (الفرح) يأتي نتيجة اختيار وقرار فقط، فإن الكثيرين يحتملون ما هو أصعب ويتركوا ما هو أسهل، فنجدهم يثنوا ويحزنوا جدا عندما يرون الآخرين يفرحون، وأيضا عندما يرون أن الكنيسة كلها تنتفع، سواء بالكلمة أو بأي طريقة أخرى. وهل يوجد أسوأ من هذا؟ لأن مثل هذا الإنسان، لا يحارب اخوة فقط، بل يقاوم إرادة الله أيضا. إذن يجب عليك عندما تدرك هذا، أن توقف هذا المرض (أي الحسد)، وإن لم تستطع أن تقبل قريبك، فعلى الأقل حاول أن تخلص نفسك من شرور كثيرة (تنتج عن هذا الحسد).
ولماذا تسمح بالحرب أن تخترق أفكارك؟ لماذا تملأ نفسك بالضجيج؟ لماذا تتسبب في الكوارث؟ لماذا تثير القلق والإرتباك؟ كيف يمكنك أن تطلب غفرانا للخطايا عندما تصنع كل هذا؟ فإن كان الله لا يغفر لأولئك الذين لا يغفرون خطايا الآخرين، فكم بالحرى أولئك الذين يحاولون أن يظلموا أناسا لم يرتكبوا أي ظلم في حقهم. وأى غفرانا سينالونه؟[3] هذا يعد برهانا على ممارسة أسوأ أنواع الشرور. هؤلاء الظالمون إنضموا إلى الشيطان في محاربة الكنيسة، بل ربما بصورة أسوأ بكثير. لأنه من الممكن أن نحترس من الشيطان، لأننا لا نجهل حيله، لكن هؤلاء الأشرار وهم يرتدون قناع المحبة، فإنهم يشعلون النار خفية. إن هذا الأمر لا يمكن أبدا أن يدعو للشفقة، بل هو مثار للسخرية أيضا. أخبرني إذا ، لماذا يقفهر وجهك وترتعش وتقف مرتعبا؟ وما هو الشر الذي حدث؟ هل لأن أخاك قد صار مشهورا ، ممجدا وناجحا؟ إن هذا يدعوك أن تتهلل وتفرح وتمجد الله، فإن أحد أعضائك صار مشهورا وممجدا، إلا أنك في الحقيقة تتألم بسبب أن الله قد تمجد في أبنائه.
أرأيت إلى أين تقود هذه الحرب؟ وإن كان أي يهودي يدعي بأنه لا يتألم لأن الله يتمجد ، لكنه يتألم حين يرى أن الأخ قد تمجد. إن مجد الله يستعلن من خلال مجد الأخ، وبناءا عليه، فأنت الذي تقود هذه الحرب . ومع تقول إن هذا الأمر لا يضايقني، وما أريده فقط هو أن يتمجد الله من خلالك، كان ينبغي عليك أن تفرح عندما يفرح أخاك، تماما كما تفرح عندما يتمجد الله من خلالك، عندئذ سيقول الجميع مبارك الله الذي لديه مثل هؤلاء الخدام المتحررين من كل حسد، والفرحين بكل الأمور الحسنة التي تسود فيما بينهم. ولماذا أتكلم عن الأخ؟ لأنه لو كان الذي تمجد الله ، من خلاله خصما وعدوا ، فينبغي عليك لأجل هذا السبب أن تجعله صديقا لك، ولكنك تجعل الصديق عدوا، لأن الله قد تمجد بتقدمه ونجاحه . فلو أن شخصا ما قد ساهم في شفاء جسدك المتألم فسوف تعتبره فيما بعد من أصداقائك المقربين، حتى ولو كان عدوا، بينما ذاك الذي يزين جسد المسيح، أي الكنيسة، وهو صديق لك، فأنت تعتبره عدوا . وهل توجد طريقة أخرى أسوأ من ذلك تحارب بها المسيح؟ ولهذا فحتى لو صنع المرء معجزات، أو سلك طريق البتولية أو مارس الصوم أو النوم على الأرض، ووصل بفضيلته إلى مستوى الملائكة، لكنه يحمل هذا العيب (أي الحسد) سيعتبره الجميع مريضا، وأشر جدا من الزاني، والعاهر، والسارق، ونابش القبور.
