رو1: 17 لأن فيه معلن بر الله بإيمان لإيمان…

لأَنْ فِيهِ مُعْلَنٌ بِرُّ اللهِ بِإِيمَانٍ، لإِيمَانٍ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌأَمَّا الْبَارُّ فَبِالإِيمَانِ يَحْيَا».“(رو1: 17)

+++

تفسير القديس يوحنا ذهبي الفم

“لأن فيه معلن بر الله بإيمان لإيمان. كما هو مكتوب أما البار فبالإيمان يحيا” (١٧:١).
فهذا الذي صار بارا بالإيمان، سيحيا ليس فقط في هذا الدهر، ولكن في الدهر الآتي أيضا. كما أنه يشير إلى شيء آخر، وهو أن هذه الحياة هى حياة مشرقة وممجدة. لأنه من الممكن أن ينقذ المرء وهو غير مستحق، مثلما ينقذ الكثيرون ولا يتعرضون لعقاب بسبب إحسان الملك لهم، ولكي لا يتشكك أحد في هذا عندما يسمع عن الخلاص، يضيف كلمة “البر” والبر ليس برا ذاتيا، لكنه البر الذي من الله، مشيرا إلى أن هذا البر يمنح بإغداق. وبكل تأكيد، فإن المرء يحصل على هذا البر لا بجهد وتعب، بل كمنحة من الله. وهذه المنحة التي يقدمها الله هى عطية الإيمان.

وعندما يتحدث عن الزناة، ومضاجعى الذكور، ونابشي القبور، والمخادعين، بأنهم سينجون من العقاب، وليس هذا فقط، بل أنهم سيصيرون أبرارا وفي أعلى درجات البر، فإن حديثه هذا يبدو صعب التصديق. ولهذا فإنه يؤكد كلامه باستخدام شواهد من العهد القديم بقوله: ” كما هو مكتوب أما البار فبالإيمان يحيا ونراه هنا يحيل المستمع لتدبير الله الذي اتضح في العهد القديم، ثم يشرحه بكل حكمة، عندما يكتب أيضا إلى العبرانيين، موضحا كيف أن الأبرار والخطاة، آنذاك قد تبرروا. ولهذا أشار إلى راحاب وإبراهيم. وهو لم يشر إلى ذلك فقط، لكنه أكد كلماته أيضا من أقوال الأنبياء، لأنه أشار إلى حبقوق في حديثه الذي نادى وقال ” والبار ايمانه
يحيا”. إذا لأن هذه الأمور التي يمنحها الله تتجاوز كل منطق، فإننا في احتياج إلى إيمان.
فليسمع الهراطقة هذا الصوت الروحاني. لأن طبيعة أفكارهم تشبه طرقات مظلمة، كما أن أقواليم معقدة، ولا يوجد فيها ما يبني، فهى تبدأ بالتعالي والزهو، لأنهم يشعرون كما لو أن قبول الإيمان يجلب الخجل، ويعتقدون أنهم لا يعرفون شيئاً عن الأمور السمائية، وهم في ذلك يلقون بأنفسهم في سحابة كثيفة من غبار الأفكار الزائفة. أيها التعس والبائس، المستحق البكاء عليك لو سألك أحد ، كيف صارت السماء؟ وكيف جاءت الأرض؟ ولماذا أتكلم عن السماء والأرض؟ كيف ولدت أنت نفسك؟ وكيف تربيت وكبرت، ألا تخجل لجهلك؟ وإذا جاء حديث عن الابن الوحيد الجنس، فإنه بسبب خجلك من قبول الإيمان بالمسيح، فإنك تلقي بنفسك إلى حافة الهلاك، وهل تظن أن عدم معرفتك بكل الأشياء، هو أمر لا يستحق منك الاهتمام؟ لكن ما لا يستحق الاهتمام، هو الرغبة في المشاجرة والانشغال بموضوعات عديدة وغريبة في وقت غير مناسب.

ولماذا أتحدث عن الأمور الإيمانية؟ لأننا لن نتخلص من شرور هذه الحياة الحاضرة إلا بالإيمان. ولهذا فقد تميز كل من عاش بالإيمان، إبراهيم واسحق ويعقوب، وهكذا أنقذت راحاب الزانية، وهؤلاء الذين وردت أسماءهم في العهد القديم، وأيضاً الذين وردت أسماؤهم في العهد الجديد. لأنه يقول: “بالإيمان راحاب الزانية لم تهلك مع العصاه إذ قبلت الجاسوسين بسلام””. ولم تفكر في نفسها، كيف سيستطيع هؤلاء الأسرى والمنفيون والمهاجرون الذين يعيشون حياة ترحال “حياة البدو”، أن ينتصروا علينا نحن الذين نملك مدينة وأسوار وأبراج؟ لأنها لو قالت هذا، لدمرت نفسها وهؤلاء معا، الأمر الذي كابده أجداد هؤلاء عندما أنقذوا آنذاك. لأن الجواسيس ـ في القديم – بسبب عدم الإيمان، عندما رأوا أناس طوال القامة وعمالقة، انهزموا بدون حرب، لأنهم قالوا “لا نقدر أن نصعد إلى الشعب لأنهم أشد منا. فأشاعوا مذمة الأرض التي تجسسوها في بني إسرائيل قائلين الأرض التي مررنا فيها لنتجسسها هي أرض تأكل مكانها. وجميع الشعب الذي رأيناه في هذه الأرض هم أناس طوال القامة فكنا في أعيننا كالجراد وهكذا كنا في أعينهم””. أرأيت كيف أن هوة عدم الإيمان، هي سحيقة بهذا القدر، وكيف أن سور الإيمان هو عظيم للغاية؟ لأن عدم الإيمان أهلك آلاف، بينما الإيمان لم ينقذ راحاب فقط، بل جعلها أيضا حامية لكثيرين. ولأنكم تعرفون هذه الأمور بل وأكثر منها، فلا ينبغي لنا أن نطلب من الله مسئوليته عن هذه الأمور التي تحدث، بل يجب أن نقبل ما يأمر به، لا أن تحلله ونفحصه كثيرا، حتى لو كان الأمر يبدو كأنه غير معقول بالنسبة للفكر البشرى . لأنه هل يوجد أمر يبدو غير معقول أكثر من أن يذبح الأب ابنه الوحيد؟ لكن إبراهيم البار عندما أُمر، لم يفحص هذا كثيرا، لكنه قبل وأطاع، وعندما أمر شخص آخر أن يضرب أحد الأنبياء في وجهه، ولم يخضع، فقد عوقب بالموت، لأنه فحص هذا الأمر ورأى أن هذا المطلب هو أمر غير معقول، بينما الآخر الذي أطاع وضربه شعر بالفرح. وعندما أنقذ شاول أناس بغير إرادة الله، خسر مملكته وعاني من أمراض غير قابلة للشفاء.

