فصول مُنتخبة من العهد الجديد للقديس اغسطينوس- متى 7
“اسألوا تعطوا الخ” (مت 7: 7)
الحث على الصدقة
1. ينصحنا الرب في فصل هذا الإنجيل المقدس بالصلاة. فيقول: “اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا اقرعوا يفتح لكم، لأن كل من يسأل يأخذ ومن يطلب يجد ومن يقرع يفتح له. أم أي إنسان منكم إذا سأله ابنه خبزًا يعطيه حجرًا، وإن سأله سمكة يعطيه حية، أو إذا سأله بيضة أفيعطيه عقربًا” (مت 7:7-10). يقول “فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة فكم بالحرى أبوكم الذي في السموات يهبكم خيرات للذين يسألونه أنه يقول: “فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة”، أنه لأمر عجيب أيها الإخوة أننا أشرار ومع ذلك فلنا أب صالح. أي شيء أكثر صراحة من هذا؟
لقد سمعنا اِسمنا الملائم لنا “فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة” والآن فلتنظروا أي نوع هذا الأب الذي أظهره لهؤلاء الذين دعاهم أشرار فكم بالحرى أبوكم”؟ أب لمن؟ للأشرار بلا شك ومن أي نوع هذا الأب؟ ليس أحد صالحًا إلا واحد وهو الله (لو 18: 19).
2. إن كان لنا نحن الأشرار أبًا صالحًا فينبغي أن لا نستمر دائمًا في الشر. لا يستطيع شرير أن يجعل آخر صالحًا أن الصالح إلى الأبد وحده هو الذي يستطيع أن يجعل من الشرير صالحًا، فإن كان الشرير لا يستطيع أن يجعل آخرًا صالحًا كيف يستطيع أن يجعل نفسه صالحًا؟ “اِشفني يا رب فأُشفى، خلصني فأخلص” (إر 17: 14). لماذا يحدثني المتكبرون، بكلمات باطلة مثلهم. إن أردت تستطيع أن تخلص نفسك”؟ “اشفني يا رب فأشفى “لقد خلقنا الصالح صالحين لأن “الله صنع الإنسان مستقيمًا” (جا 7: 29). ولكن بإرادتنا صرنا أشرارًا. أنه لدينا القوة لنتحول من كوننا صالحين إلى أشرار، وسيكون لدينا القدرة لنتحول من أشرار إلى صالحين. ولكن هذه القوة هي الله الصالح دائمًا الذي يخرج من الشرير صالحًا. لأن الإنسان لا يستطيع أن يشفي نفسه بقوته. فإنك لا تبحث عن طبيب لتجرح نفسك، ولكن عندما تجرح تبحث عن الطبيب يعالجك. رغم أننا أشرار فإننا نعرف كيف نعطي أولادنا أشياءًا صالحة من هذا العالم الحاضر، أشياءًا زمنية صالحة تخص الجسد فحتى هذه الأشياء صالحة، من يشك في ذلك؟ فالسمكة والبيضة والخبز والفاكهة والقمح والنور الذي نراه، الهواء الذي نستنشقه، كل هذه أشياء صالحة الغني ذاته الذي ينتفخ به البشر ويفقدون به معرفة الآخرين كمتساوين لهم. أقول أنه ذلك الذي به يرتفع البشر بالأحرى في محبة ملابسهم الغالية، بدون أي تفكير في طبيعتهم المشتركة، أكرر أنه حتى هذا الغنى شيء صالح. ولكن كل هذه الأشياء الصالحة يمكن أن يمتلكها صالحون أو أشرار على السواء ورغم أنها أشياء صالحة في ذاتها إلا أنها لا تستطيع أن تجعل مالكها صالحًا.
