تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 23 للقديس كيرلس الكبير

الأصحاح الثالث والعشرون

عظة 151 تسليم يسوع إلى بيلاطس (لو23:1-5، 18-19)

“فَقَامَ كُلُّ جُمْهُورِهِمْ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى بِيلاَطُسَ، وَابْتَدَأُوا يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ:«إِنَّنَا وَجَدْنَا هذَا يُفْسِدُ الأُمَّةَ، وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ، قَائِلاً: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ». فَسَأَلَهُ بِيلاَطُسُ قِائِلاً:«أَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟» فَأَجَابَهُ وَقَالَ:«أَنْتَ تَقُولُ». فَقَالَ بِيلاَطُسُ لِرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْجُمُوعِ:«إِنِّي لاَ أَجِدُ عِلَّةً فِي هذَا الإِنْسَانِ». فَكَانُوا يُشَدِّدُونَ قَائِلِينَ:«إِنَّهُ يُهَيِّجُ الشَّعْبَ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ مُبْتَدِئًا مِنَ الْجَلِيلِ إِلَى هُنَا»[1]…فَصَرَخُوا بِجُمْلَتِهِمْ قَائِلِينَ:«خُذْ هذَا! وَأَطْلِقْ لَنَا بَارَابَاسَ!» وَذَاكَ كَانَ قَدْ طُرِحَ فِي السِّجْنِ لأَجْلِ فِتْنَةٍ حَدَثَتْ فِي الْمَدِينَةِ وَقَتْل. 

يا إخوتي، إنَّ غباوة القلب وعدم الفهم هما مرض مُشين يصحبه اختراع أفكار وضيعة كثيرًا ما تقود البشر لكل ما هو ،شرِّير، بل وكثيرًا ما تجعلنا نخطئ ضد مجد الله. وهذا ما يمكن أن نراه بالنسبة لوضع مجمع اليهود، لأنهم أخطأوا ضد المسيح، ولذلك قاسوا كل بؤس، إذ أُدينوا بقضاء عادل من الله لنفس المصير الذي جلبوه على ذاك الذى كان يمكن أن يقيمهم إلى الحياة. ولأنهم جاءوا بيسوع إلى بيلاطس لذلك هم أنفسهم أيضا سلموا لعساكر الرومان الذين استولوا على كل أراضيهم وجعلوهم أسرى، كما اقتحموا مدينتهم التي كانت سابقا المدينة المقدسة والمجيدة، وجعلوا سكانها فريسة للسيف والنار، ولذلك تحققت فيهم نبوات الأنبياء القديسين، لأن واحدا منهم يقول: ويل للشرير شرور سوف تحدث له بحسب أعمال يديه ” (إش 3: 11 س) ويقول آخر: “كما فعلت يُفعلُ بك، عملك يرتد على رأسك” (عو 15).

 لكن دعنا نرى ماذا كان نوع شرهم، وماذا أيضا قالوا لبيلاطس عندما صاغوا اتهاماتهم ضد المسيح مخلصنا كلنا “إننا وجدنا هذا يقصد شعبنا ويمنع أن تُعطى جزية لقيصر ، ويقول عن نفسه إنه هو مسيح ملك”. ولكن أنتم باشرتم محاكمته منذ وقت قليل مضى، ولم تثيروا مثل هذه القضايا، لكنكم سألتموه فقط إن كان هو المسيح. فهذا ما كنتم تسعون إلى معرفته، وبخلاف هذا لم تسألوه عن أي شيء آخر على الإطلاق. وهو في رده على أسئلتكم سعى أن يبيّن أنه هو المسيح وأيضا أنه هو بالطبيعة والحقيقة ابن الله الآب، لأنه قال: “من الآن تُبصرون ابن الإنسان جالسا عن يمين القوة” (انظر مت 26: 64). أرجوكم أن تُخبروني من الذي يحق له أن يجلس مع الآب إلا الذي هو الابن بالطبيعة ؟ لأنه لا يمكن لمخلوق على الإطلاق أن يتحدث عن جلوسه على عرش الألوهة، لأن كل كائن مخلوق يوضع تحت قدمي الطبيعة الإلهية الفائقة التي تسود الكل وتتسامى على كل ما خُلق الله الآب وحده هو الذي يجلس على العرش عاليًا ومرتفعا، ويشاركه ابنه في عرشه، وهو الكائن دائما معه، ومولود منه بالطبيعة. لذلك فقد حصلتم بسؤالكم هذا على التأكيد الكامل بأنه هو المسيح، لكن في تلهفكم على أن تتهموه بالتجديف قد أعلن لكم مجده، فقلتم ما حاجتنا بعد إلى شهود لأننا نحن سمعنا من فمه فكيف تتناسون هذا أو بالأحرى تتجاوزون في خبثكم وشركم كل بنود الاتهام التي حاكمتموه عليها وتأتون بقائمة اتهامات لها طبيعة مختلفة تمامًا وتقولون : إننا وجدنا هذا يُفسد الأمة. أخبرونا فيما يكون هذا الإفساد إن تعاليمه كانت منصبة على التوبة. اين مَنَع أن تُعطى جزية لقيصر ؟ فأنتم في الحقيقة أرسلتم إليه بعضا من جماعتكم مع قوم من هؤلاء الذين يُدعون هيرودسيين ليجربوه قائلين: يا معلم أيجوز أن تُعطى جزية لقيصر أم لا (مت 22: 17) فردَّ المسيح عليهم قائلاً: أروني معاملة الجزية، فسألهم لمن هذه الصورة والكتابة الموجودة على الدينار الذى قدمتموه؟ ولما قالوا له لقيصر قال لهم: أعطوا إذا ما لقيصر لقيصر وما لله لله (مت 22: 15 -21). إذن ففي أي موضع منع أن تُعطى جزية لقيصر ؟ لكن كان هدفهم الوحيد هو أن يُحدروا إلى الموت ذلك الذي يقيمهم إلى الحياة. كان هذا هو مقصد خططهم وهدف الأفعال الدنيئة والأكاذيب التي اخترعوها، والكلمات المرة التي جرت على ألسنتهم الشريرة ولكن الناموس يُعلن لكم بصوت عال: ” لا تشهد على قريبك شهادة “زور (خر 20: 16)، ويقول أيضا: ” لا تقتل البريء والبار” (خر 23: 7).