6 . ولكى لا يتهمني أحد بالمبالغة في القول، فسوف أسألكم، لو أن شخصا ما أخذ نارا وأدوات هدم، وقام بهدم وحرق هذه الكنيسة ودمر هذا المذبح، ألا يرميه كل أحد من الموجودين هنا بحجر كدنس ومدان؟ ماذا إذا ، لو أحضر شخص، هذا اللهب المشتعل جدا، أي الحسد، والذي لا يهدم فقط مبنى مشيدا بالحجارة، ويدمر مذبحاً من الذهب، بل يهدم ، أثمن وأقيم بكثير من الحوائط ومن المذبح، يدمر البناء الروحي الذي أقامه المعلمين، فأى غفرانا يمكن أن يناله؟ ولا يقل لى أحد، إنه حاول مرات كثيرة أن يتخلص من هذا الداء (أي الحسد) ولم ينجح، لأن كل الأمور يحكم عليها من جهة الإرادة. لأن شاول أعتبر أنه قتل داود ، على الرغم من أنه لم يتمكن من ذلك.
أخبرني، هل لا تعلم أنك تتآمر على خراف المسيح، تحارب الراعي والخراف التي بذل المسيح دمه من أجلها وأوصانا أن نجوز الآلام وأن نعمل بكل اجته من أجلها؟ ألا تتذكر أن سيدك طلب من الآب مجدا لك ولم يطلب لنفسه، بينما أنت لا تطلب مجد الرب، بل مجدك الذاتي، على الرغم من أنه لو طلبت مجد الرب، فستنال عندئذر مجدك الشخصي. أما إن طلبت المجد الذاتي قبل مجد الرب، فلن تتمتع أبدا بهذا المجد. فما هو طريق الشفاء إذا؟ نصلي معا ونرفع جميعا صوتا واحدا من أجل هؤلاء كما لو كانوا مرضى، لأنه هؤلاء بالحقيقة قد سلكوا بشكل أكثر سوءا من الذين سلكوا بشهوة جامحة. لأن هذا المرض (الحسد) يحتاج صلوات وتضرعات كثيرة، فالذي لا يحب أخاه، لن يحقق أي شيء، حتى لو أنفق أموالا كثيرة، وحتى لو أفرز للشهادة. تأمل حجم العقوبة التي يمكن أن ينالها الذي يحارب أخاه دون أن يكون ذاك قد ظلمه أبدا ، إنه يعد أسوأ من الوثنيين.
إذن لو أننا نحب أولئك الذين يحبوننا، فلن نتميز عنهم بشيء . أخبرني أين سيقف ذاك الذي يحسد أولئك الذين يحبونه، عندما يمثل أمام الله يوم الدينونة العتيدة؟ لأن الحسد يعتبر حقا أشر من الحرب، لأن العداوة بين المتحاربين تزول بزوال أسباب الحروب، بينما الحاسد لا يمكن أن يصير صديقا لآخر . والأول (أي المحارب) يعلن عن معركته بينما الثاني (أي الحاسد) يخفيها، الأول يستطيع أن يذكر في مرات كثيرة مبررات شن الحروب، بينما الثاني لا دوافع لديه سوى الحماقة والرغبة الشيطانية. إذن بأى شيء يستطيع المرء أن يقارن هذه النفس؟ بأى شيء فاسد؟ بأي وسيلة دفاع؟ بأي حشرة؟ بأي دويبة؟ لأنه لا يوجد شيئا يثير الإشمئزاز أكثر من هذه النفس. لأن مرض الحسد يقود بالحقيقة إلى فوضى في الكنائس، وقد ولد الخطايا ، ووضع سلاحا في يد الأخ، وجعل اليد اليمنى ترتوى بدم البار، دمر نواميس الطبيعة، فتح أبواب الموت، وقد تسبب في اللعنة” ، ولم يترك قايين البائس أن يتذكر آلام الوضع، ولا حالة الوالدين وحزنهم على فراق ابنهما ، ولا أي شيء آخر، لكن هذه اللعنة جعلته مشئتا، وقادته إلى هذا الجنون، وبرغم من تحذير الله، الذي سبق فقال له عند الباب خطية رابضة وإليك اشتياقها وأنت تسود عليها “، إلا أنه لم يتراجع . فالشفاء من هذا المرض (أي الحسد)، يعد أمرا صعبا، حتى ولو أعطي المريض أدوية كثيرة، الحسد يفجر الفساد (أي فساد الحاسد).