 وأمثلة أخرى كثيرة يستطيع المرء أن يجدها. ولذلك ـ من خلال كل ما تعلمناه ـ علينا ألا نطلب سبب أو دافع لتنفيذ أوامر الله، بل يجب أن نسمع ونخضع فقط. كما أنه من الخطورة أن نحلل الأوامر التي يأمر بها، إذ أن أولئك الذين يدققون كثيرا في أوامر الله، سيتعرضون لعقاب أشد. وبالحرى أولئك الذين يفحصون أمورا تفوق قدرات العقل البشري، أي كيف تم ميلاد الابن وبأي طريقة وما هو جوهره، أي دفاع سيقدمون عن أنفسهم وقتها؟ ولأننا نعلم هذه الأمور، فلنقبل الإيمان الذي هو تاج كل الفضائل، بكل امتنان وشكر، حتى أننا كمثل من يبحر في ميناء هادئ، نحفظ الإيمان المستقيم، ونقود حياتنا في أمان، وننال الخيرات الأبدية بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به المجد والقوة والكرامة مع الآب والروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.

تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي

كان القدّيس بولس يخجل من الصليب قبل أن يلتقي بالمصلوب الممجّد، حاسبًا الصليب عارًا لا يليق بالمسيّا ملك اليهود، أمّا الآن فقد أدرك أنه قوّة الله للخلاص، يلزم أن يُكرز به للجميع.

يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على كلمات الرسول قائلاً:

[يقول لأهل غلاطية: حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح (غل 6: 14). كان الرومانيّون شديدي التعلّق بالزمنيّات بسبب غناهم وإمبراطوريتهم وكرامتهم، فكانوا يحسبون ملوكهم في مصاف الآلهة، حتى أقاموا لهم المعابد، وقدّموا لهم القرابين، وهم يتشامخون بهذا. أمّا بولس فكان يودّ أن يكرز لهم بيسوع الذي ظنوا أنه ابن نجار نشأ في اليهوديّة، في بيت امرأة فقيرة لا يحيط بها الخدم والحشم ثم مات ميّتة اللصوص والمجرمين، متحمّلاً أصناف السُخرية والإهانات، الأمور التي حاول (بعض الرومانيّون الذين تنصروا) الاختباء منها قبل إدراكهم عظمة هذه الأمور غير المنطوق بها: لهذا يقول الرسول أنه لا يستحي، إذ كان يعلمهم هم أيضًا ألا يستحوا من هذه الرسالة المجيدة، حتى إذا ما بدأ هكذا بعدم الاستحاء ينتهي بهم إلى الافتخار أيضًا. فإن سألكم أحد: أتعبدون المصلوب؟ لا تستحوا، ولا تنظروا إلى الأرض بل ارفعوا رؤوسكم… أجيبوا باعتزاز، نعم نعبده!… الصليب بالنسبة لنا هو عمل المحبّة اللانهائية نحو البشر، وعلامة عناية الله غير المنطوق بها.]

ج. أدرك الرسول أن الإنجيل أو الكرازة بالصليب هو “قوة الله الخلاص”، اختبر هذه القوّة في حياته فأراد أن يقدّمها للجميع، كارزًا لليونانيّين أي أصحاب الفكر الهيِليني، وللبرابرة أي بقية الأمم. يودّ أن يتمتّع الكل بعمل الصليب: الحكماء أصحاب الفلسفات، والبسطاء الذين يُحسبون كجهلاء.

إن كان الصليب قد أنقذه، فإنه مدين للعالم كله، حاسبًا الوثنيّين دائنين له، يلتزم أن يرد لهم الدين بالكرازة لهم ليتمتّعوا بما تمتّع هو به!

د. يدعو الإنجيل “قوة الله للخلاص”، إذ هو ليس رسالة نظرية أو فلسفة فكرية تعليمية إنما “عمل إلهي ديناميكي” في حياة الإنسان، حركة حب إلهي لا تتوقف تبلغ به إلى شركة الأمجاد الإلهية.

ه. إنجيل المسيح مُقدّم لليهودي أولاً ثم اليوناني، هنا الأولوية لا تقوم على محاباة الله لجنسٍ على حساب آخر، وإنما أولوّية الالتزام بالمسئولية والعمل. فإن كانوا قد ائتمنوا على الناموس المكتوب، وتقبلوا إعلانات ونبوّات، ومنهم خرج رجال الله، فقد لاق بهم أن يتلّقفوا عمل السيد المسيح الخلاصي، ويحتضنوا الصليب حتى يخرجوا إلى الأمم، حاملين نير البشارة بالخلاص.

يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [كلمة “أولاً” ليست إلا تعبيرًا عن الناحية الزمنيّة فقط، إذ لا يوجد امتياز في مقدار البرّ الذي يحصل عليه، ولكن كمن ينزل في جرن المعمودية أولاً ثم يليه الآخر نعمة أعظم من التالي له، إنما ينعم الكل بنعمة واحدة. هكذا يتساوى اليهودي واليوناني في مواهب النعمة متى قبِلوا الإنجيل.]

و. ماذا يعني بقوله: “إيمان لإيمان؟” يرى العلامة ترتليان والعلامة أوريجينوس وابن كاتب قيصر أن برّ الله بإيمان الناموس حين نُقل المؤمنين إلى الإيمان بالإنجيل، وكأن الثمر الذي يشتهيه الرسول لكل عالم هو ذات الثمر الذي ترجّاه رجال الإيمان في العهد القديم، وقد حلّ الوقت المعيّن لينعم العالم به خلال الإيمان بالإنجيل الإلهي. يقول القدّيس إكليمنضس السكندري: [يعلّمنا أن خلاصًا واحدًا من الأنبياء إلى الإنجيل يحقّقه الرب الواحد عينه.] ويري القدّيس أمبروسيوس أن برّ الله يُعلن خلال أمانة الله في مواعيده، فتنتقل أمانته إلى إيمان الإنسان الذي ينعم ببرّ الله.

يقدّم لنا الرسول مفتاح كل عطيّة صالحة إلهية: “أما البارّ فبالإيمان يحيا [17]. فالإنسان الذي يرتبط بالله يحمل برّ المسيح فيه، لكنه لا يعني هذا أنه يصير معصومًا من الخطأ كما يظن البعض، إنما يتمتّع بالنمو المستمر في برّ المسيح بلا توقف. وقد حذّرنا القدّيس أغسطينوس من فهم هذه العبارة بمعنى أننا نصير بلا خطيّة.

ويُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة بالقول:

[مادامت عطيّة الله تفوق الإدراك تمامًا فمن المنطق أننا نحتاج إلى الإيمان.

أما ترون أن عدم الإيمان هو هوّة سحيقة، أمّا الإيمان فحصن حصين. لأن عدم الإيمان أهلك الآلاف بينما الإيمان لم يُؤدِ إلى خلاص الزانية وحدها بل جعلها أيضًا أمّا لكثيرين.

إننا نستضيف برقةٍ أم كل البركات، وهو الإيمان، لكي نكون كمن هم يسيرون في ميناء هادئ مستقر تمامًا، محافظين على إيماننا الأرثوذكسي، فنقود سفينتنا باستقامة ونحظى بالبركات بالنعمة ومحبة البشر التي لربنا يسوع المسيح.]

تفسير القمص متى المسكين

17:1 «لأن فيه معلن بر الله بإيمان لإيمان كما هو مكتوب أما البار فبالإيمان يحيا».

هذه الآية هي مفتاح الرسالة برمتها ، بل مفتاح لاهوت ق . بولس كله . لأن بر الله المعلن من السماء في شخص ابـنـه يـسـوع المسيح ميتاً ومقاماً ومرفوعاً فوق أعلى السموات من أجل خلاص الإنسان وحياته ؛ يشكل هيكل الإنجيل بل ويفرض نفسه فوق كل عنوان وكل آية .

ما هو بر الله ؟

إن أكـثـر الـتـعـاريف التي توضح ما هو بر الله وكيف يتم بالنسبة للإنسان هو نفس التعريف بـالخلق. فالله خلق العالم من لا شيء. هكذا البر، فالله أراد أن يبرر الإنسان من لا شيء، إنه في الـواقـع الـروحـي خـلـقـة جـديدة . فإن كان الخلق اعتمد أولاً وأخيراً على إرادة الله وعلمه وحكمته وتـدبـيـره وحبه، لإيجاد الحياة والعالم من لا شيء وعلى صورة حسنة ، وخص الإنسان بصورة حسنة جداً، هكذا التبرير اعتمد اعتماداً كليا على إرادة الله وعلمه وحكمته وتدبيره وحبه لإيجاد أو لخلق الأنسان بالروح على صورة حسنة جدا فوق العادة .

ولكن بالرغم من لباقة هذا التعريف أي بالنسبة للخلق، فإن تبرير الإنسان يفوق عملية الخلق عـمـقـا وهـدفاً !! فكون الله يخلق من لا شيء أرضاً وسماء و بحراً وطيراً وحيوانات مآلها إلى الفناء شيء، وكون الله يـبـرر إنـسـانـا ـ ليـس من لا شيء ـ بل من حالة سلبية فهو واقع تحت الخطية ومستعبد للفساد ـ ليرفعه إلى رتبة الحياة معه إلى الأبد، فهذا يفوق معنى خلق العالم من لا شيء آلاف المرات !!

هنا أصبح يلزم أولاً، لكي يبرر الله الإنسان، أن يغسله ويطهره غسلاً وتطهيراً جذرياً شديداً يشمل كل كيانه حتى يليق بالتبرير: « وهكذا كان أناس منكم لكن اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع و بروح إلهنا . » (1 كو 6: 11)

فـالـبـر سـواء في العهد القديم أو الجديد هو «برا الله » وليس لإنسان ما في الوجود بر، لا بعمله ولا بتقواه ولا بتتميمه وصايا الله مهما كان هذا التتميم صحيحاً وحرفياً. ولكن الله هو الذي يبرر الإنسان من واقع بره الخاص فيتبرر الإنسان أو يصير باراً، ولكن ببر الله . أما بر الله فهو اصطلاح سهل للغاية، فهو تعبير قضائي أو شرعي معناه أن الله عادل ورحيم معاً ، و يعبر عن هذا الالتقاء (مز 85: 10) بالقول :
+ «هل إلى الدهر تسخط علينا ؟
هل تطيل غضبك إلى دور قدور؟
ألا تعود أنت فتحيينا فيفرح بك شعبك
أرنا يا رب رحمتك وأعطنا خلاصك 
… الرحمة والحق التقيا البر والسلام تلاثما
الحق من الأرض ينبت والبر من السماء يطلع . » (مز85: 5و6 و7 و10و11)