وقال الله في أحد المواضع بلهجة عنيفة في غضبه بفم واحد من أنبيائه القديسين: ” أما أنتم فتقدموا إلى هنا أيها البون الأشرار، یا نسل الفاسقين والزانية بمن تسخرون؟ وعلى من تفغرون الفم؟ وعلى من تخرجون لسانكم؟ أما أنتم أولاد المعصية ونسل “الظالمين (إش 57: 3، 4 س). وكذلك داود النبي يصفهم في موضع ما في المزامير وهو يخاطب الله الآب في السموات: شتتهم بقوتك واهبط بهم يا رب يا عاضدي، إن خطية أفواههم هي كلام شفاههم، وسوف يؤخذون في كبريائهم ” (مز 58: 11، 12 س) لأنهم إذ أطلقوا العنان للسانهم الجامح ضد المسيح، وكما هو مكتوب، ” ورفعوا إلى العلا قرنهم وتكلموا بالإثم ضد الله” (مز 74: 5 س)، فإنهم إنما سقطوا في كبريائهم. بالتأكيد كان من واجبهم طالما يفتخرون بمعرفتهم لشرائع الله أن يتذكروا أنَّ الله قال لا تقتل التقي ولا البار ، لكنهم لم يعطوا أي اعتبار للاحترام الواجب للناموس، ولكن بسبب أنهم انقادوا بتهير شديد إلى كل ما يُسرهم ويرضيهم هم وحدهم دون فحص لطبيعته، فإنهم اخترعوا اتهامات عديدة وحشدوا ضد المسيح اتهامات لم تكن صحيحة، ولا استطاعوا أيضا أن يبرهنوا عليها. لكنهم كانوا بهذا مدانين بكونهم أكثر شرا من عابد الأوثان، لأن بيلاطس إذ برأ يسوع من كل لوم قال علانية: لم أجد علَّة واحدة في هذا الإنسان، ولم يقل هذا مَرَّة واحدة بل ثلاث مرات

 لكنهم اعترضوا بإصرار أنه يفسد الشعب ويعلم في كل اليهودية مبتدئا من الجليل إلى هنا. ها إنهم يُغيّرون مرة أخرى اتهاماتهم السابقة ويخترعون أعذارا لتثقيل تهمته ويجمعون فرصاً جديدة لذمه واغتيابه، إذ قالوا ” إنه يُهيج الشعب وهو يُعلِّم مبتدئا من الجليل إلى هنا”. لكن فيما هم يتهمونه بالتعليم، نجدهم قد صمتوا عن فحوى ما يُعلِّمه إذ خافوا – كما أظن – لئلا يكون بيلاطس نفسه ضمن مَن يؤمنون به لأنه لو كان قد سمع المسيح وهو يكشف سره الإلهي، ربما كان قد توقف منذ ذلك الوقت عن عبادة تلك الآلهة الكاذبة، بقبوله لسكنى نور معرفة الله الحقيقية في داخله، ولإمتلك في ذهنه وقلبه الدواء الذي تهبه تلك الرسالة المقدسة والخلاصية التى بالمسيح، لأنه ماذا كانت تعاليم المسيح؟ إنه يدعو من كانوا في ضلال ويعبدون المخلوق بدلاً من الخالق أن يأتوا إلى المعرفة الحقيقية لله. وهو يريد لكل من يقترب منه أن يتلألأ بأمجاد البر وأن يكون بلا عيب وصالحًا لطيفا ورحيما، حكيمًا وقديسا وحياته مستقيمة وبلا لوم. لذلك هم بدهاء عظيم قالوا إنه يُعلِّم، لكنهم صمتوا من جهة طبيعة تعاليمه لكن بالرغم من كلامهم هكذا، فإن بيلاطس وبخهم وبرأ نفسه قائلاً إني لا أجد علة في هذا الإنسان. “قد قدمتم إلى هذا الإنسان كمن يفسد الشعب، وها أنا قد فحصته قدامكم ولم أجد في هذا الإنسان . علة تشتكون به عليه ولا هيرودس أيضا، لأنه أرجعه إلينا، وها لا شيء يستحق مما الموت صنعه” (انظر لو 23: 13 -15).