إذن لماذا تتألم وتقود نفسك إختياريا لأن تصبح أكثر بؤسا من الجميع؟ هل لأن الله تمجد؟ إن هذا الأمر يكشف عن سيادة الشيطان على النفس. هل لأن أخاك صار أفضل منك؟ إنك تستطيع أيضا أن تتفوق عليه وتصير أفضل . وبناء على ذلك، فلو أردت أن تفوز ينبغي ألا تذبح وألا تقتل، بل يجب أن تتركه ليحيا لكي يبقى لديك دافعا للجهاد، وتنتصر الحياة، لأنه بذلك سيكون تاجك منيرا. لكنك بهذا الفعل تكون قد هزمت شر هزيمة، بل وأعلنت قرارك بالهزيمة. لكن لأي سبب تحب المجد بهذا القدر مع أنك ستبقى وحيدا؟ إن قايين وهابيل هما فقط اللذان كانا يعيشان في هذه الأرض. لكن ولا هذا أيضا قد جعل قايين يضبط مشاعره، بل أفرغ نفسه من كل صلاح، وأخذ موقفا وقتل أخاه بتحريض من الشيطان، لأن الشيطان كان بالفعل هو القائد آنذاك، إذ لم يكن كافيا للشيطان أن الإنسان قد صار فانيا، لكنه حاول أيضا أن يجعل الكارثة أكبر، عن طريق القتل، فأقنع قايين بأن يقتل أخاه . لأن ذاك الذي يشبع مطلقاً من ممارستنا للشرور، قد تعجل وكان متلهفا أن يرى قرار القتل وقد تحقق، تماما مثل شخص، رأى عدوه محبوسا، وأن حكما بالاعدام قد صدر ضده، فيكون متعجلاً لرؤية تنفيذ حكم الاعدام داخل المدينة قبل أن يخرج منها، ولا ينتظر الوقت المحدد لتنفيذ الحكم، هكذا صنع الشيطان آنذاك، فعلى الرغم من أنه قد سمع أن الإنسان سيعود إلى الأرض إلا أنه كان متلهفا أن يرى المزيد، أن يموت الابن قبل الأب، والأخ يقتل أخاه، وبأسلوب بشع وعنيف.
7 ـ أرأيت حجم أو كم الخدمات التي يقدمها الحاسد للشيطان؟ وكيف أنه أشبع رغباته التي لا تشبع، إذ قدم له مائدة غنية على قدر ما يشتهي، ليتنا نتجنب هذا المرض . لأنه بالحقيقة من غير الممكن أن نتجنب تلك النار التي أعدت للشيطان وأعوانه، إن لم نتخلص من هذا المرض (أي الحسد)، لكننا سوف نتخلص منه لو أدركنا أن المسيح قد أحبنا وأعطانا وصية أن نحب بعضنا بعضا. وكيف أحبنا؟ لقد أحبنا حين سفك دمه الكريم لأجلنا ، على الرغم من أننا كنا أعداءا ، وصنعنا شرورا كثيرة.