3. هناك صالح يخلق صالحين وصالح يمكن به أن يصنع صلاحًا. الصالح الذي يخلق صالحين هو الله، لأنه لا يستطيع أحد أن يجعل إنسانًا صالحًا إلا الصالح إلى الأبد لذلك فلتدعوا الله لكن ما تكون صالحًا، ولكن هناك صالح يمكن به أن تفعل صالحًا، وذلك هو كل ما تملكه. يوجد ذهب وتوجد فضة وهما أشياء صالحة ولكنهما لا يجعلانك صالحًا بل يمكن أن تصنع بهما صلاحًا لديك ذهب وفضة، وأنت ترغب في المزيد منهما. لديك كليهما وتريد زيادة فأنت مرتوي وظمآن. أنه مرض وليس غنى عندما يمرض البشر بمرض الاستسقاء فإنهم يكونون مرتوين بالماء، ومع ذلك فهم عطشى دائمًا. فكيف يسر هؤلاء بثروتهم الذين لديهم تلك الرغبة المريضة بمرض الاستسقاء؟ ذهبا أنت تملك وهو شيء صالح ومع ذلك فإنه ليس لديك ما يجعلك صالحًا بل ما يمكن أن تصنع به صلاحًا. أتسأل أي صلاح أفعله بالذهب؟ ألم تسمع في المزمور “فرَّق أعطى المساكين، برّه قائم إلى الأبد” (مز 112: 9) هذا صالح. هذا هو الشيء الصالح الذي به تصيرون صالحين، أي إن كان لديك الصالح الذي به تصير صالحًا فلتصنع صلاحًا، بذلك الصالح الذي لا يستطيع أن يجعلك صالحًا. لديك مالا، استخدمه بسخاء، فباستخدامه بسخاء تزداد برًا. لأنه “فرَّق أعطي المساكين، برّه قائم إلى الأبد” انظر ماذا ينقص وماذا يزداد. تنقص أموالك ويزداد برّك ينقص ما ستفقده قريبًا، ينقص ما ستتركه بعدك عن قريب، ويزداد ما ستملكه إلى الأبد.
4. إنني أعطيك سرًا في المعاملة المربحة، تعلم هذا لتتاجر. فهل تمدح التاجر الذي يبيع رصاصًا ويحصل على الذهب، ولا تثني على الذي ينفق مالا وينال برًا؟ لكنك تجيب أنني لا أنفق مالي لأنه ليس لدى برًا. لينفق الذي لديه برًا ماله، فإذ ليس لي برًا فلا أقل من أن يكون لديّ مالاً. ألا تريد أن تنفق مالك لأنه ليس لديك برًا؟ بلى بالآخرى أن تنفق مالك فتحصل على البر. لأنه ممن تحصل على البرّ إلا من الله ينبوع البر؟ لذلك إن أردت البرّ فلتكن شحاذ لله الذي ينصحك في الإنجيل، الآن أن تسأل وتطلب وتفرع. أنه عرف شحاذه، وهوذا صاحب البيت الإله الغني الجبار هو غنى لأنه يهب. الغنى الروحي والأبدي، ينصحك قائلاً: “اسألوا، اطلبوا، اقرعوا، لأن كل من يسأل يأخذ ومن يطلب يجد ومن يقرع يفتح له” (مت 7:7-8). أنه ينصحك أن تسأل فهل يرفض سؤالك؟
5. تأمل في المثال أو المقارنة المأخوذة من حالة مخالفة، كما في ذلك القاضي الظالم التي تشجعنا على الصلاة. يقول الرب “كان في مدينة قاض لا يخاف الله ولا يهاب إنسانًا” (لو 18: 2)، وكانت تلح عليه أرملة يوميًا قائلة: “اَنصفني” وكان لا يشاء إلى زمان طويل ومع ذلك فلم تنقطع عن طلبتها، ففعل بسبب إلحاحها ما لم يشأ فعله بإرادة صالحة. هكذا بحالة عكسية يوصينا بالصلاة.