انظروا! فإن من يعرفون الشرائع الإلهية ويقولون بكبرياء وبعجرفة “نحن تلاميذ “موسى” يطالبون بالحكم بالموت على من هو غير مذنب بأي إثم، بل من هو رأس ومُعلِّم كل تَقْوَى، وهو الذي يجعل من يؤمنون به ماهرين في كل فضيلة. وحينما برَّأه من كان يحق له أن يحاكمه فإنهم لكي يجعلوا عذابهم الأبدي أشد شدَّة، طلبوا باجتهاد شديد أن يُحكم بعقوبة الموت على من لم يأتِ بأي فعل أثيم، لأن كل الجمع صرخ قائلاً: “خذ هذا وأطلق لنا باراباس” (لو 23: 18). لذلك فقد أنكروا حقًّا بوضوح القدوس البار، كما قال الطوباوي بطرس، وطلبوا أن يوهب لهم رجل قاتل (أع 3: 14) ، لكيما يكونوا شركاء في نصيبه ومتورطين في ذنبه، وكان نصيبهم أن ينالوا العذاب، لأنهم قد سلّموا للهلاك والفزع، وهلكوا جميعهم مع كل جنسهم ، لأنهم “صرخوا قائلين اصلبه اصلبه (لو 23: 21). وقد لام الرب صرختهم غير المقدسة هذه وقال بفم إرميا: “قد تركت بيتي هجرت ميراثي، دفعت حبيبتي الغالية ليد أعدائها. صار لي ميراثي كأسد في الوعر ، أطلق على صوته، من أجل ذلك أبغضته” (إر 12: 7 ،8 ). لذلك أبغضهم الله لأنهم هجموا على المسيح كأسد، وأطلقوا ضده صيحة تتسم بالقسوة وعدم الشفقة. أما نحن فنُسبِّح المسيح الذي تألم بالجسد بدلاً عنا، الذى به ومعه لله الآب يليق التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمين.

عظة 152 يسوع في طريقه للصلب (لو 23: 24 -31 )

“فَحَكَمَ بِيلاَطُسُ أَنْ تَكُونَ طِلْبَتُهُمْ. فَأَطْلَقَ لَهُمُ الَّذِي طُرِحَ فِي السِّجْنِ لأَجْلِ فِتْنَةٍ وَقَتْل، الَّذِي طَلَبُوهُ، وَأَسْلَمَ يَسُوعَ لِمَشِيئَتِهِمْ. وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ أَمْسَكُوا سِمْعَانَ، رَجُلاً قَيْرَوَانِيًّا كَانَ آتِيًا مِنَ الْحَقْلِ، وَوَضَعُوا عَلَيْهِ الصَّلِيبَ لِيَحْمِلَهُ خَلْفَ يَسُوعَ. وَتَبِعَهُ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الشَّعْبِ، وَالنِّسَاءِ اللَّوَاتِي كُنَّ يَلْطِمْنَ أَيْضًا وَيَنُحْنَ عَلَيْهِ. فَالْتَفَتَ إِلَيْهِنَّ يَسُوعُ وَقَالَ:«يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ، لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ، لأَنَّهُ هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُونَ فِيهَا: طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ وَالْبُطُونِ الَّتِي لَمْ تَلِدْ وَالثُّدِيِّ الَّتِي لَمْ تُرْضِعْ! حِينَئِذٍ يَبْتَدِئُونَ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ: اسْقُطِي عَلَيْنَا! وَلِلآكَامِ: غَطِّينَا! لأَنَّهُ إِنْ كَانُوا بِالْعُودِ الرَّطْبِ يَفْعَلُونَ هذَا، فَمَاذَا يَكُونُ بِالْيَابِسِ؟».

إن مخافة الله مكروهة من فاعلي الشر، وهذا القول صحيح لأن الكتاب المقدس لا يمكن أن يكذب، لأن الرغبة في الحياة باستقامة وقداسة هو أمر غريب تماما عند أولئك الذين يحبون الشر، ولأن عنف أهوائهم يهاجمهم كوحش كاسر فهم لن ينصتوا لكلام من ينصحهم، بل يعتبرون كل من يعلّمهم كيف ينبغي أن يحيوا الحياة الصالحة، بمثابة عدو لهم. كان هذا هو الشعور الذى جعل جموع اليهود يبغضون المسيح، مع أن ما دعاهم إليه كان هو الخلاص وغفران الخطية وإلى نمط من الحياة جدير بالإعجاب وإلى بر أسمى من بر الناموس، وإلى عبادة روحية أعلى من الرموز والظلال.