فلتصنع أنت نفس الأمر تجاه أخاك، لأن المسيح أمرنا قائلا: ” وصية جديدة أنا أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضا كما أحببتكم”. أو من الأفضل أن نقول إن الأمر يتجاوز مجرد محبتنا بعضنا لبعض، لأن المسيح فعل هذا لأجل أعدائه. هذا فأنت لا تريد أن تبذل نفسك لأجل أخاك. لكن لماذا إذا تسفك دمه مخالفا الوصية؟ فما صنعه المسيح، لم يصنعه كدين عليه، لكن أنت عندما تفعل ذلك، فأنت تسدد دينك. لأن ذاك أيضا الذي أخذ عشرة آلاف وزنة، وطالب بالمائة دينار من العبد المديون، لم يدان فقط من أجل هذا، أي لأنه طالب بما له، ولكن لأنه لم يصر أفضل، لا بفعل الاحسان، ولا أنه صنع كما صنع سيده معه في البداية، ولا أعاد الدين. لأن هذا الدين ملقى على عاتق العبد وعليه أن يسدده. إن كل ما نفعله، نفعله لكي تسدد دينا. ولأجل هذا قال المسيح: “متى فعلتم كل ما أُمرتم به فقولوا إننا عبيد بطالون. لأننا إنما عملنا ما كان يجب علينا ” ، حتى عندما تظهر محبة، أو تعطى أموالاً للمحتاجين، فإننا في الحقيقة نسدد دينًا، ليس فقط لأن ذاك قد بدأ بالإحسان، لكن لأننا تعطي مما له، هذا لو حدث مرةً وأعطينا.
لماذا إذا تحرم نفسك من تلك الأمور التي بها يريد الله أن يجعلك سيدا؟ طالما أنه لأجل هذا أوصاك أن تقدم محبة للآخر، لكي تحصل عليها أنت أيضا ، لأن كل ما تقتنيه لنفسك فقط لن تتملكه، ولكنه سيكون لك عندما تُعطي للآخر. ترى، هل هناك ما هو مساويا أو مشابها لهذه المحبة؟ إن المسيح سفك دمه لأجل الأعداء، بينما نحن لا تعطى أموالاً حتى لأجل خيرنا. ذاك سفك دمه بينما نحن لا تعطي ولا حتى الأموال التي ليست لنا. ذاك أعطى أولا، لكننا لم نقدم أي شيء بعد ذلك، وبرغم أن ذاك قدم نفسه لأجل خلاصنا، إلا أننا لم نفعل أي شيء، حتى وإن كان لأجل منفعتنا. فما قدمناه لا يتعدى مجرد أعمال الرحمة الإنسانية، رغم أن كل الأشياء ستؤول . في النهاية لنا ، ولهذا فقد أعطانا وصية المحبة، حتى تكون لنا هذه المحبة. تماما كما لو أن شخصا أعطي مالاً لطفل صغير وأمره أن يمسك به جيدا، أو أعطاه لخادم لكي يحفظه، حتى لا يستطيع من يطمع فيه أن يخطفه، هذا بالضبط ما صنعه الله. وأنت أيضا إعطي لمن له إحتياج، لكي لا يأتي آخر ويسلبه منك، مثل السارق أو الشيطان . إن الموت سيخطفه في نهاية الأمر، لذلك حتى وإن احتفظت بهذه الأموال، فلن تحتفظ بها في أمان. ولكنك إذا قدمتها إلى الله، من خلال عطائك للفقراء، فإنه سوف يحفظها لك في أمان، وسوف يردها لك وبوفرة وفي الوقت المناسب، لأن الله لا يأخذها لكي ينزعها منك، بل لكي يزيدها، ولكي يحفظها في أمان أكثر، لكي يحفظها لذلك الزمان الذي يختفي فيه من يقرض أو من يقدم عمل رحمة للآخرين.
إذن بعد كل هذه الوعود هل هناك من هم أكثر قسوة منًا، عندما نرفض أن تعطي لله أو أن نقرضه؟ ما ينبغي إدراكه أننا سوف نذهب إلى الله مجردين من كل شيء، بل وفقراء دون أن نحتفظ بشيء مما قد استأمنا هو عليه، لأننا لم نودعه عند ذاك الذي يستطيع أن يحفظه بأمانة أكثر من الجميع. ولهذا فإننا سنعاقب أشد عقاب. ماذا نستطيع أن نقول إذا عندما سندان بسبب تقصيرنا في العطاء، وأى تبرير سنقدم؟ ولأي سبب لم تعط؟ ألا تثق بأنك سوف تأخذ ما قدمته مرة أخرى؟ وكيف يمكن أن يكون لهذا مبرر؟ لأن الله أعطى بسخاء لذاك الذي لم يعط شيئا، فكيف لا يعطي الإنسان أكثر بكثير بعدما أخذ مجانا؟ وهل الأخذ فرحا؟ لأجل هذا ينبغي عليك أن تعطي بوفرة، فإن هذه العطايا ستجعلك تفرح أكثر في الحياة الأخرى، هناك حيث لا يستطيع أحد أن ينزعها منك، ولكن إن احتفظت بها لنفسك الآن، فإنك ستعاني شرورا كثيرة. ومثلما يفعل الكلب الذي يريد أن يخطف قطعة خبز من يد طفل وهو ممسك بها ، هكذا يفعل الشيطان في هجومه على الأغنياء.