6. أيضًا قال الرب “من منكم يكون له صديق ويمضي إليه نصف الليل ويقول له يا صديق أقرضني ثلاثة أرغفة” (لو 11: 5)، إنه يجيب “أنني على الفراش وأولادي معي”. فلا يتركه الآخر بل يقف عارضًا دعواه في السماح ويقرع متوسلاً إليه ليس كصديق له بل لآخر وماذا قال الرب؟ “أقول لكم وإن كان لا يقوم ويعطيه لكونه صديقه، فإنه من أجل لجاجته يقوم ويعطيه قدر ما يحتاج فرغم أنه صديقه إلا أنه ليس لكونه صديقه “بل” من أجل لجاجته” ماذا يعني بـ “من أجل لجاجته”؟ لأنه لم يكف عن القرع ولا رجع عندما رفض طلبه. الذي لم يكن يريد أن يعطي أعطى بسبب عدم فتور الآخر عن السؤال، فكم بالأكثر يعطي ذلك الصالح وحده الذي يحثنا على الطلب منه، والذي لا يسر عندما لا نطلب منه؟ ولكنه يبطئ أحيانًا في عطائه بعض الأشياء حتى يُعرفنا قيمة هذه الأشياء الصالحة. وليس لأنه يرفض أن يعطينا إياها. الأشياء التي يشتاق إليها كثيرًا يحصل عليها بفرح عظيم، وأما التي تعطى سريعًا فإنها تؤخذ على أنها زهيدة. إذن لتسأل وتطلب وتلح فبالسؤال نفسه والطلب ستنمو هكذا لتنال أكثر. يحتفظ الله لك ما لا يريد أن يعطيه إياك سريعًا، حتى تتعلم أن يكون لك اشتياق إلى الأمور العظيمة. لذلك “ينبغي أن نصلي كل حين ولا يمل” (مت 18: 1).
7. إذن إن كان الله قد جعلنا شحاذين له بتنبيهاته ونصائحه وأوامره لنا بأن نسأل ونطلب ونقرع فلنهتم من جانبنا بالذين يطلبون منا. إننا نسأل وممن نسأل؟ من هو الذي نسأله أو من نحن أو ما هو الشيء الذي نطلبه؟ إننا نسأل من الله الصالح وأما نحن الذين نطلب الأشرار، ولكننا نسأل برًا نكون به صالحين. إننا نسأل من أجل ذلك الذي يكون لنا إلى الأبد. الذي إذ نمتلئ منه لا نعود بعد نكون في عوز. ولكي نمتلئ ليتنا نجوع ونعطش. ليتنا نسأل ونطلب ونقرع كجائعين وعطشى “طوبى للجياع والعطاش إلى البر” (مت 5: 6). لماذا يطوبون؟ إنهم يجوعون ويعطشون فهل يطوبون لذلك؟ هل في الاحتياج أيضًا تطويبًا؟ إنهم لا يطوَّبون بكونهم جائعين وعطشى بل لأنهم سيشبعون. سيكون التطويب في الشبع لا الجوع. ولكن ينبغي أن يسبق الشبع جوعًا حتى لا يكون اشمئزاز من الخبز.
8. لقد قلنا ممن نسأل ومن نحن الذين نسأل وماذا نسأل؟ ونحن أنفسنا أيضًا نُسأل. إننا شحاذين الله وهو يعرف شحاذينه، ليتنا نعرف الذين يشحذون منا. ليته عندما نسأل شيئًا تفكر في هذه الحالة من هم الذين يسألون وممن يسألون وماذا يسألون؟ إذن من هم الذين يسألون؟ إنهم بشر. ممن يسألون؟ من بشر. من هم الذين يسألون؟ فانين، وممن؟ من فانين. من هم الذين يسألون؟ كائنات ضعيفة. وممن؟ من كائنات ضعيفة. من الذين يسألون؟ أشقياء. وممن؟ من أشقياء. فباستثناء الثروة يشبه الذين يسألون الذين يسألونهم. بأي وجه تطلب أمام سيدك يا من لم تعرف المساوي لك؟
قد يقول “أنني لست مثله شتان ما بيني وبينه. واحد يلبس حريرًا وينتفخ بكبرياء متحدثًا مع شخص مغطى بالخرق. لكنني أسألكم عندما تتعرون ولستم وأنتم لابسين الآن، بل كما كنتم عند ولادتكم الأولى فكليكما كنتما عاريين، ضعيفين، مبتدئين الحياة بالشقاء لذلك ابتدأتما إياها بالصراخ.