لقد أتوا بالقدوس والبار إلى بيلاطس ونطقوا ضده بكلام عنيف ومتهور، وانهالوا عليه باتهامات كاذبة ملفقة، واستمروا طويلاً في كَيْل الاتهامات له بحدة حتى إن بيلاطس أخيرا حكم أن تُلبي طلبتهم مع أنه قال علانية: ” أنا لا أجد علة في هذا الإنسان”، لكنهم – بحسب النص – صرخوا قائلين: ” خذه، اصلبه”. وكان الرب قد وبخهم لأجل هذه الصرخة بالذات – الصرخة القاسية وغير الشرعية – بصوت النبي إشعياء، لأنه هكذا مكتوب: “إن كرم رب الجنود، الغرس الجديد والمحبوب هو بيت يهوذا، فانتظرتُ أن يصنع عدلاً ولكنه عمل إثما، وليس استقامة بل صراخا” (إش 5: 7 س). وفي موضع آخر قال عنهم : ويل لهم لأنهم هربوا عني. إنهم تعساء لأنهم أخطاوا ضدّي، ولكن أنا افتديتهم أما هم فتكلموا عليَّ بكذب” (هو 7: 13 س)، وأيضا: سيسقط رؤساؤهم بالسيف بسبب فظاظة لسانهم” (هو 7: 16 س).

لذلك ـ بحسب النص – حكم بيلاطس أن تلبي طلبتهم، لكن كان من الأفضل لهم لو تغلبت رغبة بيلاطس وصار الحكم هو بإطلاق سراح الرب وتبرئته من كل جرم، وتم فك البار البريء من قيوده لكنهم قاوموا وعارضوا بشدة، وهكذا فازوا بمأربهم الذي كان هو علة فسادهم، والذي أعد لهم الشرك الذى كان سبب خرابهم، وجلب عليهم البؤس الشديد والمحتم. 

لكن أتوسل إليكم أن تلاحظوا هنا كيف أنَّ الحية المتمردة، تطرد من سيادتها علينا، وتحفر لنفسها هي ولرهط الأشرار الذين يخدمونها هُوَّة الهلاك. لأنه كما يقول المرنم ” وقعت الأمم في الهلاك الذي صنعوه، وفي الفخ الذي نصبوه انتَشَبَت أرجلهم، سيُعرف الرب أنه هو صانع الأحكام، والشرير يُؤخذ بعمل يديه ” (مز 9: 15، 16 س)، ” إذ ثبت أنَّ أعمال يديه هي بمثابة فخ له، وسقط هو في الحفرة التي حفرها، وارتاً تعبه على رأسه، وعلى هامته هبط إثمه” (مز 7: 15 ، 16 س). لأنه كما قلت، قد طرد من طغيانه علينا. وهذا ما علمنا المخلّص إياه، لأنه عندما كان مزمعا أن يحتمل آلامه الخلاصية لأجلنا قال ” الآن دينونة هذا العالم الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجا ، وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلى الجميع” (يو 12: 31 ،32). لذلك فإن يسوع جاء إلى الصليب حتى إذا ما رفع يمكنه أن يجتذب إليه الجميع، ولكيما بهذا يجرد الشيطان من عابديه، وهو الذي في علوّ كبريائه تجاسر على أن يقول: سأمسك العالم كله في يدي كعش، وكما يُجمع بيض مهجور جمعتُ أنا كل الأرض، ولن يوجد من يفلت مني أو يتكلم ضدي” (إش 10: 14 س).

إذا، أنت لم تكن تتوقع أن ينهض أحد ضدك حينما كنت مستوليا على ما ليس هو لك. ولكن مع ذلك فالأنبياء تجاسروا أن يفعلوا ذلك، مع أنَّ الإسرائيليين كانوا بتهيجك وإغرائك يندفعون باستمرار إلى العنف وارتكاب جرائم قتل شنيعة. ثم قام ضدك رب الكل وتكلم ضدّك، وإذ قد أخذ شكل العبد وتكلم كنبي، مع أنه هو المُعطِي كل نبوة ومعرفة، وهو العالي الذي يفوق الكل تخلّى عن مجده، وظهر في ضعف مثلنا . رب الجنود. وأنت لم تعرف المخلّص، وكما يقول إرميا النبي: ” قد وُجدت وأمسكت لأنك قد وقفت ضد الرب” (إر 50: 24 س). وكيف أُمسكت؟ بِكَوْن أولئك الذين كانوا في الظلمة والجهل الذي سببته لهم نالوا نوراً، وأولئك الذين كانوا تائهين في الضلال جيء بهم إلى الطريق الصحيح، وسقطت سيادتك الطاغية والقاسية، وبادت شوكة الخطية، وقتل الموت بموت المسيح. هذه هي المنافع التي صنعت لنا بواسطة آلام المخلص، لذلك قُدْ يسوع! نعم قده إلى الصليب الذي سيؤدي إلى خرابك، واخزن لنفسك النار التي لا تطفأ، واحفر لنفسك الحفرة التي ستطرح فيها إذ ستداس تحت أقدام أولئك الذين يخافون الرب. لذلك إن كنت تضحك عندما تراه مصلوبا ومعلقًا على خشبة، لكن سرعان ما سوف تراه وقد قام من الأموات، وآنذاك سوف تُولول على الموت لأنه قد سقط. إيك بغزارة لدى رؤيتك للهلاك وهو ينهزم إبك لأن الله يُعيد تشكيل طبيعة الإنسان لتتأهل للحياة، إذ هو سحق الخطية وأخضعها، هذه التي بفعلك تسلطت علينا بوحشية، وأنت لن تعود بعد تشتكي على أي إنسان، لأن “الله هو الذي يُبرر فمن هو الذي يدين” (رو 8: 33 ،34) ، وكما يقول المرنم ” كل إثم يسد فاه” (مز 107: 42).