هنا «الرحمة والحق» في الله وعند الله هما البرتماماً ، فالرحمة لا تستقر إلا على الحق، والحق هـو الـعـدل، والرحمة دائماً تشق طريقها وسط الصخر وفي أحلك الظروف حتماً تنتصر لأنها مـسـرة الله، فإذا اتفقت الرحمة مع الحق نتج البر، والبر معه السلام حتماً!! «فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله . » ( رو 5: 1)

ولكن كيف تستقر الرحمة على الحق أو العدل بالنسبة للإنسان وهو مملوء باطلاً وخطية؟ هذا تم بصليب المسيح. فالفداء الذي أكمله المسيح رفع عن الإنسان الباطل والخطية وأوقفه أمام الله أي أمام الحق ( العدل ) بلا لوم !!

وهـكـذا تـأهـل الإنسان «بالعدل» أن ينال الرحمة من الله ، وهكذا انسكب البر: البر من السماء، والحق أي العدل أشرق في الأرض، حينما تجسد المسيح على الأرض وأكمل الفداء فتبرأ الإنسان بالعدل ! فعدل الله صارم لا يستطيع إنسان أو ملاك أن ينجو إن هو وقع تحت حكم عدل الله . ويحكي أيوب عن ذلك فيقول :

+ « هوذا قديسوه لا يأتمنهم والسموات غير طاهرة بعينيه . » ( أي 15: 10)
+ « هوذا عبيده لا يأتمنهم وإلى ملائكته ينسب حماقة . » ( أي 4: 18)

وأمور عدل الله ( أي حق الله ) ضرورة لأنها هي الموازين التي تقوم عليها أعمال خلقته ـ لأنها كلها تنطق بحق الله ـ وهي لا تقبل الخطأ قط فهي دائماً أبدأ في الصحيح المطلق الذي لا يستطيع الإنسان أن يعرفه قط، لأن كل عدل الإنسان وقياساته وموازينه لا يمكن بل ومن المستحيل أن تبلغ الصحيح المطلق مهما تقدم العلم و بلغت التكنولوجيا أقصاها ، فلا بد من «خطأ الصفر» zero error ولا بد من التصحيح إذا لزمت الصحة . أما عدل الله فهو الصحيح المطلق ، فمن ذا يستطيع أن يقف أمامه ؟

ولكن الله يتدخل برحمته ـ وهنا يظهر بر الله ـ فيرفع عمن يرفع عنه أحكام عدله و يبرىء من يبرىء: «أرحم من أرحم وأتراءف على من أتراءف . » ( رو 9: 15)

ولـكـن الله لا يـرحـم جـزافـاً ولا يتراءف جزافاً، ولكن لا بد أن يكون الإنسان قد استوفى كل اعتبارات عدل الله ! فكيف يكون ذلك ؟ وهل ممكن ؟ بل هذا هو المستحيل بعينه ، فكيف تصرف الله إزاء المسـتـحـيـل لدى الإنسان؟ فالآن لكي يكون عند الله رصيد ضخم من رحمته يخفف به أو يعفو بـه عـن أحـكـام عـدلـه الصارمة، وهي صارمة جداً لأنها لا بد أن تستوفي الحق، قدم ابنه لـيـسـتـوفي فيه أحكام عدله التي وقع الإنسان تحت صرامتها . بمعنى أن الله تولى بنفسه أن يرفع عن الإنسان لعنة الخطية بشرط أن يكون الإنسان نفسه هو الذي يتلقى صرامة عدل الله . فلأن الإنسان لا يقوى على صرامة عدل الله تجسّد ابن الله ، أي أخذ جسد الإنسان «ككل » وأكمل فيه عدل الله بـقـبـول اللـعـنـة وجزاء الموت عن الخطية. وهكذا وقف الإنسان في المسيح مبرءاً أمام عدل الله، لائقاً لنوال بر الله لأنه صار بلا لوم !! فمنذ أن مات الابن على الصليب تم العدل فبدأت الرحمة تفتخر على العدل وتتباهى، ونجا الإنسان من حكم الموت وتبرر الفاجر!!

وهـكـذا ظهـر بر الله على الأرض يوم أن مات الابن على الصليب بعد أن أكمل عدل الله وقام فتبرر الإنسان في عيني الله .

هذا هو بر الله، وهكذا تبرر الإنسان .

يوجد مفهومان لكلمة « البر» :

1- فـالـبـر الذي من الله المعرف بالألف واللام، هو الذي يناله الإنسان بالإيمان بدون ناموس و بالتالي بدون أعمال الناموس :

« بر الله بدون الناموس مشهوداً له من الناموس …» (رو 3: 21)
« إذا نحسب أن الإنسان يتبرر بالإيمان بدون أعمال الناموس. » ( رو 3: 28)
وهو نفسه البر المعرف بالألف واللام الذي جاء في آية حبقوق النبي : « والبار بإيمانه يحيا» ( حب 2: 4)، التي اسـتـشـهـد بها ق. بولس. وهذا يعتبر براً فائقاً عن قدرات الإنسان وطبيعته وفهمه . تماماً كما وضعها داود النبي واستشهد بها ق. بولس : « طوبی لرجل لا يحسب له الرب خطية . » (مز 32: 2)

2ـ البر الأخلاقي وهذا هو البر الذي يكتسبه الإنسان بعمله ، أي بعمل الناموس، وهو البر العادي الذي في متناول الإنسان ، لأنه بر مصنوع بقدرة الإنسان . هذا البر يستحيل أن يكون بدون عمل وإلا لا يكون برأ بل كذباً وادعاء .