فلنعطي هذه الأموال لله، وعندما يرى الشيطان هذا العطاء، فإنه سينسحب بكل تأكيد، وعندما ينسحب، فإن الله وقتها سيعطيك كل ما قدمت، وسيعوضك في حياة الدهر الآتى عن هذا العطاء أضعافا، حيث لا يستطيع الشيطان أن يسبب أي إزعاج . فالأغنياء الآن لا يختلفون على الإطلاق عن الأطفال الذين ينزعجون من بعض الكلاب عندما تعوى جميعها حولهم، والشياطين أيضا تحاول أن تفترس البشر بإستعبادهم للشهوة، وبالنهم، وبالسكر، وبالنفاق، وبالفجور. وعندما تكون هناك حاجة لكي تقرض، فإننا ندقق في أولئك الذين أعطوا كثيرا، ونفحص جيدا فاعلى الإحسان (حتى نرى حجم العطاء)، نحن هنا نصنع بعكس ما يفعله الله، فالله الذي يحسن بفيض، والذي يعطى ليس فقط مائة، لكن مائة ضعف، نتركه، ونسعى نحو أولئك الذين لن يردوا حتى أصل المال.
8. ودعني أتساءل: ماذا يفضل عنا بعد الأكل بشراهة؟ فضلات ورائحة نتنة، أو دعني أقول ما هو المجد الباطل؟ بغضة وفساد. وماذا عن البخل؟ إهتمام زائد بالمال ومحبة كبيرة له. وماذا عن الفجور؟ جهنم وحشرات ضارة ، لأن المديونيين للأغنياء هم الذين يدفعون الفوائد التي لأصل المال، أى الشرور الحاضرة، والكوارث المنتظرة (التي سيجنيها الأغنياء). أخبرني إذا، هل ستقرض هؤلاء وتربح كل هذه العقوبات ولا تعطى بثقة كل هذه للمسيح (أي للفقراء والمحتاجين) الذي يعد بملكوت السموات وبالحياة الأبدية وبالخيرات التي لا توصف؟ وإذا لم تقدم لمن هم في إحتياج فأي تبرير سنعطي؟ ولأي سبب لا نعطي كل ما نملك للمسيح الذي سيعطيك حتما، وسيعطيك بوفرة؟ هل لأنه يعطي بعد زمن طويل أي في الدهر الآتي، على الرغم من أنه من المؤكد، أنه يعطينا خيرات أيضا في هذه الحياة، فالذي قال: “اطلبوا أولا ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم” ، لا يكذب. هل رأيتم محبة أكثر من هذه؟ إذ أن الأمور المختصة بملكوت الله محفوظة لك ولن تنقص، أما الأمور الأرضية، فهو يعطيها لك على كل حال وبوفرة.