وهكذا اقتيد المخلّص إلى آلامه المخلّصة، لكنهم – يقول الكتاب – وضعوا صليبه على سمعان القيرواني، لكن إنجيلي قديس آخر قال إن المخلص نفسه حمل الخشبة (يو 19: 17)، كلاهما حتما صادق فيما يقوله، لأن المخلّص حمل الصليب فعلاً، ولكن ربما لاقاهم سمعان القيرواني في وسط الطريق فأمسكوه وجعلوه يحمل الصليب بدلاً منه. ويوجد سبب هام لحقيقة أنَّ المسيح مخلّص الكل حمل الصليب، هو أنه قد قيل عنه بفم إشعياء النبي : ” إنه يولد لنا ولد ونعطى أيضا ابنا وتكون الرئاسة على كتفه (إش 9: 6 س). لأن الرياسة كانت بالصليب الذي به صار ملكا على العالم. وذلك لأنه أطاع الآب حتى الموت موت الصليب، فلأجل هذا السبب أيضا رفعه الله وعظمه جدا، وأعطاه اسمًا فوق كل اسم لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومَن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب (في 2: 8 -11).

وأعتقد أنه من المهم أن نلاحظ هذا الأمر أيضا هنا، هو أنه عندما صعد الطوباوي إبراهيم إلى الجبل الذى أراه الله إياه ليُصعد هناك إسحق ذبيحة بحسب أمر الله، فإن إبراهيم وضع الحطب على الصبي الذي كان مثالاً للمسيح وهو يحمل صليبه الخاص على كتفيه وهو صاعد إلى مجد آلامه، لأن كون آلام المسيح هي مجده، فهذا هو ما علمه لنا المسيح بنفسه عندما قال: ” الآن تمجد ابن الإنسان وتمجد الله فيه. إن كان الله قد تمجد فيه، فإن الله سيمجده في ذاته ويُمجده سريعًا” (يو 13: 31 ، 32).

كان يسوع ماضيا إلى موضع الصلب وتبعته آنذاك نساء تبكين وكذلك آخرون كثيرون، لأن جنس النساء على الدوام يستسلم للبكاء، ولديهم استعداد أن يتأثروا بشدَّة عندما يقترب أي شيء مُحزن. أما يسوع فقال لهن يا بنات أورشليم وفرن دموعكن لأجلي، وتوقفوا عن نحيبكن بخصوصي، بل “بالأحرى لا تبكين على بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن، لأنه هوذا أيام تأتي سيكون فيها أفضل للنساء أن تكن عواقر من أن تلدن”. كيف هذا أو بأية طريقة؟ لأنه عندما وقعت الحرب على بلاد اليهود، هلك الجميع تماما كبيرهم مع صغيرهم، الأطفال أمهاتهم، والأبناء مع آبائهم، والجميع بادوا بلا تفريق ويقول الرب إنه آنذاك سيعتبرونه أثمن شيء لديهم هو أن يُسحقوا تحت الجبال والآكام؛ لأنه في أثناء تلك الكوارث الفظيعة، فإن هذه المحن أقل وحشية وقسوة تصير كأنها مرغوبة. لأنه يقول: ” لأنه إن كان بالعود مع التي هي الرطب يفعلون هذا، فماذا يكون باليابس؟” (لو 23: 31).

إنه أمر جدير باهتمامنا أن نفهم ماذا كان يقصد المخلّص بهذه الكلمات، لأن القول صيغ في هيئة مثل أو بالحري مثال لكنه مليء بالمعاني الروحية، وأنا أعتقد أنه ربما يقصد أن يوحى بما يلى: فهو يشبه نفسه بالشجرة الخضراء التي لها أوراق وأزهار وثمر، وأثماره كانت تعاليم وعظات وأيضا مظاهر قوته الإلهية في معجزاته الإلهية فائقة الوصف، فأي عمل من أعماله لا يفوق مستوى إعجابنا؟ فهو قد أقام الموتى وطهر البرص وشفى الأعمى وأعمال أخرى صنعها أثارت فينا كل التسبيح والتمجيد له. ورغم أن هذه كانت أعماله، لكن جنود الرومان أو بالأحرى بيلاطس أدانه وحكم عليه بحكم جائر، وابتلاه بهذه الاستهزاءات القاسية، لذلك عندما يقول إن رؤساء الرومان قد أوقعوا بي كل هذه الأمور مع أنهم رأوني أتحلى بمثل هذا المجد والمديح العظيم، فماذا سيفعلون بإسرائيل عندما يجدون أنه عود يابس غير مثمر؟ لأنهم لن يجدوا فيه شيئًا يستحق الإعجاب من الأشياء التي ربما يعتبرونها جديرة بالتكريم والرحمة من الواضح أنهم سيحرقونه بالنار بدون أن يُظهروا له أية رحمة بل وسيكابد بالأحرى القساوات التي ستتأتى من هياج وحشي. فهذه كانت فعلاً البلايا التي أصابت الإسرائيليين عندما حتّم الله الذي يحكم بعدل، بالعقوبة التي استوجبها شرهم ضد المسيح. أما نحن الذين نؤمن به، فإن المسيح ينعم علينا بالنعمة والبركة الذي به ومعه الله الآب يليق التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمین.