وهـكـذا نرى أن بر الله لا يكون بعمل الإنسان ؛ بل بالإيمان بالله والمسيح، فهو بر إلهي بعمل الله، أما بر الإنسان فهو يصنع بالعمل الإنساني والجهد الإنساني وهو بر أخلاقي. في عين العالم أو الفلاسفة، فإن البر المعترف به عندهم هو بر الإنسان الذي يكتسبه الإنسان بجهده وفضائله المـعـمـولـة، أما بر الله الذي يناله الإنسان بدون ناموس و بدون أي عمل ( أي بصليب ربنا يسوع المسيح) فهو عند العالم والفلاسفة خرافة وجهالة كما أورده ق . بولس (1کو 1: 23).

والآن ، فإن طاعة الإنسان للناموس واجتهاده بالأعمال المنصوص عنها فيه هو بر الإنسان . ومـعـيـارهـا الـنـامـوسي: «اعـمـل وأنت تحيا»، أو كما قالها موسى واستشهد بها ق. بولس : « الإنسان الذي يفعلها سيحيا بها» (رو 10: 5). وهذه لا تحتاج إلى رؤية أو إيمان أو استعلان فالذي يعملها يحيا بها. أما البر الذي من الله و بلا ناموس ولا أعمال فهو بر فائق، ليس على قدرات الإنسان وأعـمـالـه فقط؛ بل فائق على العقل البشري ، ولا يمكن الحصول على فهمه إلا بانفتاح الذهن بالإيمان بالاستعلان كما في كل تعاليم ق. بولس والإنجيل : « أما الذي لا يعمل ولكن يؤمن بالذي يبرر الفاجر ( على الصليب) فإيمانه يحسب له برا . » ( رو 4: 5 )

أما لماذا يـكـون بـر الله فائقاً على العقل والقدرات البشرية ، فلأنه قائم أولاً على عمل الفداء الذي أكمله المسيح من أجل الإنسان ليوقفه موقف البراءة، أو كما يقول ق. بولس «بلا لوم » أمام الله، وهذا مستحيل أن يدركه الإنسان لا بالعمل ولا بالفكر، ثم نوال رحمة الله التي تفوق كل إمـكـانـيـات الإنسان وتـصـوراته لأنها فوق استحقاقه . لذلك يقول الرب عنها إني أرحم من أرحم وأتـراءف على من أتراءف ( خر 33: 19). هذا هو مفتاح بر الله ـ ونحن يستحيل أن ننال رحمة إلا بالمسيح، والرحمة يستحيل على الإنسان أن يفهمها أو يحشها إلا إذا أخذها . ونحن أخذناها مجاناً بالمسيح .

أما معيـار بـر الله فهو « الـبـر يـحـيي» : « البار بالإيمان يحيا » ، وما معنى يحيا ؟ هل يأكل ويشرب وينام ؟ هل تطول أيامه على الأرض ؟ بل يعني أنه يعمل أعمال البر، الأعمال التي تشهد لله ولبر الله ، أعمال الصلاح التي تشهد لصلاح الله : « لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات . » (مت 5: 16)

فبر الإنسان : « اعمل وأنت تحيا»، أما بر الله : «آمن لتنال بر الله فتعمل» ، في الأولى اعمل أولاً وفي الثانية آمن أولاً. فمن جهة بر الإنسان : اعمل وإلا تموت، «من خالف ناموس موسى … يموت بدون رأفة » ( عب 10: 28). فالعمل هنا دين ، وهو عمل إنسان.

أما من جهة بر الله : فالذي يؤمن يتبرر أمام الله فيحيا ويعمل أعمال الله ، فالعمل هنا نعمة وهو عمل الله : «نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها . » ( أف 2: 10)

علماً بأنه يستحيل الانتقال من بر الإنسان ـ أي البر بالأعمال والناموس ـ إلى بر الله الذي بالإيمان أو الخلط بينهما: «لأن بأعمال الناموس كل ذي جسد لا يتبرر أمامه » ( رو 3: 20)؛ ولكن الانتقال من بر الله إلى الأعمال حتمي، إذ يستحيل على من يؤمن ويتبرر أن لا يعمل .

كذلك يلزم أن نفهم ونعي ونتحقق أن هناك نوعين من الأعمال :
1 ـ أعـمـال يـعـمـلها الإنسان يظن أنها تبرره أمام الله : وهي تكون بطبيعتها مرة و بضيق يتممها، وتحتاج إلى جهد شديد وعزيمة مستمرة متكررة وإلا يتراخي الإنسان وتهبط روحه، وقل أن يوجد فيها العزاء والراحة ، بل كلما يزداد جهاده ، يزداد إحساسه بالعوز والفقر.

2- أعمال يعملها الإنسان بحرارة إيمانه و بشدة فرحه وتعلقه بالمسيح و بإحساسه أن المسيح غفر خطاياه على الصليب بدون استحقاق منه ، وأن المسيح أحبه ودعاه واختاره بنعمته ليس لشيء صالح فيه ؛ بل بمقتضى صلاحه هو وكثمرة لحبه الذي كلفه سفك دمه من أجله: «أحـبـنـي وأسلم نفسه لأجلي» (غل 2: 20). وهذه الأعمال تؤازرها النعمة ، لذلك تـكـون أعـمـالاً صادقة تزداد ولا تنقص ، تزداد كل يوم حرارة وإصراراً وعزيمة ، ويؤتى بها المستحيلات، في سهر، في صوم متواصل ، في خدمة بلا ملل، في تواضع حقيقي، في بذل بلا عقل و بلا حدود . وكلما عمل الإنسان وجاهد يزداد فرحاً لعمل أكـثـر وجهاد أكثر ويحس في أعماق روحه أن الله بنعمته هو الذي يعمل هذه الأعمال : «لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا . » (في 2: 13)