وفوق كل هذا، فإنك ستربح بعد حين، غنى أوفر، لأن الربح وقتها سيصير أعظم . هذا ما يفعله المقرضون تجاه المقترضين، طالما أنهم يقرضون برغبة قوية لأولئك الذين يسددون بعد زمن طويل، لأن ذاك الذي يرد الدين يعتق على الفور من دفع الفوائد ، لكن ذاك الذي يحتفظ بالمبلغ لزمن أطول، فإنه يعمل به لفترة أكبر (ويقدم عنه فائدة أكثر)، علينا ألا نحزن إذا تأجل دفع الدين، بل ويجب أن نبرره حتى لو طالت فترة التأجيل. أما بالنسبة لله فيجب أن لا نسلك بصغر نفس ونتردد فتُصاب بالحيرة والخوف بالرغم من أنه ـ كما سبق وأشرنا – يقدم عطايا وفيرة في هذه الحياة، وأيضا يدخر لك شيئا أكبر وأعظم في الحياة الأخرى لأن مقدار وجمال العطايا التي يهبها الله في حياة الدهر الآتي، يفوق تفاهة الحياة الحاضرة. وبكل تأكيد أننا لا نستطيع أن نقبل تلك التيجان الخالدة في هذا الجسد الفاني، وأيضا لا يمكننا أن نتمتع بهذا الميراث الثابت غير المتغير في هذه الحياة الحاضرة المليئة بالقلاقل والاضطرابات، والتي تسودها تغييرات كثيرة.
وعليك أن تفكر لو أن شخصا ما كان مديونا لك بأموال، وأنت متغرب في بلد أجنبي، وتعهد برد هذا الدين، ولم يكن لديك خدم ولا تستطيع أن تحمل هذه الأموال إلى بيتك، فإنك ستترجاه بإلحاح ألا يدفعها لك في بلد غريب، بل تفضل أن يسددها لك في وطنك، ومع أنك تفعل هذا في أموالك، إلا أنك فيما يختص بالأمور الروحية والخيرات الغير الظاهرة، تطلب أن تأخذها هنا في هذه الحياة الحاضرة. هل يوجد دليل على الحماقة أكثر من هذا؟ لأنك إذا حصلت عليها هنا في هذه الحياة فستأخذها بكل تأكيد ، ولكنها ستنتهي، أما إذا انتظرت حياة الدهر الآتي فسيعوضك الله بالخيرات التي لا تفنى. لو أخذت هنا فإنك تأخذ معدئا ثقيلا لا ثمن له، أما إذا أخذت هناك فإنك تأخذ ذهبا نقيا. هذا لن يحرمك الله ومع من الأمور الأرضية – مع الوعد بملكوت الله ـ أضاف أمرا آخر، قائلاً إن من يشتهي ملكوت الله وبره، سيأخذ مائة ضعف في هذه الحياة، وسيرث الحياة الأبدية.
ولكن لو أننا لم نأخذ مائة ضعف في هذه الحياة، فالسبب يرجع ل لنا لأننا لم تعط لله الذي يستطيع أن يعطينا بغنى . لأن أولئك الذين أعطوا، قد أخذوا الكثير، على الرغم من أنهم أعطوا القليل. أخبرني ما هو الشيء العظيم والثمين الذي أعطاه القديس بطرس، ألم يعطي شبكة ممزقة، وسنارة، وحربة؟ لكن الله فتح أمامه كل بيوت المسكونة، وجال الأرض والبحر، ودعاه الجميع في بيوتهم. والشيء الرائع أنهم باعوا ممتلكاتهم وأحضروها تحت أقدامه، دون أن يضعوها في يده (لأنهم لم يجرؤا على هذا) ناسبين إليه السخاء والإكرام . وقد يقول قائل إن ذاك كان بطرس. لكن هل هذا يعني شيئا بالنسبة لك؟ إن الله لم يعد بطرس فقط بملكوت الله، ولم يقل أنت يا بطرس ستأخذ مائة ضعف، بل قال ” وكل من ترك بيوتا أو اخوة أو اخوات .. يأخذ مائة ضعف” ،” لأنه لا يحابي الوجوه، بل إن وعوده هي للجميع.
ربما يقول قائل إن لديه أولادا كثيرين، ويتمنى أن يتركهم أغنياء. وتقول له لماذا تريد أن تجعلهم فقراءا (أي بهذا السلوك الخالي من المحبة)؟ إذا تركت لهم كل شيء، فإنك تعطي كل مالك وأنت ترجو لهم الآمان. لكنه أمان غير مؤكد. أما عندما تنجح في أن تجعل الله وريئا معهم، ووصيا عليهم تكون قد تركت لهم كنوزا لا حد لها. مثلما يحدث عندما يريد أحد أن ينال منا ، فإذا ما دافعنا عن أنفسنا فإن الله لا يعيننا، ولكن عندما نترك لله الأمر كله، فستصير النهاية أفضل مما نتوقع. وهذا ما يحدث بالنسبة للمال، لو أننا اهتممنا به، فإنه سينسحب ولن يعتني به، أما إذا وضعنا كل شيء تحت عناية الله، فهذا المال، والأولاد أيضا سيحفظهم هو في أمان كامل. ولماذا تندهش لو أن هذا يحدث في حالة تعاملنا مع الله؟ فبالنسبة للبشر يستطيع المرء أن يرى مثل هذا الأمر، لأنه إن لم تترجى أحد أقربائك في أيام حياتك الأخيرة، لكى يعتني بأولادك، فلن يقوم بهذا العمل من تلقاء نفسه، بل يخجل ويتردد كثيرا في تعهد هذا الأمر، ولكنك إذا وضعت رجاءك في الله لكي يتعهدهم بالرعاية، باعتبار أنك تُكرمه بأعظم ما تكون الكرامة، فإنه سيعوضك بأعظم مجازاة.
9 . إذن إذا أردت أن تترك غنى وافرا لأولادك، اتركهم للعناية الإلهية. فالله قد خلق النفس والجسد ومنح الحياة دون أن تقدم أنت أي شيء. لذلك عندما يرى أنك تظهر تبلاً، وتسلم له كل ما يتعلق بالأولاد، بل تسلم الأولاد أنفسهم، فكيف لا يغدق عليهم بكل الغنى؟ فإيليا قد أكل الفطيرة التي أعدتها له المرأة بقليل من الدقيق، وعندما رأى الله أنها فضلته على ابنها ، فإنه ملأ غرفة الأرملة بأجران دقيق وبراميل زيت وعندما تتأمل في مقدار اللطف الذي أظهره إله إيليا، فإنه لا ينبغي أن نهتم بحجم الغني الذي نتركه لأبنائنا، بل نعتنى بالأحرى أن نترك لهم الفضائل، لأنه لو وضع الأولاد ثقتهم في الغنى والمال، فلن يعتنوا بأي شيء آخر، وسيحاولون أن يحجبوا صفاتهم السيئة بواسطة أموالهم الكثيرة. ولكن إذا رأوا أن عزاءهم لا يتحقق بواسطة الغنى، فسيفعلون كل شيء، حتى أنهم سينالون عزاء بالفضيلة، وحتى في حالة الفقر والاحتياج.
إذن اهتم بأن تترك لهم الفضيلة على أن تترك لهم الأموال، لأنه بالحقيقة هو دليل على الغباء الشديد، عندما نحرم الأبناء السيادة على كل ما لنا أثناء حياتنا، بينما عندما نموت، نمنحهم حرية أوسع على الرغم من أنه عندما نكون أحياءا، ستكون لدينا الفرصة أن نحملهم بمسئوليات، وأن نهذبهم ونضبطهم عندما يسيئون استخدام الأمور المادية. لكن عندما نموت فإن غيابنا، بالإضافة إلى إندفاع الشباب، يعطى الفرصة للتسلط الذي يأتي من المال، وبهذا ندفعهم إلى الحزن والشقاء وإلى انحدار شديد، بل ونضع نارا فوق نار، ونلقي بزيت فوق سعير النار المخيف. وبناء عليه فإذا أردت أن تترك لهم غنى وأمنا حقيقيا، اتركهم في عناية الله التي تنفعهم، وسلم إلى الله كل ما لهؤلاء الأبناء، لأنهم لو أخذوا هذه الأموال فلن يميزوا إلى من سيعطونها وسيقعون ضحية لكثيرين من الفاسدين والجاحدين. ولكن إذا سبق أقرضت هذه الأموال لله، فسيبقى الكنز محصنا فيما بعد، وسوف تسترده مرة أخرى بصورة سهلة جدا. لأن الله يستر للغاية، عندما يمنحنا أكثر مما قدمنا، وينظر إلى قارضيه بفرح كبير، أكثر من أولئك الذين لم يقرضوه، وينظر إلى دائنيه نظرة محبة وتقدير.
وبناء عليه، فإذا أردت أن يكون الله رفيقا لك على الدوام، ينبغي أن تجعله مدينا بالكثير. رغم أن المقرض لا يفرح هكذا عندما يكون لديه مدينين، كما يفرح المسيح عندما يكون لديه مقرضين، وهؤلاء الذين لا يدين لهم بشيء، يتجنبهم، بينما أولئك الذين يدين لهم، فإنه يركض نحوهم بشكل خاص . إذن فلنفعل كل شيء لكي نجعله مدينا لنا. لأن هذا الوقت هو وقت للإقراض، والآن هو في حالة احتياج (وهو يقصد هنا كل من له إحتياج). ولو لم تعطه الآن، فلن يحتاج لك بعد موتك. لأنه هنا عطشان، هو جوعان، وهو عطشان لأجل خلاصك. ولهذا صار طالبا للصدقة، وصار يتجول عريانا ، وهو يعد لك حياة أبدية. لا ينبغي إذا أن تزدري به، لأنه لا يريد أن يميت بل أن يقوت، لا يريد أن يلبس، لكن أن يلبس الآخرين ويصنع لك ذلك الزي الذهبي، والرداء الملوكي.
ألا ترى الأطباء المجتهدين هم أنفسهم يغتسلون عندما يصنعون حماما للمرضى، وإن كانوا ليسوا في حاجة لهذا؟ هكذا يصنع المسيح، يفعل كل شيء من أجلك أنت أيها المريض . لذلك فلكي يعطيك المجازاه، لا يطلبك بالإجبار، لكي تعلم أنه يبحث عنك، لا لأنه في احتياج لك، بل لكي يسدد احتياجك أنت. يأتي إليك باسطا يده اليمنى بتواضع شديد . وحتى لو أعطيته فلسا واحدا ، فلن يردك، وحتى لو ازدريت به فلن يبتعد عنك، لكنه سيقترب منك مرة أخرى . لأنه يشتهي خلاصنا جدا.
إذن فلنحتقر المال، لكي لا يتركنا المسيح، لنحتقر المال، لكي نفوز بهذا المال. لأننا لو تمسكنا بهذا المال هنا في هذه الحياة، فسوف نخسره في هذه الحياة، وفي الدهر الآتى أيضا. ولكننا إن وزعناه بكل سخاء وكرم، فسنتمتع بغني وفيري هذه الحياة وفي حياة الدهر الآتى.
فذاك الذي يريد أن يصير غنيا ، فليصر فقيرا ، لكي يصير غنيا، لينفق (على الفقراء)، لكي يجمع (هبات وعطايا من الله)، ليهب الآخرين، لكي يحصل (على غني سمائي). لكن لو أن هذه الأمور تُعد جديدة وغريبة عليك، فلتلاحظ الفلاح الذي يزرع، وفكر أن هذا الفلاح لن يجمع (حصادا) بطريقة اخرى، إن لم ينثر ما لديه، وإن لم يلقي البذور الجاهزة في الأرض . لنبذر نحن أيضا، ونزرع للسماء، لكي نحصد بوفرة ونحصل على الخيرات الأبدية بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة، الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمین.
- ديونيسوس هو إله الخمر، المختص بالعناية بزراعات الكروم وصناعة النبيذ، ورمز القوة المخصبة والمنتجة.
- وذلك عندما قبل كرنيليوس الإيمان، واستدعى القديس بطرس ليشرح له الرؤيا التي رآها، والحوار الذي دار بينه وبين القديس بطرس، انظر اع۱:۱۰-۱۱، ۱۸.
- ولذلك نصلي في الصلاة الربانية، وتقول ” اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين البنا”.
تفسير رومية – 2 | رسالة رومية – 3 | تفسير رسالة رومية | تفسير العهد الجديد | تفسير رومية – 4 |
القديس يوحنا ذهبي الفم | ||||
تفاسير رومية – 3 | تفاسير رسالة رومية | تفاسير العهد الجديد |