 

عظة 153 يسوع يعلق بين لصين (لوقا23: 32-43 ) 

وَجَاءُوا أَيْضًا بِاثْنَيْنِ آخَرَيْنِ مُذْنِبَيْنِ لِيُقْتَلاَ مَعَهُ. وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُدْعَى «جُمْجُمَةَ» صَلَبُوهُ هُنَاكَ مَعَ الْمُذْنِبَيْنِ، وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ. فَقَالَ يَسُوعُ: «يَاأَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ». وَإِذِ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ اقْتَرَعُوا عَلَيْهَا. وَكَانَ الشَّعْبُ وَاقِفِينَ يَنْظُرُونَ، وَالرُّؤَسَاءُ أَيْضًا مَعَهُمْ يَسْخَرُونَ بِهِ قَائِلِينَ:«خَلَّصَ آخَرِينَ، فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمَسِيحَ مُخْتَارَ اللهِ!». وَالْجُنْدُ أَيْضًا اسْتَهْزَأُوا بِهِ وَهُمْ يَأْتُونَ وَيُقَدِّمُونَ لَهُ خَلاُ، قَائِلِينَ:«إِنْ كُنْتَ أَنْتَ مَلِكَ الْيَهُودِ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ!». وَكَانَ عُنْوَانٌ مَكْتُوبٌ فَوْقَهُ بِأَحْرُفٍ يُونَانِيَّةٍ وَرُومَانِيَّةٍ وَعِبْرَانِيَّةٍ:«هذَا هُوَ مَلِكُ الْيَهُودِ». وَكَانَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُذْنِبَيْنِ الْمُعَلَّقَيْنِ يُجَدِّفُ عَلَيْهِ قَائِلاً:«إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ، فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا!» فَأجَابَ الآخَرُ وَانْتَهَرَهَُ قَائِلاً:«أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ اللهَ، إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟ أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْل، لأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا، وَأَمَّا هذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ». ثُمَّ قَالَ لِيَسُوعَ:«اذْكُرْنِي يَارَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:«الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ».

إن الطوباوي بولس يعتبر سر تجسد الابن الوحيد جديرا بكل إعجاب، وإن جاز القول، فإنه يبدي اندهاشه عن حكمة وسمو تدبير الخلاص فيقول: ” يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه ” (رو 11: 33) فانظروا كيف أن مخلّص ورب الكل، الذي به أوجد الآب كل شيء يُجدّد طبيعة الإنسان ويستردها إلى ما كانت عليه في البدء بصيرورته هو نفسه مثلنا، وحمله لآلامنا من أجلنا. لأن الإنسان الأول كان حقا في البدء في فردوس البهجة، وقد أنعم الله عليه بغياب كل من الألم والفساد، لكن عندما احتقر الوصية التي أعطيت له وسقط تحت اللعنة والدينونة وفي فخ الموت بأكله من الشجرة المحرمة، فإن المسيح. . كما قلتُ – ردَّه إلى وضعه الأصلي بواسطة الشجرة (الخشبة، أي بواسطة خشبة (الصليب إذ احتمل الصليب الثمين لأجلنا كي ما يبيد الموت، الذي بواسطة الشجرة غزا أجساد البشر. فقد احتمل الآلام لكيما يخلصنا من الآلام، وكما هو مكتوب: ” احتقر وخُذل من الناس” (إش 53: 3 س) لكيما يجعلنا مكرمين، ولم يفعل خطية لكيما يكلّل طبيعتنا بمجد مشابه، وهو الذي لأجلنا صار إنسانا خاضعا كذلك لنصيبنا، وهو الذي يعطي حياة للعالم خضع للموت بالجسد أفليس السرّ عميقا إذن؟ ألا يلزمنا الاعتراف بأن التدبير أعظم مما يمكن للغة أن تصفه؟ أي شك يمكن أن يوجد في هذا؟ لذلك ليتنا عندما نقدم له التسبيح أن نكرر ما أنشده المرنم بقيثارته: ” ما أعظم أعمالك… كلها بحكمة صنعت” (مز 103: 4 س).