وهذا النوع من الأعمال المؤازرة بالنعمة تؤكده خبرة آباء البرية الأوائل :
[ إن الروح القدس يجعل عمل الله للإنسان أحلى من العسل ومن شهد العسل، سواء كان تعب الأصـوام أو سهر الليالي أو السكون أو خدمة الآخرين أو الصدقة، فإن كل أمور الله تصير له حلوة . ] ( أنبا مقار ـ عظة 57)

[وأنـا أعـلـمـكـم عـملاً آخر يثبت الإنسان من بدايته إلى نهايته ، وهو أن يحب الله من كل نفسه ومن كل قلبه ومن كل نيته ويتعبد له ، وعند ذلك يعطيه الله قوة عظيمة وفرحاً فتحلو له جميع أعمال الله، وكل أتعاب الجسد أيضاً والهذيذ والسهر وحمل نير الرب يصير عليه خفيفاً حلواً ..
فإذا نلتم يا أولادي هذه المواهب الفاضلة، فلا تظنوا أنها من أعمالكم؛ بل هي قوة مقدسة مشتركة معكم في جميع أعمالكم . ] ( أنبا أنطونيوس ـ رسالة 18 و6)

وإن كان الخلاص هو قوة الله المعلنة بالمسيح في الإنجيل، فبر الله هو أساس قوة الخلاص المعلن والفعال في الإنجيل وبالإنجيل، فبر الله ليس صفة الله بل قوة استعلنت في المسيح يسوع «بإقامته من الأموات» لتصير هذه القوة في متناول الإنسان، كل من يؤمن بالقيامة الأموات، مشتركاً بل متحداً مع المسيح كما في موته كذلك في قيامته بالإيمان . 

فالإنجيل في نظر ق. بولس هو قوة الله للخلاص، ونوال هذه القوة يتم بالخضوع تحت قوة الإنجيل الذي يكون بالإيمان!! كذلك بر الله هو قوة الله للخلاص المعلن من السماء في المسبح ميتاً ومقاماً، فالخضوع تحت قوة موت المسيح وقيامته ـ الذي يكون بالعماد ـ هو التبرير المؤدي إلى الخلاص. « وهكذا كان أناس منكم . لكن اغتسلتم ( الإيمان + المعمودية ) بل تـقـدسـتـم (بالروح القدس) بل تبررتم ( نلتم بر الله بالخلاص) باسم الرب يسوع و بروح إلهنا . » (1كو 6: 11)

نفهم من هذا أن الإيمان هو نوال قوة الخلاص بالإنجيل إذا خضعنا لقوة الإنجيل ، فالإيمان بإنجيل المسيح هو ـ بحد ذاته ـ قوة للخلاص، إذا انتبهنا إلى أن الإيمان فعل خضوع للإنجيل. كذلك بر الله الذي في المسيح المذخر في موته وقيامته، فإذا بلغنا بقوة الإيمان إلى الخضوع لقوة عمل الخلاص الذي في موت الرب وقيامته الذي هو أصلاً لنا ومن أجلنا، نلنا قوة موت المسيح وقوة قيامته وبالتالي بر الله. «لأنهم إذ كانوا يجهلون بر الله ويطلبون أن يثبتوا بر أنفسهم لم يخضعوا لبر الله» (رو 10: 3). فإذا خضعنا نحن لبر الله الذي استعلن في موت المسيح نلنا غاية بر الله الذي في المسيح وهو العتق من الخطية، وإذا خضعنا لقوة بر الله الذي استعلن في قيامته من الأموات نلنا التبرير للحياة الأبدية .

هذا هو بر الله المعلن في إنجيل المسيح: قوة للغفران في موت المسيح، وقوة للحياة في قيامة المسيح، ننالهما بالخضوع الإيماني الفعلي فتحسب أننا متنا مع المسيح وقمنا مع المسيح بقوة بر الله المجاني الممنوح لنا بالإيمان !

 والـقـديـس بـولـس يسمي الخضوع لبر الله ـ سواء في موت المسيح أو قيامته ـ بالعبودية للبر: « أنتم عبيد للذي تطيعونه إما للخطية للموت أو للطاعة للبر، فشكراً الله أنكم كنتم عبيداً للخطية وإذ أعـتـقـتـم من الخطية (في موت المسيح ) صرتم عبيداً للبر، … هكذا الآن قدموا أعضاء كم عبيداً للبر للقداسة» (رو 6: 16و18 و19). لاحظ هنا أيها القارىء العزيز أنه بعد أن ننال البر يتحتم أن نعمل أعمال البر.

والـذي نـرجـوه مـن القارىء أن ينتبه مرة أخرى أن بر الله هو من طبيعة الله، فهو قوة تسود على كل من يقبلها ويخضع لها . والله قدم لنا بره الخاص في موت المسيح وقيامته كقوة ذات سيادة، إذا خضعنا لها بالروح من القلب سادت علينا وملكتنا . وحينئذ نحصل على بر الله الذي في موت المسيح، وهـو غـفـران الخطايا المجاني، ونحصل على بر الله الذي في قيامة المسيح، وهو القيامة للحياة الأبدية، وكأننا متنا مع المسيح وقمنا مع المسيح ، لنحيا الله!

بهذا نفهم أن المسيح صار لنا واسطة لنوال بر الله . إذا قبلنا المسيح قبلنا فيه بر الله بالضرورة :

+ « ومنـه أنـتـم بـالمسـيـح يـسـوع الذي صار لـنـا حـكـمـة مـن الله وبرأ وقداسة وفداء . » (1کو 1: 30)
+ «لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه . » (2کو 5: 21)

فإذا كان الإنجيل الذي يكرز به ق. بولس يحمل قوة بر الله ، إذا يكون بر الله قد انفتح على العالم كله، يهوداً وأمماً، كما يقول ق. بولس ( 1کو 1: 23).

«من إيمان لا يمان»: ἐκ πίστεως εἰς πίστιν

واضح هنا روح الحركة والامتداد سواء في الذي يؤمن ، فكل إيمان يبلغه يدفعه كقوة إلى إيمان أعلى وأعـمـق: «ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد  ἀπὸ δόξης εἰς δόξαν كما من الرب الروح » ( 2کو 3: 18)، «لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشيء لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدياً » ( 2كو 4: 17)؛ أو تكون الحركة والامتداد في الإيمان نفسه إذ ينتقل الإيمان من مستوى إلى مستوى أعلى وأعمق على وزن : « الروح يفحص كل شيء أعماق الله» (1كو 2: 10)، أي مـن عـمـق إلى عـمـق . وواضح أن تاريخ الخلاص في الكنيسة يرتقي ويمتد ويزداد وضوحاً وصفاء من جيل إلى جيل. وبالنهاية يكون القصد أن حركة الإيمان لن تنقطع حتى تبلغ غايتها حتى إلى ملء الخليقة الجديدة .

ولـكـن الـذي يتحدد أمام ذهننا من هذه الآية أن «بر الله» في إنجيل المسيح ينحصر إعلانه واستعلانه في الإنجيل بالإيمان ومزيد من الإيمان . وبلمحة خاطفة ملهمة استطاع ق . بولس أن يجد لهذا المبدأ معياراً مختصراً ذا قوة واستضاءة من نبوة حبقوق : « والبار بإيمانه يحيا » ( حب 4: 2 ). ولكن هذا التعبير النبوي لا يتلاءم ومقصد ق . بولس تماماً من البر، لأنه معروف أنه «ليس بار ولا واحد» (رو 3: 10)، ولـيـس لـلإنـسـان بـر ذاتي. وقد جاءت في حبقوق : « والبار بإيمانه يحيا » ، ولـكـن تـركـيـز ق. بولس هو على البر الذي من الله ذاته ، وليس على البار ولا على بر البار. فكأن ق. بولس يـقـول بمـعـيـار جـديـد بالإنجيل بالمقابل لحبقوق : «إن المؤمن ببر الله يحيا»، وهذا هو الإنجيل حقاً وفعلاً.

تفسير القمص أنطونيوس فكري

آية (17): “لأن فيه معلن بر الله بإيمان لإيمان كما هو مكتوب أما البار فبالإيمان يحيا.”

فيه معلن بر الله= هذا الإنجيل الذي أبشر به هو قوة الله للخلاص (آية 16) وكيف يخلص؟ بأن يجعل المؤمن باراً. وهل يستطيع كل مؤمن أن يصبح باراً؟ قطعاً فعمل نعمة الله التي تبرر عمل قوي جداً جداً. الله يعطي للمؤمن المعمد والممسوح بزيت الميرون، أن يحل عليه الروح القدس الذي له قوة جبارة في تغيير حياة المؤمن، من حياة الخطية إلي حياة البر، وتغيير شاول الطرسوسي نفسه إلي بولس الرسول خير شاهد لذلك (راجع معني التبرير في المقدمة). ولنفهم أنه علينا أن نغصب أنفسنا كمؤمنين لنفعل البر (جهاد إيجابي) والنعمة تعطينا أن نتلذذ ونتعزي بعمل البر. ولاحظ أننا نصير أبراراً بحياة المسيح فينا. ولاحظ أن بر الناموس كان “إعمل فتحيا” أمّا في المسيحية فالتبرير يبدأ بالإيمان بالمسيح فلا بر خارج عن الإيمان بالمسيح. ثم يأتي دور المعمودية التي فيها نموت ونقوم مع المسيح بحياته. ويأتي بعد ذلك دور حلول الروح القدس الذي يثبتنا في المسيح، وبقدر ما نثبت في المسيح ننمو في البر. ونحن نثبت في المسيح بقدر ما نصلب أنفسنا مع المسيح ونجاهد (جهاد سلبي وجهاد إيجابي) لذلك فمدخل التبرير في المسيحية هو الإيمان معلن بر الله بإيمان. بإيمان لإيمان= الإيمان ينمو ويزداد (2تس3:1+ لو5:17). والله قسم لكل منا قدر من الإيمان (رو3:12) ونحن أمّا ننمي هذا القدر أو ننقصه وكل إيمان نبلغه يعبِّر عن مستوانا الروحي الذي وصلنا إليه، وطوبي للجياع والعطاش إلي البر .. (مت6:5). مثل هؤلاء ينمو باستمرار مستواهم الروحي وبالتالي ينمو إيمانهم من إيمان لإيمان أعمق وأعلي وهذا متوقف علي جهادنا (سلبي وإيجابي) وعلي خضوعنا وتسليمنا الحياة بين يدي الله بشكر وبلا تذمر، بهذا ينمو الإيمان، بل ننمو في المجد، ومن مجد إلي مجد (2كو18:3). وقطعاً فكلما نزداد في درجتنا الإيمانية سنزداد في عمل البر وحياة البر. ولاحظ أن الإيمان هو ثمرة للإمتلاء من الروح القدس (غل22:5، 23) والإمتلاء من الروح يأتي بالجهاد (راجع المقدمة).