9. اُنظر أيها الغني واستدعي ذاكرتك لبدايتك الأولى. انظر إن كنت قد جلبت معك شيئًا حقًا لقد أتيت ووجدت غنى عظيمًا، لكنني أتوسل إليك أن تخبرني ماذا قد أحضرت إلى هنا؟ اَخبرني وإلا فإن كنت تخجل فلتسمع للرسول “لم ندخل العالم بشيء” (1 تي 6: 7). إنه يقول: “لم ندخل العالم بشيء”، ولكن هل لأنك لم تدخل العالم بشيء ولكن وجدت هنا الكثير فستأخذ شيئًا هناك؟ لعلك تخشى الاعتراف بهذا أيضًا بسبب محبة الغنى، لتسمع في هذا أيضًا فيخبرك الرسول الذي لا يتملق “لم ندخل العالم بشيء” لتعرف عن حالتنا عند ميلادنا، “إننا لا نقدر أن نخرج منه بشيء”، لتعرف عن حالتنا عند تركنا للعالم. أنك لم تدخل بشيء ولا تخرج بشيء، لماذا إذن تنتفخ بنفسك على الفقير؟ عند ولادة أطفال لتخرج الآباء والخدم والتابعون وجمهور الخدم الخاضعون، حينئذ دع الأطفال الأغنياء يعرفون من صراخهم. لتلد امرأة غنية مع فقيرة، دعهما لا يلاحظان طفليهما، ليخرجا إلى فترة قصيرة ثم يعودا وليعرفا ابنيهما إن استطاعا.
اُنظر إذن أيها الغني أنك “لم تدخل العالم بشيء وواضح أنك لا تقدر أن تخرج منه بشيء”، ما قلته عنهم عند ميلادهم أقوله عند موتهم. إن كان الأمر ليس هكذا فإنه لو فتحت قبور قديمة لسبب ما فليظهروا عظام الغني إن استطاعوا! لذلك فلتصغي أيها الغني إلى الرسول: “لم ندخل العالم بشيء”، لتعرف ذلك فإنها حقيقة وواضح أننا لا نقدر أن نخرج منه بشيء”، لتعرف ذلك فأنها حقيقة أيضًا.
10. ماذا يلي ذلك؟ “فإن كان لنا قوت وكسوة فلنكتف بهما. وأما الذين يريدون أن يكونوا أغنياء فيسقطون في تجربة وفخ وشهوات كثيرة غبية ومضرة تغرق الناس في العطب والهلاك. “لأن محبة المال أصل لكل الشرور الذي إذا ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان” (1 تي 6: 8-10)، تأمل فيما تركوه. يا لحزن الذين تركوا هذا، بل اُنظر ما قد طعنوا أنفسهم به. واِسمع “ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة”، ولكن من هم هؤلاء؟ “الذين يريدون أن يكونوا أغنياء. “فكون الإنسان غنيًا يختلف عن اشتياقه ليكون غنيًا. فالذي ولد من أبوين غنين هو غني، أنه ليس غني لأنه يشتاق لذلك، بل لأن الكثيرين تركوا له مواريث. إنني أرى ثروته ولكن لا أسأله عن اللذة التي يجدها فيها. فالكتاب المقدس ذم الطمع وليس الذهب والفضة أو الغني. لأن الذين لا يرغبون في أن يصيروا أغنياء أو لا يهتمون بذلك، الذين لا يحترقون بشهوات الطمع ولا يلتهبون بنيران محبة المال ومع هذا فهم أغنياء ليسمعوا إلى قول الرسول الذي قُرأ اليوم “أوصى الأغنياء في الدهر الحاضر” (1 تي 6: 7)، ماذا يوصيهم؟ يوصيهم فوق كل شيء أن لا يستكبروا لأنه لا يصنع الأغنياء شيئًا غير ما ينتج كبرياء! لكل نوع من أنواع الفواكه المتعددة وأنواع الحبوب المختلفة وأنواع الشجر، لكل منهم حشرة خاصة بها. فحشرة التفاح من نوع ما وحشرة الكمثرى من نوع آخر وللقمح نوع آخر. إن حشرة الغني هي الكبرياء.
11. أوصى الأغنياء في الدهر الحاضر أن لا يستكبروا ” لقد منع الاستعمال الرديء (للغنى) فليعلمنا الآن الاستعمال الحسن له. “أن لا يستكبروا” ولكن من أين تأتي الحصانة ضد الكبرياء؟ مما يلي هذا “ولا يلقوا رجاءهم على غير يقينية الغنى” فالذين لا يلقون رجاءهم على الغنى غير الثابت لا يستكبرون. كم عدد الذين كانوا بالأمس أغنياء واليوم هم فقراء؟ كم عدد الذين ناموا أغنياء وإذ سطا عليهم اللصوص وأخذوا كل أموالهم فقاموا فقراء؟ لذلك أوصيهم أن “لا يلقوا رجاءهم على غير يقينية الغنى بل على الله الحيّ الذي يمنحنا كل شيء بغنى للتمتع “يمنحنا أشياءًا زمنية وأشياء أبدية. لكن بالأكثر الأشياء الأبدية للتمتع بها والزمنية لاستعمالها، أشياء زمنية لنا كمسافرين وأشياء أبدية كقاطنين، أشياء زمنية تصنع بها صلاحًا وأشياء أبدية نصير بها صالحين. لذلك ليفعل الأغنياء هذا “أن لا يستكبروا ولا يلقوا رجاءهم على غير يقينية الغنى، بل على الله الحي الذي يمنحنا كل شيء بغنى للتمتع. ليفعلوا هذا. ولكن ماذا يفعلون بما لديهم؟ اسمع ماذا يفعلون؟ “وأن يكونوا أغنياء في أعمال صالحة، وأن يكونوا أسخياء في العطاء” (1 تي 6: 18)، لأن لديهم الأشياء التي يصنع بها هذا، فلماذا لا يصنعونها؟ فالفقر أمر صعب. أنه يمكنهم أن يعطوا بسخاء لن لديهم الوسيلة. “كرماء في التوزيع”. أي ليعرفوا إخوانهم الفانين كمساوين لهم “كرماء في التوزيع، مدخرين لأنفسهم أساسًا حسنًا للمستقبل.” فعندما أقول أنه يقول “أسخياء في العطاء، كرماء في التوزيع” لا أقصد بذلك أن أُهلك أو أسلب ما لديهم أو أجعلهم معدمين. إنني أعلم درسًا مؤلمًا. أنني أكشف لهم عن المكان الذي يضعون فيه أمتعتهم “مدخرين لأنفسهم”، لا أرغب في أن يمكثوا فقراء “مدخرين لأنفسهم”، إنني لا أطلب منهم أن يفقدوا أمتعتهم، بل أريهم أين ينقلونها “مدخرين لأنفسهم أساسًا حسنًا للمستقبل لكي يفوزوا بالحياة الحقيقية”. الحياة الحاضرة حياة باطلة، فليمسكوا بالحياة الحقيقية “باطل الأباطيل الكل باطل. ما الفائدة للإنسان من كل تعبه الذي يتعبه تحت الشمس” (جا 1: 2-3). لذلك ينبغي الفوز بالحياة الحقيقية ولنحول ثروتنا إلى مكان الحياة الحقيقية حتى نجد هناك ما نعطيه هنا. أن الذي يغيرنا يصنع هذا التغيير لأمتعتنا.