وهكذا عندما علق على الصليب الثمين، صلب معه اثنان من اللصوص. ما الذي ترتب على هذا؟ كان قصد اليهود حقا من هذا هو السخرية به إلى أبعد حد ممكن لكنه من ناحية أخرى كان تذكيرا بالنبوة، لأنه مكتوب أنه “أحصي مع اثمة (إش 53: 12 س) لأنه من أجلنا صار هو لعنة، أى ملعونا، لأنه مكتوب أيضا: ” ملعون كل من علق على خشبة ” (تث 21: 22). لكن عمله هذا أبطل اللعنة التي كانت علينا، لأننا معه وبسببه نكون مُباركين، وإذ يعلم بهذا الطوباوي داود، فإنه يقول:” مباركون نحن من الرب الذي خلق السماء والأرض” (مز 113: 23 س). لأن بآلامه حلّت علينا البركات، وهو دفع ديوننا بدلاً عنا وحمل خطايانا، وكما هو مكتوب، ” هو حمل خطايانا وجلد عوضا عنا” (إش 53: 6 س)، “وهو حمل خطايانا في جسده على الخشبة” (ابط ٢٤:٢). إننا ” بحبره شُفينا” (إش 53: 5 ش). هو أيضا تألم بسبب خطايانا، وبهذا خلصنا من أمراض النفس. هو احتمل الهزء والازدراء والبصق لأن رؤساء مجمع اليهود استهزءوا به وهزوا رؤوسهم النجسة وصبوا عليه ضحكهم المرير قائلين: ” خلص آخرين فليخلص نفسه إن كان هو المسيح”. لكن إن كنتم حقا لا تؤمنون أنه هو المسيح فلماذا قتلتموه كالوريث؟ لماذا ترغبون في الاستيلاء على ميراثه؟ وإن كان قد خلص آخرين وأنتم تعرفون جيدا أن الأمر حقًّا كان هكذا، فكيف تُعوزه القوة لأن يخلص نفسه من بين أيديكم؟ أنتم سمعتم في الهيكل أولئك الذين كانت وظيفتهم أن يرتلوا وينشدوا في الخورس يقولون على الدوام: “ثقبوا يدي ورجلي… أحصوا كل عظامي، وهم ينظرون ويتفرسون في، يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون” (مز 21: 16 -18 س)، وكذلك ” يعطونني علقما لطعامي، ولعطشي يعطونني خلا لأشرب (مز 68: 21 س)، وحيث إنكم متمرسون في الناموس . مثلما تعتبرون أنفسكم هكذا ـ فكيف يتأتّى لكم أن تتركوا النبوة وتتركوا دونما فحص ما سبق الإخبار به بخصوص هذه الأشياء؟ كان واجبكم أن تستفهموا وتبحثوا عمَّن قيلت هذه الأشياء، أقصد على أي شخص يليق بكم أن تُطبقوا هذه الآيات. أنتم سمعتم قائدكم العظيم موسى ينبئكم عن وحشية هجماتكم، لأنه قال إنكم ” سوف تبصرون حياتكم معلقة على خشبة” (تث 28: 66 س). أي سترون الذي هو علة الحياة، أو بالحري من هو الحياة ذاتها معلقًا على خشبة، فكيف تتجاهلون تماما نبوة موسى الذى به تفتخرون جدا؟ لأننا سمعناكم تصرحون علانية: ” نحن تلاميذ موسى” (يو 9: 28).

أخبرني ماذا تقصد بإنغاضك الرأس عليه؟ هل تزدري بالاحتمال الوديع للمتألم؟ أم لكي تبرهن بهذا على تحجر قلبك وقساوته الشديدة؟ هل أنت متلهف على إخضاع رئيس الحياة لموت الجسد ؟ لماذا تتطفل على التدابير المقدَّسة؟ لماذا تفكر في مشورة لن تستطيع تحقيقها؟ إنه مكتوب: “الساكن في ا السموات يضحك بهم، والرب يستهزئ بهم” (مز 2: 4).

وكما قلت صلب معه لصان من باب السخرية على تلك الآلام التي تجلب الخلاص لكل العالم، ولكن أحد هذين اللصين شابه في سلوكه عقوق اليهود، إذ قذف بقوة نفس كلماتهم، وتفوه بسهولة بتعبيرات تجديفيَّة فقال: ” إن كنت أنت المسيح فخلص نفسك وإيانا”، أما الآخر فقد اتبع مسلكا مخالفًا وهو جدير عن حق بإعجابنا، لأنه آمن به وبينما كان يكابد أقصى عقوبة، وبخ صرخات اليهود المتهورة وكذلك كلمات اللص الآخر الذى كان مصلوبًا معه إنه اعترف بخطاياه لكيما ما يتبرر (إش 43: 26 س)، وصار لائما لطرق نفسه الخاطئة لكيما يبرئه الله من ذنبه كما هو مكتوب: قلت اعترفُ للرب بإثمي وأنت صفحت لي عن نفاقات قلبي” (مز 31: 5 س)، وهو شهد للمسيح بالبراءة ووبخ افتقار اليهود لمحبتهم الله وأدان حكم بيلاطس إذ قال عن المسيح: لما هذا فلم يفعل شيئًا مكروها. كم هو جميل هذا الاعتراف، كم هي حكيمة تعليلاته، كم هي سامية أفكاره. لقد صار معترفا بمجد المخلص، ولائما لكبرياء الذين صلبوه. فأية مكافأة نالها؟ وأي كرامات كان هو جدير بها؟ وأية منفعة عادت على هذا اللص الذي كان أول من يُعلن الإيمان؟ فهو عثر على كنز جدير بالامتلاك، وصار غنيًّا على غير توقع، واقتنى كل بركة، وفاز بميراث القديسين، وصار اسمه مكتوبا فوق في السموات والذي كان يكابد حكم الموت صار اسمه في سفر الحياة وأصبح في عداد سكان المدينة السماوية.