أما البار فبالإيمان يحيا= هذه من نبوة حبقوق 4:2. وكان حبقوق يقصد بها أن بابل ستؤدب شعب الله فقط لكنها لن تبيده لسبب بسيط هو أن هذا الشعب شعب الله. والذين عبدوا الأوثان ستبيدهم بابل، أمّا الأبرار الذين يؤمنون بالله فسيحيون، بابل ستؤدبهم فقط لَيكْملوا، لكنها لا تستطيع أن تبيدهم. لكن بولس فهم الآية أن البر يكون بالإيمان وليس بالأعمال (أعمال الناموس) كما فهم اليهود. وبولس عاش في يهوديته يمارس أعمالاً جيدة لكنه لم يتذوق حياة البر النابعة عن إصلاح الداخل الذي حدث له بالإيمان. خلال أعمال الناموس كان يشعر بفساد الداخل، وأنه يعمل أعمالاً صالحة ولكن مع وجود كبت، وحنين للخطية. أما في ظل الإيمان فوجد نفسه يعمل البر بسهولة وبرغبة صادقة.

تأمل:- في الآية كما قصدها حبقوق وبنفس مفهومه، فمن يقع في تجربة الآن. عليه أن ينظر لله بإيمان بأن الله سيرحمه ويتحنن عليه، ويحول الضيقة لخيره فهو صانع خيرات. وهذا عكس من يخاصم الله وقت التجربة. في هذه الآية نجد أن المؤمن ينمو بإستمرار في بر المسيح، ولكن هذا لا يعني أننا نصير بلا خطية، فطالما نحن في الجسد فنحن معرضون لأن نخطئ ولكن التوبة والإعتراف يغفران الخطية.

تفسير د/ موريس تاوضروس

16 لأني لست أستحي بإنجيل المسيح لأنه قـوة الله للخلاص لكل من يؤمن لليهودي اولا ثم لليوناني. 17 لأن فيه معلن بر الله بإيمان لإيمان كما هو مكتوب، أمـا البار فبالإيمان يحيي ؛ (رو1: 16 – 17).

“لأني لست اسـتـحـي بإنجيل المسيح لأنه قـوة الله لـلـخـلاص لكل من يؤمن لليهودي أولا ثم لليوناني”، يشير الرسول بولس في العددين السادس عشر والسابع عشر، لي موضوع الكرازة أو مـوضـوع الـرسـالة، وهو «إنجيل المسيح». ويحس الرسول بالانـتـخـار لأنه لختير من قبل الله لكي يباشر هذه الخدمة الشريفة الممتازة. ويتحدث عن فاعلية الإنجيل وقوته في تحقيق الخلاص، ذلك لأن الإنجيل الذي يدور حول شخص المسيح المصـلـوب هـو قـوة الله للخلاص لكل من يؤمن،. ويقـدم الإنجيل هذا الخلاص أولا لليهود من حيث أنهم كانوا أسبق من غيرهم في إرتباطهم بالله، وقد أخذوا المواعيد من الله بالخلاص، ثم يقدمه أيضـا لليونانيين لأنهم مدعوون أيضا لهذا الخلاص الذي لايقتصر علي شعب اليهود ولكنه يمتد إلى جميع الناس ويـوهـب لكل من يؤمن، مهما كان الشعب الذي ينتمي اليه، لأن المسيح والكل وفي الكل.

لأن فـيـه مـعلن بر الله بإيمان لإيمان كـمـا هـو مـكتـوب أمـا الـبـار فـبـالإيمان يحيا“. بواسطة الإنجيل يظهر الـبـر الذي يهبه الله للمؤمن، أما مصدر هذا البر أو هذا الخلاص فليس هـو أعـمـال الـنـامـوس بل الإيمان. الخلاص لايتحقق بواسطة أعـمـال الـناموس بل بالإيمان بالمسيح المصلوب. كذلك فإن هذا الخلاص لايوهب فقط لمن كان لهم الناموس بل لكل من يؤمن. وهذا التعليم الذي يجعل البر أو الخلاص نتيجة للإيمان وليس ثمرة لأعمال الناموس، قد سبق وأشير إليه في العهد القديم، فقد قال حبقوق «أما البار فبالإيمان يحياة . واما كلمة «بار، فتشير إلي مـن يـحـفـظ الناموس. ومعني ذلك أن الذين يحفظون الناموس يحـيـون لا بأعمال الـنـامـوس بل بالإيمان، وكلمة «يحياة تشير إلى الحياة الروحية وهي حياة النعمة التي حررتنا من سلطان أو عبودية الخطية، وحياة المجد الذي ينتظرنا فيما بعد كورثة للملكوت مع المسيح، وعلي ذلك فعبارة «بإيمان لإيمان» تعني أن البر يتحقق من ناحية بواسطة الإيمان ومن ناحية أخري يوهب لكل من يؤمن.

تفسير كنيسة مارمرقس مصر الجديدة

ع17: بر الله: عدله ورحمته.

بإيمان لإيمان: أصلها من إيمان لإيمان. أي أن فداء المسيح نقلنا من الإيمان الأول في العهد القديم، والذي يلزم فيه على الإنسان لكي يصير بارا أن يعمل أعمال ووصايا الناموس، ويقدم ذبائح كثيرة، والتي كانت ترمز للمسيح، للتكفير عن خطاياه؛ إلى الإيمان الثاني في العهد الجديد، المبنى على الثقة بذبيحة المسيح الفادي على الصليب الغير محدودة والتي تكفر عن خطايا البشرية، فتبرر المؤمنين بها.

أعلن لنا الإنجيل عن بر الله، الذي صيرنا أبرارا أمامه. فعندما مات المسيح عنا، وفّى العدل الإلهي لننال نحن رحمه الله وغفرانه. ولا يتمتع بهذا التبرير كل إنسان، بل فقط الذي يحيا بالإيمان (حبقوق 2: 4)، أي الذي يؤمن ويطيع أيضًا وصاياه.

رو1: 16 رسالة رومية رو1: 18
رسالة رومية – أصحاح 1
تفسير رومية 1 تفاسير رسالة رومية

 

زر الذهاب إلى الأعلى