12. إذن فلتعطوا يا إخوتي للفقراء “فإن كان لنا قوت وكسوة فلنكتف بهما” لا يأخذ الغني شيئًا من غناه إلا ما يطلبه الفقير منه من قوت وكسوة. ماذا يكون لك بالأكثر من كل ما تمتلكه؟ لقد حصلت على قوتك وكسائك الضروري أقول الضروري وليس غير المضر ولا الفائض. ماذا تحصل عليه بالأكثر من غناك؟ أخبرني، فبالتأكيد أن كل زيادة ستكون فائضًا لديك. لتكن فضلاتك ضروريات للفقراء. لكنك ستقول لقد حصلت على مأدبة غالية واَقتات بقوت غال. وأما الفقير فبماذا يقتات؟ بطعام رخيص. يقول أن الفقير يقتات بطعام رخيص وأما أنا فأتغذى بطعام غال. حسنًا، ولكن بعدما تشبعان، عندما يدخل الطعام الثمين (جوفك)، أسألك ماذا يصير حال دخوله؟ لو كان بداخلنا مرآة أما كنا نخجل من كل الأطعمة الغالية التي شبعت منها؟ الفقير يجوع وأيضًا الغني، الفقير يطلب شبعًا وهكذا يفعل الغني. الفقير يشبع بأشياء زهيدة وأما الغني فيشبع بقوت غال. كلاهما تشابها في الشبع، والأمر الذي يرغباه متشابها عند الاثنين ولكن أحدهما يصل إليه بطريق قصير والآخر بطريق ملتو، لكنك تقول أنني أتلذذ بالأكثر بطعامي الثمين. حقًا بل ويصعب أن تكتفي وترضى بما أنت فيه. أنك لا تعرف اللذة التي يوجدها الجوع. لا أقول هذا لأجبر الغني أن يقتات بطعام الفقير وشرابه بل ليعمل الأغنياء بحسب ما قد اِعتاد ضعفهم عليه ولكن فليحزنوا لعدم قدرتهم على العمل بخلاف ذلك”. لأنه يكون من الأصلح لهم لو فعلوا ذلك. إن كان الفقير لا ينتفخ بفقره فكيف تنتفخ أنت بضعفك؟ استخدم لنفسك ما يحلو لك وكل الطعام الغالي لأنك قد تعودت عليه. فلا تستطيع أن تفعل غير هذا، لأنك تمرض إن غيرت ما اعتدت عليه. التمس منك أن تستعمل كمالياتك ولكن أعط الفقير ضرورياته. استخدم طعامك الثمين ولكن اِعط الفقير الطعام الرخيص. إنه يتطلع أن يأخذ منك وأنت تتطلع لتأخذ من الله. إنه ينظر إلى اليد التي خلقت مثله، وأما أنت فتنظر إلى اليد التي خلقتك ولم تخلقك وحدك بل والفقير معك. لقد وضع كليكما في نفس الرحلة في هذه الحياة الحاضرة، لقد وجدتم نفسيكما مصطحبين معًا فيها، أنكم تسلكون طريقًا واحدًا أنه لا يحمل شيئًا، وأما أنت فمثقل للغاية. أنه لا يحمل شيئًا معه وأنت تحمل معك أكثر مما تحتاج أنت محمل أعطه مما هو معك، هكذا فإنك تقوته وفي نفس الوقت تقلل من حملك.
13. أتوسل إليكم وأنصحكم وأوصيكم. وأطلب منكم أن تعطوا للفقراء. أعطوا للفقراء ما تريدون فإنني لا أخفي عنكم يا أحبائي لماذا كان ضروري عليّ أن ألقي هذه العظة عليكم. بينما أنا ذاهب إلى الكنيسة ومنها ألح عليّ الفقراء وتوسلوا مني أن أحدثكم بأنهم ينتظرون أن يأخذوا شيئًا منكم، لقد أحثوني على الحديث إليكم، فإذ رؤا عدم نوالهم شيئًا منكم اعتبروا أن كل تعبي معكم باطلاً. لقد توقعوا فيّ شيئًا آخرًا وهو أن أعطيهم قدر ما أستطيع ولكن هل لدي الإمكانيات التي تكفي لسد كل احتياجاتهم؟ فإذ ليس لي الإمكانيات التي تكفي لسد كل احتياجاتهم فإنني على الأقل أكون سفيرًا عنهم أمامكم. لقد أصغيتم واستحسنتم. فلنشكر الله. لقد قبلتم البذار، وأظهرتم الإجابة. ولكن توصياتكم هذه بالأحرى تثقلني وتعرضني للخطر أنني أحتملها واَرتعب عند حملها. ومع هذا فإن توصياتكم هذه يا إخوتي ليست إلا أوراق الشجرة، أنني أطلب الثمرة.
تفسير إنجيل متى – 5 | إنجيل متى – 7 | تفسير إنجيل متى | تفسير العهد الجديد | تفسير إنجيل متى – 8 |
القديس اغسطينوس | ||||
تفاسير إنجيل متى – 7 | تفاسير إنجيل متى | تفاسير العهد الجديد |