فلنتطلع إلى اعترافه الإيماني الجميل جدا، إذ قال ليسوع: ” انكرني يا رب متى جئت في ملكوتك”. أنت تراه مصلوبا وتدعوه ملكا؛ وذاك الذي كان يكابد العذاب والاستهزاء، أنت تتوقع مجيئه في مجد إلهي أنت تراه محاطاً بجموع اليهود وزمرة الفريسيين الأشرار وعسكر بيلاطس، وهؤلاء جميعًا يسخرون به، وليس بينهم واحد يعترف به…

(عدد44، 45): ” وَكَانَ نَحْوُ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ فَكَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى الْأَرْضِ كُلِّهَا إِلَى السَّاعَةِ التاسعة. وَأَظْلَمَتِ الشَّمْسُ وَانْشَقَّ حِجَابُ الْهَيْكَلِ مِنْ وَسَطِهِ “.

ذاك الذي يفوق كل المخلوقات ويشارك في عرش الآب، وضع ذاته إلى درجة الإخلاء وأخذ شكل العبد واحتمل حدود الطبيعة البشرية لكيما يوفي بالوعد الذي أعطاه الله لأجداد اليهود، لكنهم كانوا في منتهى العناد وعدم الطاعة إلى درجة أن يثوروا على سيدهم لأنهم جعلوا جلَّ شغلهم الشاغل هو أن يُسلِّموا رئيس الحياة للموت وأن يصلبوا رب المجد، لكنهم لما ثبتوا رب الكل على الصليب، انسحبت الشمس من على رؤوسهم وتدثّر النور بالظلام في منتصف النهار مثلما أنبأ عاموس النبي (عا 5: 18) ، لأنه كانت هناك ظلمة من الساعة السادسة إلى الساعة التاسعة، وهذه كانت علامة واضحة لليهود أن أذهان الذين صلبوه قد تغلّفت بظلمة روحية، لأن العمى والقساوة قد حصلت جزئيا لإسرائيل (رو 11: 25)، وداود في محبته الله يلعنهم قائلاً: لتظلم عيونهم لكي لا يبصروا (مز 68: 23 س).

نعم الخليقة ذاتها ندبت ربها، لأن الشمس أظلمت والصخور تشققت، والهيكل ذاته ارتدى ثياب النائحين إذ انشق حجابه من أعلى إلى أسفل، وهذا ما يشير به الله إلينا بفم إشعياء قائلاً ألبس السموات ظلامًا، وبالمسح أغطيها (إش50: 3 س).

(عدد 47 ) : “فَلَمَّا رَأَى قَائِدُ الْمَئَة مَا كَانَ مَجْدَ اللهُ قَائِلاً: بِالْحَقيقَة كَانَ هَذَا الإِنْسَانُ بَارًا! “

أتوسل إليكم أن تلاحظوا أيضا أنه بمجرد أن كابد آلامه على الصليب لأجلنا، حتى ابتدأ في اكتساب الكثيرين إلى معرفة الحق، إذ يقول النص إنه لما رأى قائد المائة ما حدث مجد الله قائلاً : بالحقيقة كان هذا الإنسان ،بارا، وبعض اليهود أيضا قرعوا صدورهم إذ بدون شك ـ قد وَخَزَتهم ضمائرهم وتطلعوا بأعين أذهانهم إلى الرب، وربما برأوا أنفسهم من سلوكهم المشين ضد المسيح بهتافهم ضد من صلبوه حتى وإن لم يتجاسروا على فعل هذا علانية بسبب عدم تقوى الحكام. لذلك قال ربنا عن حق: وأنا إن ارتفعتُ عن الأرض أجذب إلى جميع الناس” (يو 12: 32).

(عدد 55): ” وتبعته نِسَاءً كُنْ قَدْ أَتَيْنَ مَعَهُ مِنَ الْجَلِيلِ وَنَظَرْنَ الْقَبْرَ وَكَيْفَ وُضِعَ جَسَدُهُ…

إن نساء حكيمات تبعن المسيح مخلصنا جميعا، جامعات كل ما كان مفيدًا ضروريا للإيمان به، وعندما قدم جسده كفدية لحياتنا جميعًا، عكفن بحكمة واجتهاد على الاعتناء بجسده، لأنهن ظنن أن جسده سيبقى على الدوام في القبر.

  1. النص السرياني يحذف الأعداد 6-17 ويقرب الأحداث الرواتية معا، حيث إن هذه الأعداد ذُكرت داخل صلب العظة، وبعد ذلك تعبر المخطوطة السريانية على الأعداد 20-23، التي منها تقتبس العدد 21 فقط.

تفسير إنجيل لوقا – 22إنجيل لوقا – 23تفسير إنجيل لوقاتفسير العهد الجديدتفسير إنجيل لوقا – 24
القديس كيرلس الكبير
تفاسير إنجيل لوقا – 23تفاسير إنجيل لوقاتفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى